أما قوله أي الدكتور السلفي " الأئمة الأربعة والسفيانيين والليث بن سعد وابن المبارك والنخعي والبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن ".. فالمحقق والمطلع المقتصد على آثار هؤلاء وسيرهم في كتب التاريخ يجد بينهم من الاختلاف أكثر من عدد اللغات في القارة الهندية اليوم، وكل يدعي وصلا بليلي ؟ !.
وقد كان يهون الاختلاف لو لم يكفر بعضهم بعضا ويعتبر ذلك دينا له وأصلا من أصوله. فالإمام أبو حنيفة في نظر الإمام أحمد بن حنبل مرجئي، والمرجئي ضال منحرف. وقد كفرته باقي الفرق، وهو يقول بخلق القرآن، وعليه فقد لزمه الكفر لأن كل من قال بخلق القرآن فهو جهمي وكل جهمي في نظر الحنابلة وإمامهم كافر. وهذه مسألة متعلقة بالعقائد وأصول الدين و ليست من الفروع حتى يقال لا يضر الاختلاف فيها. وكان أبو حنيفة على بيعة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.. ومن جملة شيعته، حتى رفع الأمر إلى المنصور فحبسه حبس الأبد حتى مات في السجن (21).
ومحمد بن عبد الله هذا كان أحد رجالات الشيعة الأوائل. ومناصرة أبي حنيفة له تعني خروجه على طاعة إمام زمانه، وإمام السلفية أحمد بن حنبل يؤمن بخلافة بني العباس ولا يجوز الخروج عليهم ولا على غيرهم، وهو موقف أصحاب الحديث بشكل عام. وهذا العمل لا شك أنه أخرج أبو حنيفة من مفهوم السلف المتشبثين بالجماعة الخاضعين لطاعة السلاطين وإن فجروا وظلموا.
____________
(20) ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج 1 - 2 / 17 - 18 - 19، باختصار.
(21) الشهرستاني، والملل والنحل، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت، ج 1 ص 158.
ففيهم المنزهة، وفيهم المشبهة المعتدلين، والمشبهة الغلاة، وفيهم المجسمة المعتدلين والغلاة، وفيهم الجبرية والقدرية، والمرجئة بكل فرقهم والخوارج والشيعة كذلك. وانتشر بينهم التكفير والطعن على بعضهم البعض، يقول ابن قتيبة وهو محدث يصف حالهم: " وكان آخر ما وقع من الاختلاف أمرا خص بأصحاب الحديث الذين لم يزالوا بالسنة ظاهرين وبالأتباع قاهرين يداجون بكل بلد ولا يداجون ويستتر منهم بالنعل ولا يستترون، ويصدعون بحقهم الناس ولا يستغشون، لا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا ولا يتضع فيه إلا من وضعوا ولا تسير الركبان إلا بذكر من ذكروا إلى أن كادهم الشيطان بمسألة لم يجعلها الله تعالى أصلا في الدين ولا فرعا. في جهلها سعة وفي العلم بها فضيلة، فنمى شرها وعظم شأنها. حتى فرقت جماعتهم وشتتت كلمتهم ووهنت أمرهم وأشمتت حاسديهم، وكفت عدوهم مؤنتهم بألسنتهم وعلى أيديهم فهو دائب يضحك منهم ويستهزئ بهم حين رأى بعضهم يكفر بعضا وبعضهم يلعن بعضا. ورآهم مختلفين وهم كالمتفقين ومتباينين وهم كالمجتمعين (22).
قد يتأول بعضهم هذا الاسترسال في الإكفار بأنه من قبيل كفر دون كفر، لا الكفر الناقل من الملة، وفاته أن الوارد في الأثر من كفر دون كفر هو ما يكون من قبيل كفران العشير ونكران الجميل وظاهر عدم تمشي ذلك في أمثال هذه المواضع، على أن بعضهم يصرح بأن مراده بالكفر الكفر الناقل. فهذا يقطع قول كل خطيب، وإن كان الكفر الناقل متفاوت الدركات (23). وهناك نص آخر أورده عبد الله ابن حنبل في كتابه " السنة " يلقي الضوء على عقائد أهل الحديث
____________
(22) الإختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 12.
(23) نفس المصدر، الهامش ص 12.
إرجئ الأمور إلى الله ولا تكن مرجئا. وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر ولا تكن حروريا، وأعلم أن الخير والشر من الله ولا تكن قدريا. قال يحيى بن أيوب وحدثني رجل كان إلى جنب الأبار أن الشعبي قال: مع هذا وأثبت صلاح بني هاشم ولا تكن شيعيا (24).
هذا الخليط العجيب من الأفكار والمعتقدات المتناقضة والمتضاربة يسميه الدكتور السلفي " مذهب السلف ". وإذا كان كذلك فكل الفرق والمذاهب والملل والنحل اليوم، وفي الماضي سلفيون وأتباع للسلف. وإذن لا حاجة لفرقة تدعي اليوم لنفسها أنها هي الوحيدة التي تمثل نهج السلف، وأن غيرها قد استقى تعاليمه من اليهود والنصارى والمجوس ومن الغرب والشرق ؟ !
إن المفهوم الاصطلاحي للسلف أو " السلفية " كتيار ظهر قديما تدعي تمثيله اليوم فرقة من المسلمين، مفهوم انتقائي محدد جدا. وهذا الإطلاق الذي ذكره الدكتور السلفي إنما هو للتمويه على العامة وأنصاف المتعلمين والمطلعين على التراث الإسلامي، ولا يثبت أمام التحليل التاريخي. وهذا ما سنحاول تبيينه للقارئ فيما بعد.
وإذا كان مذهب السلف ما كان عليه الإمام مالك فلماذا يرفض المذهب المالكي وينهى السلفيون المعاصرون عن تقليده ؟ ! ولماذا كفر أسلافهم من " الحنابلة " فيما مضى أتباع المذهب الشافعي، وسبوا صاحبه وطعنوا في إمامته ؟
ووقفوا للشوافع في الطرقات وترصدوا لهم وقتلوهم. ولماذا نهى إمام الحنابلة كما يدعون عن تقليد الشافعي وأبو حنيفة ومالك ؟ ! وإذا لم يقلد هؤلاء الأئمة فيما اجتهدوا فيه ورأوه فماذا يبقى منهم يا ترى ؟. وكيف سنتخذهم
____________
(24) عبد الله بن أحمد بن حنبل، السنة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 1985 م، ص 227 - 228.
إن مفهوم " السلف " كما قلناه، مفهوم انتقائي جدا وقد حاول الدكتور السلفي أن يشير إلى ذلك في آخر التعريف الذي نقله عن سلفي آخر وهو أحمد بن حجر آل بوطامي. حيث استثنى من مذهب السلف " دون ما رمي ببدعة أو شهر بلقب غير مرضي مثل الخوارج والروافض والمرجئة والجهمية والمعتزلة، وسائر الفرق الضالة "، وهذا التحديد بدوره عام ومبهم وغير مفصل.
وعند التحليل سينقض عروة عروة. أولا لأن القرون الثلاث الموسومة بالخيرية تشمل كل هذه الفرق التي ذكرها وأخرجها من مذهب السلف.
فإذا كان يقصد بالروافض من رفض خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فعدد من الصحابة والتابعين ومن تبعهم رفض هذه الخلافة، منهم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وسلمان الفارسي والمقداد وأبو ذر الغفاري، وغيرهم كثير يتجاوز المائة صحابي، ومئات التابعين منهم: زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق أستاذ الأئمة وشيخ السلف بالإجماع. وهؤلاء وغيرهم من كبار التابعين والسلف باتفاق جل المؤرخين المسلمين.
أما المرجئة فقد عرف لفيف من الصحابة والتابعين بالإرجاء ويكفي ما ذكرناه سابقا من أن أبو حنيفة عرف بالإرجاء هو وتلامذته. وقد انتشر الإرجاء في العهد الأموي الأول، حتى قيل ليس هناك كور في الإسلام إلا وغلب عليه الإرجاء. أما الجبر فقد فشا في أهل الحديث. واعتبر العقيدة الرسمية للدولة الأموية. ولا نظن أن سلفيا قديما أو معاصرا، يشك في سلفية معاوية ابن أبي سفيان والبيت الأموي الحاكم من بعده. وللسلفيين اعتقادات خاصة في معاوية وابنه يزيد وقد ألفوا الكتب في فضائلهما وتنزيههما وجاؤوا بالغرائب في ذلك، كما يقول ابن كثير المؤرخ.
أما قوله " الجهمية والمعتزلة " فالآراء التي أخرج بها الدكتور السلفي هاتين
نعتقد إن هذا الالتزام الخطي الذي كتبه هذا المحدث السلفي الكبير على نفسه تحت الإكراه والخوف من بطش أصحابه الحنابلة لم يكن ليغير في معتقداته بهذه السهولة ولا أدل على ذلك من أنه هو الذي تكفل بتغسيل الفقيه الأشعري الشافعي أبو إسحاق الشيرازي لما توفي وصلى عليه بباب الفردوس (26).
والحنابلة كما هو معلوم يكفرون الأشاعرة والشوافع، وعمل ابن عقيل هذا هو خلاف لما عليه أصحابه. وهذا دليل على أنه يختلف عنهم في المعتقد ولو حسب منهم. والأمثلة على ما ذكرنا كثيرة، وإيرادنا لهذا المثال هو فقط للتدليل على عدم صحة التعميم لأنه خلاف الحق.
وقد سئل الحسن البصري وهو تابعي ومن أقطاب السلف لدى " السلفيين " عن عمرو بن عبيد رأس المعتزلة فأجاب سائله قائلا: " لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته وكأن الأنبياء ربته، إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به وإن أمر بشئ كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شئ كان أترك الناس له،
____________
(25) مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي، النهج الأحمد في تراجم أصحاب أحمد، عالم الكتب، ط 2 ص 1984 م، بيروت، ص 37.
(26) أبو إسحاق الشيرازي الشافعي، طبقات الفقهاء، دار الرائد العربي، بيروت، 1970 م، ص 15.
بالإضافة إلى أن عددا من خلفاء بني العباس كانوا على مذهب الاعتزال ولم يقل أحد من أئمة الفقه أو الحديث بأنهم كفار. بل كانوا يصلون وراءهم ويحجون معهم ويغزون. وقد كان الإمام أحمد ابن حنبل عباسي الميل السياسي، ولعله الوحيد بين الأئمة الأربعة الذي يرى هذا الرأي (28). فكيف بزعيم السلفية - كما سيدعي أصحابه فيما بعد - يوالي المنحرفين والكفرة إن كان المعتزلة فعلا كذلك.
من هم السلفية:
بعد هذه المتابعة التاريخية لمفهوم السلف، وتحليل بعض التعاريف التي وضعها السلفيون وغيرهم، نستطيع أن نجيب على السؤال الثالث وهو: من هم حقيقة دعاة الانتساب لمذهب السلف أو " السلفية " في الماضي والحاضر ؟
وهل لهؤلاء " السلفية " مذهب خاص في الأصول والفروع يميزهم عن باقي الفرق الإسلامية المعروفة.
المقصود بالسلفية هم أولئك الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري.
وكانوا من الحنابلة، وزعموا أن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيى عقيدة السلف، وحارب دونها، ثم تجدد ظهورهم في القرن
____________
(27) إسلام بلا مذاهب، الدار المصرية للطباعة والنشر، بيروت، ص 497.
(28) المرجع نفسه، ص 434، " كان أحمد يقول: الأئمة من قريش، ويعين على إمامة ولد العباس ويقول العباس أبو الخلفاء "، وقد كان أبوه محمد والي سرخس، وكان من أبناء الدعوة العباسية. أنظر مختصر طبقات الحنابلة لابن الشطي، ص 8.
يتبين من خلال هذا التعريف الذي وضعه أبو زهرة، بأن دعاة السلفية أو مذهب السلف هم شريحة من أتباع المذهب الحنبلي ونقول " شريحة "، وليس جميع أتباع هذا المذهب. لأن هذه الفئة التي سمت نفسها ب " السلفية "، لها آراء وأفكار ومذهب خاص في " الأصول والعقائد ". وأحمد بن حنبل يعتبر أحد الأئمة الأربعة المقلدين في الفقه، وليس له في العقائد أو الأصول مذهب خاص به. لذلك كان أغلب مقلدي هؤلاء الأئمة الأربعة وأحمد بن حنبل من ضمنهم، ينتمون عقائديا إلى المذهب الكلامي الممثل بشقيه " الأشعري "، والماتريدي " مذهب " أهل السنة والجماعة " في الأصول.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان جل الحنابلة في الأصول، على عقيدة مذاهب أهل السنة والجماعة من أشاعرة وما تريدية ؟.
الجواب بالنفي، فقد كان الحنابلة دون باقي المذاهب الفقهية الأخرى، موزعين على عقائد شتى ومذاهب أصولية مختلفة، فمنهم من كان أشعريا، ومنهم من كان صوفيا، يؤمن بعقائد وحدة الوجود وغيرها من عقائد الصوفية، ومنهم مفوضة يتبعون بعض السلف في مواقفهم وآرائهم العقائدية.
ومنهم وهم الأغلبية كانوا - كما أجمعت عليه كتب علم الكلام والعقائد والتاريخ - " حشوية ". حيث كثر فيهم وفي غالبية أصحاب الحديث الاعتقاد بالتشبيه والتجسيم والقول بالجبر وغيرها من الآراء والمعتقدات، التي تجند المعتزلة أولا لمحاربتها، ثم تصدى لهم فيما بعد " أهل السنة والجماعة " من
____________
(29) محمد أبو زهرة، المذاهب الإسلامية، ص 311.
وإذا رجعنا إلى المذاهب الأصولي والعقائدي لابن تيمية، محيي وباعث مذهب السلف في القرن السابع الهجري، كما ذكر الشيخ محمد أبو زهرة في تعريفه، نجد أن الرجل - أي ابن تيمية - قد اشتهر بالتشبيه والتجسيم وكان يذهب مذاهب الحشوية في العقائد. وقد قام بمجهود جبار في الدفاع عن هذه العقائد والانتصار لها.
جعلت الدكتور علي سامي النشار يصفه ب " الفيلسوف المجسم النادر المثال " (30). وإذا كان محمد بن عبد الوهاب تلميذ ابن تيمية وزعيم " السلفية " وباعثها المعاصر، فسيفهم من ذلك أن الدعوة السلفية المعاصرة والنابتة من آراء ابن تيمية خصوصا والمذهب الحنبلي عموما، ما هي إلا " الحشوية الحنبلية ".
التي عرفت في تاريخ الفرق الكلامية، كمذهب أو تيار له آراؤه الخاصة في العقائد والأصول. وعرفت غالبية أتباعه بالانتساب إلى مذهب أحمد بن حنبل الفقهي. لذلك قال الصفدي: " والغالب في الحنابلة الحشوية " (31).
إن القارئ والمطلع على ما يكتبه رجالات السلفية المعاصرون من كتب، في الأصول والفروع، وما ينشرونه من كتب التراث التي تدعم مذهبهم، وما يدعون إليه صباح مساء، سيجد بأن الدعوة " الحشوية الحنبلية " قد قامت من رقادها الطويل تنفض عنها غبار الزمن، مستعيرة لقب " السلفية " للتضليل والتمويه على عامة الناس عموما وأبناء الصحوة الإسلامية خصوصا. وقد تنبه لذلك طائفة من علماء أهل السنة، فبادروا لإعلان ذلك. وتنبيه المسلمين كافة من خطر انتشار عقائد وأفكار هذه الفئة المخربة والمشاغبة. والتي سطر لها التاريخ الإسلامي صفحات سوداء في الماضي، من إشاعة الفتن المذهبية وتحريف وتشويش العقائد الإسلامية. وما تبع ذلك من انحصار وتقهقر
____________
(30) علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 1 ص 312.
(31) بهاء الدين العاملي، الكشكول، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ج 2 ص 151.
" لقد ظهرت في بلادنا الشامية طائفة تدعو إلى " السلفية " ونهجها اعتناق العقيدة " الحشوية الحنبلية " وتبديع أهل السنة والجماعة (32). ويضيف:
" ولنحذر جميعا من وساوس الشياطين أن تزين لنا نزعات الضالين من اليهود والنصارى المجسمين الذين اتبعتهم في ذلك " الحشوية الحنبلية. فقد أصيب بهم المسلمون بأكبر بلية. تركوا العقل والنظر وأخذوا بظاهر الخبر. ولا مستند لهم من شرع سيد البشر محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. فليت شعري كيف يدعون " السلفية " ويزعمون أنهم يدعون إلى التوحيد الخالص والأعمال الصالحات، وهم مجسمون ومتمسكون بأذناب الضلالات ! ! فأخلق بهم أن يأخذوا بعقيدة أهل السنة والجماعة لرشدوا إلى طريق الإسلام " (33).
ويقول أيضا: " أما أنتم أيها (الحشوية الحنبلية) في البلاد الشامية كفاكم شن الغارات على أهل السنة والجماعة بعاديات الأهواء، وكفاكم شموخا بأنوفكم حتى السماء، مع أنكم لا تملكون حتى ولا دليلا واحدا يؤيد مدعاكم فيما تبدعوننا فيه. ونحن نملك كل دليل كان عليه السلف ونسير عليه " (34).
إن هذه النصوص وغيرها تنقلنا إلى أجواء القرن الرابع الهجري وما بعده حيث كان الصراع مستعرا وعلى أشده، بين أهل السنة " أشاعرة وما تريدية " وبين هذه الفرقة التي عرفت ب " الحشوية الحنبلية " والتي تبرأ منها علماء الإسلام عامة، " وناقشهم في هذه النسبة (أي الانتساب للإمام أحمد بن حنبل) بعض الفضلاء الحنابلة " (35) كما يقول الشيخ أبو زهرة.
____________
(32) ابن خليفة عليوي، هذه عقيدة السلف والخلف في ذات الله تعالى، مطبعة زيد بن ثابت.
دمشق 1979 م، ص 7.
(33) المرجع نفسه، ص 5.
(34) المرجع نفسه، ص 6.
(35) المذاهب الإسلامية، م س، ص 311.
السلفية التنويرية:
إن مصطلح " السلفية " قد انتشر انتشارا واسعا مع بداية هذا القرن وإلى الآن، في كتب الذين تابعوا وأرخوا لظاهرة الإحياء الإسلامي العام، ونهضة الشعوب الإسلامية للتحرر من الاستعمار وتقاليد التخلف. وقد استعمل الكثير من المؤرخين والمفكرين خصوصا العلمانيين والقوميين بشقيهم " الماركسي والليبرالي " هذا المصطلح في كتاباتهم، ينعتون به مفكري عصر النهضة، وزعماء الحركات الإسلامية الكبرى التي ظهرت في العالم الإسلامي. مثل محمد عبده المصري وأستاذه جمال الدين الأفغاني. ومن سار على نهجهما كأبو شعيب الدكالي والعربي العلوي والزعيم علال الفاسي، وهؤلاء من المغرب الأقصى. أما في الجزائر فعرف الشيخ ابن باديس كداعية سلفي، وفي تونس نشر تعاليم السلفية سالم بوحاجب وطاهر بن عاشور. أما حركة الإخوان المسلمين التي ظهرت بدءا في مصر فيمكن القول بأنها قامت على أساس تبني المبادئ السلفية الكبرى وإعادة التفكير فيها قصد بلورتها وتجذيرها (36).
والسلفية التي دعا لها هؤلاء المصلحون الكبار، ومن تبعهم بعد ذلك أمثال محمد إقبال في الهند، وعلي شريعتي في إيران والمودودي في باكستان، تعتبر
____________
(36) الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الثاني، مادة السلفية، ص 737.
والاستفادة من أحسن وأفضل ما أنتجه العقل الإسلامي في الماضي، والانفتاح ومعرفة مقومات الحضارة الغربية المعاصرة. للاستفادة من إيجابياتها، خصوصا على مستوى العلوم الحديثة ومبتكرات التقنية. ومحاولة إعادة الحياة للعقل الإسلامي وتفعيله ليستعيد نشاطه وقدرته على الإبداع، الذي فقدهما في غمرة قرون من الركود والتخلف الحضاري العام.
ولا شك أن الدعوة لهذه القيم الفكرية والحضارية وغيرها، والتي عرفت بها السلفية التنويرية هي على النقيض تماما لما تدعو له سلفية هؤلاء " الحشوية الحنابلة " المتسمين بالوهابية.
فقضايا المجتمع الإسلامي الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ستختزل كلها في نظر هؤلاء الحشوية، وترتبط بقضية هدم قبور الأنبياء والأولياء ومسألة التوسل بهم. ومحاربة بدعة زيارة قبر الرسول (ص) والدعوة إلى عقائد التجسيم والجبر، وإطاعة السلطان الظالم والجائر. كما سيتبين لنا خلال الفصول القادمة. لذلك قال محمد عبده زعيم السلفية التنويرية: "....
اللهم إلا فئة زعمت أنها نفضت غبار التقليد وأزالت الحجب التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها، ولكن هذه الفئة أضيق عطنا وأحرج صدرا من المقلدين، وإن أنكرت كثيرا من البدع، ونحت عن الدين كثيرا مما أضيف إليه وليس منه. فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من اللفظ الوارد والتقيد به، بدون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية أحباء (37).
____________
(37) محمد عبده، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، دار الحداثة، ط 3 1988 م، ص 127 - 128.
وبذلك وضع زعيم السلفية التنويرية الحد الفاصل بين مفهوم السلفيتين، حتى لا يصار إلى الخلط في مضمونهما ودعوتهما. على أن الكتاب المعاصرين عندما يصفون هؤلاء الأعلام مثل الأفغاني وعبده بالسلفية، لا يقصدون مذهبا خاصا وفرقة بعينها، وإنما يقصدون دعوتهم للرجوع إلى الأخذ بقيم الإسلام ونبذ القيم الفاسدة للحضارة الغربية. فهم بذلك يأخذون قيمهم عن الأجداد " أي السلف ". أما السلفية الوهابية أو " الحشوية الحنبلية " فإنها تيار متميز في تاريخ الإسلام له أصوله وفروعه واجتهاداته الخاصة. وهذا ما سنعرفه في البحوث القادمة.
____________
(38) هذا إذا كان ذلك الأثر مما قاله رسول الإسلام (ص) حقا، وليس هرطقات البدو من الأعراب أو اعتقادات مردة أهل الكتاب من يهود ونصارى، والتي حشيت بها أحاديث الرسول.
الحشوية والمذهب الحشوي
تعريف:
الحشو لغة ما يملأ به الوسادة أو الحشية أو الخضر وغير ذلك. و " الحشوية بتسكين الشين وفتحها أو أهل الحشو: لقب تحقير أطلق على أولئك الفريق من أصحاب الحديث الذين اعتقدوا بصحة الأحاديث المسرفة في التجسيم من غير نقد. بل فضلوها على غيرها وأخذوها بظاهر لفظها. ومن هؤلاء أيضا السالمية. وقد ازدرى المعتزلة أصحاب الحديث جميعا وعدوهم من الحشوية.
لأنهم قبلوا التفاسير المنطوية على التجسيم، وإن كانوا تحفظوا في التجسيم فقالوا " بلا كيف " ولم يفسد ذوقهم كما فسد ذوق الحشوية الخلص (39).
وقالوا إن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وجوز قوم منهم على الأنبياء الكبائر كالزنى واللواط وغيرهما. إلى غيره من الأقوال الواضحة البطلان (40).
أما ابن رشد الفيلسوف فيقول: " الحشوية فإنهم قالوا إن طريقة معرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل: أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانا كما تتلقى منه أحوال المعاد، وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه، وهذه الفرقة الضالة، الظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشارع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى... وذلك يظهر من غير ما
____________
(39) دائرة المعارف الإسلامية، مادة الحشو، دار المعرفة، بيروت، ج 7 ص 439.
(40) معجم الفرق الإسلامية، ص 49.
ويمكن أن نستخلص عناصر الموقف الحشوي كما يفهم من النص السابق وغيره على النحو التالي:
1 - الإعتماد على النص وحده طريقا إلى المعرفة الاعتقادية خاصة والدينية بصفة عامة، ورفض العقل وأدلته.
2 - سوء الفهم للنصوص الدينية نفسها " أو الاعتماد على الأحاديث الضعيفة أو المدسوسة في السنة للاستدلال بها في العقائد " حيث إن هذه النصوص كما سبق بيانه وكما يشير ابن رشد في نصه الآنف الذكر، تعتمد العقل وتتضمن براهين عقلية لإثبات العقائد الدينية الواجب اعتناقها، ولا نكتفي بتقرير هذه العقائد عارية عن البرهنة والاستدلال.
3 - النزوع إلى الفهم الحرفي لتلك النصوص مما يؤدي إلى التجسيم و التشبيه. أي تشبيه صفات المخلوقات والأشياء المادية الجسمية إلى الله سبحانه (42).
سلبيات عدم تدوين الحديث النبوي:
لقد ظهرت أولى سلبيات منع تدوين الحديث النبوي الذي نهى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عن جمعه وكتابته، في كثرة الرواية عن رسول الله (ص) في عصر التابعين. وانتشر الرواة في الآفاق يبحثون عن الصحابة ومن عاصرهم، للأخذ عنهم. وكان من بين هؤلاء " عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس، أظهروا الإسلام في عهد الراشدين، ثم
____________
(41) ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، ص 134، بتوسط المدخل إلى دراسة علم الكلام.
(42) د. حسن محمود الشافعي، المدخل إلى دراسة علم الكلام، مكتبة وهبة، القاهرة ط 2 1991 م، ص 76.
وإذا عرفنا أن هذه الحركة كانت ملازمة لظهور الفتن السياسية في المجتمع الإسلامي الناشئ، وانتصار الأمويين في نهاية المطاف، وتسلمهم لسدة الحكم. يتبين لنا مدى انتشار هذه الظاهرة وتغلغلها في تفكير المسلمين آنذاك.
وملوك بني أمية بدءا من معاوية بن أبي سفيان وإلى آخرهم (45)، لم يولوا أي اهتمام للدفاع عن عقائد المسلمين، أو محاولة الوقوف أمام خصومها من يهود ونصارى، فما كان يهم بني أمية هو الجانب السياسي، وتثبيت الملك العضوض بأي وسيلة، بل كان فسح المجال لأحبار اليهود والنصارى وغيرهم من دعاة الملل والنحل السالفة، إحدى الوسائل التي ركبها ملوك بني أمية لتوطيد ملكهم. فتزعموا القول بالجبر وشجعوا الأعراب من الرواة على التحديث بذلك، فاختلق هؤلاء من الأحاديث والروايات التي نسبوها للرسول (ص) الشئ الكثير. سيكون فيما بعد معتمد الحشوية من أهل
____________
(43) ابن عساكر، تبيين كذب المفتري، مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري، ص 10.
(44) نشأة الفكر الفلسفي، مرجع سابق، ص 286.
(45) إلا ما كان من فعل عمر بن عبد العزيز الذي أمر بتدوين السنة وأوقف لعن الإمام علي على المنابر وأرجع فدك " نحلة فاطمة " إلى بنيها.
أما التشبيه والتجسيم فقد أطلق ملوك بني أمية العنان - ومن قبلهم الخليفتان عمر وعثمان - لهؤلاء المتأسلمة من أهل الكتاب. فنقلوا ونشروا ما في التوراة والإنجيل من عقائد إلى المسلمين، سواء كأحاديث مستقلة منسوبة للرسول (ص)، أو كشروح لآيات الذكر الحكيم. وقد كان كعب الأحبار (46)، وهو من يهود اليمن يقرأ التوراة في مسجد رسول الله على عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ولم يتعرض لأي نهي ! في الوقت الذي كان الخليفة نفسه ينهى الصحابة عن الرواية عن رسول الله (ص)، ويتوعدهم العقاب إنهم حدثوا أو أكثروا الرواية عنه (ص).
وتبعه وهب بن منبه وكان عالما بالتوراة فجلس يحدث في المدينة وغيرها من حواضر الإسلام بما يجده في كتب الأولين، فنقل عنه المسلمون الكثير من الأحاديث والروايات في تفسير قصص الأنبياء وتواريخهم من لدن آدم عليه السلام وإلى خاتم الرسل (ص). ودخلت مع تلك التفاسير والشروح عقائد أهل الكتاب المحرفة وكثر تداولها وتناقلها بين الرواة. حتى تكلموا في مجلس الحسن البصري بالسقط عنده وضاق صدر الرجل بهم، فصاح: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة - أي جانبها -.
ويرى الشيخ الكوثري أنهم سموا لأجل هذا " الحشوية ". وأن إلى هؤلاء ينسب أصناف المشبهة والمجسمة (47). ويرى البعض الآخر أن هذه التسمية
____________
(46) يقول ابن كثير: " أسلم كعب في الدولة العمرية وجعل يحدث عمر عن كتبه قديما، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها.
وليس لهذه الأمة - والله أعلم - حاجة إلى حرف واحد مما عنده ". أنظر تفسير ابن كثير، ج 4 ص 17.
(47) نشأة الفكر الفلسفين، مرجع سابق، ص 287.
إن حشو الأحاديث والروايات التي لا أصل لها في أحاديث الرسول (ص).
كان أغلبه من الإسرائيليات، خصوصا لما توجه المسلمون لتفسير الآيات المتشابهة. وقد اعتمد على هذه الأحاديث بالذات واعتقد بصحتها وقدمها على غيرها مجموعة من رجالات الحديث الأوائل مثل: مضر بن محمد بن خالد بن الوليد وأبو محمد الضبي الأسدي الكوفي، وكهمس بن الحسن أبو عبد الله البصري (توفي عام 149 ه) وأحمد بن عطاء الهجمي البصري ورقبة بن مصقلة. وقد مثل هؤلاء الحشو الهائل في أحاديثهم الضعيفة، فأجازوا على الله الملامسة والمصافحة والمزاورة، وأن المخلصين من المسلمين يعاينونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا من الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص " (49).
لقد فسر هؤلاء المحدثون الأوائل وغيرهم آيات " الوجه والرؤية واليد والمجئ والجنب " تفسيرا ظاهريا ماديا. ودعموا ذلك بما رووه من إسرائيليات وعقائد أهل الكتاب. فسقطوا في التجسيم والتشبيه. وهؤلاء هم الذين أطلق عليهم المعتزلة لقب الحشوية من أهل الحديث وقاموا بالرد عليهم.
أما بقية عقائد هذه الطائفة الأولى من الحشوية: فهو قولهم بقدم القرآن، حروفه أصواته ورقومه المكتوبة، وإنها كلها قديمة أزلية. ويستدلون على هذا، بأنه لا يعقل كلام ليس بحرف ولا كلمة ولا كتابة له. وما دام الكلام قديما أزليا فلا بد أن حروفه وكلماته وكتابته أزلية. وقد استندوا فيما يرى الشهرستاني على ما رأوه من إجماع المسلمين على قدم القرآن (50).
____________
(48) المدخل لدراسة علم الكلام، ص 78.
(49) نشأة الفكر الفلسفي، ص 288.
(50) نفسه، ص 288.
الحشو يؤسس للتشبيه والتجسيم:
لقد ظلت عقائد التجسيم والتشبيه متناثرة هنا وهناك، في أقوال المحدثين ورواياتهم، حتى ظهر مقاتل بن سليمان (المتوفى سنة 150 ه) وهو أحد كبار المفسرين، الذي ملأ تفسيره حشوا من الإسرائيليات. لذلك، فقد أجمعت المصادر كما يقول الدكتور علي سامي النشار على كونه مشبها ومجسما، و " أنه أخذ من علم اليهود والنصارى ما يوافقه لتدعيم تفسيره المشبهي والمجسمي... يقول ابن حيان: " كان يأخذ من اليهود والنصارى ومن علم القرآن الذي يوافقه وكان يكذب في الحديث. فتأثر الرجل باليهود والمزدكية ظاهر " (52).
وجاء بعده مجاهد بن جبر المحدث، ونشر حديث " المقام المحمود " (53)
____________
(51) الشيخ جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج 1 ص 100.
(52) نشأة الفكر الفلسفي، ص 289.
(53) عن مجاهد: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا "، قال: يجلسه أو يقعده على العرش.
يقول الذهبي لهذا القول طرق خمسة. وأخرجه ابن جرير في تفسيره، وعمل فيه المروزي مصنفا. أنظر العلو للعلي الغفار، ص 94.
ومقاتل بن سليمان هذا وغيره من أصحاب الحديث، غلوا كثيرا في التجسيم والتشبيه، فالله سبحانه وتعالى عما يصفون " جسم على صورة لحم ودم له شعر وعظم وجوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان وعينين ووجه وأضراس ولهوات. وقال بعضهم ما سمعنا بذكر الرأس ! ! وقال آخر لا تسألوني عن الفرج واللحية. وغير ذلك من الهرطقات التي سيحاول ابن تيمية - إمام السلفية المعاصرة - الدفاع عن بعضها، في محاولة لعقلنة هذا الحشو العقائدي الفظيع.
لقد أصبح التجسيم والتشبيه بعد هذا المحدث والمفسر الكبير مدرسة متكاملة اعتنق أفكارها بعض ممن جاء بعده من المحدثين والفقهاء، أمثال أبي عاصم حشيش بن صرم (المتوفى سنة 254 ه)، صاحب كتاب " الاستقامة " الذي دعم فيه القول بالتجسيم والتشبيه مستندا للكم الهائل من الإسرائيليات، سواء ما وجد في تفسير مقاتل بن سليمان أو ما يتداوله الرواة من أحاديث في هذا المجال، وعلى رأسها حديث المقام المحمود الذي أنكره المعتزلة وأهل السنة والجماعة من أشاعرة وماتريدية وقالوا إن المقصود بن الشفاعة.
أما الملطي صاحب كتاب " التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع " فإنه لم ينحرف قيد أنملة عمن سبقه في التجسيم والتشبيه.
لقد اندمج العوام مع هذه العقائد اندماجا كليا، لأن التجسيم والتشبيه أقرب لأفهامهم ومخيلاتهم من التنزيه. فالتفوا حول دعاة هذه العقائد وآزروهم وعظموا شأنهم، كما سيعتبرهم السلفيون سلفهم الخاص فيما بعد.
وإلى هؤلاء " الحشوية الأوائل " سيرجع الفضل في قيام تيار وحركة حشوية تجسيمية وتشبيهية كبرى في القرن الرابع مع أحد كبار المحدثين الحنابلة وهو
لقد تطورت فكرة التشبيه والتجسيم لدى أصحاب الحديث كما يرى الدكتور النشار. لتصل إلى الكشف عن إحدى الأفكار الهدامة التي راجت في الساحة الفكرية والدينية الإسلامية. وهي فكرة الحلول ولاتحاد حيث جوزوا ظهور الله سبحانه وتعالى في صور الأشخاص. وخصوصا الصور الحسنة منها، كما ذهب إلى ذلك سلمان الدمشقي. ولما جاء الحلاج المقتول بسيف الشرع (55) (سنة 309 ه) وتكلم في الحلول، اختلف الفقهاء والصوفية فيه " ولكن أجمع المتكلمون جميعا على تكفيره. اللهم إلا طائفة كبرى حشوية ومشبهة من الحنابلة، ثم فريق من السالمية فقد قبلوه.
يقول البغدادي " وقبله قوم من متكلمي السالمية بالبصرة ونسبوه إلى حقائق معاني الصوفية ولعل هذا يفسر تعصب السالمية له من ناحية والحنابلة من ناحية أخرى في بغداد وقيامهم بالشغب (56). ومع ظهور فرقة السالمية - نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن سالم البصري المتوفى (سنة 297 ه) - عرفت هذه الفكرة - أي الاتحاد والحلول - انتشارا واسعا، ولا شك أنها وليدة التجسيم والتشبيه كما أسلفنا.
وإلى جانب " السالمية " ظهرت فرقة أخرى تسمى " الكرامية " نسبة لمؤسسها
____________
(54) المقدسي، البدء والتاريخ، ج 5 ص 150، بتوسط نشأة الفكر الفلسفي للنشار.
(55) ذهب بعض المحققين قديما وحديثا إلى أن الحلاج قتل لأسباب سياسية متعلقة بمناصرته أو مشاركته في ثورة القرامطة.
(56) نشأة الفكر الفلسفي، م س، ص 293.
وإن كانت قد ملأت الدنيا ضجيجا إذ قدمت إلى العالم الإسلامي مذهبا فلسفيا، لا يتفق في أصوله وجزئياته مع عقيدة أهل السنة والجماعة (الأشاعرة والماتريدية)، بل لا يتفق مع عقائد فرق المسلمين الأخرى من شيعة ومعتزلة...
ولكن المذهب عاش في عهد مؤسسة في قلوب الألوف من البشر. وتناولته القرون من بعده، إما قبولا أو إنكارا، ثم إنه ما زال يعيش حتى الآن في دوائر سلف المتأخرين - الحنابلة - وهم يعدون بالملايين في عالمنا المعاصر الآن (57).
لقد كانت الكرامية مجسمة غالى صاحبها في إثبات العرشية والفوقية.
وأكد على أن الله جسم، لكن ليس كالأجسام. وإنه مستقر على العرش ومماس له، كما قال الكرامية بقيام الحوادث بذات الله. وجاءت بآراء ومعتقدات خالفت فيها الفرق الإسلامية جميعا وعلى رأسهم أهل السنة والجماعة.
إلا أن لهم رأيا متميزا يخص النبوة والنبي والرسول والمرسل. وقد قام الدكتور النشار بتخريج لطيف له. يربط بينه وبين عقيدة السلفية المعاصرة في موقفها من الرسول (ص) وقبره وشد الرحال إليه.
لقد ذهبت الكرامية إلى أن النبوة والرسالة عرضان حالان في النبي و الرسول، منفصلتان تمام الانفصال عن الوحي إليه، وعن ظهور المعجزات على يديه، وعن عصمته عن الخطأ والمعصية، فمن فعل الله فيه تلك الصفة وجب على الله تعالى إرساله... وتضع الكرامية تمييزا بين الرسول والمرسل فالرسول من حصل فيه " ذلك المعنى " وأنه يجب عليه الله أن يرسله إلى الناس رسولا
____________
(57) نفسه، ص 297.
ولكن ما هو السر الحقيقي في هذا التمييز عند الكرامية ؟.
أما التفسير الذي أراه أقرب للحقيقة - يقول النشار - فهو أن الكرامية كانت ترمي إلى غرض بعيد، وهو عدم إسباغ القداسة على الرسول في قبره، وعدم شد الرحال إليه، مخالفة في هذا رأي أهل السنة والجماعة، فقررت الكرامية أن النبوة والرسالة كانتا عرضين أو معنيين ألقاهما الله فيه أزلا، ثم أدى رسالته بمفهوم المرسل عند الكرامية، ثم انتهى علمه هو... انتهى الرسول والمرسل والرسالة باقية، فلا إسباغ للقداسة عليه. ويتضح هذا من موقف خلف الكرامية من حقيقة الرسول ووقوفهم أمام قبره. فهم إن تصادف وقوفهم أمامه يسلمون عليه ويقولون: " لقد أديت الرسالة "، ومن عدم اعتبار زيارة الرسول فرضا أو نفلا...
إن الغرض فقط هو حج الكعبة المقدسة، والنفل هل العمرة، إن الكلام كما نعلم أوثق اتصال بالفقه. وقد أثرت الكرامية في سلف المتأخرين، ونادى ابن تيمية بما نادى به الكرامية. واحتضن الحنابلة المتأخرون هذه الآراء، وظهرت على أقوى صورة لدى الوهابيين بعد وأصبحت جزءا من عقائدهم (58).
لقد عاشت الكرامية بعد موت مؤسسها، ثم تلقى المذهب عالم من أكبر علماء السلف وصوفي من أرق الصوفية، هو " الهروي الأنصاري " ثم احتضنها سلفي متأخر ومفكر من أكبر مفكري الإسلام وهو " تقي الدين بن
____________
(58) نفسه، ص 308 - 309 - 310.
لقد كانت البذرة الأولى للتشبيه إما وافدة على البيئة الإسلامية ضمن مؤامرة على عقيدة التوحيد الخالص. أو وليدة هذه البيئة نفسها، نتيجة سوء الفهم لبعض النصوص الإسلامية. لذلك فالحشو والتشبيه وما ينتهيان إليه من تجسيم، قد نبتا في صفوف المسلمين وصار لهما ممثلون بين الفرق المختلفة، فهناك حشوية بين أهل السنة وبين غلاة الشيعة، يظهرون في عصور مختلفة.
وهناك " حشوية مشبهة " تنتمي إلى الحنابلة وإن تبرأ منها محققوا الحنابلة أنفسهم (60). وهؤلاء هم الذين يطلقون على أنفسهم اليوم اسم " السلفية "، وهم في الحقيقة " حشوية الحنابلة ". ونسبتهم للحنابلة لأنهم يدعون أنهم على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل في الأصول والفروع. وسنناقشهم في الفصول القادمة حول هذه النسبة لنعرف حقيقة ومدى ارتباطهم بفكر ومنهج هذا المحدث الكبير.
يلاحظ القارئ أننا انتهينا إلى حقيقة مفادها، أن فرقة " السلفية المعاصرة " اليوم هي تيار حشوي له جذور عميقة في التاريخ الفكري للحشو وعقائده.
____________
(59) نفسه، ص 311.
(60) المدخل إلى علم الكلام، ص 77، مثل ابن الجوزي الذي ذم أصحابه الحنابلة لاعتقادهم
الحشو والتشبيه والتجسيم، انظر الفصول القادمة.