الثامن: في انقطاع التكليف حال الحدوث، وتقديمهم عليه.
ذهبت الإمامية، ومن وافقها من المعتزلة، إلى أن التكليف بالفعل منقطع حال حدوثه، لأنه حينئذ يكون واجبا، ولأنه حالة الحصول، فلو كان مكلفا به حينئذ لزم التكليف، بتحصيل الحاصل، وهو محال.
وأما تقدمه على الفعل، فشئ ذهبت إليه الإمامية، والمعتزلة أيضا، لأنه إنما يكون مكلفا حال القدرة، وهي متقدمة على الفعل، وإلا لزم القدرة على الواجب، وتحصيل الحاصل، والكل محال.
ولأنه لو لم يكن مكلفا قبل الفعل لم يتحقق العصيان، لأن حال العصيان لا طاعة، فلا تكليف بها عندهم، ولا عصيان، وهو باطل بالإجماع.
والأشاعرة خالفوا جميع العقلاء في المسألتين، فقالوا في الأول: إن التكليف ينقطع حال الفعل، وقالوا في الثاني: إن التكليف لا يتقدم على الفعل (1)، ولزمهم ما تقدم من المحال.
التاسع: في امتناع التكليف بالمحال.
ذهبت الإمامية، ومن تابعهم من المعتزلة إلى امتناعه.
ويدل عليه العقل، والنقل. أما العقل، فلأنه قبيح. ولأنه يؤدي إلى عدم التكليف، لأنه إذا جاز التكليف بالمحال، جاز أن يكلف العبد الفعل وأن يكلفه الترك، فلا يكون مكلفا بالفعل، وغير ذلك من الأدلة، وقد سبقت.
وأما المنقول: فقوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " (2)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وقد سبق جميع ذلك.
____________
(1) المستصفى ج 1 ص 55 والفصل لابن حزم ج 3 ص 22 و 35
(2) الطلاق: 7.
وهل يرضى عاقل لنفسه اختيار ذلك، والمصير إليه، فإنه يلزم منه تكذيب الله تعالى، وهو كفر، وبقايا مباحث التكليف قد سبقت.
الفصل الثاني: في الأدلة
وفيه مباحث:
التمسك بالقرآن:
الأول: في الكتاب العزيز.
إنما يصح التمسك بالكتاب عند الإمامية، ومن تبعهم من المعتزلة.
ولا يتأتى على مذهب الأشاعرة، لأن الكلام عندهم قائم بذات الله تعالى، وهذا الكتاب حكاية عنه (2)، وجوزوا وقوع المفاسد منه تعالى (3)، فلا يمكنهم الحكم بصدق هذا القرآن.
أما على مذهب الإمامية، والمعتزلة فإن المفسدة منه محال، فلا يتأتى منه ذلك.
وعندنا أن الكلام هو الحروف والأصوات القائمة بالأجسام، ويمتنع أن يريد الله تعالى بها ما ليس ظاهرا منها إل مع قرينة تدل عليه.
____________
(1) جمع الجوامع، وفي حاشيته للبناني ج 1 ص 206، 207، 208 والمستصفى ج 1 ص 55 وشرح العقائد للتفتازاني ص 109 وفي حاشيته للكستلي ص 112
(2) الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 95 و 96 والعقائد للنسفي ص 105 وشرح العقائد للتفتازاني ص 109 و 89
(3) الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 95 و 96 والعقائد للنسفي ص 105 وشرح العقائد للتفتازاني ص 109 و 89.
وخالف في ذلك أبو حنيفة أنها من القرآن، ولا يقرؤها في صلاته، واحتج بالشاذ للمنقول آحادا، وتمسك به (1). مع أنه خطأ، لأن الناقل له ينقله حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما يقبله قرآنا، والقرآن هو المتواتر فغيره ليس منه.
التمسك بالإجماع
الثاني الاجماع: إجماع أهل المدينة ليس حجة، لأن المواضع لا تدخل لها في الصدق والكذب، وإنما المعتبر العدالة وعدمها فيهما.
وقال مالك: إنه حجة (2).
وهو خطأ، للعلم الضروري بأن البقاع لا مدخل لها في تصديق الرجال وقد قال الله تعالى: " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق " (3)، وقال تعالى:
" فما للذين كفروا قبلك مهطعين، عن اليمين وعن الشمال عزين " (4)، " ومنهم من يلمزك في الصدقات " (5)،... إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وقوع الذنب منهم.
وأما إجماع العترة، فإنه حق خلافا للجمهور، وإن الله تعالى أذهب عنهم الرجس وطهرهم، فقال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (6)، فأكد بلفظ إنما، وباللام،
____________
(1) تفسير الخازن ج 1 ص 14 وأحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 9 و 13 وبداية المجتهد ج 1 ص 97
(2) المستصفى ج 1 ص 118
(3) التوبة: 101
(4) المعارج: 37
(5) التوبة: 58
(6) الأحزاب: 33.
(تطهيرا).
وما أغرب هؤلاء، حيث لم يجعلوا إجماع من نزهه الله تعالى من الخطأ والزلل، وقول الفحش، وجعله ردءا للنبي صلى الله عليه وآله في استجابة دعائه يوم " المباهلة "، وخصه بالأخوة، وغير ذلك من الفضائل الجمة حجة.
وقد روى صاحب الجمع بين الصحاح الستة: أن قوله تعالى: " كمن آمن بالله، واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله "، إلى قوله: " إن الله عنده أجر عظيم " (1)، نزل في حق علي (2).
وفي الجمع بين الصحيحين قوله صلى الله عليه وآله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " (3).
ولا شك أن قول هارون حجة، وكذا قول من ساواه في المنزلة.
وفي مسند أحمد بن حنبل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إني دافع الراية إلى رجل يحبه الله ورسوله (4)، ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله عليه ".
وإنما يصح محبته له مع انتفاء المعصية منه.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: " الصديقون ثلاثة: حبيب النجار، وهو مؤمن آل ياسين، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم " (5).
____________
(1) التوبة: 19
(2) تفسير الخازن، وفي هامشه تفسير النسفي ج 2 ص 223 والدر المنثور ج 3 ص 218 وشواهد التنزيل ج 1 ص 244
(3) أقول: هذان الحديثان متواتران عندهم، ورواهما أحمد في مسنده ج 1 ص 171 و 173 و 175 وغيره من أعاظم القوم.
(4) أقول: هذان الحديثان متواتران عندهم، ورواهما أحمد في مسنده ج 1 ص 171 و 173 و 175 وغيره من أعاظم القوم.
(5) الصواعق المحرقة ص 75 والدر المنثور ج 5 ص 262 وقال: أخرجه أبو داود، وأبو نعيم، وابن عساكر، والديلمي عن أبي يعلى وذخائر العقبى ص 56 والرياض النضرة ج 2 ص 153 وفيض القدير ج 4 ص 238 والتفسير الكبير ج 27 ص 57.
وقوله صلى الله عليه وآله في خبر الطائر: " اللهم ائتني بأحب الناس إليك، يأكل معي "، فجاء علي (ع) (1)، مروي في الجمع بين الصحاح الستة!.
ومن كتاب الخوارزمي، عن عبد الله بن العباس، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فإذا فاطمة عليها السلام قد أقبلت تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما يبكيك؟ قالت: يا أبت، إن الحسن والحسين قد عبرا أو ذهبا منذ اليوم، وقد طلبتهما ولا أدري أين هما، وإن عليا يمشي إلى الدالية منذ خمسة أيام يسقي البستان، وإني طلبتهما في منازلك فما أحسست لهما أثرا.
وإذا أبو بكر، فقال: قم يا أبا بكر فاطلب قرة عيني، ثم قال:
قم يا عمر، فاطلبهما، قم يا سلمان، وأبا ذر، ويا فلان، ويا فلان، قال: فأحصينا على رسول الله صلى الله عليه وآله سبعة بعثهم في طلبهما، وحثهم، فرجعوا ولم يصيبوهما، فاغتم النبي صلى الله عليه وآله غما شديدا، ووقف على باب المسجد، وهو يقول: " اللهم بحق إبراهيم خليلك، وبحق آدم صفيك، إن كانا قرة عيني وثمرة فؤادي أخذا بحرا أو برا فاحفظهما، وسلمهما، قال: فإذا جبرئيل عليه السلام قد هبط، فقال: يا رسول الله، إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: لا تحزن، ولا تغتم، الصبيان فاضلان في الدنيا، فاضلان في الآخرة، وهما في الجنة، وقد وكلت بهما ملكا يحفظهما إذا ناما، وإذا قاما، ففرح رسول الله صلى الله عليه وآله، ومضى جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، والمسلمون حوله، حتى دخل حظيرة بني النجار، فسلم على الملك الموكل بهما، ثم جثا النبي صلى الله عليه وآله على ركبتيه،
____________
(1) وهذا الحديث من المتواترات عند المسلمين، وقد أسلفنا جملة من مصادره.
وقال ابن عباس: وجدنا الحسن على يمين النبي صلى الله عليه وآله، والحسين على شماله، وهو يقبلهما، ويقول: " من أحبكما فقد أحب الله ورسوله، ومن أبغضكما فقد أبغض رسول الله "، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أعطني أحدهما أحمله:، فقال النبي صلى الله عليه وآله: نعم الحمولة، ونعم المطية تحتهما فلما صار إلى باب الحظيرة لقيه عمر بن الخطاب، فقال له مثل مقالة أبي بكر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله مثل ما رد على أبي بكر، فرأينا الحسين متلبسا بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله، ووجدنا يد النبي صلى الله عليه وآله على رأسه، فدخل النبي صلى الله عليه وآله المسجد، فقال: لأشرفن اليوم ابني هذين كما شرفهما الله تعالى، وقال: يا بلال، هلم على الناس، فنادى بهم، فاجتمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه:
معشر أصحابي، تلقوا عن نبيكم محمد صلى الله عليه وآله بأنه قال: ألا أدلكم على خير الناس جدا وجدة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال:، عليكم بالحسن والحسين، فإن جدهما رسول الله، وجدتهما خديجة بنت خويلد سيدة نساء أهل الجنة..
يا معشر الناس، هل أدلكم على خير الناس أما وأبا؟ قالوا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: عليكم بالحسن والحسين، فإن أباهما علي بن أبي طالب (ع)، وهو خير منهما، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ذو المنفعة والمنقبة في الإسلام، وأمهما فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، سيدة نساء أهل الجنة..
معاشر الناس، ألا أدلكم على خير الناس خالا وخالة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسين، فإن خالهما القاسم بن محمد، وخالتهما زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.
معاشر الناس، أعلمكم أن جدهما في الجنة، وجدتهما في الجنة، وأبوهما وأمهما في الجنة، وعمهما وعمتهما في الجنة، وخالهما وخالتهما في الجنة، ومن أحب ابني هذين، وأباهما، وأمهما، فهو معنا غدا في الجنة، ومن أبغضهما، فهو في النار، وإن من كرامتهما على الله أن سماهما في التوراة: شبرا وشبيرا (1).
حديث المناشدة
روى الخوارزمي، وجماعة الجمهور، واشتهر بينهم، حديث " المناشدة " عن عامر بن واثلة، قال: كنا مع علي (ع) يوم الشورى، وسمعته يقول: لأحتجن بما لا يستطيع عربيكم، ولا عجميكم بغير ذلك، ثم قال: فأنشدكم الله أيها النفر جميعا أفيكم أحد وحد الله قبلي؟
قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر في الجنة، مع الملائكة غيري؟ قالوا: اللهم لا.
____________
(1) مناقب الخوارزمي ص 191 ورواه ابن حسنويه في در بحر المناقب، ورواه بتفاوت يسير يوسف بن أحمد اليغموري في نور القبس ص 251 على ما في الاحقاق ج 10 ص 722.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد، سيدة نساء أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد له سبطان مثل سبطي الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد ناجى رسول الله صلى الله عليه وآله عشر مرات يقدم بين يدي نجواه صدقة؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
" من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، ليبلغ الشاهد منكم الغائب " غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
" اللهم ائتني بأحب الناس إليك وإلي، وأشدهم حبا لك، وحبا لي، يأكل معي من هذا الطائر "، فأتاه فأكل معه غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
" لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه "، إذ رجع غيري منهزما، غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله: هل فيكم أحد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله لبني وليعة: " لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي طاعته كطاعتي، ومعصيته كمعصيتي، يغشاكم بالسيف " غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال فأنشدكم بالله. هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " كذب من زعم أنه يحبني ويبغض هذا " غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له جبرئيل: " هذه هي المواساة "، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إنه مني وأنا منه "، فقال جبرئيل:
" وأنا منكما " غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد نودي فيه من السماء: " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي " غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد يقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين، على لسان النبي صلى الله عليه وآله غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم الله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
" إني قاتلت على تنزيل القرآن، وتقاتل أنت على تأويل القرآن " غيري؟
قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد ردت عليه الشمس حتى صلى العصر في وقتها غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد أمره رسول الله صلى الله عليه وآله بأن يأخذ براءة من أبي بكر، فقال له أبو بكر: يا رسول الله أنزل في شئ؟
فقال له: " إنه لا يؤدي عني إلا علي " غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
" أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " غيري؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
" لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا كافر " غيري: قالوا: اللهم لا قال: فأنشدكم بالله، أتعلمون أنه أمر بسد أبوابكم وفتح بابي،
قال: فأنشدكم بالله، أتعلمون أنه ناجاني يوم الطائف دون الناس، فأطال ذلك، فقلتم: ناجاه دوننا. فقال: " ما أنا انتجيته بلى الله انتجاه " غيري؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " الحق مع علي، وعلي مع الحق، يزول الحق مع علي حيث زال "؟ قالوا:
اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، لن تضلوا ما استمسكتم بهما، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض "؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد وقى رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه من المشركين، فاضطجع مضطجعه غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله " هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ود، حيث دعاكم إلى البراز غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد أنزل الله فيه آية التطهير، حيث يقول: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
" أنت سيد العرب " غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
" ما سألت الله شيئا إلا سألت لك مثله " غيري؟ قالوا: اللهم لا. (1).
____________
(1) من جملة رواة حديث المناشدة يوم الشورى أخطب خوارزم في المناقب ص 217 والإمام الحمويني في فرائد السمطين باب (85) وابن المغازلي في المناقب ص 112 وابن أبي الحديد في شرح النهج ج 2 ص 61 وقال: نحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض في الروايات من مناشدته أصحاب الشورى، وأخرجه ابن حاتم الشامي في الدر النظيم، بطريق الحافظ ابن مردويه، وأخرجه الحافظ الكبير الدارقطني، وينقل عنه بعض فصولها ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 75 وذكر شطرا منها ابن عبد البر في الاستيعاب ج 3 ص 35 هامش الإصابة، وذكر فصولا منها الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1 ص 441 وابن حجر في لسان الميزان ج 2 ص 156 و 157 والحافظ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب ص 386.
وروى ابن مردويه، وهو الثقة عند الجمهور، بإسناده إلى حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر " (3).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم بعرفات، وعلي تجاهه، فأومأ إلي وإلى علي فأقبلنا نحوه، وهو يقول: ادن مني يا علي، فدنا منه، فقال: يا علي، خلقت أنا وأنت من شجرة، أنا أصلها، وأنت فرعها، والحسن والحسين أغصانها، فمن تعلق بغصن منها أدخله الله الجنة " (4).
____________
(1) الرعد: 7
(2) الدر المنثور ج 4 ص 45 وقال: أخرجه ابن جرير، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، والديلمي، وابن عساكر، وابن النجار، وتفسير روح المعاني ج 13 ص 97 وتفسير الطبري ج 13 ص 72 والتفسير الكبير ج 19 ص 14 وكنز العمال ج 6 ص 157
(3) كنوز الحقائق ص 98 (ط بولاق بمصر)، وتهذيب التهذيب ج 9 ص 419 وكنز العمال ج 6 ص 159 ومنتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند ج 5 ص 35
(4) ورواه ابن المغازلي في المناقب ص 90 و 400 وفي ميزان الاعتدال للذهبي ج 3 ص 41 وفي لسان الميزان ج 4 ص 144 والحمويني في الفرائد، والسمعاني كما في ينابيع المودة ص 91 وفي كفاية الطالب ص 318.
ونحوه رواه مسلم في صحيحه، وصاحب كتاب الستين، وصحيح الترمذي.
وروى الزمخشري بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: " فاطمة بهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، وأئمة من ولدها أمنائي، وحبل ممدود بيني وبين خلقه، من اعتصم به نجا، ومن تخلف عنهم هلك (2).
وهذه نصوص صريحة في وجوب التمسك بأقوالهم، والمصير إلى فتاويهم.
وفي مسند أحمد بن حنبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض (3).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى وتعد، وبلغت مبلغ التواتر.
فكيف لا يكون إجماع هؤلاء الصادقين حجة؟؟؟
____________
(1) ورواه زيني دحلان في سيرته، هامش الحلبية ج 1 ص 331 والقندوزي في ينابيع المودة 38
(2) رواه الزمخشري في مناقبه المخطوطة ص 213 وأبو الفوارس في الأربعين ص 14 كما في إحقاق الحق ج 4 ص 288 و ج 9 ص 198 والقندوزي في ينابيع المودة ص 82 عن الحمويني، بسنده عن أمير المؤمنين (ع).
(3) ورواه في ذخائر العقبى ص 17 والحمويني في الفرائد، عن أبي سعيد الخدري، كما في ينابيع المودة ص 19 و 20 و 191 وقال: أخرجه الحاكم، عن جابر بن عبد الله، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس.
البحث الثالث في الخبر
وهو إما متواتر، أو آحاد.
أما المتواتر: فإنه يفيد العلم بالضرورة، فإنا نجد العوام يحرمون حراما ضروريا، لا يحتاجون فيه إلى الاستدلال بوجود محمد صلى الله عليه وآله ووجود بقراط وغيره.
وقد ذهب قوم من الجمهور إلى أن العلم به نظري (1).
وهو خطأ، وإلا لزم الجزم على ذلك الدليل، ومن المعلوم بالضرورة عدمه.
ولا يختص المتواتر في عدد، لعدم انضباطه معه.
وقال بعض الجمهور: يحصل المتواتر بقول الخمسة.
وقال بعضهم: بقول اثني عشر.
وقال بعضهم: أربعون.
وقال آخرون: سبعون (2).
والصحيح خلاف ذلك كله، فقد لا يحصل العلم مع الأزيد، وقد يحصل مع الأقل.
وأما الآحاد، فإنه يفيد الظن.
وقال بعض الجمهور (3): إنه يفيد العلم لا باعتبار انضمام قرائن إليه، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وقال: ويطرد في كل خبر (4).
والضرورة قاضية ببطلانه، لأدائه إلى تناقض المعلومين عند إخبار اثنين.
____________
(1) المستصفى ج 1 ص 88 و 93 وجمع الجوامع ج 1 ص 122
(2) جمع الجوامع ج 1 ص 120
(3) جمع الجوامع، وفي حاشيته البناني ج 2 ص 130
(4) جمع الجوامع، وفي حاشيته البناني ج 2 ص 130.
وإذا كان شرائط القبول انتفاء الفسق، وثبوت العدالة. لم يقبل رواية مجهول الحال، لأن الجهل بالشرط يستلزم الجهل بالمشروط.
وقال أبو حنيفة: تقبل روايته (2).
وهو خطأ، لما تقدم.
البحث الرابع في الأمر والنهي
ذهب الإمامية، وجماعة ممن وافقهم إلى أن الأمر يقتضي الإجزاء، فإذا قال له: صل عند الزوال ركعتين، فصلا هما خرج عن عهدة التكليف.
وقال جماعة من السنة: إنه لا يخرج، بل يبقى مكلفا (3).
وهو خطأ، لأنه إما أن يكون مكلفا بما قد كان قد فعله بعينه، فيلزم تحصيل الحاصل.
مع أنه لا دليل على إيجاب إعادة غير ما فعله، إذ الأمر إنما اقتضى إيقاع الفعل، وقد حصل.
وإما أن يكون مكلفا بغيره، فلا يكون أمر الأول مساويا لصلاة ركعتين، بل الأزيد، وهو خلاف التقدير.
والأمر بالشئ يستلزم النهي ضده، فإذا وجب صلاة ركعتين، وحقيقة الوجوب هو الإذن في الفعل، والمنع من الترك، فهو حقيقة مركبة يستلزم وجودها وجود جزأيها، فلا يتحقق الوجوب إلا مع النهي عن الضد.
وقال بعض أهل السنة: إنه لا يستلزم وهو خطأ، وقال الآخرون منهم: إنه نفس الأمر (4). وهو غلط، للفرق الضروري بين قولنا:
____________
(1) الحجرات: 6
(2) وقد قرره الفضل في المقام.
(3) المستصفى ج 2 ص 5 وجمع الجوامع ج 1 ص 382
(4) المستصفى ج 2 ص 5 وجمع الجوامع ج 1 ص 382.
والنهي عن الشئ لا بد على صحته شرعا، لأن النبي صلى الله عليه وآله نهى الحائض عن الصلاة والصوم.
البحث الخامس في التخصيص
ذهبت الإمامية، ومن وافقهم، وجماعة: إلى أن الاستثناء لا يجب أن يكون الباقي أكثر من الخارج.
وخالف فيه جماعة من السنة (1).
وهو خطأ، لأنه مخالف نص القرآن، قال الله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " (2)، ثم قال تعالى في موضع آخر: " قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك المخلصين " (3) أكثر من صاحبه وهو محال؟
وذهبت الإمامية، ومن تبعهم إلى أن الاستثناء من النفي إثبات.
وقال أبو حنيفة: لا تكون إثباتا (4).
وقد خالف في ذلك الاجماع، وقول النبي صلى الله عليه وآله!.
أما الاجماع، فلأنه دل على أن قولنا لا إله إلا الله توحيد، وكاف فيه.
وأما قول النبي صلى الله عليه وآله فلأنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: " لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم،
____________
(1) المستصفى ج 2 ص 37
(2) ص: 83
(3) الحجر: 42
(4) جمع الجوامع، وشرحه، وفي هامشه حاشيته البناني ج 2 ص 15.
وذهبت الإمامية، ومن تابعهم إلى أن الكتاب قد يخصص بمثله، كقوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " (2)، مع قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (3).
قال بعض الجمهور: لا يجوز (4).
والقرآن يكذبهم.
وذهبت الإمامية، وجماعة تابعوهم إلى أن مذهب الصحابي ليس مخصصا، لأن العبرة إنما هي في كلام الله تعالى، وكلام الرسول صلى الله عليه وآله والصحابي ليس من أحدهما، وقوله ليس حجة، ولو كان حيا ولو قد ذهب إلى شئ طالبناه بالحجة، ولم يجز لنا تقليده... فإذا كان قوله حيا خاليا عن المعارض ليس حجة كيف يكون قوله بعد موته مع معارضة كلام الله تعالى حجة؟.
وقالت الحنفية، والحنابلة: إنه مخصص (5).. وهو خطأ، لما تقدم.
وذهبت الإمامية، ومن تابعهم: إلى أن العادة غير مخصصة للعموم، كما قالوا: حرمت الربا في جميع الطعام، وعادتهم تناول البر، فإنه لا يخصص عموم التحريم للربا في كل الطعام، لأن العبرة إنما هي بلفظ الرسول صلى الله عليه وآله، أو بلفظ الكتاب العزيز، وهو الحاكم على العادة، فلا يجوز أن يكون العادة حاكمة عليه.
وخالف الحنفية فيه، وقالوا: إن العادة حاكمة على الشرع (6).
____________
(1) رواه في التاج الجامع للأصول ج 4 ص 364 وقال: رواه الخمسة.
(2) المائدة: 5
(3) البقرة: 221
(4) جمع الجوامع ج 2 ص 26
(5) المستصفى ج 2 ص 29 وجمع الجوامع ج 2 ص 33.
(6) المستصفى ج 2 ص 29 وجمع الجوامع ج 2 ص 33.
وخالف أبو ثور هاهنا، وقال: إنه يكون مخصصا (1). وهو خطأ، لما بيناه.
البحث السادس في البيان
ذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما إذا قال: إعتدي بالقرء بعد الطلاق، لا يعرفها ما أراد بالقرء ثم يطلق، ولا يعرف المراد، لأنه يلزم منه تكليف ما لا يطاق.
وخالفت الأشاعرة فيه (2)، بناء منهم على جواز التكليف بالمحال، بل كل التكاليف عندهم كذلك، وقد سلف.
ذهبت الإمامية أيضا، ومن تبعهم إلى أنه لا يجوز تأخيره إلى وقت الحاجة، إذا كان ظاهره يدل على خلاف المراد منه، وإلا لزم الاغراء بالجهل، والاغراء بالجهل قبيح، وخالفت الأشاعرة فيه (3)، بناء على نفي الحسن والقبح العقليين... وقد سبق البحث فيه.
البحث السابع في النسخ
ذهبت الإمامية، ومن تابعهم من المعتزلة، إلى أنه لا يجوز نسخ الشئ قبل وقته، لأن الفعل في ذلك الوقت إن كان مصلحة استحال نسخه، وإن كان مفسدة استحال الأمر به أولا.. ولأنه يلزم البداء.
____________
(1) أشار إلى ذلك في المستصفى ج 2 ص 28
(2) المستصفى ج 1 ص 154 وراجع أيضا الهوامش على ما ذكره مؤلفنا في المسألة الثالثة.
في بحث إثبات الحسن والقبح العقليين.
(3) المستصفى ج 1 ص 154 وراجع أيضا الهوامش على ما ذكره مؤلفنا في المسألة الثالثة.
في بحث إثبات الحسن والقبح العقليين.
والعجب أنهم ينسبون البداء (2) إلى طائفة من أهل الحديث، وهم القائلون به في الحقيقة، لأنه لا معنى للبداء إلا الأمر بالشئ الواحد، في الوقت الواحد، على الوجه الواحد، والنهي عنه في ذلك الوقت، على ذلك الوجه...
وذهبت الإمامية، ومن وافقهم من المعتزلة: إلى أنه يمتنع أن ينسخ الإخبار عن الشئ بالإخبار بنقيضه، إذا كان مدلول الخبر لا يتغير، لأنه يكون كذبا، والكذب قبيح، ويمتنع أن يكلف الله تعالى بالقبيح.
وخالفت الأشاعرة في ذلك (3)، بناء على أصلهم الفاسد، من عدم القول بالحسن والقبح العقليين.
ذهبت الإمامية: إلى امتناع نسخ وجوب معرفته تعالى، وامتناع نسخ تحريم الكفر والظلم، وغيره من الواجبات، والقبائح العقليين.
وخالفت الأشاعرة في ذلك (4)، بناء على أصلهم الفاسد، من نفي الحسن والقبح العقليين.
البحث الثامن في القياس
ذهبت الإمامية، وجماعة تابعوهم عليه: إلى أنه يمتنع العمل بالقياس، لدلالة العقل والسمع:
أما العقل: فإنه ارتكاب لطريق لا يؤمن معه الخطأ، فيكون قبيحا.
ولأن مبنى شرعنا على الفرق بين المتماثلات، كإيجاب الغسل بالمني دون
____________
(1) جمع الجوامع ج 2 ص 77، والمستصفى ج 1 ص 72
(2) كما قال الغزالي في المستصفى ج 1 ص 77
(3) جمع الجوامع، وشرحه ج 2 ص 85
(4) المستصفى ج 1 ص 79.