الصفحة 148

وحديث الحميدي أيضا: (كنت ألعب بالبنات في بيته، وهن اللعب) (1).

مع أنهم رووا في صحاح الأحاديث: أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صور مجسمة، أو تماثيل (2)، وتواتر النقل عنه، بإنكار عمل الصور والتماثيل (3)، فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلى النبي " ص "، وإلى زوجته من عمل الصور في بيته، الذي أسس للعبادة (4)، وهو محل هبوط الملائكة، والروح الأمين في كل وقت؟! (5).

ولما رأى النبي " ص " الصور في الكعبة لم يدخلها حتى محيت (6)، مع أن الكعبة بيت الله تعالى، فإذا امتنع من دخوله، مع شرفه، وعلو

____________

(1) صحيح مسلم ج 2 ص 120 كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة، والجمع بين الصحيحين.

(2) صحيح البخاري ج 7 ص 216 باب من كره القعود على الصورة وباب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة. وص 217 باب من لم يدخل بيتا فيه صورة، والجامع الصحيح للترمذي ج 4 ص 200، باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة أو كلب، وصحيح مسلم ج 2 ص 329، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة.

(3) صحيح مسلم ج 2 ص 331 و 332 و 333 و 334، وصحيح البخاري ج 7 ص 215 باب عذاب المصورين يوم القيامة وباب نقض الصور، وباب ما وطي من التصاوير ص 216 باب من كره القعود على الصورة، وباب كراهية الصلاة في التصاوير ص 217، باب من لم يدخل بيتا فيه صورة، وباب من لعن المصورين، وباب من صور صورة.

(4) قال الله تعالى: " في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها أسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال " النور: 36. قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 50 وأخرج ابن مردويه، عن أنس بن مالك، وبريدة، قال: قرأ رسول الله هذه الآية، فقام إليه رجل، فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. (الحديث).

(5) قال رسول الله " ص ": " نحن أهل بيت طهرهم الله، من شجرة النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم ". رواه السيوطي في تفسيره ج 5 ص 199 ولا ريب في أن بيته الكريم كان محل الوحي، ومهبط أمين وحي رب العالمين.

(6) السيرة الحلبية ج 3 ص 86 و 87، في هامشها سيرة زيني دحلان ج 2 ص 286.


الصفحة 149
مرتبته، فكيف يتخذ في بيته، وهو أدون من الكعبة صورا، ويجعله محلا له.

وروى الحميدي في " الجمع بين الصحيحين ": قالت عائشة: (رأيت النبي يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر) (1).

وروى الحميدي، عن عائشة قالت: (دخل علي رسول الله " ص "، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر، فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي " ص "، فأقبل عليه رسول الله، وقال: دعها. فلما غفل، غمزتهما، فخرجنا) (2).

وكيف يجوز للنبي " ص " الصبر على، هذا مع أنه نص على تحريم اللعب واللهو، والقرآن مملوء به (3). وبالخصوص مع زوجته، وهلا

____________

(1) رواه ابن الأثير، في جامع الأصول ج 11 ص 322، عن البخاري، ومسلم، والنسائي والغزالي في إحياء العلوم ج 2 ص 277 وفي ذيله الزين العراقي في كتابه: المغني في تخريج ما في الأحياء من الأخبار وقال: فرواه مسلم من حديث أبي هريرة، دون قوله:

" أمنا يا بني أرفدة " بل قال: " دعهم يا عمر "، زاد النسائي: " فإنما هم بنو أرفدة "، ولهما من حديث عائشة: " دونكم يا بني أرفدة ".

(2) رواه مسلم في الصحيح ج 1 ص 345، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، والبخاري في الصحيح ج 2 ص 19، كتاب العيدين، باب اللعب في العيدين والتجمل فيه.

(3) أخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي، عن أبي أمامة، عن رسول الله " ص "،: قال لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام. في مثل هذا أنزلت هذه الآية: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " الآية لقمان: 6 ورواه السيوطي في تفسيره ج 5 ص 159، والطبري ج 21 ص 39، وتفسير ابن كثير ج 3 ص 39، وتفسير الآلوسي ج 21 ص 68 وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن مردويه، من طريق عائشة، مرفوعا: إن الله تعالى حرم القينة، وبيعها، وثمنها، وتعليمها، والاستماع إليها، ثم قرأ: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث.. " راجع:

الدر المنثور ج 5 ص 159 وتفسير الشوكاني ج 4 ص 228، وتفسير الآلوسي ج 21 ص 68 وقد جاء في السنة الشريفة، عن الرسول " ص ": ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله تعالى إليه شيطانين، يجلسان على منكبيه، يضربان بأعقابها على صدره حتى يمسك " راجع الكشاف ج 2 ص 411، والدر المنثور ج 5 ص 159، وتفسير الآلوسي ج 21 ص 68.

وقال الله تعالى: " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وغرتهم الحياة الدنيا " الأنعام: 70.

وقال تعالى: " الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وغرتهم الحياة الدنيا، فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وما كانوا بآياتنا يجحدون " الأعراف: 51.


الصفحة 150
دخلته الحمية والغيرة مع أنه " ص " أغير الناس؟؟ وكيف أنكر أبو بكر وعمر، ومنعهما؟ فهل كانا أفضل منه؟

وقد رووا عنه " ص ": (أنه لما قدم المدينة من سفر، خرجت إليه نساء المدينة يلعبن بالدف فرحا بقدومه، وهو يرقص بأكمامه) (1).

____________

(1) وقريب منه ما رواه عن بريد: خرج رسول الله " ص " في بعض مغازيه، فلما انصرف، جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله، إني نذرت: إن ردك الله سالما: أن أضرب بين يديك بالدف، وأتغنى؟ فقال رسول الله " ص ": إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا. فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر، وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدف تحت استها، ثم قعدت عليها، فقال رسول الله " ص ": إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا، وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، نم دخلت أنت يا عمر، فألقت الدف. (رواه الترمذي في الجامع ج 5 ص 384، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريد، وفي هذا الباب عن عمر وعائشة، في أسد الغابة ج 4 ص 64، ومسند أحمد ج 5 ص 353 عن جابر قال: دخل أبو بكر على رسول الله " ص "، وكان يضرب بالدف عنده، فقعد ولم يزجر، لما رأى من رسول الله " ص "، فجاء عمر، فلما سمع رسول الله صوته كف عن ذلك، فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله، كان حلالا فلما دخل عمر صار حراما؟ فقال " ص ": يا عائشة: ليس كل الناس مرخى عليه (الغدير - ج 8 ص 64 ونوادر الأصول للترمذي ج 2 ص 138 وروى ابن الأثير في جامع الأصول ج 11 ص 322 ط مصر): عن أنس بن مالك، قال: لما قدم رسول الله " ص " المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحا بذلك، لعبوا بحرابهم..

أقول: إذا أردنا أن نقذف بالحق على الباطل، فيدمغه، فإذا هو زاهق، فلا بد وأن نعرف سر اختلاف هذه الأحاديث، والداعي إلى افتعالها فهل الدافع لقولهم: (يجوز أن يبعث الله الكافر نبيا)، هو كون عدة من الخلفاء كانوا قبل الإسلام من عبدة الأصنام، على ما تواتر في التاريخ وأشرنا إليه في الحديث السابق: (لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)؟ أو غير ذلك؟.

وهل سر ذلك، والدافع إليه، وإلى نسبة السهو، وعدم العصمة إلى الأنبياء " ع " هو كون الخلفاء غير مأمونين من الخطأ والسهو، وعدم علمهم بالمعارف الدينية، والأحكام الشرعية، كما صرح في الكتب المعتبرة، مع أنه أساس الخلافة عندهم؟ أو غير ذلك؟.

وهل سر جعل أحاديث اللعب بالبنات، وشهوده " ص " المعازف والراقصات، والاستماع لأهازيجهن، هو إثبات فضيلة للخليفة الأول، والثاني كما يظهر من عدة منها؟.

أو هو إظهار منزلة حليلته عائشة عنده، كما يظهر من أخرى. ثم لا يقنعه ذلك كله، حتى يطلع زوجته عليها، في ملأ من الناس: وهو يقول لها: " أما شبعت؟ أما شبعت؟ وهي تقول: لا، لأنظر منزلتي عنده. (راجع سنن الترمذي ج 5 ص 284 والتاج الجامع للأصول ج 3 ص 314، ومصابيح السنة ج 2 ص 196).

مع أن الغناء والملاهي من عمل الشيطان، ومما حرم في الشريعة المقدسة، بنص الكتاب والسنة أفمن العقل أن تعزى إليه " ص " تلك المسامحة المسقطة له عن محله إلى هوة الجهل؟ وينتهرها الخليفة الأول، ويدحضها الثاني فحسب، دون رسول الله " ص "؟ وما هذا الشيطان الذي لا يخاف من الرسول، ويفرق من عمر؟ وأي نبي هذا الذي يسمع الملاهي، وترقص بين يديه الرقاصة الأجنبية، وتضرب بالدف وتغني، أو ينظر هو وزوجته إلى تلك المواقف المخزية، ثم يقول: " لست من دد، ولا الدد مني، أو يقول: " لست من دد، ولا دد مني "، أو يقول: " لست من الباطل، ولا الباطل مني "؟ (أخرجه البخاري في الأدب، وابن عساكر، راجع كنز العمال ج 7 ص 323، وفيض القدير ج 5 ص 265 كما في الغدير ج 8 ص 74.

ألا تعجب من رسول، يلعب الحبشة في مسجده الشريف الذي هو من أشرف بقاع الدنيا، والذي أسس على التقوى من أول يوم، كما صرح به القرآن الكريم قال تعالى: " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا " الجن: 18، ألا تعجب منه، يرى الحبشة يزفون ويرقصون، وهو وحليلته ينظران إليهم، وعمر ينهاهن، ويقول النبي " ص ":

" دعهن يا عمر ". وقد قال ابن منظور في لسان العرب ج 19 ص 274: قد رخص عمر في غناء الأعراب.

أقول: هذه الرواية وغيرها مما ورد في سنن البيهقي ج 10 ص 224، وكنز العمال ج 7 ص 235 تكشف لنا سر جعل هذه الروايات، مضافا إلى ما ورد: من إحراز المعازف والغناء في أيام خلافة بني أمية مقاما عظيما عندهم كما صرح به أبو الفرج الإصبهاني في الأغاني ج 2 ص 20 و 211 و ج 4 ص 260 و ج 7 ص 387 و ج 8 ص 326

ثم.. أليس من شرط انعقاد النذر، كون متعلقه راجحا، ومما يبتغي به وجه الله، ليكون مقربا إليه تعالى زلفى، فيصح للناذر أن يقول: لله علي كذا. وقد قال رسول الله " ص ":

" لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله تعالى "، أخرجه أبو داود، وأحمد، كما في التاج الجامع للأصول ج 3 ص 83، وقال " ص ": " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "، أخرجه ابن ماجة في سننه ج 1 ص 686

فأي رجحان في ضرب المرأة الأجنبية الدف بين يدي الرجل الأجنبي، وغنائها ورقصها أمامه؟ إلا أن يقال: إن تلك الجارية، أو مسجد النبي " ص " قد أباحا تلك المحظورات..

أو أنه الوضع والغلو في فضائل الشيخين وعائشة؟ والله الهادي.


الصفحة 151
وهل يصدر مثل هذا عن رئيس، أو من له أدنى وقار، نعوذ بالله من هذه السقطات.


الصفحة 152
مع أنه لو نسب أحدهم إلى مثل هذا قابله بالسب والشتم، وتبرأ منه، فكيف يجوز نسبة النبي " ص " إلى مثل هذه الأشياء التي يتبرأ منها..

وفي الصحيحين: أن ملك الموت، لما جاء لقبض روح موسى، لطمه موسى، ففقأ عينه (1).

فكيف يجوز لعاقل: أن ينسب موسى " ع " مع عظمته، وشرف منزلته، وطلب قربه من الله تعالى، والفوز بمجاورة عالم القدس إلى هذه الكراهة؟ وكيف يجوز منه: أن يوقع بملك الموت ذلك، وهو مأمور من قبل الله تعالى؟!

وفي الجمع بين الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في صفة الخلق يوم القيامة: وإنهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة، فيعتذر إليهم، فيأتون نوحا فيعتذر إليهم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي

____________

(1) صحيح مسلم ج 4 ص 90، والبخاري ج 4 ص 191 والتاج الجامع للأصول ج 3 ص 296.


الصفحة 153
قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري!.. (1).

وفي الجمع بين الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " لم يكذب إبراهيم النبي إلا ثلاث كذبات " (2).

كيف يحل لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء؟ وكيف الوثوق بشريعتهم، مع الاعتراف بتعمد كذبهم؟

وفي الجمع بين الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وآله قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: " رب أرني كيف تحيي الموتى، قال:

أولم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي " (3)، ويرحم الله لوطا " لقد كان يأوي إلى ركن شديد " (4)، (ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف، لأجبت الداعي) (5)!.

كيف يجوز لهؤلاء الاجتراء على النبي بالشك في العقيدة؟.

وفي الصحيحين قال: (بينما الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وآله بحرابهم دخل عمر، فأهوى إلى الحصباء، فحصبهم بها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:

دعهم يا عمر) (6).

وروى الغزالي في " إحياء علوم الدين ": (أن النبي صلى الله عليه وآله كان جالسا، وعنده جوار يغنين ويلعبن، فجاء عمر، فاستأذن، فقال النبي للجواري:

____________

(1) صحيح مسلم ج 1 ص 84 و 85 و 86 والبخاري ج 4 ص 164 و 172

(2) صحيح البخاري ج 4 ص 171، ومسلم ج 4 ص 90.

(3) البقرة: 260.

(4) هود: 80.

(5) صحيح البخاري ج 4 ص 179 و 183، وصحيح مسلم ج 4 ص 89.

(6) التاج الجامع للأصول ج 1 ص 304، وصحيح البخاري ج 4 ص 46، وصحيح مسلم ج 1 ص 346.


الصفحة 154
أسكتن، فسكتن، فدخل عمر، وقضى حاجته، ثم خرج، فقال لهن عدن، فعدن إلى الغناء. فقلن: يا رسول الله، من هذا الذي كلما دخل قلت اسكتن، وكلما خرج قلت: عدن إلى الغناء؟ قال هذا رجل لا يؤثر سماع (1) الباطل. كيف يحل لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله؟

أيرى عمر أشرف من النبي صلى الله عليه وآله؟ حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبي يؤثره؟.

وفي الجمع بين الصحيحين: عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما قام في مصلاه، ذكر أنه جنب، فقال لنا:

مكانكم. فلبثنا على هيئتنا قياما، فاغتسل، ثم خرج إلينا، ورأسه يقطر، فكبر، وصلينا (2).

فلينظر العاقل: هل يحسن منه وصف أدنى الناس بأنه يحضر الصلاة ويقوم في الصف وهو جنب؟ وهل هذا إلا من التقصير في عبادة ربه؟، وعدم المسارعة إليها؟، وقد قال تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " (3)، " فاستبقوا الخيرات " (4)، فأي مكلف أجدر بقبول هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وآله؟؟.

____________

(1) وقريب من رواية الغزالي، ما رواه أحمد في مسنده ج 3 ص 435 عن الأسود بن سريع، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله فقلت: يا رسول الله، إني قد حمدت ربي تبارك وتعالى، بمحامد ومدح، وإياك. قال: هات ما حمدت به ربك عز وجل. قال فجعلت: أنشده.

قال: ثم جاء رجل أدلم، فاستأذن. قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله: بين بين. قال: فتكلم ساعة، ثم خرج. قال: فجعلت أنشده. قال: ثم جاء فاستأذن، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله: بين بين. ففعل ذاك مرتين، أو ثلاثا. قال: قلت: يا رسول الله من هذا الذي استنصتني له؟ قال: عمر بن الخطاب، هذا رجل لا يحب الباطل.

(2) صحيح البخاري ج 1 ص 74 وصحيح مسلم ج 1 ص 227، وسنن أبي داود ج 1، في باب الجنب يصلي بالقوم وهو ناس.

(3) آل عمران: 133.

(4) المائدة: 48.


الصفحة 155
وفي الجمع بين الصحيحين، عن أبي هريرة، قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله إحدى صلاتي العشي، قال: وأكثر ظني العصر ركعتين، ثم سلم، ثم قال إلى خشبة في مقام المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر. فهاباه أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وآله ذو اليدين، فقال: لم أنس ولم أقصر، قال: بل قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم (1).

فلينظر العاقل: هل يجوز نسبة هذا الفعل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟

وكيف يجوز منه أن يقول: ما نسيت؟ فإن هذا سهو في سهو، ومن يعلم أن أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول الله صلى الله عليه وآله، مع أنهما لم يذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله؟.

وفي الصحيحين، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنه دعا زيد بن عمرو بن نفيل، وذلك قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه " (2).

فلينظر العاقل: هل يجوز له أن ينسب نبيه إلى عبادة الأصنام، والذبح

____________

(1) وفي البخاري ج 2 ص 82، وبتفاوت يسير في مسلم ج 1 ص 215.

(2) في البخاري ج 7 ص 118، باب ما ذبح على النصب والأصنام، والصريح منه، ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده ج 1 ص 189 عن نوفل بن هشام بن سعد بن زيد، عن أبيه، عن جده... ومر (زيد بن عمرو بن نفيل) بالنبي، ومعه أبو سفيان بن الحرث يأكلان، من سفرة لهما، فدعواه إلى الغذاء، فقال: يا بن أخي، إني لا آكل ما ذبح على النصب.

قال: فما رؤى النبي صلى الله عليه وآله من يومه ذاك يأكل مما ذبح على النصب، حتى بعث.

أقول: سر وضع حديث: أكل النبي صلى الله عليه وآله ما ذبح على النصب، ليس إلا ما هو مشهور عندهم من كون خلفائهم الثلاثة، وأبي سفيان، وأمثالهم من الآكلين مما ذبح على النصب في الجاهلية.


الصفحة 156
على الأنصاب، ويأكل منه؟ وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف بالله منه، وأتم حفظا ورعاية لجانب الله تعالى؟ نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة.

وفي الصحيحين، عن حذيفة بن اليمان، قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وآله، فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ، فمسح على خفيه) (1).

فكيف يجوز: أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله البول قائما؟ مع أن أرذل الناس لو نسب هذا إليه تبرأ منه؟!.

ثم المسح على الخفين، والله تعالى يقول: " وأرجلكم " (2)، فانظروا إلى هؤلاء القوم: كيف يجوزون الخطأ والغلط على الأنبياء، وأن النبي

____________

(1) في صحيح مسلم ج 1 ص 109، باب المسح على الخفين، رواه مع رواية أخرى، متحدة المفاد معها وبهذا الوصف روايتان في البخاري ج 1 ص 64 في باب البول عند صاحبه، وفي باب البول قائما وقاعدا، وفي تاج الأصول ج 1 ص 92.

وسر جعل أحاديث بول النبي صلى الله عليه وآله قائما، ليس إلا ابتداء بعض الصحابة بهذا العمل الرذل، كما يظهر من رواية البخاري: " فقام صلى الله عليه وآله كما يقوم أحدكم، فبال، فانتبذت منه... ".

وروى ابن ماجة في سننه ج 1 ص 112: وكان من شأن العرب البول قائما.

وروي عن ابن عمر، عن عمر، قال: رآني النبي صلى الله عليه وآله وأنا أبول قائما، فقال:

يا عمر، لا تبل قائما، فما بلت قائما بعد.

وعنه أيضا، في سنن الترمذي ج 1 ص 10: قال عمر: ما بلت قائما مذ أسلمت.

ومن اعتذاره لبوله قائما قوله: " البول قائما أحفظ للدبر " راجع فتح الباري ج 1 ص 343، وإرشاد الساري ج 1 ص 277، و ج 4 ص 365، وقد صرح المحققون بتناظر الصحابة في حياة عائشة بهذه المسألة، فأنكرت هي ذلك أشد الانكار، وقالت: من حدثكم:

أن النبي صلى الله عليه وآله كان يبول قائما، فلا تصدقوه. ما كان يبول إلا قاعدا، راجع:

سنن النسائي ج 1 ص 26، وابن ماجة ج 1 ص 112، والترمذي ج 1 ص 10، وقال ابن حجر في فتح الباري ج 1 ص 341: هذا الحديث صحيح السند.

(2) المائدة: 6. قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا، إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ".


الصفحة 157
يجوز أن يسرق درهما، ويكذب في أخس الأشياء، وأحقرها (1)؟.

وقد لزمهم من ذلك محالات:

منها: جواز الطعن على الشرائع، وعدم الوثوق بها، فإن المبلغ إذا جوزوا عليه الكذب، وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدا، أو نسيانا، أو يترك شيئا مما أوحي إليه، أو يأمر من عنده، فكيف يبقى اعتماد على أقواله؟.

ومنها: أنه إذا فعل المعصية، فإما أن يجب علينا اتباعه فيها، فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه، واجتمع الضدان، وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة.

ومنها: أنه لو جاز أن يعصى لوجب إيذاؤه، والتبري منه، لأنه من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكن الله تعالى قد نص على تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وآله، فقال: " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة " (2).

ومنها: سقوط محله ورتبته عند العوام، فلا ينقادون إلى طاعته، فتنتفي فائدة البعثة.

ومنها: أنه يلزم أن يكونوا أدون حالا من آحاد الأمة، لأن درجات الأنبياء في غاية الشرف. وكل من كان كذلك، كان صدور الذنب عنه أفحش، كما قال تعالى: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " (3)، والمحصن يرجم، وغيره يحد، وحد العبد نصف حد الحر.

____________

(1) تجد ما ذكره العلامة فيما ذهب إليه القوم، في الفصل لابن حزم ج 4 ص 1 إلى 44

(2) الأحزاب: 30 و 57.

(3) الأحزاب: 30 و 57.


الصفحة 158
والأصل فيه: أن علمهم بالله تعالى أكثر وأتم، وهم مهبط وحيه، ومنازل ملائكته..

ومن المعلوم أن كمال العلم يستلزم كثرة معرفته، والخضوع والخشوع، فينا في صدور الذنب، لكن الاجماع دل على أن النبي صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يكون أقل حالا من آحاد الأمة.

ومنها: أنه يلزم أن يكون مردود الشهادة، لقوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " (1)، فكيف تقبل شهادته في الوحي ويلزم أن يكون أدنى حالا من عدول الأمة، وهو باطل بالإجماع.

ومنها: أنه لو صدر عنه الذنب، لوجب الاقتداء به، لقوله تعالى:

" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " (2)، " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (3)، " فاتبعوني " (4)، والتالي باطل بالإجماع، وإلا اجتمع الوجوب والحرمة.

نزاهة للنبي صلى الله عليه وآله عن دناءة الآباء وعهر الأمهات

المبحث الثالث: في أنه يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء، وعهر الأمهات (5).

____________

(1) الحجرات: 30

(2) النساء: 59.

(3) الأحزاب: 21

(4) آل عمران: 31 وطه: 90

(5) مسألة طهارة آباء النبي وأمهاته هي من المعارف الأصيلة عند الإمامية، تأسيا بأئمتهم المعصومين عليهم السلام، وقد قال الله عز وجل: " وتقلبك في الساجدين " الشعراء: 219، فروى ابن بابويه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: كنت في صلبه، وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه، وركبت السفينة في صلب نوح " ع "، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم، لم يلتق أبوان على سفاح قط، لم يزل الله ينقلني في الأصلاب الطيبة، إلى الأرحام الطاهرة، هاديا مهديا، حتى أخذ الله بالنبوة عهدي، وبالاسلام ميثاقي. (الحديث..).

وعن أبي ذر رحمه الله، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد، نسبح الله تعالى عند العرش، قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه، ولقد سكن الجنة ونحن في صلبه، ولقد ركب نوح السفينة ونحن في صلبه، ولقد قذف إبراهيم في النار ونحن في صلبه، فلم يزل ينقلنا الله عز وجل من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة حتى انتهى إلى عبد المطلب، فقسمنا نصفين، فجعلني في صلب عبد الله وجعل عليا في صلب أبي طالب. (الحديث) راجع تفسير البرهان ج 2 ص 192

وقال علي بن إبراهيم: حدثني محمد بن الوليد، عن محمد بن الفرات، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين "، قال: في أصلاب النبيين صلوات الله عليهم أجمعين (تفسير القمي ص 474، ونور الثقلين ج 4 ص 69، والبحار ج 15 ص 3).

وعن أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام، عن قوله عز وجل: " وتقلبك في الساجدين "؟ قال: يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي، حتى أخرجه من صلب أبيه، من نكاح غير سفاح، من لدن آدم (بحار الأنوار ج 15 ص 3).

وقال الطبرسي: وقيل: معناه: وتقلبك في أصلاب الموحدين، من نبي إلى نبي، حتى أخرجك نبيا، عن ابن عباس، في رواية عطا وعكرمة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله صلوات الله عليهما، (تفسير مجمع البيان ج 7 ص 207).

وقد سبق وذكرنا ما في النهج عن علي عليه السلام، في شأن الأنبياء عليهم السلام.

وعقد السيوطي بابا لذلك في كتابه: " الخصائص الكبري ج 1 ص 37 ط حيدر آباد دكن " وقال ما لفظه: أخرج ابن سعيد، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح.

وأخرج الطبراني، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ولدني من سفاح الجاهلية شئ، وما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام.

وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خرجت من نكاح غير سفاح.

وأخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، في المصنف، عن محمد بن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إنما خرجت من نكاح: ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم، لم يصبني من سفاح الجاهلية شئ ولم أخرج إلا من طهرة.

وأخرج أبو نعيم، من طريق عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لم يلتق أبواي قط على سفاح. لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى، مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما.

وأخرجه البزار، والطبراني، وأبو نعيم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: " وتقلبك في الساجدين " قال: ما زال النبي صلى الله عليه وآله يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه.

وراجع أيضا كنز العمال ج 6 للمتقي الهندي طبع حيدر آباد دكن، والطبقات الكبرى ج 1 القسم الأول ص 31 لمحمد بن سعد، كاتب الواقدي، طبع ليدن.

وقال بعض العارفين: ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فالمسجود له حقيقة هو الله تعالى، وآدم عليه السلام كالقبلة، وتلك القبلة المقصد الأعظم منها إنما هو النور المحمدي، الذي في جبهته ولما حملت حواء " ع " بشيث انتقل ذلك النور إليها.. ثم لما وضعته " ع " ظهر ذلك النور في جبهته وكان هو وصي آدم " ع " على ذريته، وأوصاه آدم: أن لا يضع ذلك النور إلا في المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية بينهم، تنتقل من قرن إلى قرن، إلى أن وصل ذلك النور إلى جده عبد المطلب، ثم إلى ابنه عبد الله، ثم إلى أمه آمنة، وطهر الله تعالى هذا النسب من سفاح الجاهلية.. (سيرة زيني دحلان مفتي ديار مكة في هامش السيرة الحلبية ج 1 ص 8).

وقال في صفحة (33) في كتابه هذا: " وقد صح في أحاديث كثيرة: أنه صلى الله عليه

(وآله) وسلم، قال: لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطيبات، وفي رواية: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة. (إلى أن قال) قوله صلى الله عليه وآله: من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، ودليل على أن آباء النبي صلى الله عليه وآله وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر، لأن الكافر لا يوصف بأنه طاهر.

وقال في صفحة (59)، بعد نقل الرواية: فالكافر لا يوصف بأنه طاهر، فقيه دليل على طهارة آبائه وأمهاته من الكفر.

وقال في صفحة (62): وقال الفخر الرازي في تفسيره: إن أبوي النبي صلى الله عليه وآله كانا على الحنيفية دين إبراهيم " ع "، كما كان زيد بن عمرو بن نفيل، وأضرابه. بل إن آباء الأنبياء كلهم ما كانوا كفارا، تشريفا لمقام النبوة، وكذلك أمهاتهم، وإن آزر لم يكن أبا لإبراهيم، بل كان عمه، ويدل لذلك قوله تعالى: " وتقلبك في الساجدين " مع قوله صلى الله عليه (وآله) وسلم: " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات. وقال تعالى: " إنما المشركون نجس " (التوبة: 28)، فوجب أن لا يكون أحد أجداده مشركا: (وأن لفظ الأب قد يطلق على العم، كما قال أبناء يعقوب له:

" نعبد إلهك، وإله آبائك: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق (البقرة: 133) فسموا إسماعيل: أبا له مع أنه كان عما له) وراجع أيضا التفسير الكبير للفخر الرازي ج 24 ص 175، وزاد زيني دحلان قوله: " وقد ارتضى كلامه هذا أئمة محققون، منهم العلامة السنوسي، والتلمساني محشي الشفاء، فقالا: لم يتقدم لوالديه صلى الله عليه وآله شرك، وكانا مسلمين، لأنه عليه الصلاة والسلام انتقل من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، ولا يكون ذلك إلا مع الإيمان بالله تعالى.

(ما نقله المؤرخون قلة حياء وأدب)، وقد أيد جلال الدين السيوطي كلام الفخر الرازي بأدلة كثيرة، وألف في ذلك رسائل، فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه.. قال حافظ بن ناصر رحمه الله:


تنقل أحمد نورا عظيماتلألأ في جباه الساجدينا
تنقل فيهم قرنا فقرناإلى أن جاء خير المرسلينا

(إنتهى كلام زيني دحلان)

وقال الماوردي، في كتاب أعلام النبوة: وإذا اختبرت حال نسبه صلى الله عليه وآله، وعرفت طهارة مولده، علمت أنه سلالة آباء كرام. ليس فيهم مستر ذل بل كلهم سادة، قادة.

وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة. (السيرة الحلبية ج 1 ص 28 وفي هامشها، والسيرة النبوية لزيني دحلان ج 1 ص 12).


الصفحة 159
ذهبت الإمامية إلى أن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء، وعهر الأمهات، بريئا من الرذائل، والأفعال الدالة على الخسة،

الصفحة 160
كالاستهزاء به، والسخرية، والضحك عليه، لأن ذلك يسقط محله من القلوب، وينفر الناس عن الانقياد إليه، فإنه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشك والارتياب.


الصفحة 161
وخالفت السنة فيه:

أما الأشاعرة، فباعتبار نفي الحسن والقبح، فلزمهم: أن يذهبوا إلى جواز بعثة ولد الزنا، المعلوم لكل أحد.

وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع الفواحش، وأبلغ أصناف الشرك، وهو ممن يسخر به، ويضحك عليه، ويصفع في الأسواق، ويستهزأ به، ويكون قد ليط به دائما، لابنة فيه، قوادا.

وتكون أمه في غاية الزنا والقيادة، والافتضاح بذلك، لا ترد، يد لامس.


الصفحة 162
ويكون هو في غاية الدناءة والسفالة، ممن قد ليط به طول عمره، حال النبوة وقبلها، ويصفع في الأسواق، ويعتمد المناكير، ويكون قوادا، بصاصا.

فهؤلاء يلزمهم القول بذلك، حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليين، وأن ذلك ممكن، فيجوز من الله وقوعه، وليس هذا بأبلغ من تعذيب الله من لا يستحق العذاب، بل يستحق الثواب طول الأبد!.

وأما المعتزلة، فلأنهم جوزوا صدور الذنب عنهم، لزمهم القول بجواز ذلك أيضا. واتفقوا على وقوع الكبائر منهم كما في قصة إخوة يوسف.

فلينظر العاقل بعين الإنصاف: هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة، والآراء الردية؟ وهل يبقى مكلف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوته؟. وأنه يصفع ويستهزأ به حال النبوة؟. وهل يثبت بقول هذا حجة على الخلق؟.

واعلم أن البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط، وأنهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول، لأنهم يجوزون تعذيب المكلف على أنه لم يفعل ما أمره الله تعالى به، من غير أن يعلم ما أمره به، ولا أرسل إليه رسولا البتة، بل وعلى امتثال أمره به.

وأن جميع القبائح من عنده تعالى، وأن كل ما وقع في الوجود فإنه فعله تعالى، وهو حسن، لأن الحسن هو الواقع، والقبيح هو الذي لم يقع.

فهذه الصفات الخسيسة في النبي وأبويه، تكون حسنة، لوقوعها من الله تعالى، فأي مانع حينئذ من البعثة باعتبارها، فكيف يمكن للأشاعرة منع كفر النبي، وهو من الله، وكل ما يفعله تعالى فهو حسن؟ وكذا أنواع المعاصي؟ وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء؟


الصفحة 163
نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى تحسين الكفر، وتقبيح الإيمان، وجواز بعثة من اجتمع فيه كل الرذائل والسقطات (1).

وقد عرفت من هذا: أن الأشاعرة في هذا الباب، قد أنكروا الضروريات.

____________

(1) قد أوردنا مقالتهم في التعليقة السابقة، فراجع.