مقدّمة المركز
لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الاُمّة وقيمها الحقّة، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث.
وانطلاقاً من ذلك، فقد بادر مركز الابحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الاسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن.
ومن هذه المحاور: عقد الندوات العقائديّة المختصّة، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد
ولاجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً.
كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم.
وأخيراً، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان «سلسلة الندوات العقائدية» بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها.
وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها.
سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله.
مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون
تمهيد
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الاوّلين والاخرين.
سألتم عن دور الحكيم الالهي الشيخ المحقق العظيم الخواجة نصير الدين الطوسي في سقوط بغداد على يد هولاكو.
لانّه قد ينسب في بعض الكتب إلى الشيخ نصيرالدين الطوسي أنّ له ضلعاً في سقوط بغداد على يد المشركين، وما ترتّب على هذه الحادثة من آثار سيّئة بالنسبة إلى الاسلام والمسلمين، من قتل النفوس، وتخريب البلاد، والمدارس العلميّة، وسائر ما ترتب على هذه الحادثة العظيمة من الاثار السيّئة.
افتراء ابن تيمية على
الشيخ نصير الدين الطوسي
لعلّ من أشدّ الناس على الشيخ نصير الدين الطوسي رحمه الله في هذه القضيّة هو ابن تيميّة، ممّا يثير الشك ويدعو إلى البحث عمّا إذا كان السبب الاصلي لاتّهام هذا الشيخ بهذا الامر هو الاختلاف العقائدي، وما كان للشيخ نصير الدين الطوسي من دور نشر المذهب الشيعي، ودعمه بالادلّة والبراهين، ولاسيّما بتأليفه كتاب تجريد الاعتقاد، هذا الكتاب الذي أصبح من المتون الاصليّة والاوليّة في الحوزات العلميّة كلّها، وكان يدرّس وما زال هذا الكتاب يدرّس في بعض الحوزات العلميّة، ولذا كثرت عليه الشروح والحواشي من علماء الشيعة والسنّة، وحتّى أنّ كتاب المواقف للقاضي الايجي، وكتاب المقاصد للسعد التفتازاني، هذان الكتابان أيضاً إنّما أُلّفا نظراً إلى ما ذكره الخواجه نصيرالدين في كتاب التجريد، ويحاولون أن يردّوا عليه آراءه وأفكاره، ولربّما
وأمّا ابن تيميّة، فإنّما يتعرّض للخواجة نصير الدين الطوسي بمناسبة أنّ العلاّمة الحلّي ـ تلميذ الخواجة ـ ينقل عن أُستاذه استدلالاً لدعم المذهب الشيعي وإثبات عقيدة الاماميّة، على أساس حديثين صحيحين واردين في كتب الفريقين.
ينقل العلاّمة رحمه الله عن أُستاذه أنّه سئل عن المذهب الحقّ بعد رسول الله، فأجاب بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخبر في الحديث المتفق عليه بأنّ الاُمّة ستفترق من بعده على ثلاث وسبعين فرقة، وهذا الحديث متّفق عليه.
قال: فمع كثرة هذه الفرق قال رسول الله: فرقة ناجية والباقي في النار.
ثمّ إنّ رسول الله عيّن تلك الفرقة الناجية بقوله: «إنّما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا».
وهذا الاستدلال لا يمكن لاحد أن يناقش فيه، لا في الحديث الاول، ولا في الحديث الثاني، ولا في النتيجة المترتبة على هذين الحديثين.
ولا بأس بأن أقرأ لكم نصّ ما قاله ابن تيميّة في الشيخ نصير الدين الطوسي:
نص ما قاله ابن تيميّة
يقول ابن تيمية: هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنّه كان وزيراً الملاحدة الباطنية الاسماعيليّة في الالموت، ثمّ لمّا قدم الترك المشركون إلى بلاد المسلمين، وجاؤوا إلى بغداد دار الخلافة، كان هذا منجّماً مشيراً لملك الترك المشركين هولاكو، أشار عليه بقتل الخليفة وقتل أهل العلم والدين، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا، وأنّه استولى على الوقف الذي للمسلمين، وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم.
وأنّه لمّا بنى الرصد الذي بمراغة على طريقة الصابئة المشركين، كان أبخس الناس نصيباً منه من كان إلى أهل الملل
ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الاسلام ومحرّماته، لا يحافظون على الفرائض كالصلوات، ولا ينزعون عن محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات، حتّى أنّهم في شهر رمضان يذكر منهم من إضاعة الصلوات وارتكاب الفواحش وشرب الخمور ما يعرفه أهل الخبرة بهم.
ولم يكن لهم قوّة وظهور إلاّ مع المشركين الذين دينهم شرّ من دين اليهود والنصارى، ولهذا كان كلّما قوي الاسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء، لغرض معاداتهم للاسلام وأهله....
وبالجملة فأمر هذا الطوسي وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرّف ويوصف.
ومع هذا فقد قيل: إنّه في آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس، ويشتغل بتفسير البغوي وبالفقه ونحو ذلك، فإن كان قد تاب من الالحاد، فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات، والله تعالى يقول: (يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا
لكنّ ما ذكره هذا، إن كان قبل التوبة لم يقبل قوله، وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض، بل من الالحاد وحده، وعلى التقديرين فلا يقبل قوله.
والاظهر أنّه إنّما كان يجتمع به وبأمثاله لمّا كان منجّماً للمغل المشركين، والالحاد معروف من حاله إذ ذاك، فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الاوّلين من المهاجرين والانصار، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ويعيّرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء، كيف يليق به أن يحتجّ لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أُوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويستحلّون المحرّمات المجمع على تحريمها، كالفواحش والخمر في شهر رمضان، الذين أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بمحرّمات الدين، وسلكوا غير طريق المؤمنين....
____________
(1) سورة الزمر: 53.
هذا جوابه على استدلال العلاّمة بكلام أُستاذه، الاستدلال الذي ذكرناه، لانّ الاستدلال قوائمه حديث متفق عليه: هو «ستفرق أمّتي» وحديث آخر أيضاً متّفق عليه، الحديث الثاني يقول: لا نجاة إلاّ بركوب سفينة أهل البيت، والنتيجة واضحة.
وهذا جواب ابن تيميّة على هذا الاستدلال !!
لكن علينا أن نبحث عن أصل المسألة التي طلبتم البحث عنها في هذه اللّيلة.
____________
(1) منهاج السنة 3 / 445 ـ 451.
الرجوع في قضية سقوط بغداد
إلى مَن شهد الواقعة
في مثل هذه القضيّة، وهي قضيّة واقعة في القرن السابع، وفي أواسط هذا القرن، لابدّ وأنْ نرجع إلى من شهد تلك الواقعة وكان حاضراً فيها ويخبر عنها، وأيضاً إلى المؤرّخين قريبي العهد من تلك الحادثة، لا أقول نرجع إلى المؤرّخين الشيعة حتّى يقال بأنّ الشيعة يحاولون أن يبرّئوا ساحة علمائهم وكبرائهم من أيّ شيء يطعن فيهم به، وإنّما أقول نرجع إلى المؤرّخين من أهل السنّة أنفسهم.
الرجوع إلى ابن الفوطي
لعلّ خير كتاب يمكننا الرجوع إليه بالدرجة الاُولى كتاب الحوادث الجامعة، وهو تأليف العلاّمة ابن الفوطي.
أذكر لكم باختصار عن بعض المصادر المعتبرة ترجمة ابن
ترجم له الذهبي قائلاً: ابن الفوطي العالم البارع المتفنّن المحدّث المفيد، مؤرخ الافاق، مفخر أهل العراق، كمال الدين أبوالفضائل عبدالرزاق بن أحمد بن محمّد بن أبي المعالي الشيباني ابن الفوطي، مولده في المحرّم سنة 642 ببغداد، وأُسر في الوقعة وهو حَدَث ـ أُسر في الوقعة: وقعة بغداد ـ ثمّ صار إلى أُستاذه ومعلّمه خواجة نصير الدين الطوسي في سنة 660، فأخذ منه علوم الاوائل، ومهر على غيره في الادب، ومهر في التاريخ والشعر وأيام الناس، وله النظم والنثر، والباع الاطول في ترصيع تراجم الناس، وله ذكاء مفرط، وخط منسوب رشيق، وفضائل كثيرة، سمع الكثير، وعني بهذا الشأن(1) .
ويعبّر عنه صاحب فوات الوفيات ابن شاكر الكتبي، عندما يعنونه يعبّر عنه بـ: الشيخ الامام المحدّث المؤرّخ الاخباري الفيلسوف(2) .
وأمّا ابن كثير، فيذكر ابن الفوطي في تاريخه قائلاً: الامام المؤرّخ كمال الدين ابن الفوطي أبوالفضل عبدالرزاق، ولد سنة
____________
(1) تذكرة الحفاظ 4/1493.
(2) فوات الوفيات 2/319.
فهذا العالم المؤرّخ، الذي شاهد القضيّة، وحضرها، وأُسر فيها، وهو إمام مؤرّخ معتمد، يذكره علماء أهل السنّة بالثناء الجميل، ويذكرون كتبه في التاريخ، هذا الرجل له كتاب الحوادث الجامعة، في هذا الكتاب يتعرّض لقضيّة سقوط بغداد على يد هولاكو، وليس لخواجة نصيرالدين اسم في هذه القضيّة ولا ذكر أبداً، يذكرون أنّه قد ألّف كتابه هذا بعد الواقعة بسنة واحدة، أي أنّ سنة 657 تاريخ تأليف كتاب الحوادث الجامعة.
الرجوع إلى ابن الطقطقي
ثمّ بعد ابن الفوطي، نرى ابن الطقطقي المولود سنة 660 والمتوفّى سنة 709، هذا صاحب كتاب الفخري في الاداب
____________
(1) البداية والنهاية 14 / 106.
نعم يذكر اسم الخواجة مرّةً واحدةً، حيث يبيّن دخول ابن العلقمي على هولاكو.
ابن العلقمي كان وزير المستعصم العباسي، أصبح بعد المستعصم العباسي من الشخصيّات المرموقة في بغداد، وينسب إليه أيضاً من قبل بعض كتّاب السنّة ـ السابقين واللاّحقين ـ أنّ له يداً في سقوط بغداد، لكن بحثنا الان في خواجة نصيرالدين وليس في ابن العلقمي، وبإمكانكم أن ترجعوا إلى كتاب أعيان الشيعة للسيّد الامين العاملي رحمه الله يذكر هناك ما يقال عن ابن العلقمي وبراءة ساحة هذا الرجل أيضاً.
ففي كتاب الفخري في الاداب السلطانيّة يذكر الشيخ نصيرالدين الطوسي مرّةً واحدةً بمناسبة أنّ الشيخ نصيرالدين كان واسطة في دخول هذا الوزير، أي ابن العلقمي على هولاكو، يقول: وكان الذي تولّى ترتيبه في الحضرة السلطانيّة الوزير السعيد
الرجوع إلى أبي الفداء
ثمّ ننتقل إلى تاريخ أبي الفداء، المولود سنة 672 والمتوفى سنة 732، وهذا قريب العهد بالواقعة، لانّ الواقعة كانت سنة 656، وهذا مولود في سنة 672، أي بعد سنوات قليلة، ومتوفى في سنة 732.
فنراه يذكر قضيّة فتح بغداد، واستيلاء المشركين والتتر على بغداد، وانقراض الحكومة العبّاسيّة، يقول: في أوّل هذه السنة ـ سنة 656 ـ قصد هولاكو ملك التتر بغداد، وملكها في العشرين من المحرّم، وقتل الخليفة المستعصم بالله، وسبب ذلك أنّ وزير الخليفة مؤيّد الدين ابن العلقمي كان رافضيّاً، وكان أهل الكرخ أيضاً روافض، فجرت فتنة بين السنّيّة والشيعة ببغداد على جاري عادتهم.
[ دائماً هذه الفتن كانت موجودة في بغداد بين الشيعة والسنّة، منذ زمن الشيخ المفيد والشيخ الطوسي، وفي بعض هذه الفتن
____________
(1) الفخري في الاداب السلطانية: 338.
فأمر أبوبكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار [ هذا رئيس العسكر ] العسكر، فنهبوا الكرخ، وهتكوا النساء، وركبوا منهنّ الفواحش.
فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد، وكان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس، فقطّعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل اقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه يستدعيهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم، وخرج عسكر الخليفة لقتالهم ومقدّمهم ركن الدين الدوادار، والتقوا على مرحلتين من بغداد، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الخليفة، ودخل بعضهم بغداد وسار بعضهم إلى جهة الشام.
ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي، ونزل باجو ـ وهو مقدّم كبير ـ في الجانب الغربي، على قرية قبالة دار الخلافة، وخرج مؤيد الدين الوزير ابن العلقمي إلى هولاكو، فتوثّق منه
أمّا الخليفة فإنّهم قتلوه، ولم يقع الاطّلاع على كيفيّة قتله، فقيل خنق، وقيل وضع في عدل ورفسوه حتّى مات، وقيل غرق في دجلة، والله أعلم بحقيقة ذلك، وكان المستعصم ضعيف الرأي، قد غلب عليه أُمراء دولته لسوء تدبيره، وهو آخر الخلفاء العبّاسيّين(1) .
ولا ذكر لخواجه نصير الدين الطوسي أبداً، وأمّا ما ذكر عن ابن
____________
(1) المختصر في أحوال البشر 3/193 ـ 194.
الرجوع إلى الذهبي
وأمّا الذهبي، الذهبي هو تلميذ ابن تيميّة وإنْ كان يخالفه في بعض الاراء، إلاّأنّه تلميذه، وقد لخّص كتاب منهاج السنّة أيضاً، فمن مؤلفات الذهبي منهاج الاعتدال وهو تلخيص منهاج السنّة.
يقول الذهبي في حوادث سنة 656: كان المؤيد ابن العلقمي قد كاتب التتر، وحرّضهم على قصد بغداد، لاجل ما جرى على إخوانه الرافضة من النهب والخزي.
فذكر الواقعة كما تقدّم عن أبي الفداء، وليس فيها ذكر لنصيرالدين الطوسي أصلاً(1) .
الرجوع إلى ابن شاكر الكتبي
وصاحب فوات الوفيات ابن شاكر الكتبي المولود سنة 686، أي بعد الواقعة بثلاثين سنة، والمتوفى سنة 764، يترجم الخليفة العبّاسي ويترجم نصيرالدين الطوسي كليهما في كتابه، ولا يذكر
____________
(1) العبر في خبر من غبر 3/277.
كان متيناً متمسّكاً بمذهب أهل السنّة والجماعة على ما كان عليه والده وجدّه، ولم يكن على ما كانوا عليه من التيقّظ والهمّة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقّظ، نازل الهمّة، محبّاً للمال، مهملاً للاُمور، يتّكل فيها على غيره، ولو لم يكن فيه إلاّ ما فعله مع الملك الناصر داود في الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً، والله لو كان الناصر من الشعراء، وقد قصده وتردّد عليه على بعد المسافة ومدحه بعدّة قصائد، كان يتعيّن عليه أن ينعم عليه بقريب من قيمة وديعته من ماله، فقد كان في أجداد المستعصم بالله من استفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك.
[ كأنّما كانت عنده وديعة لشخص، وهذه الوديعة تصرّف فيها ولم يرجعها إلى صاحبها، يذكر هذه القضيّة، إلى غير ذلك من الاُمور التي كانت تصدر عنه، ممّا لا يناسب منصب الخلافة، ولم يتخلّق بها الخلفاء قبله ].
فكانت هذه الاسباب كلّها مقدّمات لما أراد الله تعالى بالخليفة والعراق وأهله، وإذا أراد الله تعالى أمراً هيّأ أسبابه.
[ ولم يذكر سائر أعمال هذا الخليفة وأسلاف هذا الخليفة، من
قال: واختلفوا كيف كان قتله، قيل: إنّ هولاكو لمّا ملك بغداد أمر بخنقه، وقيل رفس إلى أن مات، وقيل كذا إلى آخره والله أعلم بحقيقة الحال. وكانت واقعة بغداد وقتل الخليفة من أعظم الوقائع(1) .
ولم يذكر شيئاً يتعلّق بالخواجة نصيرالدين الطوسي أبداً.
الرجوع إلى الصفدي
وإذا راجعتم كتاب الوافي بالوفيات للصفدي، هذا الرجل مولود في سنة 696 أي بعد أربعين سنة من الواقعة، ومتوفى في سنة 764.
يقول بترجمة الخليفة: كان حليماً كريماً، سليم الباطن، حسن الديانة، متمسّكاً بالسنّة، ولكنّه لم يكن كما كان عليه أبوه وجدّه، وكان الدوادار والشرابي لهم الارض، جاء هولاكو البلاد في نحو
____________
(1) فوات الوفيات 2/230.
الرجوع إلى ابن خلدون
ننتقل إلى ابن خلدون، ابن خلدون متولّد في سنة 732، ووفاته سنة 808، يذكر في تاريخه خبر المستعصم آخر ملوك بني العبّاس ببغداد، فلم يصف الخليفة بما وصفه به غيره من الصفات الدنيئة الموجبة للعار والشنار، والمسببة لما وقع به وبأهل بغداد، بل وصفه بقوله: كان فقيهاً محدّثاً... ثمّ ذكر ما كان من السنّة ضدّ الشيعة في الكرخ بأمر من الخليفة وابنه أبي بكر وركن الدين
____________
(1) الوافي بالوفيات 17/641.
وليس في شيء ممّا ذكر ذكراً لنصيرالدين الطوسي أبداً، فلاحظوا تاريخه(1) .
الرجوع إلى السيوطي
وذكر جلال الدين السيوطي في تاريخه تاريخ الخلفاء، السيوطي وفاته سنة 911، ذكر أخبار التتر، وورودهم إلى بغداد، وقتل الخليفة وغير ذلك، في صفحات كثيرة، وليس فيها ذكراً لنصيرالدين الطوسي أبداً(2) .
فأين ما ذكره ابن تيميّة حول نصيرالدين الطوسي رحمه الله فيما يتعلّق بقضيّة بغداد.
الرجوع إلى أصحاب ابن تيمية
حينئذ ننتقل إلى أصحاب ابن تيميّة والمقرّبين منه، وهم ثلاثة: الذهبي، وابن كثير، وابن القيّم.
____________
(1) تاريخ ابن خلدون 6/1104.
(2) تاريخ الخلفاء: 467 ـ 477.
أمّا ابن كثير، ابن كثير ولادته سنة 700 أي بعد الواقعة حدود الخمسين سنة ووفاته سنة 774، ترجم لنصيرالدين الطوسي، ولم ينسبه إلى شيء أو لم ينسب شيئاً ممّا ذكر ابن تيميّة إلى الخواجة نصيرالدين، من الاخلال بالصلوات وشرب الخمر وارتكاب الفواحش، لم يذكر شيئاً من هذه أبداً، وإنّما ذكر ما نسب إليه من الاشارة على هولاكو بقتل الخليفة، بعبارة ظاهرة جدّاً في التشكيك في ذلك، وإليكم نصّ ما قاله ابن كثير في تاريخه في هذه القضية:
يقول: ومن الناس من يزعم أنّه ـ الخواجه نصيرالدين ـ أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة، فالله أعلم.
لا يقول أكثر من هذا، ومن الناس من يزعم، والله أعلم.
ولابدّ وأنّه يقصد من الناس ابن تيميّة.
____________
(1) سير أعلام النبلاء 23/181.
وهذا من جملة المواضع التي لا يوافق فيها ابن كثير شيخه ابن تيميّة.
يبقى ابن قيّم الجوزيّة، ابن قيّم الجوزيّة لم يتبع ابن تيميّة فقط، بل زاد على ما قال شيخه أشياء أُخرى أيضاً، لاحظوا عبارته بالنص عندما يذكر نصيرالدين الطوسي يقول:
نصير الشرك والكفر والالحاد، وزير الملاحدة النصير الطوسي، وزير هولاكو، شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف حتّى شفى إخوانه من الملاحدة واشتفى هو، فقتل الخليفة المستعصم والقضاة والفقهاء والمحدّثين.
[ كلمة «المحدثين» مادام هي بالنصب، لابد أنْ تقرأ الكلمة: قَتَلَ، أي قتل نصيرالدين المستعصمَ والقضاةَ والفقهاء والمحدّثين.
____________
(1) البداية والنهاية 13/267.
واستبقى الفلاسفة والمنجّمين والطبايعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصَرَ في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الربّ جلّ جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، واتّخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك فقال: هي قرآن الخواص وذلك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين، فلم يتم له الامر، وتعلّم السحر في آخر الامر فكان ساحراً يعبد الاصنام، انتهى.
ابن تيميّة قال: في آخر الامر تاب نصيرالدين الطوسي، قرأنا عبارته في أنّه في آخر الامر تاب نصيرالدين الطوسي وكان يصلّي وتعلّم الفقه وقرأ تفسير البغوي في آخر عمره.
وهذا يقول: تعلّم السحر في آخر الامر، فكان ساحراً يعبد الاصنام !!
وإلى هنا تبيّن أنّ ما ينسب سابقاً ولاحقاً إلى الخواجة نصيرالدين الطوسي ليس له سبب، سوى أنّ هذا الرجل العظيم استفاد من تلك الظروف لِصالح هذا المذهب المظلوم، وتمكّن من
وقد ثبت أنّ كلّ ما ينسب إليه باطل، ولا أساس له من الصحّة، إستناداً إلى كلمات المؤرّخين من أهل السنّة أنفسهم، من ابن الفوطي الذي عاصر القضيّة وكان من الاسرى في الواقعة، ثمّ ابن الطقطقي، ثمّ ابن كثير، ثمّ الذهبي، والصفدي، وابن شاكر الكتبي، وغيرهم، وهؤلاء كلّهم من أهل السنّة، وهكذا أبوالفداء، ولم ننقل شيئاً لتبرئة ساحة هذا الشيخ العظيم عن أحد من علماء الشيعة.
الثناء على الشيخ نصير الدين الطوسي
والان، لا بأس أن أذكر لكم بعض النصوص في الثناء الجميل على هذا الشيخ العظيم من كتب القوم.
لاحظوا عبارة ابن كثير يقول: النصير الطوسي محمّد بن عبدالله [ لكن والده محمّد فهو محمّد بن محمّد ] كان يقال له المولى نصير الدين، ويقال الخواجة نصير الدين، اشتغل في شبيبته، وحصّل علم الاوائل جيّداً، وصنّف في ذلك في علم الكلام، وشرح الاشارات لابن سينا، ووزر لاصحاب قلاع الالموت من الاسماعيليّة، ثمّ وزر لهولاكو، وكان معهم في واقعة بغداد، ومن الناس من يزعم أنّه أشار على هولاكو بقتل الخليفة، فالله أعلم، وعندي أنّ هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل... إلى آخر ما قرأناه سابقاً.
قال: وهو الذي كان قد بنى الرصد في مراغة، ورتّب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلّمين والفقهاء والمحدّثين والاطبّاء،
هذا كلّه ذكره في ترجمة نصيرالدين الطوسي، وفيه الثناء الجميل على علمه، إلاّ أنّه يعرّض به لاجل مذهبه(1) .
وقال الذهبي في وفيات سنة 672: كبير الفلاسفة خواجة نصير الدين محمّد بن محمّد بن حسن الطوسي صاحب الرصد.
وقال أيضاً: خواجه نصير الدين الطوسي أبو عبدالله محمّد بن محمّد بن الحسن، مات في ذي الحجّة ببغداد، وقد نيّف على الثمانين، وكان رأساً في علم الاوائل، ذا منزلة من هولاكو(2) .
وقال أبوالفداء: وفيها ـ أي في السنة المذكورة ـ في يوم الاثنين (18) ذي الحجة، توفي الشيخ العلاّمة نصير الدين الطوسي، واسمه محمّد بن محمّد الامام المشهور، وكان يخدم صاحب الالموت، ثمّ خدم هولاكو، وحظي عنده، وعمل لهولاكو
____________
(1) البداية والنهاية 13 / 276.
(2) العبر في خبر من غبر 3 / 326، دول الاسلام.
[ يعني موسى والجواد «الواو» هذه لابدّ منها ].
وقال الصفدي: نصيرالدين الطوسي محمّد بن محمّد بن الحسن نصير الدين الطوسي، الفيلسوف، صاحب علم الرياضي، كان رأساً في علم الاوائل، لاسيّما في الارصاد والمجسطي، فإنّه فاق الكبار، قرأ على المعين سالم بن بدران المعتزلي الرافضي وغيره، وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيع على ما يشير عليه، والاموال في تصريفه، وابتنى بمراغة قبّة ورصداً عظيماً، واتخذ في ذلك خزانة عظيمة، فسيحة الارجاء وملاها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتّى تجمّع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلّد [ فأين تلك الكتب ] وأقرّ
____________
(1) المختصر في أخبار البشر 4 / 8.
حكي أنّه لمّا أراد العمل بالرصد رأى هولاكو ما يقدم عليه، فقال له: هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فائدته، أيدفع ما قدّر أن يكون ؟ فقال: أنا أضرب لك مثلاً، يأمر القان من يطلع إلى هذا المكان، ويرمي من أعلاه طشتاً نحاساً كبيراً من غير أن يعلم به أحد، ففعل ذلك، ولمّا وقع كان له وقعة عظيمة هائلة روّعت كلّ من هناك، وكاد بعضهم يصعق، فأمّا هو وهولاكو فإنّهما ما حصل لهما شيء لعلمهما بأنّ ذلك يقع، فقال له: هذا العلم النجومي له هذه الفائدة، يعلم المتحدّث فيه ما يحدث، فلا يحصل له من الروعة ما يحصل للذاهل الغافل عنه، فقال له: لا بأس بهذا، وأمره بالشروع فيه، إلى آخره.
ومن دهائه ما حكي: أنّه حصل لهولاكو غضب على علاء الدين الجويني صاحب الديوان، فأمر بقتله، فجاء أخوه إلى النصير وذكر له، فقال النصير... إلى آخره فسعى في خلاص هذا الشخص.
وممّا وقف له عليه أن ورقة حضرت إليه عن شخص من جملة ما فيها: يا كلب يابن الكلب، فكان الجواب منه أمّا قوله: يا كلب،
هكذا ردّ عليه بحسن طوية وتأن غير منزعج، ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة.
ثمّ ذكر تصانيفه، ثمّ ذكر بعض القضايا الاُخرى(1) .
ولا أُريد أن أُطيل عليكم بقراءة كلّ ما في كتاب الوافي بالوفيات.
ولاحظوا هذه العبارة من كلامه، أقرؤها عليكم، يقول: وكان للمسلمين به نفع خصوصاً الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم، وكان يبرّهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقاتهم، وكان مع هذا كلّه فيه تواضع وحسن ملتقى، وكان نصير قدم من مراغة إلى بغداد، ومعه كثير من تلامذته وأصحابه، فأقام بها مدّة أشهر ومات، ومولد النصير بطوس سنة كذا ووفاته سنة كذا، وشيّعه صاحب الديوان والكبار، وكانت جنازته حفلة، ودفن في مشهد الكاظم.
____________
(1) الوافي بالوفيات 1 / 179.
وأقرأ لكم ما جاء في فوات الوفيات يقول: الخواجة نصير الدين الطوسي محمّد بن محمّد بن الحسن نصير الدين، كان رأساً في علم الاوائل، لاسيّما في الارصاد والمجسطي، وكان يطيعه هولاكو فيما يشير عليه، والاموال في تصريفه.
[ هذه تقريباً عبارات الوافي بالوفيات وإلى أنْ يقول ]: وكان حسن الصورة سمحاً كريماً جواداً حليماً حسن العشرة غزير الفضائل جليل القدر داهية.
إلى أنْ ذكر تصانيفه وهي كثيرة جدّاً، وذكر كلمات بعض العلماء في حقّه قال: ودفن في مشهد الكاظم رحمه الله.
وكذا تجدون الثناء عليه في النجوم الزاهرة(1) .
وكذا غير هؤلاء من المؤلفين والمؤرخين.
فأين ما ذكره ابن تيميّة أو ما زاد عليه تلميذه ابن قيّم الجوزيّة ؟
والعمدة ما ذكرته لكم.
____________
(1) النجوم الزاهرة في ملوك نصر والقاهرة 7 / 245.
خاتمة البحث
والعجيب أنّكم لو قرأتم كتب علمائنا في التراجم وسير العلماء وفي التواريخ، لن تجدوا لفظة واحدة من هذه الالفاظ التي تصدر من بعض هؤلاء في حقّ علماء الشيعة، لن تجدوا لفظةً منها فى حقّ علماء السنة، فإن ذكروا شيئاً عن بعض علماء أهل السنّة، فإنّما يذكرونه بأدب ومتانة، فكيف وأن ينسبوا إلى أحد منهم ما ليس فيه، وما لا يجوز نسبته إليه، لاحظوا الكتب، قارنوا بين كتبنا وكتبهم، قارنوا بين أساليب علمائنا وأساليب شيخ إسلامهم، لتعرفوا الحقّ وتكونوا من أتباع الحق.
إذا عرفتم الحقّ تعرفون أهله، وإذا عرفتم الحق تتّبعونه بلا تردّد.
إذن، عرفنا في هذا البحث أموراً، وكان لهذا البحث فوائد عديدة، ولا حاجة إلى الاطالة بأكثر ممّا ذكرته لكم.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.