فأغمي عليه (1) وهكذا إلى ثلاث مرات... وفي هذه الحالة صلى أبوبكربالناس، فهل كانت بامر منه ؟!
بل في بعض الأحاديث أنه كان إذا لم يخرج لعارض حضره المسلمون إلى البيت فصلوا خلفه:
فقد أخرج مسلم عن عائشة، قالت: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم جالساً فصلوا بصلاته قياماً»(2).
وعن جابر: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فصلّينا وراءه وهوقاعد وأبوبكر يسمع الناس تكبيره»(3).
وأخرج أحمد عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم صلى في مرضه وهوجالس وخلفه قوم...»(4).
ويشهد لما ذكرنا ـ من ملازمته للحضور إلى المسجد والصلاة بالمسلمين بنفسه ـ ما جاء في كثير من أحاديث القصّة من أن بلالاً دعاه إلى الصلاة، أو آذنه بالصلاة، فهو كان يجيء متى حان وقت الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ويعلمه بالصلاة، فكان يخرج بابي هو وأمي بنفسه ـ وفي أي حال من الأحوال كان ـ الى الصلاة ويصلي بالناس.
3 ـ استدعاؤه علياً عليه السلام
فابو بكر وغيره كانوا بالجرف... الموضع الذي عسكر فيه أسامة خارج
____________
(1) في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يغمى عليه ـ بما للكلمة من المعنى الحقيقي ـ أو لا، كلاماً بين العلماء لانتعرض له لكونه بحثاً عقائدياً ليس هذا محلّه.
(2) صحيح مسلم بشرح النووى، هامش إرشاد الساري 3|51.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، هامش إرشاد الساري 3|51.
(4) مسند أحمد 6|57.
وهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بالمسلمين... وعلي عنده... إذ لم يذكرأحد أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالخروج مع أسامة...
حتى اشتد به الوجع... ولم يمكنه الخروج... فقال بلال: «يارسول الله، بابي وأمي من يصلي بالناس ؟»(1)... هنالك دعا علياً عليه السلام... قائلاً: «أدعو لي علياً» قالت عائشة: «ندعو لك أبابكر؟» وقالت حفصة: «ندعوا لك عمر؟»... فما دعي علي ولكن القوم حضروا أو أحضروا!! «فاجتمعوا عنده جميعاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انصرفوا. فان تك لي حاجة أبعث إليكم، فانصرفوا» (2).
إنه كان يريد علياً عليه السلام ولا يريد أحداً من القوم، وكيف يريدهم وقد أمرهم بالخروج مع أسامة، ولم يعدل عن أمره ؟!
4 ـ أمره بان يصلي بالمسلمين أحدهم
فإذ لم يحضر عليّ، ولم يتمكن من الحضور للصلاة بنفسه، والمفروض خروج المشايخ وغيرهم إلى جيش أسامة، أمر بان يصلي بالناس أحدهم... وذاك ما أخرجه أبو داود عن ابن زمعة فقال:
«لما استعزّ برسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم وأنا عنده في نفرمن المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة. فقال: مروا من يصلي بالناس».
وفي حديث أخرجه ابن سعد عنه قال: «عدت رسول الله في مرضه الذي توفي فيه، فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة فقال لي رسول الله: مر الناس فليصلوا.
قال عبدالله: فخرجت فلقيت ناساً لا أكلمهم، فلما لقيت عمر بن الخطّاب
____________
(1) مسند أحمد 3|202.
(2) تاريخ الطبري 2|439.
«فقال عبدالله: لمّا لم أر أبابكر رأيتك أحق من غيره بالصلاة»(1).
وفى خبرعن سالم بن عبيد الأشجعي قال: «إن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلّم لمّا اشتدّ مرضه أغمي عليه، فكان كلما أفاق قال: مروا بلالا فليؤذن، ومروا بلالاً فليصل بالناس»(2).
وقد كان من قبل قد استخلف ابن أم مكتوم ـ وهو مؤذنه ـ في الصلاة بالناس كما عرفت.
5 ـ قوله: إنكنّ لصويحبات يوسف
وجاء في الأحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة وحفصة: «إنكن لصويحبات يوسف!» وهو يدل على أنه قد وقع من المرأتين ـ مع الإلحاح الشديد والحرص الأكيد ـ ما لا يرضاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم... فما كان ذلك ؟ ومتى كان ؟
ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عجزعن الحضور للصلاة بنفسه، وطلب علياً فلم يدع له ـ بل وجد الإلحاح والإصرارمن المرأتين على استدعاء أبي بكر وعمرـ ثمّ أمر من يصلي بالناس ـ والمفروض كون المشايخ في جيش أسامة ـ أغمي عليه ـ كما في الحديث ـ وما أفاق إلأ والناس في المسجد وأبوبكر يصلي بهم
____________
(1) الطبقات الكبرى 2|220.
(2) بغية الطلب في تاريخ حلب، مخطوط. الورقة 194، لكمال الدين ابن العديم الحنفي، المتوفى سنة 660 هـ.
ترجم له الذهبي واليافعي وابن العماد في تواريخهم وأثنوا عليه. وقال ابن شاكر الكتبي: «كان محدّثاً فاضلاً حافظاً مورخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً محموداً» فوات الوفيات 2|220.
فمن تشبيه حالهنّ بحال صويحبات يوسف يعلم ما كان في ضميرهن، ويستفاد عدم رضاه صلى الله عليه وآله وسلّم بفعلهن مضافاً إلى خروجه...
فلو كان هو الذي أمر أبابكر بالصلاة لما رجع باللوم عليهنّ، ولا بادر إلى الخروج وهوعلى تلك الحال...
ولكن شرّاح الحديث ـ الذين لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة ـ اضطربوا في شرح الكلمة ومناسبتها للمقام:
قال ابن حجر: «إن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المامومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك هو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرحت هي فيما بعد بذلك. بهذا التقرير يندفع إشكال من قال: إن صواحب يوسف لم يقع منهن إظهار يخالف ما في الباطن»(1).
قلت: لكنه كلام بارد، وتأويل فاسد.
أمّا أوّلاً:
ففيه اعتراف بأنّ قول عائشة: «إن أبابكر رجل أسيف فمرعمر أن يصلي بالناس» مخالفة للنبي صلى الله عليه واله وسلم، وردّ عليه منها، بحيث لم يتحمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال هذا الكلام.
وأما ثانياً:
فلأنه لا يتناسب مع فصاحة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وحكمته، إذ لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يشبه الشيء بخلافه ويمثله بضدّه، وإنما كان يضع المثل في موضعه... ولا ريب أن صويحبات يوسف إنما عصين الله بان أرادت كل واحدة منهن من يوسف ما أرادته الأخرى وفتنت به كما فتنت به صاحبتها، فلو كانت عاثشة قد دفعت النبي عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام
____________
(1) فتح الباري 2|120.
وأما ثالثاً:
فقد جاء في بعض الأخبارأنه لمّا قالت عائشة: «إنه رجل رقيق فمر عمر» لم يجبها بتلك الكلمة بل قال: «مروا عمر»(1) ومنه يظهرأن السبب في قوله ذلك لم يكن قولها: «إنه رجل أسيف».
وقال النووي بشرح الكلمة:
«أي: في التظاهرعلى ما تردن وكثرة إلحاحكنّ في طلب ما تردنه وتملن إليه، وفي مراجعة عائشة: جواز مراجعة ولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة والإشارة بما يظهر أنه مصلحة وتكون المراجعة بعبارة لطيفة، ومثل هذه المراجعة مراجعة عمر في قوله: لا تبشرهم فيتكّلوا. وأشباهه كثيرة مشهورة» (2).
قلت:
وهذا أسخف من سابقه، وجوابه يظهرمما ذكرنا حوله، ومن الغريب استشهاده لعمل عائشة بعمل عمر ومعارضته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواقف كثيرة !!
ومما يؤكد ما ذكرناه من عدم تمامية ما تكلفوا به في بيان وجه المناسبة، أن بعضهم ـ كابن العربي المالكي ـ التجأ إلى تحريف الحديث حتى تتم المناسبة، فإنه على أساس تحريفه تتم بكل وضوح، لكن الكلام في التحريف الذي ارتكبه... وسنذكر نص عبارته فانتظر.
____________
(1) تاريخ الطبري 2|439.
(2) المنهاج بشرح صحيح مسلم، هامش القسطلاني 3|60.
6 ـ تقديم أبي بكر عمر
ثم إنه قد جاء في بعض تلك الأحاديث المذكورة تقديم أبي بكرلعمرـ بل ذكر ابن حجر أن إلحاح عائشة كان بطلب من أبيها أبي بكر(1) ـ... وقد وقع القول من أبي بكرـ قوله لعمر: صل بالناس ـ موقع الإشكال كذلك، لأنه لوكان الآمر بصلاة أبي بكر هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقول أبوبكر لعمر: صل بالناس ؟! فذكروا فيه وجوها:
أحدها:
ما تأوّله بعضهم على أنه قاله تواضعاً.
والثاني:
ما اختاره النووي ـ بعد الرد على الأوّل ـ وهو أنه قاله للعذر المذكور، أي كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس !
والثالث:
ما احتمله ابن حجر، وهو: أن يكون فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره(2).
وهذه الوجوه ذكرها الكرماني قائلاً: «فإن قلت: كيف جاز للصدّيق مخالفة أمر الرسول ونصب الغير للإمامة؟! قلت: كانه فهم أن الأمر ليس للإيجاب. أو أنه قال للعذر المذكور، وهوأنه رجل رقيق كثير البكاء لا يملك عينه. وقد تأوّله بعضهم بانه قال تواضعاً»(3).
قلت:
أما الوجه الأوّل فتأويل ـ وهكذا أولوا قوله عند ما استخلفه الناس وبايعوه: «ولّيتكم ولست بخيركم»(4)ـ لكنه ـ كما ترى ـ تاويل لا يلتزم به ذو
____________
(1) فتح الباري 1|123.
(2) فتح الباري 1|123.
(3) الكواكب الدراري ـ شرح البخاري 5|70.
(4) طبقات ابن سعد 3|182.
وأما الوجه الثاني فقد عرفت ما فيه من كلام النبي.
وأما الوجه الثالث فاظرف الوجوه، فإنه احتمال أن يكون فهم أبوبكر!! الإمامة العظمى!! وعلم ما في تحمّلها من الخطر؟! علم قوة عمر على ذلك فاختاره !! ولم يعلم النبي بقوّة عمرعلى ذلك فلم يختره !! وإذا كان علم من عمر ذلك فعمر أفضل منه وأحق بالإمامة العظمى !!
لكن الوجه الوجيه أنه كان يعلم بان الأمر لم يكن من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وعمر كان يعلم ـ أيضاً ـ بذلك، ولذا قال له في الجواب: «أنت أحق بذلك» وقوله لعمر: «صل بالناس» يشبه قوله للناس في السقيفة: «بايعوا أي الرجلين شئتم» يعني: عمر وأبا عبيدة...
7 ـ خروجه معتمداً على رجلين
إنه وإن لم يتعرّض في بعض ألفاظ الحديث لخروج النبي إلى الصلاة أصلاً وفي بعضها إشارة إليه ولكن بلا ذكر لكيفية الخروج... إلأ أن في اللفظ المفصل ـ وهوخبرعبيدالله عن عائشة، حيث طلب منها أن تحدثه عن مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ جاء: «ثم إن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس».
وفي حديث آخر عنها: «وخرج النبي يهادي بين رجلين، كاني أنظر إليه يخط برجليه الأرض».
وفي ثالث: «فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفة، فقام يهادي بين رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض حتى دخل المسجد».
وفي رابع: «فوجد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم من نفسه خفة، فخرج وإذا أبوبكر يؤمّ الناس».
وفي خامس: «فخرج أبوبكر فصلى بالناس، فوجد رسول الله من نفسه
أقول:
هنا نقاط نلفت إليها الأنظار على ضوء هذه الأخبار:
أ ـ متى خرج أبو بكر إلى الصلاة؟
إنه خرج إليها والنبي في حال غشوة، لأنه لما وجد في نفسه خفة خرج معتمداً على رجلين...
ب ـ متى خرج رسول الله ؟
إنه خرج عند دخول أبي بكر في الصلاة، فهل كانت الخفة التي وجدها في نفسه في تلك اللحظات صدفةً، بان رأى نفسه متمكناً من الخروج فخرج على عادته أو أنه خرج عندما علم بصلاة أبي بكر إما بإخبار مخبر، أو بسماع صوت أبي بكر؟ إنه لا فرق بين الوجهين من حيث النتيجة، فانه لو كان قد أمر أبابكر بالصلاة في مقامه لما بادر إلى الخروج وهو على الحال التي وصفتها الأخبار!
ج ـ كيف خرج رسول الله ؟
لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقادر على المشي بنفسه، ولا كان يكفيه الرجل الواحد بل خرج معتمداً على رجلين، بل إنهما أيضاً لم يكفياه، فرجلاه كانتا تخطّان في الأرض، وإن خروجاً ـ كهذا ـ ليس إلآ لأمر يهم الإسلام والمسلمين، وإلاّ فقد كان معذوراً عن الخروج للصلاة جماعة، كما هو واضح... فان كان خروج أبي بكر إلى الصلاة بامر منه فقد جاء ليعزله، كما كان في قضية إبلاغ سورة التوبة حيث أمر أبابكر بذلك ثمّ أمربعزله وذاك من القضايا الثابتة المتفق عليها، لكنه لم يكن بامر منه للوجوه التي ذكرناها...
د ـ على من كان معتمداً
واختلفت الألفاظ التى ذكرناها فيمن كان معتمدا عليه ـ مع الاتفاق على كونهما اثنين ـ فمنها: «رجلين أحدهما العباس» ومنها: «رجلين» ومنها: «فقال: انظروا لي من أتكى عليه، فجاءت بريرة، ورجل آخر فاتكا عليهما». وهناك روايات فيها أسماء أشخاص آخرين...
ومن هنا اضطربت كلمات الشرّاح...
فقال النووي بشرح «فخرج بين رجلين أحدهما العباس»:
وفسّر ابن عباس الآخر بعلي بن أبي طالب. وفي الطريق الآخر: فخرج ويد له على رجل آخر، وجاء في غيرمسلم: بين رجلين أحدهما أسامة بن زيد. وطريق الجمع بين هذا كله: إنهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة تارة هذا وتارة ذاك وذاك، ويتنافسون في ذلك. وأكرموا العبّاس باختصاصه بيد واستمرارها له، لما له من السن والعمومة وغيرها، ولهذا ذكرته عائشة مسمى وأبهمت الرجل الآخر، إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازماً في جميع الطريق ولا معظمه، بخلاف العباس، والله أعلم»(1).
وفي خبر آخر عند ابن خزيمة عن سالم بن عبيد: «فجاءوا ببريرة ورجل آخر فاعتمد عليهما ثم خرج إلى الصلاة»(2).
ترى أن «الرجل الآخر» في جميع هذه الطرق غيرمذكور، فاضطر النووي إلى ذكر توجيه لذلك، بعد أن ذكر طريق الجمع بين ذلك كله، لئلا يسقط شيء منها عن الاعتبار!! بعد أن كانت القضية واحدة...
وروى أبوحاتم أنه خرج بين جاريتين، فجمع بين الخبرين بانه «خرج بين
____________
(1) المنهاج شرح مسلم هامش ارشاد الساري 3|57.
(2) عمدة القاري 5|187.
لكن خبر خروجه بين جاريتين وهم صدر من الذهبي أيضاً (2)
وذكر العيني الجمع الذي اختاره النووي قائلاً: «وزعم بعض الناس» ثمّ أشكل عليه بقوله: «فإن قلت: ليس بين المسجد وبيته مسافة تقتضي التناوب ...» فأجاب بقوله: «قلت: يحتمل أن يكون ذلك لزيادة في إكرامه أو لالتماس البركة من يده»(3).
وأنت تستشمّ من عبارته «وزعم بعض الناس» ثم من الإشكال والجواب عدم ارتضائه لما قاله النووي، وكذلك ابن حجر رد ـ كما ستعلم ـ على ما ذكره النووي فيما جاء في رواية معمر: «ولكن عائشة لا تطيب نفساً له بخير» ورواية الزهري: «ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير».
والتحقيق:
إن القضية واحدة، و«الرجل الآخر» هو علي عليه السلام «ولكن عائشة...» أما ما ذكره النووي فقد عرفت ما فيه، وقد أورد العيني ما في رواية معمر والزهري ثم قال: «وقال بعضهم: وفي هذا رد على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعين في جميع المسافة ولا معظمها» قال العيني: «أشار بهذا إلى الرد على النووي ولكنه ما صرح باسمه لاعتنائه به ومحاماته له»(4).
قلت:
والعيني أيضاً لم يذكر اسم القائل وهو ابن حجر، ولا نصّ عبارته لشدتها، ولنذكرها كاملة، فإنه كما لم يصرح باسم النووي كذلك لم يصرّح باسم الكرماني الذي اكتفى هنا بان قال: «لم يكن تحقيراً أوعداوة، حاشاها من ذلك»(5) وهي هذه بعد روايتي معمر والزهري:
____________
(1) عمدة القاري 5|187.
(2) عمدة القاري 5|190.
(3) عمدة القاري 5|187.
(4) عمدة القاري 5|191.
(5) الكواكب الدراري 5|52.
إلأ أن من القوم من حملته العصبية لعائشة على أن ينكر ما جاء في رواية معمر والزهري، وقد أجاب عن ذلك ابن حجرحاملاً الإنكار على الصحة فقال: «ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبرعنها بعبارة شنيعة»(2)
8 ـ حديث صلاته خلف أبي بكر
وحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلّم أئتمّ في تلك الصلاة بأبي بكرـ بالإضافة الى أنه في نفسه كذب كما سياتي ـ دليل آخر على أن أصل القضية ـ أعني أمره أبا بكر بالصلاة ـ كذب... وبيان ذلك في الوجوه الآتية.
9 ـ وجوب تقديم الأقرأ
هذا، وينافي حديث الأمر بالصلاة منه صلى الله عليه وآله وسلم ما ثبت عنه من وجوب تقديم الأقرأ في الإمامة إذا استووا في القراءة، وفي الصحاح أحاديث متعددة دالة على ذلك، وقد عقد البخاري «باب إذا استووا في القراءة فليؤمّهم أكبرهم»(3).
وذلك، لأن أبابكر لم يكن الأقرأ بالإجماع... وهذا أيضاً من المواضع
____________
(1) فتح الباري 2|123.
(2) فتح الباري 2|123.
(3) صحيح البخاري بشرح العيني 5|212.
قال العيني: «اختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة فقالت طائفة: الأفقه، وقال اخرون: الأقرأ ! فاجاب عن الإشكال بعدم التعارض: «لأنه لا يكاد يوجد إذ ذاك قارئ إلا وهو فقيه لا قال: «وأجاب بعضهم بأن تقديم الأقرأ كان في صدرالإسلام»(1).
وقال ابن حجر بشرح عنوان البخاري المذكور:
«هذه الترجمة منتزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري وقد نقل ابن أبي حاتم عن أبيه أن شعبة كان يتوقف في صحّة هذا الحديث. ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري. قيل: المراد به الأفقه. وقيل: هوعلى ظاهره.
وبحسب ذلك اختلف الفقهاء، قال النووي قال أصحابنا: الأفقه مقدم على الأقرأ، ولهذا قدم النبي أبابكر في الصلاة على الباقين، مع أنه صلى الله عليه [وآله] وسلم نصّ على أن غيره أقرأ منه ـ كانه عنى حديث: أقرؤكم أبي ـ قال: وأجابوا عن الحديث بان الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه».
قال ابن حجر: «قلت: وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بان تقديم أبي بكركان لأنه الأفقه».
قال: «ثم قال النووي بعد ذلك: إن قوله في حديث أبي مسعود: فان كانوا في القراءة سواء فاعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فاقدمهم في الهجرة. يدل على تقديم الأقرأ مطلقاً. إنتهى».
قال ابن حجر: «وهو واضح للمغايرة»(2).
____________
(1) عمدة القاري 5|203
(2) فتح الباري 2|135.
أقول:
فانظر إلى اضطراباتهم وتمحّلاتهم في الباب، وما ذلك كله إلا دليلاً على عجزهم عن حل الإشكال، وإلاّ فايّ وجه لحمل حديث تقديم الأقرأ على «صدر الإسلام» فقط ؟ أو حمله على أن المراد هو «الأفقه» ؟! وهل كان أبوبكر الأفقه حقاً؟!
وأما الوجه الآخر الذي نسبه النووي إلى أصحابه فقد رد عليه ابن حجر ... وتراهم بالتالي يعترفون بوجوب تقديم الأقرأ أو يسكتون !!
إن المتفق عليه في كتابي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كان هو الإمام في تلك الصلاة. وكذا جاء في حديث غيرهما... فهذه طائفة من الأخبارصريحة في ذلك...
وطائفة أخرى فيها بعض الإجمال... كالحديث عند النسائي: «وكان النبي بين يدي أبي بكر، فصلى قاعداً، وأبوبكر يصلي بالناس، والناس خلف أبي بكر». والآخرعند ابن ماجة: «ثم جاء رسول الله حتى جلس إلى جنب أبي بكر حتى قضى أبوبكرصلاته».
وطائفة ثالثة ظاهرة أو صريحة في صلاته خلف أبي بكر، كالحديث عند النسائي وأحمد: «إن أبابكر صلى للناس ورسول الله في الصف» والحديث عند أحمد: «صلى رسول الله خلف أبي بكر قاعداً» وعنده أيضاً: «وصلى النبي خلفه قاعداً».
ومن هنا كان هذا الموضع من المواضع المشكلة عند الشراح، حيث اضطربت كلماتهم واختلفت أقوالهم فيه... قال ابن حجر: «وهو اختلاف شديد»(1).
فابن الجوزي وجماعة اسقطوا ما أفاد صلاة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم خلف أبي بكر عن الإعتبار، بالنظر إلى ضعف سنده، وإعراض البخاري
____________
(1) فتح الباري 2|120.
لكن فيه: أنه إن كان دليل الرد ضعف السند، فقد عرفت أن جميع ما دل على أمره أبابكر بالصلاة ضعيف، لان كان دليل الرد إعراض الشيخين فقد ثبت لدى المحققين أن إعراضهما عن حديث لا يوهنه، كما أن إخراجهما لحديث لا يوجب قبوله. نعم، خصوم ابن الجوزي وجماعته ملتزمون بذلك.
وعبد المغيث بن زهير وجماعة قالوا: كان أبو بكر هو الإمام أخذا بالأحاديث الصريحة في ذلك، قال الضياء المقدسي وابن ناصر: «صح وثبت أنه صلى خلفه مقتدياً به في مرضه الذي توفى فيه ثلاث مرات، ولا ينكر ذلك إلا جاهل لا علم له بالرواية» (4).
لكن فيه: أنها أحاديث ضعيفة جدّاً، ومن عمدتها ما رواه شبابة بن سوار المدلس المجروح عند المحققين... على أن قولهما: «ثلاث مرات، معارض بقول بعضهم «كان مرتين» وبه جزم ابن حبان (5) وأما رمي المنكرين بالجهل فتعصب...
والعيني وجماعة على الجمع بتعدد الواقعة، قال العيني: «روي حديث عائشة بطرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وفيه اضطراب غير قادح.
وقال البيهقي: لا تعارض في أحاديثها، فان الصلاة التي كان فيها النبي
____________
(1) لابن الجوزي رسالة في هذا الباب أسماها «آفة أصحاب الحديث» نشرناها لأول مرّة بمقدّمة وتعاليق هامّة سنة 1398هـ.
(2) عمدة القاري 5|191.
(3) المنهاج، شرح صحيح مسلم 3|52.
(4) عمدة القاري 5|191، لعبد المغيث رسالة في هذا الباب «ردّ عليها ابن الجوزي برسالته المذكورة.
(5) عمدة القاري 5|191.
وقال نعيم بن أبي هند: الأخبار التي وردت في هذه القصة كلها صحيحة وليس فيها تعارض، فإن النبي صلى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد، في إحداهما كان إماماً وفي الأخرى كان ماموماً»(1).
قلت:
أولاً:
إن كلام البيهقي في الجمع أيضاً مضطرب، فهو لا يدري الصلاة التي كان فيها إماماً أهي صلاة الظهر يوم السبت أويوم الأحد !؟ وكأن المهم عنده أن يجعل الصلاة الأخيرة ـ يوم الاثنين ـ صلاته مأموماً كي تثبت الإمامة العظمى لأبي بكر بالإمامة الصغرى!!
وثانياً:
إن نعيم بن أبي هند ـ الذي حكم بصحة كل الأخبار، وجمع كالبيهقي بالتعدّد لكن من غير تعيين، لجهله بواقع الأمر! ـ رجل مقدوح مجروح لا يعتمد على كلامه كما تقدم في محله.
وثالثاً:
إنه اعترف بوجود الاضطراب في حديث عائشة، وكذا اعترف بذلك ابن حجر، ثم ذكر الاختلاف، وظاهره ترك المطلب على حاله من دون اختيار، ثم أضاف أنه «اختلف النقل عن الصحابة غيرعائشة، فحديث ابن عباس فيه: أن أبابكر كان ماموماً وحديث أنس فيه: أن أبابكر كان إماماً. أخرجه الترمذي وغيره»(2).
____________
(1) عمدة القاري 5|191.
(2) فتح الباري 2|120.
والتحقيق:
إن القصّة واحدة لا متعددة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم خرج في تلك الواقعة إلى المسجد ونحى أبابكر عن المحراب، وصلى بالناس بنفسه وكان هو الإمام وصار أبوبكر ماموماً....
هذا هو التحقيق بالنظر إلى الوجوه المذكورة، وفي متون الأخبار، وفي تناقضات القوم، وفي ملابسات القصّة... ثم وجدنا إمام الشافعية يصرّح بهذا الذي انتهينا إليه... قال ابن حجر:
«صرح الشافعي بانه صلى الله عليه [وآله] وسلم لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرّة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعدا، وكان أبوبكر فيها أوّلاً إماماً ثمّ صار ماموماً يسمع الناس التكبير»(1).
ثم إن هذا الذي صرح به الشافعي من أن أبابكر «صار ماموماً يسمع الناس التكبير» مما شق على كثيرمن القوم التصريح به، فجعلوا يتبعون أهواءهم في رواية الخبر وحكاية الحال، فانظر إلى الفرق بين عبارة الشافعي وما جاء مشابها لها في بعض الأخبار، وعبارة من قال:
«فكان أبوبكر يصلّي بصلاة رسول الله وهو جالس، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر».
ومن قال:
«فكان أبوبكر يصلي قائماً، وكان رسول الله يصلي قاعداً، يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر».
ومن قال:
«فصلى قاعداً وأبوبكر يصلي بالناس، والناس خلف أبي بكر».
____________
(1) فتح الباري 2|138.
«فكان أبوبكر ياتمّ بالنبي والناس يأتمون بأبي بكر».
ومن قال:
«جاء رسول الله حتى جلس إلى جنب أبي بكر حتى قضى أبوبكر صلاته».
إنهم يقولون هكذا كي يوهموا ثبوت نوع إمامة لأبي بكر!! وتكون حينئذ كلماتهم مضطربة مشوشة بطبيعة الحال !! وبالفعل فقد وقع التوهم... واختلف الشرّاح في القضية وتوهم بعضهم فروعاً فقهية، كقولهم بصحة الصلاة بإمامين !!:
فقد عقد البخاري: «باب الرجل ياتمّ بالإمام وياتمّ الناس بالمأموم» وذكر فيه الحديث عن عائشة الذي فيه: «وكان رسول الله يصلي قاعدا، ويقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر»(1).
وقال العيني بعد الحديث: «قيل للأعمش: وكان النبي يصلي وأبوبكر يصلي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم !».
قال: «استدلّ به الشعبي على جواز ائتمام بعض المامومين ببعضٍ وهومختار الطبري أيضاً، وأشار إليه البخاري ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ.
ورد بان أبابكر كان مبلغاً، وعلى هذا فمعنى الاقتداء اقتداؤه بصوته، والدليل عليه أنه صلى الله عليه [وآله] وسلم كان جالساً وأبوبكر كان قائماً، فكانت بعض أفعاله تخفى على بعض المأمومين، فلأجل ذلك كان أبوبكركالإمام في حقهم»(2).
أقول:
ولذا شرح السيوطي الحديث في الموطّأ بقوله:
____________
(1) صحيح البخاري ـ بشرح العيني ـ 5|250.
(2) عمدة القاري 5|190.
ويشهد بذلك الحديث المتقدم عن جابر: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبوبكر يسمع الناس تكبيره».
بل لقد عقد البخاري نفسه: «باب من أسمع الناس تكبير الإمام» وأخرج الحديث تحته (2)!!
10ـ لا يجوز لأحد التقدم على النبي
هذا كلّه بغضّ النظر عن أنه لا يجوز لأحد أن يتقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّا بالنظر إلى هذه القاعدة المسلمة كتاباً وسنة فجميع أحاديث المسألة باطلة، ولقد نصّ على تلك القاعدة كبار الفقهاء، منهم: إمام المالكية وأتباعه، وعن القاضي عياض انه مشهور عن مالك وجماعة أصحابه، قال: وهو أولى الأقاويل (3) وقال الحلبي بعد حديث تراجع أبي بكر عن مقامه: «وهذا استدل به القاضي عياض على أنه لا يجوزلأحد أن يؤمّه صلى الله عليه [وآله] وسلم، لأنه لا يصح التقدم بين يديه، في الصلاة ولا في غيرها، لا لعذرٍ ولا لغيره، ولقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعاً له، وقد قال: أئمتكم شفعاؤكم. وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته خلف عبدالرحمن بن عوف ركعة، وسياتي الجواب عن ذلك»(4).
قلت: يشير بقوله: «وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك» إلى قوله عزوجل:
____________
(1) تنوير الحوالك ـ شرح موطأ مالك 1|156.
(2) فتح الباري 2|162.
(3) نيل الأوطار 3|195.
(4) السيرة الحلبية 3|365.
يعني بقوله: صواحب يوسف الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز»(4).
أقول:
إن الرجل يعلم جيداً بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يتمثل بقوله: «إنكن صواحب يوسف» إلا لوجود فتنة من المرأتين، فحرف الحديث من «فمر عمر» إلى «فمر علياً» ليتم تشبيه النبي المرأتين بصويحبات يوسف، لأن المرأتين أرادتا الرد عن الجائز «وهو صلاة أبي بكر!» إلى غير الجائز «وهو صلاة علي !».
إذن، جميع أحاديث المسألة باطلة.
____________
(1) سورة الحجرات 49: 1.
(2) فتح الباري 3|139.
(3) فكان الحديث بثلاثة ألفاظ 1ـ «فمر غيره» 2ـ «فمر عمر» 3ـ «فمر علياً» وهذا من جملة التعارضات الكثيرة الموجودة بين ألفاظ هذه القضيّة الواحدة !! لكنا نغض النظر عن التعرّض له خوفاً من الإطالة... إلأ أنه لا مناص من ذكر الأمر الأغرب من هذا الرجل ! وهو التناقض والتعارض الموجود بين هذا الذي نقلناه عن كتابه (أحكام القرآن) وبين الموجود في كتابه الآخر (العواصم من القواصم: 192) حيث يقول في سياق ردّه وطعنه على الإماميّة !: «ولا تستغربوا هذا من قولهم، فهم يقولون إن النبي كان مدارياً لهم معينا لهم على نفاقٍ وتقية وأين أنت من قول النبي صلى الله عليه [وآله] وسلّم حين سمع قول عائشة: مروا عمر فليصل بالناس ـ: انكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصل بالناس».
(4) أحكام القرآن 4|145.
وأما التي دلت على أنه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام فلاشتمالها على استمرار أبي بكر في الصلاة، وقد صح عنه أنه في صلاته بالمسلمين عندما ذهب رسول الله إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم... لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة «استأخر» ثم قال: «ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله»...
وهذا نصّ الحديث عن سهل بن سعد الساعدي:
«إن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأقيم ؟ قال: نعم. فصلى أبوبكر. فجاء رسول الله والناس في الصلاة، فتخلّص حتى وقف في الصف، فصلى الناس، وكان أبوبكر لا يلتفت في صلاته.
فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، فاشارإليه رسول الله أن امكث مكانك. فرفع أبوبكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك، ثم استاخر أبوبكر حتى استوى في الصف، وتقدم رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم فصلى.
فلما انصرف قال: يا أبابكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ فقال أبوبكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله...».
وقد التفت ابن حجر إلى هذا التعارض فقال بشرح الحديث:
«فصلى أبوبكر. أي: دخل في الصلاة، ولفظ عبدالعزيز المذكور: وتقدّم أبوبكر فكبر. وفي رواية المسعودي عن أبي حازم: فاستفتح أبو بكرالصلاة وهي عند الطبراني.
وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين، حيث امتنع أبوبكر هنا أن يستمر إماماً وحيث استمرّ في مرض موته صلى الله عليه [وآله] وسلم حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرّح به موسى بن عقبة في المغازي فكأنه لمّا أن مضي
وهذا عجيب من ابن حجر !!
فقد جاء في الأحاديث المتقدّمة: «فصلى» كما في هذا الحديث الذي فسره بـ «أي: دخل في الصلاة»: فانظر منها الحديث الأوّل والحديث السابع من الأحاديث المنقولة عن صحيح البخاري.
بل جاء في بعضها: «فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفّة» فانظر الحديث الثامن من أحاديث البخاري.
لكن بعض الكذّابين روى في هذا الحديث أيضاً: «فصلى رسول الله خلف أبي بكر» قال الهيثمي: «رواه الطبراني وفي إسناده عبدالله بن جعفر بن نجيح وهو؛ ضعيف جداً»(2).
فظهر أن لا فرق... ولا يجوز لأبي بكر ولا لغيره من أفراد الأمة التقدّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا في الصلاة ولا في غيرها...
11 ـ خطبته صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة
ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم قام معتمداً على علي والفضل حتى جلس على المنبر وعليه عصابة فحمدالله وأثنى عليه وأوصاهم بالكتاب وعترته أهل بيته ونهاهم عن التنافس والتباغض وودعهم (3).
____________
(1) فتح الباري 2|133.
(2) مجمع الزوائد 5|181.
(3) جواهر العقدين: 168. مخطوط.
12 ـ رأي أمير المؤمنين عليه السلام في القضية
وبعد أن لاحظنا متون الأخبار ومداليلها، ووجدنا التعارض والتكاذب فيما بينها، بحيث لا طريق صحيح للجمع بينها بعد كون القضية واحدة... واستخلصنا أن صلاة أبي بكر في مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن بأمر منه قطعاً... فلنرجع إلى مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام لنرى رأيه في أصل القضية فيكون شاهداً على ما استنتجناه، ولنرى أيضاً أن صلاة أبي بكر بأمر من كانت؟؟
لقد حكى ابن أبي الحديد المعتزلي عن شيخه أبي يعقوب بن إسماعيل اللمعاني حول ما كان بين أمير المؤمنين وعائشة، جاء فيه:
«فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه، أنفذ جيش أسامة وجعل فيه أبابكر وغيره من أعلام المهاجرين والأنصار، فكان علي عليه السلام حينئذ بوصوله إلى الأمرـ إن حدث برسول الله حدث ـ أوثق، وتغلب على ظنه أن المدينة ـ لو مات ـ لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية، فياخذه صفواً عفواً، وتتم له البيعة فلا يتهيّا فسخها لورام ضدّ منازعته عليها. فكان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه وإعلامه بان رسول الله يموت ما كان، ومن حديث الصلاة بالناس ما عرف.
فنسب عليّ عليه السلام إلى عائشة أنها أمرت بلالاً ـ مولى أبيها ـ أن يامره فليصل بالناس، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما روي قال: «ليصلّ بهم أحدهم» ولم يعين، وكانت صلاة الصبح، فخرج رسول الله وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس، حتى قام في المحراب ـ كما ورد في الخبرـ ثم دخل، فمات ارتفاع الضحى، فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه، وقال: أيكم يطيب نفساً أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله في الصلاة؟! ولم يحملوا خروج رسول الله إلى الصلاة لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن.
وكان عليّ يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيراً ويقول: انه لم يقل صلى الله عليه وآله وسلّم إنكن لصويحبات يوسف الأ إنكاراً لهذه الحال وغضباً منهاً، لأنها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وإنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب، فلم يجد ذلك ولا أثر، مع قوّة الداعي الذي كان يدعوإلى أبي بكر ويمهد له قاعدة الأمر وتقرر حاله في نفوس الناس ومن اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين والأنصار...
فقلت له رحمه الله: أفتقول أنت: ان عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه ؟!
فقال: أمّا أنا فلا أقول ذلك، ولكن علياً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً....»(1).
نتيجة البحث
لقد استعرضنا أهمّ أحاديث القضيّة، وأصحها، ونظرنا أولاً في أسانيدها، فلم نجد حديثاً منها يمكن قبوله والركون إليه في مثل هذه القضية، فرواة الأحاديث بين «ضعيف» و«مدلّس» و«ناصبي» و«عثماني» و«خارجي»... وكونها في الصحاح لا يجدي، وتلقي الكل إياها بالقبول لا ينفع...
ثم نظرنا في متونها ومداليلها بغضّ النظر عن أسانيدها، فوجدناها متناقضة متضاربة يكذب بعضها بعضاً... بحيث لا يمكن الجمع بينها بوجه... بعد أن كانت القضية واحدة، كما نص عليه الشافعي ومن قال بقوله من أعلام الفقه والحديث...
ثم رأينا أن الأدلة والشواهد الخارجية القويمة تؤكّد على استحالة أن يكون
____________
(1) شرح نهج البلاغة 9|196ـ 198.
وخلاصة الأمر الواقع: أن النبي لمّا مرض كان أبوبكر غائباً بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان مع أسامة بن زيد في جيشه، وكان النبي يصلّي بالمسلمين بنفسه، حتى إذا كانت الصلاة الأخيرة حيث غلبه الضعف واشتد به المرض طلب علياً فلم يدع له، فأمر بان يصلي بالناس أحدهم، فلما التفت بأن المصلي بهم أبوبكر خرج معتمداً على أمير المؤمنين ورجل آخرـ وهو في آخر رمق من حياته ـ لأن يصرفه عن المحراب ويصلي بالمسلمين بنفسه ـ لا أن يقتدي بأبي بكر! ـ ويعلن بان صلاته لم تكن بامر منه، بل من غيره !!.
ثم رأينا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يرى أن الأمر كان من عائشة و«علي مع الحق والحق مع علي»(1).
وصلى الله على رسوله الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين والأئمة المعصومين، والحمد لله رب العالمين.
____________
(1) كما في الأحاديث الكثيرة المتّفق عليها بين المسلمين، أنظر من مصادر أهل السنة المعتبرة: صحيح
الترمذي 3|166، المستدرك 3|124، جامع الأصول 9|20، مجمع الزوائد 7|233 وغيرها.