الصفحة 283

وفي الصحيحين، عن جابر من طريق قال: " كنا نستمتع بالقبضة من التمر، والدقيق، الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأبي بكر، حتى نهى عمر بن الخطاب، لأجل عمرو بن حريث لما استمتع " (1).

وفي الجمع بين الصحيحين، من عدة طرق إباحتها أيام رسول الله صلى الله عليه وآله، وأبي بكر، وبعض أيام عمر (2).

روى أحمد في مسنده، عن عمران بن حصين، قال: " نزلت متعة النساء في كتاب الله تعالى، وعملنا مع النبي صلى الله عليه وآله ولم ينزل القرآن بحرمتها، ولم ينه عنها حتى مات " (3) وفي صحيح الترمذي، قال: " سئل ابن عمر عن متعة النساء؟ فقال:

هي حلال، وكان السائل من أهل الشام، فقال له: إن أباك قد نهى عنها؟

فقال ابن عمر: إن كان أبي قد نهى عنها، وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله، نترك السنة ونتبع قول أبي " (4).

قال محمد بن حبيب البختري: كان ستة من الصحابة، وستة من التابعين يفتون بإباحة المتعة للنساء.

وقد روى الحميدي، ومسلم في صحيحيهما والبخاري أيضا، من عدة طرق: جواز متعة النساء، وأن عمر هو الذي أبطلها، بعد أن فعلها جميع المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وآله، إلى حين وفاته، وأيام أبي بكر (5).

____________

(1) صحيح مسلم ج 1 ص 623، وفتح الباري ج 9 ص 141، وكنز العمال ج 8 ص 294، ومسند أحمد ج 3 ص 325، 356 و 363

(2) صحيح مسلم ج 1 ص 623.

(3) مسند أحمد ج 4 ص 438، والتفسير الكبير ج 10 ص 49

(4) ورواه أحمد في المسند، من طرق صحيحة ج 2 ص 95 و 104 و ج 4 ص 436.

(5) بداية المجتهد لابن رشد ج 2 ص 48، وصحيح مسلم ج 2 ص 623، ومسند أحمد ج 3 ص 380، وروح المعاني ج 5 ص 6

أقول: أول من نهى عن المتعة عمر بن الخطاب، وكان من بعده: كعثمان وغيره تابعا له في ذلك، كما صرح به فيما روي عنه بقوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما.

وفي بعضه: " وعلى عهد أبي بكر، وأنا أنهي عنهما ". (راجع: سنن البيهقي ج 7 ص 206، وتاريخ ابن خلكان ج 2 ص 359، وجامع الأصول لابن الأثير، وكنز العمال ج 8 ص 294)، فالذي يظهر من كلمات عمر: هو أنه كان يعدها من السفاح، كما في كنز العمال ج 8 ص 294 من طريق الطبري، قال لرجل قدم من الشام، ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم معك تحدث لنا فيها نهيا. فقال عمر: أما والذي نفسي بيده، لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح.

ويدل على ذلك أيضا تذييل تحريمه بالتوعد بالرجم ". ولم يكن عند الصحابة كلهم من حيث نسخ آية المتعة عين ولا أثر، كما هو صريح كلامه: " أنا أنهي عنهما ". وقال في الكشاف ج 1 ص 360: قيل: نزلت " فما استمتعتم به منهن " في المتعة، وعن ابن عباس: هي محكمة، يعني لم تنسخ.

فإذا أردنا أن نسير على ضوء الحقائق، ونعطي المسألة حقها من التمحيص والبحث عن سر ذلك الارتباك، وعن البذرة الأولى التي نمت وتأثلت لم نجد إلا رأي الخليفة وحدسه بكون المتعة سفاحا، ومن عملها لزمه الرجم، فحرمها تحريما تشريعيا دينيا، ومن فسر قوله بأنه قد اجتهد رأيه، لمصلحة رآها بنظره للمسلمين في زمانه وأيامه، اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة، منعا مدنيا لا دينيا، لمصلحة زمنية، ومنفعة وقتية، فهو تفسير لا يرضى به صاحبه.

قال علي عليه السلام: " لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي ". وقال: " لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطاب لأمرت بالمتعة، ثم ما زنى إلا شقي ". راجع: الدر المنثور ج 2 ص 140، بعدة طرق، وتفسير الطبري ج 5 ص 9، وكنز العمال ج 8 ص 294 والتفسير الكبير ج 10 ص 50.


الصفحة 284

تحريم عمر متعة الحج

ومنها: أنه منع عن متعة الحج.

مع أن الله تعالى أوجبها في كتابه (1).

____________

(1) فإنا إذا أردنا أن نسير على ضوء الحقائق، لم نجد قبل الخليفة الثاني أحدا نهى عن متعة الحج، قال عمران بن حصين: نزلت آية المتعة في كتاب الله، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم لم تنزل آية تنسخ آية الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء. راجع: شرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 110 وصحيح البخاري ج 6 ص 33، وذكره ابن كثير في تفسيره ج 1 ص 233، نقلا عن البخاري، فقال: هذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به: إن عمر كان ينهى الناس عن التمتع. وراجع أيضا: فتح الباري ج 4 ص 339، وإرشاد الساري للقسطلاني ج 4 ص 169، وغيرها من الكتب المعتبرة المصرحة بأن مدعيه ليس إلا عمر بن الخطاب.


الصفحة 285

قصة الشورى

ومنها: قصة الشورى، وقد أبدع فيها أمورا، فإنه:

خرج بها عن الاختيار والنص جميعا.

وحصرها في ستة.

وذم كل واحد منهم، بأن ذكر فيه طعنا، لا يصلح معه للإمامة، ثم أهله بعد أن طعن فيه.

وجعل الأمر إلى ستة، ثم إلى أربعة، ثم إلى واحد، وصفه بالضعف والقصور.

وقال: إن اجتمع علي وعثمان، فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة، وثلاثة، فالقول للذين فيهم عبد الرحمن بن عوف (1). وذلك لعلمه بأن

____________

(1) أقول: فلماذا جعل الخليفة لعبد الرحمن في الشورى مقاما محمودا، وجعله هو صاحب الاختيار، مع أنه وصفه في ذلك المجلس بأنه فرعون هذه الأمة، حيث قال: " وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلا أنك فرعون هذه الأمة. (الإمامة والسياسة ج 1 ص 24).

ولعل السر في ذلك هو ما قاله أهل السير والتاريخ والحديث، وقاله الإمام محمد عبده في شرح النهج ج 1 ص 34: وكان سعد من بني عم عبد الرحمن، كلاهما من بني زهرة، وكان في نفسه شئ من علي كرم الله وجهه من قبل أخواله، لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية ابن عبد شمس، ولعلي في قتل صناديدهم ما هو معروف مشهور، وعبد الرحمن كان صهرا لعثمان، لأن زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، كان أختا لعثمان من أمه، وكان طلحة ميالا لعثمان، لصلات بينهما، على ما ذكره بعض رواة الأثر، وقد يكفي في ميله إلى عثمان انحرافه عن علي، لأنه تيمي، وقد كان بين بني هاشم وبني تيم مواجد لمكان الخلافة في أبي بكر، وبعد موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اجتمعوا وتشاوروا فاختلفوا، وانضم طلحة في الرأي إلى عثمان، والزبير إلى علي، وسعد إلى عبد الرحمن، وكان عمر قد أوصى بأن لا تطول مدة الشورى فوق ثلاثة أيام، وأن لا يأتي الرابع إلا ولهم أمير، وقال إذا كان خلاف فكونوا مع الفريق الذي فيه عبد الرحمن ".

فيعطي هذا التحقيق المسألة حقها، لمن تدبر في ذلك، وفي كيفية استخلاف أبي بكر عمر، ويظهر جليا لكل أحد: أن الخلافة كانت كرة تدور بين الثاني والثالث، من يوم كتابة عثمان خلافة عمر، حين إغماء أبي بكر، وحان وقت أن تصير لعثمان بأمره، على يد عبد الرحمن، كما قال علي أمير المؤمنين في خطبته المعروفة بالشقشقية: " حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصفى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن، إلى أن قام ثالث القوم، نافجا حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته.


الصفحة 286
عليا وعثمان لا يجتمعان، وأن عبد الرحمن بن عوف، لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمه.

وأنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام.

وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم، أو الذين ليس فيهم عبد الرحمن (1).

وروى الجمهور: أن عمر لما نظر إليهم، قال: قد جاءني كل واحد منهم يهز عفريته، يرجو أن يكون خليفة، أما أنت يا (طلحة) أفلست القائل: إن قبض النبي صلى الله عليه وآله لننكحن أزواجه من بعده، فما جعل الله محمدا أحق ببنات عمنا منا، فأنزل الله فيك: " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " (2).

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 169 والإمامة والسياسة ج 1 ص 23، وتاريخ الكامل ج 3 ص 35، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 150، والإصابة ج 2 ص 463

(2) الأحزاب: 53. وروي نزولها في طلحة، تفسير الخازن ج 3 ص 509، وشرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 62، وفيه: ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب، وتفسير آلاء الرحمن ج 22 ص 69، والتفسير الكبير ج 25 ص 325 والدر المنثور ج 5 ص 214.


الصفحة 287
وأما أنت يا (زبير) فوالله، ما لان قلبك يوما ولا ليلة، وما زلت جلفا جافيا، مؤمن الرضا، كافر الغضب، يوما شيطان، ويوما رحمن، شحيح وأما أنت يا (عثمان) لروثة خير منك، ولئن وليتها لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، ولئن فعلتها لتقتلن ثلاث مرات.

وأما أنت يا (عبد الرحمن)، فإنك رجل عاجز، تحب قومك جميعا.

وأما أنت يا (سعد)، فصاحب عصبية، وفتنة، ومقنب وقتال، لا تقوم بقرية لو حملت أمرها.

وأما أنت يا (علي)، فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم.

فقام علي موليا يخرج، فقال عمر: والله إني لأعلم مكان الرجل، لو وليتموه أمركم حملكم على المحجة البيضاء، قالوا: من هو؟ قال:

هذا المولي عنكم، إن ولوها الأجلح سلك الطريق المستقيم، قالوا:

فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل، قال له ابنه عبد الله:

فما يمنعك منه؟ قال: أكره أن أتحملها حيا وميتا، وفي رواية لا أجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة (1).

وكيف وصف كل واحد بوصف قبيح كما ترى، رغم أنه يمنع من الإمامة، ثم جعل الأمر فيمن له تلك الأوصاف.

وأي تقليد أعظم من الحصر في ستة، ثم تعيين من اختاره عبد الرحمن، والأمر بضرب رقاب من يخالف منهم؟.

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 170 والإمامة والسياسة ج 1 ص 24.


الصفحة 288
وكيف أمر بضرب أعناقهم، إن تأخروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيام؟

ومن المعلوم أنهم لا يستحقون ذلك، لأنهم إن كلفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام، فربما طال زمان الاجتهاد، وربما نقص بحسب ما يعرض فيه من العوارض، فكيف يسوغ الأمر بالقتل إذا تجاوزت الثلاثة.

ثم أمر بقتل من يخالف الأربعة.

ومن يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن، وكل ذلك مما لا يستحق به القتل؟.

ومن العجب اعتذار قاضي القضاة: بأن المراد: القتل إذا تأخروا على طريق شق العصا، وطلبوا الأمر من غير وجهه فإن هذا مناف لظاهر الخبر، لأنهم إذا شقوا العصا، وطلبوا الأمر من غير وجهه، فمن أول الأمر وجب قتالهم (1).

مخترعات عمر

ومنها: أنه أبدع في الدين ما لا يجوز، مثل:

التراويح (2).

ووضع الخراج على السواد (3).

وترتيب الجزية (4).

وكل هذا مخالف للقرآن والسنة، لأنه جعل الغنيمة للغانمين، والخمس لأهل الخمس.

____________

(1) شرح النهج ج 3 ص 170

(2) تاريخ الخلفاء ص 136 وفي تاريخ الكامل ج 3 ص 3، عن الواقدي: أنه أول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح في شهر رمضان، وكتب به إلى البلدان، وأمرهم به.

وتاريخ الخميس ج 2 ص 241.

(3) شرح النهج ج 3 ص 178 و 179، و 180، وتاريخ الخميس ج 2 ص 241، والاستيعاب هامش الإصابة ج 2 ص 460

(4) شرح النهج ج 3 ص 178 و 179، و 180، وتاريخ الخميس ج 2 ص 241، والاستيعاب هامش الإصابة ج 2 ص 460.


الصفحة 289
والسنة تنطق بأن الجزية على كل حالم دينار.

وأن الجماعة إنما تجوز في الفريضة.

أجاب قاضي القضاة: بأن قيام رمضان جاز أن يفعله النبي ويتركه.

واعترضه المرتضى: بأنه لا شبهة في أن التراويح بدعة، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة بدعة، ألا فلا تجمعوا في شهر رمضان في النافلة، ولا تصلوا صلاة الضحى، فإن قليلا من سنة خير من كثير بدعة، ألا وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار " (1).

وخرج عمر في شهر رمضان ليلا، 4 فرأى المصابيح في المسجد، فقال:

ما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع، فقال: بدعة، ونعمت البدعة (2).

واعترف كما ترى بأنها بدعة، وقد شهد الرسول صلى الله عليه وآله بأن كل بدعة ضلالة!..

وسأل أهل الكوفة أمير المؤمنين عليه السلام: أن ينصب لهم إماما يصلي بهم نافلة شهر رمضان، فزجرهم، وعرفهم أن ذلك خلاف السنة، فتركوه، واجتمعوا لأنفسهم، وقدموا بعضهم، فبعث إليهم ابنه الحسن (ع)،

____________

(1) شرح النهج ج 3 ص 178

(2) قال اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 130: وفي هذه السنة (سنة أربع عشرة من الهجرة) سن عمر قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمر أبي بن كعب، وتميم الداري أن يصليا بالناس، قيل له في ذلك: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يفعله، وإن أبا بكر لم يفعله، فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة..

وفي صحيح البخاري ج 6 ص 555 باب فضل من قام رمضان، وفي التاج الجامع للأصول ج 2 ص 65، رواه عن عبد الرحمن بن عبد القاري. قال إلى أن قال عمر: نعم هذه البدعة.


الصفحة 290
فدخل المسجد، ومعه الدرة، فلما رأوه تبادروا الأبواب، وصاحوا واعمراه! (1).

وقيام شهر رمضان أيام الرسول صلى الله عليه وآله ثابت عندنا، لكن على سبيل الانفراد، وإنما أنكرنا الاجتماع على ذلك، ومدعيه مكابر، لم يقل به أحد، ولو كان كذلك لم يقل عمر: إنها بدعة.

وهذه البدع بعض ما رواه الجمهور، فإن كانوا صادقين في هذه الروايات، كيف يجوز الاقتداء بمن طعن فيه بهذه المطاعن؟. وإن كانوا كاذبين، فالذنب لهم، والوزر عليهم، وعلى من يقلدهم، حيث عرفوا كذبهم، ونسب رواياتهم إلى الصحة. وجعلوها واسطة بينهم وبين الله تعالى.

ما رواه الجمهور في عثمان

المطلب الثالث: في المطاعن، التي رواها الجمهور عن عثمان.

منها: أن ولى أمر المسلمين من لا يصلح لذلك، ولا يؤتمن عليه، وظهر منه الفسق والفساد، ومن لا علم له البتة، مراعاة لحرمة القرابة، وعدولا عن مراعاة حرمة الدين، وقد كان عمر حذره من ذلك.

فاستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر، وفيه نزل قوله تعالى: " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " (2) المؤمن علي، والفاسق الوليد بن عقبة، على ما قاله المفسرون، وفيه نزل: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " (3)، وكان يصلي حال إمارته وهو سكران، حتى

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 178

(2) السجدة: 18 تفسير الخازن ج 3 ص 478، والدر المنثور ج 5 ص 178، والسيرة الحلبية ج 2 ص 76، وشرح النهج ج 2 ص 103

(3) الحجرات: 6

تفسير الخازن ج 4 ص 178، وفي هامشه تفسير النسفي نقل الاجماع على ذلك، وروح المعاني ج 24 ص 131.


الصفحة 291
تكلم فيها، والتفت إلى من خلفه، وقال: أزيدكم في الصلاة؟ فقالوا:

لا قد قضينا صلاتنا (1) واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة، وظهرت منه أشياء منكرة، وقال: إنما السواد بستان لقريش، تأخذ منه ما شاءت، وتترك منه ما شاءت، حتى قالوا له: أتجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك، وأفضى الأمر إلى أن منعوه من دخولها، وتكلموا فيه، وفي عثمان كلاما ظاهرا، حتى كادوا يخلعون عثمان، فاضطروا حينئذ إلى إجابتهم، وعزله قهرا، لا باختيار عثمان (2).

وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر، وتكلم فيه أهل مصر، فصرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر، ثم كاتبه بأن يستمر على الولاية، فأبطن خلاف ما أظهر، فأمره بقتل محمد بن أبي بكر، وغيره ممن يرد عليه، فلما ظفر محمد بذلك الكتاب كان سبب حصره وقتله (3).

إيواؤه الحكم بن أبي العاص

ومنها: أنه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وهو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله، كان قد طرده وأبعده عن المدينة، وامتنع أبو بكر من رده (4)،

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 226 و ج 4 ص 192، وتاريخ الخميس ج 2 ص 255، 259، وتاريخ الكامل ج 3 ص 52، والإمامة والسياسة ج 1 ص 32، وأسد الغابة ج 5 ص 90، ومروج الذهب ج 4 ص 334

(2) تاريخ الخميس ج 2 ص 256، وتاريخ الطبري ج 5 ص 55 و 94، وشرح النهج ج 1 ص 226، ومروج الذهب ج 4 ص 336 والاستيعاب هامش الإصابة ج 2 ص 9

(3) تاريخ الخميس ج 2 ص 259 وتاريخ الكامل ج 3 ص 45، 83 وتاريخ الخلفاء ص 157 والإمامة والسياسة ج 1 ص 36 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 163 و 164 والعقد الفريد ج 3 ص 77 و 79.

(4) الإصابة ج 1 ص 345، وفي هامشه الاستيعاب ج 1 ص 317، وأسد الغابة ج 2 ص 33، وتاريخ الخميس ج 2 ص 267 ومعارف ابن قتيبة ص 83 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 154، وشرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 232، والملل والنحل ج 1 ص 26 والسيرة الحلبية ج 2 ص 76.


الصفحة 292
فصار عثمان بذلك مخالفا للسنة، ولسيرة من تقدم، مدعيا على رسول الله صلى الله عليه وآله، عاملا بدعواه من غير بينة.

أجاب قاضي القضاة: بأنه قد نقل أن عثمان لما عوتب على ذلك ذكر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله.

اعترضه المرتضى: بأن هذا قول قاضي القضاة لم يسمع من أحد، ولا نقل في كتاب، ولا يعلم من أين نقله القاضي، أو في أي كتاب وجده، فإن الناس كلهم رووا خلافه. قال الواقدي، من طرق مختلفة وغيره:

إن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح، أخرجه النبي صلى الله عليه وآله إلى الطائف، وقال: لا يساكنني في بلد أبدا، لأنه كان يتظاهر بعداوة رسول الله صلى الله عليه وآله، والوقيعة فيه، حتى بلغ به الأمر إلى أنه كان يعيب النبي صلى الله عليه وآله في مشيه، فطرده النبي صلى الله عليه وآله، وأبعده ولعنه، ولم يبق أحد يعرفه إلا بأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وآله، فجاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله، وكلمه فيه فأبى، ثم جاء إلى أبي بكر وعمر، زمن ولايتهما، فكلمهما فيه فأغلظا عليه القول وزبراه، وقال له عمر: يخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وتأمرني أن أدخله، والله لو أدخلته لم آمن من قول قائل: غير عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وكيف أخالف رسول الله صلى الله عليه وآله، فإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم.

فكيف يحسن من القاضي هذا العذر، وهلا اعتذر به عثمان عند أبي بكر وعمر، وسلم من تهجينهما إياه، وخلص من عتابهما عليه، مع أنه لما رده جاءه علي (ع)، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمار بن ياسر، فقالوا: " إنك أدخلت الحكم ومن معه، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله أخرجهم، وإنا نذكرك الله، والإسلام، ومعادك، فإن لك معادا ومنقلبا، وقد أبت ذلك الولاة قبلك، ولم يطمع أحد أن يكلمهما فيهم، وهذا شئ نخاف الله فيه عليك "...


الصفحة 293
فقال عثمان: إن قرابتهم مني ما تعلمون، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخرجه لكلمة بلغته عن الحكم، ولن يضركم مكانهم شيئا، وفي الناس من هو شر منهم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا أحد شر منه ولا منهم، ثم قال: هل تعلم عمر يقول: " والله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس؟ والله لئن فعل ليقتلنه "؟ فقال عثمان: ما كان منكم أحدا يكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه، وينال في المقدرة ما نلت، إلا كان سيدخله، وفي الناس هو شر منه، فغضب علي، وقال: " والله، لتأتينا بشر من هذا إن سلمت، وسترى يا عثمان غب ما تفعل ".

فهلا اعتذر عند علي ومن معه بما اعتذر به القاضي (1).

عطية عثمان لأقربائه

ومنها: أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة، التي اعتدت للمسلمين.

دفع إلى أربعة من قريش وزوجهم ببناته أربعمائة ألف دينار (2).

وأعطى مروان مائة ألف دينار (3).

أجاب قاضي القضاة: بأنه ربما كان من ماله.

اعترضه المرتضى: بأن المنقول خلاف ذلك، فقد روى الواقدي:

أن عثمان قال: " إن أبا بكر وعمر كانا يناولان من هذا المال ذوي أرحامهما وإني ناولت منه صلة رحمي " (4).

____________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 232

(2) تاريخ الخميس ج 1 ص 26 ومعارف ابن قتيبة ص 84 وتاريخ الخلفاء ص 156 وتاريخ الطبري ج 5 ص 49 والعقد الفريد ج 2 ص 261 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 155

(3) الملل والنحل ج 1 ص 26 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 233 ومعارف ابن قتيبة ص 84 وتاريخ الكامل ج 3 ص 46

(4) شرح نهج البلاغة ج 1 ص 233 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 44 (ط ليدن)، وأنساب 4 الأشراف للبلاذري ج 5 ص 25، وتاريخ الخميس ج 2 ص 262.


الصفحة 294
وروى الواقدي أنه بعث إليه أبو موسى الأشعري بمال عظيم من البصرة، فقسمة عثمان بين ولده، وأهله بالصحاف (1).

وروى الواقدي أيضا قال: قدمت إبل من إبل البصرة، فوهبها للحارث ابن الحكم بن العاص (2).

وولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة، فبلغت ثلاثمائة ألف، فوهبها له (3).

وأنكر الناس على عثمان إعطاءه سعيد بن العاص مائة ألف (4).

ما حماه عن المسلمين
وصرفه الصدقة في غير وجهها

ومنها: أنه حمى الحمى عن المسلمين.

مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله جعلهم سواء في الماء والكلأ (5).

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 234 والسيرة الحلبية ج 2 ص 78 وتاريخ الخميس ج 2 ص 267.

(2) وفي شرح النهج ج 1 ص 67 و 236 والسيرة الحلبية ج 2 ص 78 ومعارف ابن قتيبة ص 84 والأنساب للبلاذري ج 5 ص 28 والعقد الفريد ج 2 ص 261

(3) وفي شرح النهج ج 1 ص 224، واليعقوبي ج 2 ص 158 والمعارف ص 84 والأنساب ج 5 ص 28.

(4) رواه الواقدي، كما في شرح النهج ج 1 ص 224 وابن سعد في الطبقات ج 4 ص 21 ط ليدن، وابن عساكر في تاريخه ج 4 ص 135

(5) السيرة الحلبية ج 2 ص 78 وتاريخ الخميس ج 2 ص 262 وشرح النهج ج 1 ص 135 عن الواقدي، وتاريخ الخلفاء ص 164

أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار "، وقال: " ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ، والنار ". وقال: " لا حمى إلا لله ولرسوله ".

راجع: صحيح البخاري ج 3 ص 141، وسنن أبي داود ج 2 ص 101 وابن ماجة ج 2 ص 94 وكتاب الأم للشافعي ج 3 ص 207، والتاج الجامع للأصول ج 2 ص 237 وقال الشيخ منصور علي ناصف، في شرح الحديث: الكلأ: ما ترعاه الماشية (إلى أن قال):

فمنعهما حرام، لأن الله خلقهما لنفع الناس، فمن منعهما فقد حارب الله في حكمه.


الصفحة 295
ومنها: أنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة وغيرهم.

وهذا مما لا يجوز في الدين.

أجاب القاضي: يجوز أن يكون قد اجتهد.

واعترضه المرتضى: بأن المال الذي جعل الله له جهة مخصوصة، لا يجوز أن يعدل به عن جهة بالاجتهاد، ولو جاز لبينه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله، لأنه أعلم بمصالح العباد (1).

موقف عثمان مع ابن مسعود

ومنها: أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه، وعهد عبد الله بن مسعود إلى عمار: أن لا يصلي عثمان عليه، وعاده عثمان في مرض الموت، فقال له: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي، فقال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني؟

قال: أفلا آمر لك بعطائك؟ قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه؟ قال: يكون لولدك؟ قال: رزقهم على الله تعالى، قال:

استغفر لي يا أبا عبد الرحمن؟: قال أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي (2).

وله موقف آخر مع ابن مسعود

ومنها: أنه ضرب ابن مسعود أيضا على دفن أبي ذر أربعين سوطا، لأن أبا ذر لما مات بالربذة، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وعهد إليهما:

____________

(1) شرح النهج ج 1 ص 235 ورواه الديار بكري في تاريخ الخميس ج 2 ص 277، وابن حجر في الإصابة ج 3 ص 57 بلفظ كلي.

(2) أسد الغابة ج 3 ص 259 وتاريخ ابن كثير ج 7 ص 163 وتاريخ الخميس ج 2 ص 268، والسيرة الحلبية ج 2 ص 78، وشرح النهج ج 1 ص 236، وتاريخ الخلفاء ص 157، نقله باختصار.


الصفحة 296
أن غسلاني، وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم قولوا: هذا أبو ذر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلوا ذلك، وأقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين، فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، وقد كادت الإبل أن تطأها، فقام إليهم العبد، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، فأعينونا على دفنه، فقال ابن مسعود: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله، قال له: " تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك "، ثم نزل هو وأصحابه وواروه (1).

نظرة في مواقف عثمان مع عمار

ومنها: أنه أقدم على عمار بن ياسر بالضرب، حتى حدث به فتق، وكان أحد من ظاهر المتظلمين من أهل الأمصار على قتله، وكان يقول:

قتلناه كافرا.

وسبب قتله أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلى وجواهر، فأخذ منه عثمان ما حلى به أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك، وكلموه بالردى، حتى أغضبوه، فقال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ، وإن رغمت أنوف أقوام، فقال أمير المؤمنين (ع): " إذن تمنع من ذلك، ويحال بينك وبينه ". فقال عمار: " أشهد الله: أن أنفي أول راغم من ذلك "، فقال عثمان: أعلي يا ابن سمية تجترئ، خذوه، ودخل عثمان فدعا به، وضربه حتى غشي عليه، ثم أخرج، فحمل حتى أدخل بيت أم سلمة، فلم يصل الظهر، والعصر، والمغرب، فلما أفاق توضأ وصلى.

____________

(1) قال في شرح النهج ج 1 ص 237: وقد روى محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرطبي:

أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا لدفنه أبا ذر.. وراجع أيضا: أسد الغابة ج 5 ص 187 و 189 والإصابة ج 4 ص 64، وفي هامشها الاستيعاب ج 1 ص 214.


الصفحة 297
وكان المقداد، وعمار، وطلحة، والزبير، وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان، وخوفوه، وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع، فجاء عمار به فقرأ منه صدرا، وقال:

أعلي تقدم من بينهم، ثم أمر غلمانه، فمدوا يديه ورجليه، ثم ضربه عثمان على مذاكيره فأصابه فتق، وكان ضعيفا كبيرا، فغشي عليه (1).

وكان عمار يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر، وأنا الرابع: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (2).

وقيل لزيد بن أرقم: بأي شئ أكفرتم عثمان؟ فقال: بثلاث:

جعل المال دولة بين الأغنياء، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله بمنزلة من حارب الله ورسوله، وعمل بغير كتاب الله (3).

وكان حذيفة يقول: ما في عثمان بحمد الله أشك، لكني أشك في قاتله: لا أدري، أكان قتل كافرا؟ أو مؤمن خلص إليه النية، حتى قتله أفضل المؤمنين إيمانا (4)؟.

مع أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقول: " عمار جلدة ما بين العين والأنف " (5) وقال: " ما لهم ولعمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار " (6).

وقال: " من عادى عمارا عاده الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله " (7).

وأي ذنب صدر من عمار؟ وأي كلام غليظ وقع منه استوجب به

____________

(1) تاريخ الخميس ج 2 ص 271، والإمامة والسياسة ج 1 ص 32 والسيرة الحلبية ج 2 ص 78 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 238 والأنساب للبلاذري ج 5 ص 48

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 239 وقال: قد روي من طرق مختلفة، وأسانيد كثيرة، والآية التي ذكرها هي في سورة المائدة: 44

(3) رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 1 ص 239

(4) رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 1 ص 239

(5) سيرة ابن هشام ج 2 ص 115 وشرح نهج البلاغة ج 1 ص 239

(6) العقد الفريد ج 2 ص 289 وشرح نهج البلاغة ج 1 ص 239

(7) أسد الغابة ج 4 ص 44، والإصابة ج 2 ص 512 وفي هامشها الإستيعاب ج 2 ص 479.


الصفحة 298
هذا الفعل؟... وقد كان الواجب إقلاع عثمان عما كان يؤخذ عليه فيه، أو يعتذر بما يزيل الشبهة عنه.

نفي عثمان أبا ذر إلى الربذة

ومنها: أنه أقدم على أبي ذر رحمه الله تعالى، مع تقدمه في الإسلام حتى ضربه، ونفاه إلى الربذة.

أجاب قاضي القضاة: باحتمال أنه اختار لنفسه ذلك.

اعترضه المرتضى: بأن المتواتر من الأخبار خلاف ذلك، لأن المشهور:

أنه نفاه أولا إلى الشام فلما اشتكى معاوية منه، استقدمه إلى المدينة، ثم نفاه منها إلى ربذة (1).

وروي أن عثمان قال يوما: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار (2): لا بأس بذلك، فقال أبو ذر: يا ابن اليهودية، أتعلمنا ديننا؟. فقال عثمان: قد كثر أذاك لي، وتولعك بأصحابي، إلحق بالشام، فأخرجه إليها (3)، فكان أبو ذر ينكر على

____________

(1) الملل والنحل ج 1 ص 26 وتاريخ الخميس ج 2 ص 268، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 162 والاستيعاب هامش الإصابة ج 1 ص 114، والسيرة الحلبية ج 2 ص 78، وشرح النهج ج 1 ص 240 و ج 2 ص 355، عن كتاب السقيفة، لأبي بكر الجوهري، والصواعق المحرقة ص 48 وقال في تاريخ الكامل ج 3 ص 56: ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع، لا يصح النقل، ولو صح لكان ينبغي: أن يعتذر عن عثمان.

(2) وهو من أحبار اليهود، إلا أنه ورفقاءه كانوا من دعاة اليهود بين المسلمين، وهم الذين أدخلوا الإسرائيليات في الإسلام، حتى أصبحت جزءا من الأخبار الدينية والتاريخية، وصاروا من الرواة عند أعاظم القوم. راجع: أضواء على السنة المحمدية، لمحمود أبو رية ط دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة.

(3) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 162، ومروج الذهب ج 2 ص 240، وشرح النهج ج 1 ص 240 و 242 و ج 2 ص 356

وقال ابن أبي الحديد: واعلم، أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة، وعلماء الأخبار والنقل: أن عثمان نفى أبا ذر أولا إلى الشام، ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة.


الصفحة 299
معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار، فردها عليه.

وكان أبو ذر يقول: " والله حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقا يطفئ، وباطلا يحيى، وصادقا مكذبا، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه " (1).

فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام، فتدارك أهله، إن كان لك فيه حاجة، فكتب معاوية إلى عثمان فيه، فكتب عثمان إلى معاوية: " أما بعد، فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأوعره "، فوجهه مع من سار به ليلا ونهارا، وحمله على بعير ليس عليه إلا قتب، حتى قدم المدينة، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد، فبعث إليه عثمان، وقال له: إلحق بأي أرض شئت، فقال أبو ذر: بمكة؟

قال: لا، قال: بيت المقدس؟ قال: لا، قال: بأحد المصرين؟ قال:

لا. ولكن سر إلى ربذة، فلم يزل بها حتى مات.

وروى الواقدي: أن أبا ذر لما دخل على عثمان، قال له: لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب، فقال أبو ذر: أنا جنيدب، وسماني رسول الله صلى الله عليه وآله: عبد الله، فاخترت اسم رسول الله صلى الله عليه وآله الذي سماني به على اسمي، فقال عثمان: أنت الذي تزعم: إنا نقول إن يد الله مغلولة، وأن الله فقير، ونحن الأغنياء؟ فقال أبو ذر: لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم مال الله في عباده، ولكني أشهد: لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا، جعلوا مال الله دولا، وعباده خولا،

____________

(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 161، وشرح النهج ج 1 ص 240.