وفي هذا المقام أيضاً نبّه الغزّالي على ذلك، حيث قال بعد الحكم ببطلان الأقوال ـ في عبارته التي نقلناها آنفاً ـ ما نصّه:
«فإنه من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟!
وكيف ندّعي عصمتهم من غير حجة متواترة؟!
وكيف يتصوّر عصمة قوم مجوز عليهم الاختلاف ؟!
وكيف يختلف المعصومان ؟!
كيف وقد اتفقت الصحابة على جوازمخالفة الصحابة، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه ؟!
فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه، ثلاثة أدلة قاطعة» (2).
أقول:
نعم، هي ـ وغيرها مّما ذكرناه ومما لم نذكره ـ أدلة قاطعة على أن ليس «الخلفاء» في هذا الحديث مطلق الصحابة، ولا مطلق الخلفاء، ولا خصوص الأربعة مطلقاً...
____________
(1) التفسير الكبير 10|144.
(2) المستصفى 1|135.
بطلان الحديث دلالةً
وتلخّص أن هذا الحديث لا ينطبق في معناه على الأصول المعتمدة عند أهل السنة، وأن الوجوه التي ذكروها أكثرها متعسفة لا تحل المشاكل الموجودة فيه على أصولهم... فلا مناص من الاعتراف ببطلان الحديث من ناحية الدلالة كذلك...
إنطباق الحديث على مباني الإمامية
لكنه ينطبق من حيث الدلالة على مباني الإماميّة في الأصولين، واستدلالاتهم من الكتاب والسنة المتواترين.. وبيان ذلك:
إن هذا الحديث وصية وعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ قاله وكأنه مودّع ـ تعيينا لوظيفة الأمّة وتكليفها إذا كان«الاختلاف الكثير» فإنهم إذا تبعوا «سنته وسنة الخلفاء الراشدين» أمنوا من الهلاك والضلال... فهو صريح في حصر الاتباع في «الخلفاء» من بعده اتباعاً مطلقاً، فيجب كونهم معصومين...
والإشارة إلى حديث الثقلين:
وحديث الثقلين... كذلك...(1)
____________
(1) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة القطعية الصدور، المتفق عليها بين المسلمين، أخرجه من أهل السنة مسلم في صحيحه، وكذا أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم كافة... عن أكثر من صحابي وصحابية... عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة في مواقف متعددة... راجع: الأجزاء 1 ـ 3 من كتابنا: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الاطهار.
ومن ذلك ما ورد في حديث مرض وفاته صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء فيه التصريح بلفظ الوصيّة، وهو أنه:
«أخذ بيد علي والفضل بن عبّاس فخرج يعتمد عليهما حتى جلس على المنبر وعليه عصابة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد، أيّها الناس، فماذا تستنكرون من موت نبيكم ؟! ألم ينع إليكم نفسه وينع إليكم أنفسكم ؟! أم هل خلد أحد ممن بعث قبلي فيمن بعثوا إليه فأخلد فيكم ؟!
ألا إني لاحق بربي، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا، كتاب الله بين أظهركم تقرأونه صباحاً ومساءً، فيه ما تأتون وما تدعون، فلا تنافسوا ولا تباغضوا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله، ألا ثّم أوصيكم بعترتي أهل بيتي» (1).
والجدير بالذكر تعبيره عنهما ـ في بعض الألفاظ ـ بـ «خليفتين» (2).
وهذا الحديث دليل واضح على عصمة الذين أمر باتباعهم من «عترته أهل بيته» لوجوه عديدة منها ما ذكروه حول آية «إطاعة أولي الأمر» كها عرفت.
الإشارة إلى حديث الأثني عشر خليفة:
وقد حدد عليه وآله الصلاة والسلام عدد الذين أمر بالتمسك جمهم في حديث آخر متواتر أجمعوا على روايته، ذاك حديث «الاثنا عشر خليفة» وهو أيضاً عهد من رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام...
أخرج البخاري ومسلم عن جابر بن سمرة قال ـ واللفظ للأول ـ:
____________
(1) جواهر العقدين: 168 مخطوط.
(2) مسند أحمد 5|181، الدر المنشور 2|60، فيض القدير 3|14.
وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح... وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة... وفي الباب عن ابن مسعود وعبدالله بن عمرو» (2).
وأخرجه أحمد في غير موضع (3).
وأخرجه الحاكم (4) وغيره كذلك.
فإذا ما ضممنا هذا الحديث إلى حديث الثقلين عرفنا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي بالتمسكّ بالكتاب والأئمة الاثني عشر، ويجعلهما الخليفتين من بعده...
وإذا كان حديث الثقلين دالاً على العصمة ـ كما تقدّم ـ فالأئمة الاثنا عشر معصومون...
ومن كان معصوماً كانت سنته حجة...
وعلى هذا يثبت حجيّة سنة أهل البيت...
وبهذا البيان تنحل جميع مشكلات حديث «عليكم بسنتي...» التي ذكرها الغزالي... والتي ذكرناها... فلقد دار أمر وجوب الاتباع مدار وجود العصمة، وإذا كانت العصمة فلا تغاير بين «سنة الخلفاء الراشدين» و«سنة الرسول الأمين»... وإذا كانت العصمة فلا اختلاف.. وإذا كانت العصمة فالمخالف هو المخطئ...
نعم، قد حاول القوم ـ عبثاً ـ صرف حديث «الاثنا عشر خليفة» عن الدلالة على ما تذهب إليه الإمامية... لكنهم حاروا في كيفية تفسيره وتضاربت كلماتهم...
____________
(1) أنظركتاب الأحكام باب للاستخلاف من صحيح البخاري، وكتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش من صحيح مسلم.
(2) صحيح الترمذي باب ما جاه في الخلفاء.
(3) مسند أحمدج 5|89، 98، 106، 107 وغيرها.
(4) المستدرك على الصحيحين 3|117.
لكن المهم اعترافهم بالعجز عن فهم معنى الحديث...
فابن العربي المالكي يقول ـ بعد ذكر رأيه ـ «ولم أعلم للحديث معنىً»(1).
وابن البطّال ينقل عن المهلّب قوله: «لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث. يعني بشيء معين»(2).
وابن الجوزي يقول: «قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلبت مظانّه وسألت عنه فلم أقع على المقصود» (3).
فهي إذن محاولات يائسة... والحديث صحيح قطعاً... فليتركوا الأهواء والعصبيّات الجاهليّة، وليعترفوا بواقع الأمر الذي شاءه الله ورسوله....
وتلخص: إنّ معنى الحديث:
عليكم بسنتي وسنة الأئمة الاثني عشر الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي...
ويؤكد ذلك ما رووه عن أبي ليلى الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: «سيكون بعدي فتن، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب، فإنه فاروق بين الحق والباطل».
وعن كعب بن عجرة أنه قال: «تكون بين أمتي فرقة واختلاف فيكون هذا وأصحابه على الحق. يعني علياً» (4).
____________
(1) شرح الترمذي 9|69.
(2) فتح الباري 13|180.
(3) فتح الباري 13|181.
(4) ترجمة علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق 3|120، اُسد الغابة 5|287، أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 48، كنز العمال 11|612. منتخب كنز العمال ـ هامش مسند أحمد ـ 5|34.
هل يأمر النبي بإطاعة الأمير كائناً من كان؟!
وممّا ذكرناه يظهر أن ما جاء في هذا الحديث من أنه صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بـ «السمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً»... كذب قطعاً... وأن هذا من زيادات أمثال «أسد بن وداعة»... ويشهد بذلك عدم جزم الراوي بأن النبي قاله... لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يأذن بأن يتسلّط على رقاب الناس إلا من توفّرت فيه الصفات والشروط التي اعتبرها الشرع والعقل، ولا يجوزـ فضلاً عن أن يأمر ـ الاستسلام والانصياع التامّ لمن تأمّر وتولى شؤون المسلمين كيفما كان وكيفما تسلط !
وعلى الجملة، فإن هذه الفقرة من الحديث إنما زيدت فيه ـ بناء على صدوره في الأمل ـ لحمل الناس على إطاعة معاوية وعماله وإن ظلموا وجاروا، وإن فسقوا وفجروا...
إنها زيدت فيه كما زيد تعليل مفاده بأنه «فإنما المؤمن...»
ويؤكد ما ذكرنا اضطراب القوم كذلك في معناها، ونكتفي بما ذكره شارحا الترمذي:
قال ابن العربي: «قوله: اسمعوا وأطيعوا. يعني ولاة الأمر وإن تأمر عليكم عبد حبشي.
فقال علماؤنا: إن العبد لا يكون والياً...
والذي عندي: أن النبي أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير اهله حتى توضع الولاية في العبيد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا. تغليباً لأهون الضررين، وهو الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته، لئلا يغير ذلك فيخرج منه إلى فتنة عمياء صمّاء لا دواء لها ولا خلاص منها» (1).
وقال المباركفوري: «قوله: أي صار أميراً أدنى الخلق فلا تستنكفوا عن طاعته.
____________
(1) عارضة الأحوذي 10|145.
ووقع في بعض نسخ أبي داود: وإن عبداً حبشياً، بالنصب. أي: وإن كان المطاع عبداً حبشياً.
قال الخطابي: يريد به إطاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبداً حبشياً، ولم يرد بذلك أن يكون الإمام عبداً حبشياً، وقد ثبت عنه أنه قال: الأئمة من قريش»(1).
أقول:
أما ما ذكره الخطابي فحمل بلا دليل، على أنه قد تقدم أن العلماء لا يجوّزون ولاية العبد.
وأمّا ما ذكره ابن العربي ـ وكذا ابن حجر (2) ـ فهو عبارة أخرى عن الأمر بالتقية التي يشنّعون ـ بألسنتهم ـ بها على الإمامية مع ورود الكتاب والسنة بها، ويلتزمون بها عملاً...
وعلى هذا ـ وبعد التنزل عما تقدّم ـ يكون المعنى:
إن أمر عليكم أئمة الجور بعض من لا أهلية له للإمارة وكان في مخالفتكم له ضرر كبير فعليكم بالسمع والطاعة...
____________
(1) تحفة الأحوذي 7| 438.
(2) فتح الباري 13|104.
خاتمة البحث
لقد استعرضنا أهمّ أسانيد الحديث في أهمّ الكتب... فظهر أنه حديث من الأحاديث المفتعلة في زمن حكومة معاوية، لأغراض سياسية.
وهو من حيث الدلالة حديث باطل لا يمكن قبوله بالنظر إلى الأسس المقررة عند أهل السنة، فضلاً عن أن يستند إليه ويجعل قاعدة في شيء من المسائل العلميّة.
وعلى هذا فإنه لا يصلح مبرّراً لما «أحدثه» الخلفاء والأمراء في الدين... ومستنداً للأقوال المتعدّدة في باب حجية قول الصحابي وإجماع الخلفاء الأربعة... فتبقى تلك البدع بلا مبرّر، وتلك الأقوال بلا دليل...
نعم، يصلح دليلاً ـ إن صحّ سنداً ـ على ما تذهب إليه الإمامية من حجية قول الأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام... ووجوب إطاعتهم والانقياد لهم والاقتداء بهم...
وآخر دعوانا أن الحمد له ربّ العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين وآله الطاهرين الميامين.