الصفحة 106
وقد ظهر أخيرا اختلال عجيب ومثير للجدل، عندما ظهرت معارضة سياسية خلفيتها الفقهية والأصولية المذاهب نفسها التي كانت تدعم السلطة فيما مضى، وبينهما علاقة أبوة وبنوة شرعية لا يشك أحد من المطلعين في ذلك.

والسبب في ذلك، دخول عناصر جديدة في الصراع لم تكن شاخصة للعيان فيما مضى.

السياسة وانتشار المذاهب الفقهية:

نرجع لنقول ولنؤكد حقيقة تاريخية وهي أن المذاهب الفقهية المحصورة اليوم عند أهل السنة والجماعة في مذاهب أربعة، قد نمت وترعرعت في ظل السلطة وتغذت بطعامها وشربت من مائها حد الارتواء. وسبب انتشارها وفرضها على الجماهير المسلمة إنما يرجع إلى تولي دعاتها والمؤمنين باجتهاد أصحابها لمناصب حكومية كان أهمها منصب القضاء. يقول الباحث أسد حيدر: " لقد اتضح لنا أن للحكومات دخلا في نصرة المذاهب وانتشارها.

فإذا كانت الحكومة قوية وأيدت مذهبا من المذاهب تبعه الناس بالتقليد، وظل سائدا إلى أن تزول الدولة. وانتشار المذاهب وعظيم الإقبال عليها لا يدل على قوتها الروحية وعواملها الذاتية. فقد رأينا أن قوة الدعاة وتدخل السلطة أقوى العوامل لنشر المذاهب، يقول شاة ولي الدهلوي: " وأي مذهب كان أصحابه مشهورين، وأسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس، ودرسوا درسا ظاهرا، انتشر في أقطار الأرض، ولم يزل ينتشر كل حين. وأي مذهب كان أصحابه خاملين. ولم يولوا القضاء والإفتاء ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين " (6).

والمذاهب الأربعة نفسها كانت تختلف في القوة والانتشار. فقد رأينا أن

____________

(6) أسد حيدر، م س، ج 1، ص 167، نقلا عن: حجة الله البالغة، الدهلوي، ج 1 ص 151.

الصفحة 107
المذهب الحنفي هو أكثر المذاهب انتشارا وأعظمها إقبالا، لقوة أنصاره وكثرة دعاته في البداية والنهاية. إذ كانت نواة شهرته من غرس أبي يوسف قاضي قضاة الدولة العباسية. فهو ناشر المذهب أو مؤسسه - إن صح لنا أن نقول ذلك - وقد كان أبو يوسف وجيها في الدولة، مقبولا عند الخلفاء له منزلة لا يشاركه فيها أي أحد. فكان لا يولي قاضيا إلا من انتسب لمدرسة أبي حنيفة. واستمر القضاة في نشر المذهب في جميع الأقطار، مستمدين قوتهم من السلطة التنفيذية، حتى أصبح مذهب أبي حنيفة هو المذهب الرسمي للدولة...

وقد رأينا انتصار العباسيين لمالك بن أنس - بعد غضبهم عليه - فقد أمروا بقصر الفتوى عليه، وأعلن ذلك بأمر الدولة، ونودي - غير مرة علنا - ألا يفتي الناس إلا مالك (7). وأمروا عمالهم باستشارته في الأمر وعدم القطع دونه، فهذا المنصور يقول مالك: إن رأيت ريبة من عامل المدينة أو عامل مكة، أو أحد عمال الحجاز، في ذاتك، أو ذات غيرك، أو سوء سيرة في الرعية، فاكتب إلي بذلك. أنزل بهم ما يستحقون، وقد أكتب إلى عمالي بها أن يسمعوا منك ويطيعوك في كل ما تعهد إليهم، فانههم عن المنكر وأمرهم بالمعروف تؤجر على ذلك. أنت خليق أن تطاع ويسمع منك (8)... وعلى أي حال فإن مالك بن أنس قد لحظته الدولة وقربته، إذ وجدت منه عونا ومؤازرة (9)، فقربوه وأحسنوا إليه، ورفعوا مجلسه، ونشروا علمه وأجزلوا له العطاء، وأصاب منهم ثروة طائلة ومع هذا فهم مدينون لمالك في مؤازرتهم

____________

(7) المرجع السابق، ج 3 ص 11، نقلا عن تذكرة الحفاظ، ج 1 ص 306.

(8) نفسه، ج 3 ص 11، نقلا عن مالك بن أنس، للخولي، ص 318.

(9) أنظر فتاوى مالك في أهل الأهواء والبدع، فكلهم في نظره كفار وأشدهم الروافض.

وهؤلاء: أصحاب الأهواء والبدع، والروافض كانوا في أغلبهم حركات سياسية ودينية مناهضة للحكم العباسي. مطالبة بالحكم نفسه (الروافض)، أو داعية إلى العدالة الاجتماعية والثورة على الإجحاف الاقتصادي والحرمان المادي.

الصفحة 108
ومعاونتهم والركون إليهم (10).

أما مذهب الشافعي فيكفينا قول السبكي وهو من فقهاء الشافعية، في طبقاته عن مصر والشام: " هذان الإقليمان مركز ملك الشافعية، منذ ظهر المذهب الشافعي، اليد العالية لأصحابه في هذه البلاد، لا يكون القضاء والخطابة في غيرهم. أما الشام فقد كان مذهب الأوزاعي حتى ولي القضاء أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقي الشافعي. ويقول: كان (محمد بن عثمان) رجلا رئيسا، يقال إنه هو الذي أدخل مذهب الشافعي إلى دمشق، وإنه كان يهب لمن يحفظ مختصر المزني منه مائة دينار " (11). كما نجد أن مذهب الشافعي ارتبط بكثير من المدارس الحكومية التي بنيت لتدريسه وأشهرها نظامية بغداد، وقد تخرج منها كبار فقهاء وعلماء الشافعية.

أما المذهب الحنبلي، وهو موضوع هذه الدراسة فإنه كان الأقل انتشارا بين المذاهب الفقهية لعوامل كثيرة سنعرض لها لاحقا. يمكن تلخيصها في خشونة أصحابه وإفراطهم في إشعال الفتن المذهبية، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كما يرون ويعتقدون. كما أن المذهب الحنبلي جاء متأخرا في تكوينه وتكامله، كما لم يعترف كثير من العلماء بكون أحمد بن حنبل فقيها، وإنما عرف لديهم كمحدث فقط. لذلك لم يتقدم أصحابه للقضاء ولم تعرض الحكومات عليهم هذا المنصب إلا في سنين متأخرة. كانت المذاهب الفقهية الأخرى قد انتشرت واستحوذ تقليدها على أغلب فئات العامة.

يقول ابن خلدون: أما أحمد بن حنبل فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض. وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظا للسنة ورواية للحديث

____________

(10) أسد حيدر، م س، ج 3، ص 12.

(11) المرجع نفسه، ج 3 ص 253.

الصفحة 109
وميلا بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن (12).

لذلك كان قليل الأتباع وكاد أن يندرس لولا أن تداركه ابن تيمية في القرن السابع. ومع محمد بن عبد الوهاب النجدي سيعرف هذا المذهب عصره الذهبي الآن، لكن ليس بعنوان المذهب الحنبلي وإنما تحت عنوان آخر هو " السلفية " حيث خصصت السلطات الحاكمة في نجد أموالا طائلة لنشر هذا المذهب وبعث كتبه والدعوة إليه.

ومهما يكن فقد استطاعت المذاهب الأربعة أن تخطوا خطوات في ساحة الرقي وتكتسب قيمتها المعنوية، لأنها كانت موضع عناية الخلفاء والولاة المتعاقبين. بالرغم مما رافقها من خلافات ومنافرات، فعناية السلطة تكسب الشئ لونا من الاعتبار والعظمة حسب نظام السياسة لا النظام الطبيعي.

فعوامل الترغيب ووسيلة القوة جعلتها تأخذ بالتوسع شيئا فشيئا، ولولا ذلك لما استطاعت البقاء حتى تصبح قادرة على مزاحمة غيرها (13).

إن السلطات الحاكمة على طول التاريخ الإسلامي لم تكتف بصناعة المذاهب ودعمها وتقويتها وفرض إتباعها على الجماهير المسلمة، ولكن حددت هذه المذاهب وحصرتها في أربعة ومنعت العامة من تقليد غيرها، وحذرت الخاصة من تجاوزها أو إنشاء مذاهب أخرى جديدة. أي منعت الاجتهاد وأغلقت بابه وجعلته حكرا على من مضى من " السلف " وفرضت على " الخلف " التقليد والامتثال، وحفظ مسائل وأجوبة هؤلاء الأئمة من السلف.

قال شهاب الدين الزنجاني الشافعي وأقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني الحنفي: إن المشايخ كانوا رجالا، ونحن رجال. فأوصل الوزير ما أجابوا به إلى المستعصم، وكان قد تولى الملك بعد أبيه المستنصر فأحضرهم أمامه، وطلب منهم جميعا أن يلتزموا ذكر كلام المشايخ ويحترموهم، فأجابوه

____________

(12) تاريخ العلامة بن خلدون، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1983 م، ج 3، ص 803.

(13) أسد حيدر، ج 1 ص 171.

الصفحة 110
جميعا بالسمع والطاعة، ورجع مدرسا الشافعية والحنفية عن اعتدادهما بأنفسهما...

وقال المقريزي: فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولى بمصر أربعة قضاة وهم: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي، فاستمر ذلك من (سنة 665 ه‍) حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه الأربعة. عملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها. وأنكر عليه ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها (14)...

وهكذا أخذ الشباب والكهول يواصلون الدراسة على المذاهب الأربعة في مثل هذه المدارس. ويسمعون في خلال دراستهم طعونا على أي مذهب آخر فيمتلئون حقدا على من لم يترك مذهبه لينتسب إلى أحد هذه المذاهب الأربعة (15).

____________

(14) يقول الدكتور عبد الدائم البقري الأنصاري: " منع الاجتهاد هو سر تأخر المسلمين. وهذا هو الباب المرن الذي عندما قفل تأخر المسلمون بقدر ما تقدم العالم. فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن أن يغير أو يبدل لأنه لاعتبارات سياسية منع الولاة والسلاطين الاجتهاد حتى يحفظوا ملكهم، ويطمئنوا إلى أنهم لن يعارضهم معارض، وإذا عارضهم أحد لأنه لا تخلو أمة من الأمم إلا وفيها المعلم النزيه والزعيم الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، فلن يسمع قوله لأن باب الاجتهاد قد أغلق. بهذا جمد التشريع الإسلامي الآن، وما التشريع إلا روح الجماعة وحياة الأمة ". أنظر الفلسفة السياسية للإسلام، ص 31.

ويقول أسد حيدر: هذه بعض الشواهد على عدم شرعية غلق باب الاجتهاد الذي حدث في ظروف خاصة ولمآرب سياسية، ولم تخضع الشيعة لحكم تلك الظروف، بل ساروا على طريق أهل البيت وأخذوا أحكام الإسلام عنهم وبقي الاجتهاد مفتوحا عندهم.

(15) المصدر السابق، ص 171 - 173.

الصفحة 111

أحمد بن حنبل وعصره:

عرف النصف الثاني من القرن الثاني، والنصف الأول من القرن الثالث أحداثا كثيرة ومتعاقبة، وهذه الفترة هي التي ولد فيها الإمام أحمد بن حنبل وتوفي فيها، حيث تبدأ بعصر خلافة المهدي وتنتهي عند المتوكل العباسي.

وما يميز هذه الفترة أنها كانت فترة ازدهار واستقرار للسلطة العباسية، وتبعها انتشار واسع للعلوم، حيث نشطت حركة التأليف والترجمة نشاطا متميزا.

وكثرت المناظرات في الأصول والفروع وصنفت في هذه الفترة أمهات المصادر في العلوم الدينية والطبيعية.

وقد واكب هذا الاستقرار السياسي - خصوصا بعد ما استقر الحكم للمأمون بعد انتصاره على أخيه الأمين - ازدهار في العمران، وامتدت الحضارة وتنعم أرباب المناصب والمقربون للسلطان بمباهج الحياة. ونعموا بخيرات البلاد وكانت لهم الثروات الطائلة. وعمرت مجالس العلم والأدب، وأمست دور الكبراء مدارس يغشاها أرباب الفكر وحملة الآثار والأشعار وقادة الفكر، وأمراء البلاغة والبيان، كما وقد تفنن أرباب النعيم وذوي الثراء في اتخاذ مجالس اللهو، - وتباروا في اقتناء المغنيات، وتنافسوا في شرائها بأغلى الأثمان - كما كانت بيوت الخلفاء مجالس للغناء والشراب، يتبارى فيها المغنون في إطراب الخلفاء وفي اتحافهم بكل صوت.

وقد احتفظت كتب الأدب بكثير من أخبارهم، فهم يتذوقون الغناء ويطربون عليه، ويجيزون المغنين ويصلونهم بأسنى الصلات. وكان معظمهم - أي الخلفاء - يحسن الغناء ويعرف أصوله. ويصنع أصواتا يغنيها هو أو يليقها على جواريه أو على المغنين، كما كان هارون والواثق أكثر ما كان في حاشيتهما من المغنين (16). وإذا كانت قصور الخلفاء وبيوتات ذوي الحضوة

____________

(16) أسد حيدر، م س، ج 2 ص 485.


الصفحة 112
تنعم في الترف والتنعم بملذات الدنيا، فإن ذلك كان يتم على حساب ملايين المحرومين والضعفاء ممن كان يرزح تحت ظلم الولاة والجباة الذين جعلوا من تلفيق التهم السياسية وسيلة لقتل الناس وأخذ أموالهم (17).

إلا أن ما ميز عصر أحمد بن حنبل هو ظهور فتن الشعوبية أو العنصرية، فإذا كان الفرس قد تغلبوا على العرب واستحوذوا على أغلب المناصب المهمة في الدولة بعد انتصار العباسيين، فإن عنصرا آخر سيدخل حلبة المنافسة ممثلا في العنصر التركي الذي استقدمه المعتصم (18). وسلمهم مقاليد الجيش فنما عددهم وقويت شوكتهم، فاشتدت محنة أهل بغداد وضايقوا أهلها. يقول المسعودي: " كانت الأتراك تؤذي العوام بمدينة السلام بجريها بالخيول في الأسواق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة أو شيخ كبير أو صبي أو ضرير، فعزم المعتصم على النقلة معهم... فلم يزل يتخير الأماكن من دجلة وغيرها حتى انتهى إلى الموضع المعروف بالقاطول فاستطاب الموضع (19).

لقد كره أهل بغداد مجيئهم إذ كانوا شؤما عليهم في حلهم وترحالهم، فلما أقاموا بينهم كانت خيولهم تصيب الضعفاء والمرضى، ولما رحلوا عنهم إلى القاطول ثم سامراء أثر ذلك أثرا سيئا في بغداد من حيث تجارتها وحضارتها... وأخذ المحدثون يضعون الأحاديث في ذم الترك تعبيرا عن شعورهم وشعور الناس، فرووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الترك أول من يسلب أمتي ما خولوا " وعن ابن عباس أنه قال: " ليكونن الملك - أو

____________

(17) ما زالت هذه الوسيلة يعمل بها في بعض الدول العربية وخصوصا في العراق، حيث يعدم بعض التجار وتستحوذ الدولة على ممتلكاتهم بمبررات سياسية واهية.

(18) يقال أن سبب استقدام المعتصم للأتراك هو أن أمه كانت من تلك الأصقاع التركية، فقد كانت من السفد واسمها ماردة، وكان في طباعه كثير من طباع هؤلاء الأتراك.

(19) أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب، دار المعرفة، بيروت 1983 م، ج 4 ص 53.

الصفحة 113
الخلافة - في ولدي حتى يغلب على عزهم الحمر الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة "... وكان مما فعله المعتصم متمما لاعتماده على الأتراك أن كتب إلى واليه على مصر كيدر، واسمه نصر بن عبد الله، يأمره بإسقاط من في الديوان من العرب، وقطع أعطياتهم (20).

وهذا الصراع القومي العنصري الذي عرفته الساحة الإسلامية في عصر أحمد سيكون له تأثيره الكبير على القضايا العلمية. كما أن شعور العرب بشكل عام بتراجع دورهم السياسي والاجتماعي والعسكري سيدفع البعض للقيام بحركة مناهضة، خصوصا على مستوى الفكر. حيث نشرت أحاديث متعددة في مدح العرب ونسبت إلى الرسول (ص) منها، قوله (ص): " أحب العرب لثلاث، لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان الجنة عربي ". وغيرها من الأحاديث التي تمجد العرب وترفع من شأنهم. وقد اعتبرت عروبة أحمد بن حنبل فيما بعد منقبة نشرها أصحابه واعتزوا بها، بل جعلها بعضهم إحدى المرجحات الأساسية لاتباع مذهبه.

ومن الأحداث المهمة الأخرى التي عايشها أحمد بن حنبل، بل وارتبط اسمه بها هذه المرة أكثر من غيرها. قضية أو فتنة " خلق القرآن " التي استطاع المعتزلة أن يقنعوا بها المأمون، فتبناها وحاول فرضها على الفقهاء والعلماء، خصوصا من كان منهم ضمن السلك القضائي أو في مدارس الدولة أو تحت إشرافها. ومسألة القول بخلق القرآن ليست وليدة عصر المأمون، فقد أعلنها أول مرة كما تقول كتب علم الكلام، الجعد بن درهم وقتل بسببها على يد خالد بن عبد الله القسري والي العراق في عهد الأمويين. وبقيت هذه الفكرة بعد مبتدعها في طي الكتمان حتى ازدهر الفكر الاعتزالي ونشطت حركته في العهد العباسي.

____________

(20) أحمد أمين، ظهر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 5، 1969 م، ج 1، ص 7 - 8.

الصفحة 114
والمعتزلة وإن كانوا يؤمنون بخلق القرآن ويعتقدون ذلك، فإن عدم مؤازرة خلفاء بني العباس قبل المأمون لهم كانت حاجزا يمنعهم من نشرها. كانت مسألة صفة كلام الله وارتباطها بخلق القرآن من أهم المسائل التي فجرها المعتزلة وعضدهم الخليفة المأمون، فدعوا الفقهاء وعلماء أهل الحديث إلى اعتناقها، فكانت المحنة التي أودت بحياة بعض الفقهاء والمحدثين. وتعرض البعض الآخر منهم للضرب والتنكيل والسجن، كان من بينهم أحمد بن حنبل الذي سيكشف زوال هذه المحنة زمن المتوكل على شهرته وزعامته لطائفة أهل الحديث.

وهناك قضايا أخرى أثارها المأمون وتبعه فيها من جاء بعده لكنها لم تشتهر عنه كما اشتهرت مسألة خلق القرآن. من هذه القضايا انتصاره للعلويين بعدما نكل بهم آباؤه وأجداده. فكان يحن إليهم ويصلهم بالعطايا، وسبب ذلك يرجع لحبه الإمام علي بن أبي طالب. فقد كان يحبه ويفضله على جميع الصحابة، وقد أمر مناديه أن ينادي بأن أفضل الخلق بعد رسول (ص) علي بن أبي طالب. وأن لا يذكر معاوية بخير (21). بل إن حبه للعلويين سيدفعه إلى محاولة إرجاع الخلافة لهم. فقد أخذ البيعة للإمام الرضا ثامن أئمة الشيعة الإمامية من بعده، رغم رفض الإمام (ع) لها. ومهما تكن الأسباب والدوافع الحقيقة لهذا الفعل، لكن أثره سيكون عميقا فيما بعد لأنه سيعضد فكرة اغتصاب الخلافة ودعوى الإمامية بأحقيتهم في الولاية والإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي (سنة 210 ه‍) أمر المأمون برد فدك إلى أولاد فاطمة عليها السلام وكتب بذلك إلى قتم بن جعفر عامله على المدينة كتاب

____________

(21) أسد حيدر، ج 3 ص 490. وفي سنة 313 ه‍ نادى منادي المأمون برأت الذمة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأمر بلعنه على المنابر فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة منه فأشير عليه بترك ذلك فأعرض عما كان هم به. أنظر مروج الذهب، ج 4.

الصفحة 115
يقول فيه:

" أما بعد فإن أمير المؤمنين بمكانته من دين الله وخلافة رسول الله، والقرابة به أولى من استن ونفذ أمره وسلم لمن منحه منحة وتصدق عليه بصدقة، منحته وصدقته بالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته وإليه في العمل بما يقربه إليه رغبته، وكان رسول الله (ص) أعطى فاطمة بنت رسول الله فدكا وتصدق بها عليها، وكان ذلك أمرا ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه بين آل رسول الله (ص) ولم تدعي منه ما هو أولى به من صدق عليه، فرأي أمير المؤمنين أن يردها إلى ورثتها، ويسلمها إليهم تقربا إلى الله بإقامة حقه وعدله، وإلى رسول الله بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه والكتاب به إلى عماله، فلئن كان ينادي في كل موسم بعد أن قبض الله نبيه أن يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة فيقبل قوله وتنفذ عدته. إن فاطمة لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله لها، وفد كتب أمير المؤمنين (أي المأمون) إلى المبارك الطبري مولاه، برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله بحدودها وجمع حقوقها المنسوبة إليها من الرقيق والغلاة... " (22).

وهذا الفعل من المأمون إنما هو طعن مباشر في ما رواه أبو بكر الصديق الخليفة الأول وصدقه عمر بن الخطاب عندما روى عن الرسول (ص) " نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة " فأخذا من فاطمة فدكا فخاصمتهما وماتت وهي غضبانة عليهما وأوصت بأن لا يحضرا جنازتها، فعمل الإمام

____________

(22) البلاذري، فتوح البلدان، ص 46، بتوسط أسد حيدر. وقد سبقه في ذلك الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، فقد رد فدك إلى أبناء فاطمة، وهذا العمل والفعل من الخليفتين إنما هو رد على أبي بكر وعمر ورفض لادعائهما بورود حديث نبوي جاء به أبو بكر من أن الأنبياء لا يورثون وما تركوه صدقة. ولا شك أن فعلهما طعن مباشر في صدق الصحابيين وعدلهما، وهذا يؤكد ويعضد دعوى الإمام علي وفاطمة والشيعة الإمامية كافة في حق فاطمة واغتصاب الخليفتين فدكا منها ظلما وعدوانا أو اجتهادا خاطئا كما يحلو للبعض أن يعبر عنه.

الصفحة 116
علي بوصيتها ودفنها ليلا.

إن الانتصار لأبناء علي واحترامهم من طرف المأمون والمعتصم والواثق سيغير من نظرة المجتمع نحوهم وهذا سيظهر جليا عندما سيعلن الإمام أحمد بن حنبل التربيع بعلي، أي كونه الخليفة الرابع، فقد كان جل أهل الحديث قبله عثمانية لا يعترفون بخلافة الإمام علي. وهذه من عقائد الأمويين التي تسربت لأهل الحديث فاعتنقوها ودافعوا عنها حتى نقضها أحمد، يقول وزيرة بن محمد الحمصي: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي رضي الله عنه فقلت: يا أبا عبد الله إن هذه اللفظة توجب الطعن على طلحة والزبير فقال: بئس ما قلت وما نحن وحرب القوم وذكرها ؟

فقلت أصلحك الله إنما ذكرناها حين ربعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمة قبله. فقال لي: وما يمنعنا من ذلك ؟ قال: قلت: حديث ابن عمر: فقال لي: عمر خير من ابنه قد رضي عليا للخلافة على المسلمين و أدخله في الشورى. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قد سمى نفسه أمير المؤمنين فأقول أنا ليس بأمير المؤمنين ؟ فانصرفت عنه. (23).

وهذا الحوار الذي دار بين أحمد وبين أحد أصحابه من أهل الحديث، يظهر لنا مدى الانحراف الذي أصاب الإسلام، حتى يعترف رجال الحديث بخلافة ابن الطليق معاوية بن أبي سفيان الذي يشك أهل التحقيق في إيمانه.

وقد أمر المأمون بلعنه لما وصل عنه من أخبار تنم عن كفره. لكنه الحشو وعقائده التي جعلت من الكافر مؤمنا ومن المؤمن فاسقا، لذلك نعتقد أن حركة المأمون هذه لرد الاعتبار للعلويين ولأئمتهم ولفاطمة الزهراء عليها السلام قد جعلت بعضا من رجال الحديث يعيدون النظر في معتقداتهم وما يرووه في مدح خصوم أهل البيت وتقديمهم. وقد قام أحمد بن حنبل

____________

(23) ابن أبي يعلى الفراء، طبقات الحنابلة، المكتبة العربية. دمشق ط 1، ص 359.

الصفحة 117
بنصرة القول بخلافة الإمام علي وصحتها. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: من لم يربع بعلي بن أبي طالب في الخلافة فلا تكلموه ولا تناكحوه (24).

وإذا كان أحمد قدر اشتهر أمره بعد ذلك وعلت مكانته، حتى أن من أنكر عليه أحمد نبذه الناس، ومن مدحه أقبل عليه الناس وعظموه، فإن قوله بالتربيع واعتقاده به جعل بقية المحدثين يهابون معارضته في ذلك. فقل القول بخلاف ذلك، وتراجع مع الزمن حتى ساد القول بالتربيع لدى أغلب المحدثين بعد ذلك، وإلى يومنا هذا.

وإذا كان المأمون قد أعاد الاعتبار للعلويين وقربهم ورفع بعض الظلم عنهم فإن المتوكل، قد عرف ببغضه لأهل البيت ومطاردته لمحبيهم، وقتل زعمائهم.

وكان لا تأخذه في ذلك رحمة، ولا يمنعه خوف من الله. ومن يتهم بميله للعلويين فإن مصيره القتل أو السجن المؤبد. حتى ظهر النصب في عصره وانتشر بغض أهل البيت في أيامه، وتقرب الكثير بذم أهل البيت ومحبيهم، طلبا لرفده وطمعا في صلته (25).

وقد سعي بأبي الحسن علي بن محمد - الإمام العاشر (ع) - إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحا وكتبا وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره، فوجده في بيت وحده مغلق عليه وعليه مدرعة من شعر، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى وعلى رأسه ملحفة من الصوف متوجها إلى ربه يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأخذ على ما وجد عليه، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه. ولا حالة يتعلل عليه

____________

(24) المرجع نفسه، ص 22.

(25) أسد حيدر، ج 2 ص 497.

الصفحة 118
بها، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني منه، فعافاه. وقال: أنشدني شعرا أستحسنه. فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني فأنشده:

باتوا على قلل الجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا * فأصبحوا بعد الأكل قد أكلوا
وطالما عمروا دورا لتحضنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفرا معطلة * وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

قال: فأشفق كل من حضر على علي، وظن أن بادرة تبدو منه إليه (26).

في هذا العصر ولد أحمد بن حنبل وشب واشتغل بالعلم وطلب الحديث.

ولما انفجرت فتنة خلق القرآن كان أحد أبطالها الذين صبروا على ما ابتلوا به، ولما انفرجت الأزمة، اشتهر أمره وعقدت له زعامة أهل الحديث. ولما توفي اصطنع له مذهب في الأصول والفروع ودعي العامة إلى تقليده، وانتصر له بعض العلماء ممن سينسبون إلى مذهبه، وسيسمون ب‍ " الحنابلة ". وأضيف مذهبه إلى باقي المذاهب الفقهية التي انتشر تقليدها بين الجماهير المسلمة طيلة قرون خلت وإلى الآن.

***

____________

(26) مروج الذهب، ج 4 ص 93 - 94.

الصفحة 119

أحمد بن حنبل حياته ونبوغه العلمي

مولده ووفاته:

هو الإمام أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني ثم المروزي ثم البغدادي، حملت به أمه بمرو وقدمت بغداد وهي حامل به فولدته في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة وكان أبوه محمد والي سرخس، وكان من أبناء الدعوة العباسية (27). توفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه. قال صالح عن أبيه:

فثقبت أذني وجعلت فيها لؤلؤتين فلما كبرت دفعتهما إلي فبعتهما بثلاثين درهما.

توفي أبو عبد الله أحمد بن حنبل يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين وله من العمر سبع وسبعين سنة رحمه الله (28).

ودفن بباب حرب في الجانب الغربي، وصلى عليه محمد بن طاهر. وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به (29). وقد حضر جنازته خلق من الناس لم ير مثل ذلك اليوم والاجتماع في جنازته من سلف قبله. وكان للعامة فيه كلام كثير جرى بينهم بالعكس والضد في الأمور: منها أن رجلا منهم كان ينادي:

إلعنوا الواقف عند الشبهات، وهذا بالضد عما جاء عن صاحب الشريعة عليه السلام في ذلك. وكان عظيم من عظمائهم ومقدم فيهم يقف موقفا بعد موقف أمام الجنازة وينادي بأعلى صوته:

____________

(27) الشيخ محمد جميل المعروف بابن الشطي، مختصر طبقات الحنابلة، دار الكتاب العربي، بيروت ط 1 1986 م، ص 8.

(28) ابن كثير، البداية والنهاية، ج 10 ص 340.

(29) مختصر طبقات الحنابلة، ص 14.

الصفحة 120

وأظلمت الدنيا لفقد محمد * وأظلمت الدنيا لفقد ابن حنبل

يريد بذلك أن الدنيا اظلمت عند وفاة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنها أظلمت عند موت بن حنبل. كظلمتها عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم (30) وقال رجل يكنى بأبي جعفر: دفنا اليوم سادس خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل (31).

أما الوركاني جار أحمد فقد ادعى أنه: أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألف من اليهود والنصارى والمجوس. قال السبكي في طبقاته الكبرى وذكر هذه الرواية وفي لفظ عشرة آلاف قال شيخنا الذهبي: وهي حكاية منكرة تفرد بها الوركاني والراوي عنه، قال والعقل يحيل أن يقع مثل هذا الحادث في بغداد ولا يرويه جماعة تتوفر دواعيهم على نقل ما هو دونه بكثير. وكيف يقع مثل هذا الأمر ولا يذكره والمروذي ولا صالح بن أحمد ولا عبد الله ولا حنبل الذين حكوا من أخبار أبي عبد الله جزئيات كثيرة. قال فوالله لو أسلم يوم موته عشرة أنفس لكان عظيما ينبغي أن يرويه نحو من عشرة أنفس (32).

وكثير من مثل هذه الأساطير والمبالغات سينسجها العوام حول حياة أحمد بن حنبل وورعه وعلمه ومذهبه، في الأصول والفروع مما لم يعرف مثله باقي الأئمة قبله. وسنعرض لها لاحقا، لأن بعضها سيصبح معتمد الحنابلة ليس فقط في ترجيح المذهب على غير ولكن في الحكم على من خالف أصول المذهب أو فروعه بالخروج عن الإسلام ككل.

____________

(30) مروج الذهب، ج 4 ص 102.

(31) المدخل إلى دراسة الأديان والمذاهب، ص 198. نقلا عن حلية الأولياء (32) طبقات الحنابلة، ص 9، الهامش.

الصفحة 121

رحلته العلمية وشيوخه:

ذكر المؤرخون أن بداية طلب أحمد للعلوم ترجع إلى سنة 179 ه‍. وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث (33). يقول عباس الدوري: سمعت أحمد يقول: أول ما طلبت إختلفت إلى أبي يوسف القاضي (34). أما أول شيخ تلقى عليه العلم فهو هشيم بن بشير السلمي (35). المتوفى سنة 183 ه‍، أبو معاوية الواسطي نزل بغداد وكان مدلسا. استغرقت دراسة أحمد على هشيم ثلاث سنوات أو أكثر. وقد رحل أحمد في طلب الحديث إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والعراق، وممن تلقى عليهم: سفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعيد، ويحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة 198 ه‍. ووكيع المتوفى سنة 196 ه‍. وابن علية المتوفى سنة 193 ه‍. وابن مهدي المتوفى سنة 198 ه‍.

وعبد الرزاق ابن همام المتوفى سنة 211 ه‍، وجرير بن عبد الحميد المتوفى سنة 188 ه‍، وغيرهم. واجتمع أحمد بالشافعي وأخذ عنه الفقه وأصوله، وبدأت علاقاته به في سنة 190 ه‍، حين قدم الشافعي بغداد. ودام هذا الاتصال إلى سنة 197 ه‍. وهي السنة التي توجه فيها الشافعي إلى مكة (36).

وإذا كان القاضي أبو يوسف أول شخصية تلقى أحمد على يديها دروسها الأولى، فإن شيخه هشيم بن بشير هو الذي تولى الاهتمام به ووجهه نحو

____________

(33) البداية والنهاية: ج 10 ص 340.

(34) محمد بن إبراهيم اليماني، العواصم والقواصم، مؤسسة الرسالة، بيروت ط 2، 1992 م، ص 234.

(35) كان هشيم بخاري الأصل، وقد أقام أبوه في واسط، وكان طباخا للحجاج بن يوسف، ولما انتقلت أسرته إلى بغداد كان يصطنع هذه الصناعة. فلما نزع ابنه منزع العلم لم يكن ذلك مألوفا في أسرته. وقد تلقى هشيم عن بعض التابعين كعمر بن دينار والزهري والمغيرة بن المقسم وغيرهم. وقد اختص به أحمد مدة طويلة قبل أن يتصل بالشافعي.

(36) أسد حيدر، ج 4، ص 473.

الصفحة 122
السنة وجعله أحد طلابها. ومؤرخو الحنابلة يخلطون في ذكر شيوخ أحمد، ويجعلون بعضهم من تلامذته كالشافعي ويزيد بن هارون والحسن بن موسى الأشيب وغيرهم. وأغلب هؤلاء المشايخ كانوا من رجال الحديث. إلا أبو يوسف فهو من أهل الفقه والقياس، وصاحب أبي جنيفة ومؤسس مذهبه وناشره. وقد كان لأحمد بن حنبل مشايخ وأساتذة آخرون من الشيعة، حيث كانت له صلة ببعضهم فأخذ عنهم رغم أن الجو العام كان مشبعا بالعداء للشيعة أو الروافض كما كان يطلق على بعضهم.

يحدثنا الخطيب البغدادي، أن عبد الرحمان بن صالح الشيعي (37) كان يغشى أحمد بن حنبل فيقربه أحمد ويدنيه، فقيل له: يا أبا عبد الله عبد الرحمان رافضي ؟. فقال سبحان الله ! رجل أحب قوما من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله نقول له لا تحبهم: هو ثقة (38).

أما العلماء الذين أخذ عنهم أحمد، فقد ذكر علماء الرجال كثيرا من رجال الشيعة كانوا من شيوخ أحمد، وكذلك ذكرهم ابن الجوزي في مناقب أحمد منهم.

1 - إسماعيل بن أبان الأزدي أبو إسحاق الكوفي، المتوفى سنة 205 ه‍. وهو من شيوخ البخاري وابن معين أيضا.

2 - إسحاق بن منصور السلوي أبو عبد الرحمن الكوفي، المتوفى سنة 205 ه‍، وقد خرج حديثه أصحاب الصحاح الستة.

3 - تليد بن سليمان المحاربي أبو سليمان الكوفي، المتوفى سنة 190 ه‍. روى

____________

(37) هو عبد الرحمن بن صالح أبو محمد الأزدي، المتوفى سنة 230 ه‍. كان من أهل العلم.

سكن بغداد وكتب عنه أهلها، قال محمد بن موسى: رأيت يحيى بن معين جالسا في دهليز عبد الرحمن غير مرة، يخرج إليه أجزاء يكتب منها عنه. وقال يحيى: عبد الرحمن بن صالح ثقة صدوق شيعي، لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يكذب في نصف حرف.

(38) تاريخ بغداد، ج 10، ص 260.

الصفحة 123
له الترمذي في صحيحه وقال أحمد: إن مذهبه التشيع ولم أر به بأسا.

4 - الحسين بن الحسن الفزاري أبو عبد الله الأشقر الكوفي، المتوفى سنة 208 ه‍، خرج حديثه النسائي.

5 - خالد بن مخلد القطواني أبو الهيثم، المتوفى سنة 213 ه‍، كان من كبار شيوخ البخاري وخرج حديثه في صحيحه، ومسلم والنسائي ومالك بن أنس في مسنده.

6 - سعيد بن هيثم بن رشد الهلالي أبو معمر الكوفي، المتوفى سنة 180 ه‍، خرج حديثه الترمذي والنسائي وابن ماجة.

7 - عبد الله بن داود أبو عبد الرحمان الهمداني، المتوفى سنة 212 ه‍، خرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي وقال فيه أحمد، هو أثبت من شريك وقال ابن سعد: كان ثقة يرحل إليه.

8 - عبيد الله بن موسى العبسي أبو محمد الكوفي، المتوفى سنة 213 ه‍، صاحب المسند خرج حديثه أصحاب الصحاح الستة.

9 - عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211 ه‍، من كبار شيوخ أحمد والبخاري خرج حديثه أصحاب الصحاح.

10 - عباد بن العوام بن عمر بن عبد الله بن المنذر الواسطي، المتوفى سنة 185 ه‍، قال ابن سعد: كان يتشيع وكان من نبلاء الرجال. وقد حبسه الرشيد زمانا ثم خلى عنه وأقام ببغداد وسمع منه البغداديون وهو من رجال الصحاح الستة.

11 - محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، أبو عبد الرحمان الكوفي، المتوفى سنة 195 ه‍، وهو مصنف كتاب الزهد والدعاء، قال أحمد بن حنبل: محمد بن فضيل حسن الحديث شيعي. وخرج حديثه أصحاب الصحاح.

12 - عائد بن حبيب الملاحي، المتوفى سنة 190 ه‍، بياع الأقمشة الهروي خرج له النسائي وابن ماجة.

الصفحة 124
13 - علي بن غراب الفزاري أبو الحسن الكوفي، المتوفى سنة 184 ه‍، سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: حديثه حديث أهل الصدق. وخرج حديثه النسائي وابن ماجة.

14 - علي بن هاشم بن البريد العابدي، مولاهم أبو الحسن الكوفي المتوفى سنة 180 ه‍، خرج حديثه البخاري في الأدب المفرد. ومسلم في صحيحه والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داود.

15 - علي بن الجعد أبو الحسن الهاشمي مولاهم البغدادي الجوهري المتوفى سنة 230 ه‍، روى له البخاري وغيره.

16 - الفضل بن دكين المعروف بأبي نعيم، المتوفى سنة 219 ه‍، من رجال الصحاح الستة، وهو شيخ البخاري وأحمد وابن معين وإسحاق قال فيه أحمد: الفضل ثقة يقضان عارف بالحديث.

17 - محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر أبو أحمد الأسدي الزبيري مولاهم المكي، المتوفى سنة 202 ه‍.

وقد نص ابن قتيبة في معارفه على تشيع جماعة هم من كبار شيوخ أحمد أمثال: يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة 198 ه‍، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 ه‍ وحميد بن عبد الرحمن الرواسي المتوفى سنة 190 ه‍ وهيثم بن بشير الواسطي المتوفى سنة 183 ه‍، وغيرهم (39).

كما أن الإمام أحمد أخذ العلم عن الجماعة من تلامذة الإمام الصادق عليه

____________

(39) ابن قتيبة، المعارف، ص 325. أنظر هذا العدد من مشايخ الإمام أحمد من الشيعة وهو يعرفهم، ويأتي بعده الحشوية ممن يدعي الانتساب إليه ليقول بأن الشيعة يهود سبئيون فكيف غاب عن أحمد ذلك ؟ وكيف اتخذ شيوخا وأساتذة ممن يأخذ عقائده من اليهود وابن سبأ، وقد ذكر أحمد حينما عيب عليه تقريبه لعبد الرحمن بن صالح الشيعي كونه رافضي فرد أحمد قائلا كما يروي البغدادي: أنه رجل أحب قوما من أهل بيت النبي وهو ثقة. وهذا يلقي الضوء على عقائد هؤلاء المحدثين وأنهم كانوا يطلقون لقب الرافض على كل من أحب أهل البيت فلسنا ندري هل كانوا هم يبغضونهم أم ماذا !.

الصفحة 125
السلام والمنتمين لمدرسته، أمثال إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن الزهري المتوفى سنة 183 ه‍، وإبراهيم بن زياد المتوفى سنة 228 ه‍، وجرير بن عبد الحميد المتوفى سنة 188 ه‍، ومكي بن إبراهيم المتوفى سنة 215 ه‍، والضحاك بن مخلد الشيباني أبو عاصم النبيل المتوفى سنة 231 ه‍، وغير هؤلاء، عدد كبير من الذين عرفوا بالتشيع وانتسبوا لمدرسة أهل البيت (40).

ومعرفة أحمد بن حنبل وأخذه عن هؤلاء الأعلام من محدثي الشيعة وأعلامهم، قد يكون السبب في معرفة أحمد بالتشيع واطلاعه على فضائل الإمام علي ومظلوميته، فكان أن اتخذ موقفا متميزا بخصوصه حيث أعلن التربيع، أي الاعتراف بالإمام علي كخليفة شرعي رابع بعد الخلفاء الثلاثة.

وهذا الكلام قد لا يفهمه بعض أبناء الصحوة اليوم فإنهم درجوا على معرفة الخلفاء الأربعة، وأنهم الخلفاء الراشدون، ولم يعلموا أن أغلب المحدثين من غير الشيعة كانوا لا يرونه خليفة، وذلك تماشيا مع عقائد ملوك بني أمية، وبعض ملوك بني العباس الذين رفضوا خلافته عليه السلام.

أولا لأن الإيمان بخلافته يدعم ما تذهب إليه طوائف الشيعة المعارضة للحكم الأموي والعباسي، ثانيا الإيمان بخلافته يفتح الباب واسعا للطعن على معاوية، وسحب الشرعية منه ومن جميع ملوك بني أمية والعباسيين من بعدهم. مما قد يفتح الباب على مصراعيه، ليس لنقاش مشكلة الشرعية الدينية لدى الأسرتين الأموية والعباسية. وإنما قد تطال خيوط هذه المشكلة خلافة الخلفاء الثلاث الأول. لذلك كان أغلب المحدثين عثمانية وأموية، وخصوصا الحشوية منهم. ولما جاء أحمد بن حنبل واشتهر أمره وعرفت عقيدته تمكن بذلك أن يعلن التربيع، وأن يعتبر الإمام علي الخليفة الرابع، ولم يستطع أحد أن يقف في وجهه فانتشر ذلك وعم. حتى أصبح جزءا من عقائد القوم بعدما

____________

(40) أسد حيدر، ج 2، صفحات 503، 504، 505، 506.

الصفحة 126
كان هذا الاعتراف محسوبا من عقائد طوائف الشيعية فقط.

بل إن أحمد بن حنبل قد اتخذ موقفا صارما ممن لا يرى خلافة الإمام علي، عندما قال: من لم يربع بعلي بن أبي طالب في الخلافة فلا تكلموه ولا تناكحوه. وبذلك انقمع كثير من أهل الحديث عن مقالتهم التي كانوا يعتقدونها. فطمس ذلك واندثر ونسي، حتى لقد جاء بعدهم من اعتبر القول بشرعية وصحة خلافة الخلفاء الأربعة من أصول أهل السنة والجماعة. مبتدع من خالفها، يخاف عليه أن يسقط في الكفر وتلفظه جماعة المسلمين.

ولأحمد بن حنبل موقف آخر يخص الإمام علي وأهل بيته، عندما روى لهم في مسنده، وتتبع فضائلهم، بل خصهم بتأليف خاص بهم سماه مسند أهل البيت. كما أنه تجرأ في رواية فضائل الإمام علي وأعلنها... فعن محمد بن منصور الطوسي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول ما روي في فضائل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأسانيد الصحاح ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (41).

وقد أثارت رواياته عن علي بن أبي طالب بعض الاعتراضات لدى من كان متشبعا بعقائد الأمويين. قال محمد بن منصور الطوسي: كنا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل يا أبا عبد الله ما تقول في الحديث الذي روي أن عليا قال: أنا قسيم النار فقال: وما تنكرون من ذا ؟ أليس روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ؟ قلنا: بلى قال: فأين المؤمن ؟ قلنا: في الجنة قال: فأين المنافق ؟ قلنا في النار قال: فعلي قسيم النار (42).

إن هذا الكلام له خطورته التي سيلتفت إليها البعض. فإن القول بصحة هذا الحديث يعني الطعن على معاوية بن أبي سفيان مباشرة، وهو أحد كبار

____________

(41) طبقات الحنابلة، ص 335.

(42) المرجع نفسه، ص 232.

الصفحة 127
المبغضين لعلي وقد أمر بلعنه، ولعنه الأمويون (80 سنة) باستثناء عمر بن عبد العزيز الذي أبطل في عهده هذا التقليد.

كما ويتم الطعن في عدد من الصحابة الذين حاربهم الإمام علي واشتهروا ببغضهم إياه، وأهل بيته. ولا ننسى أن المتوكل نفسه كان يعلن بغضه للإمام علي، واعتبره بعض المؤرخين ناصبيا خالصا وهو في حكم الكافر.

وقد روي عن أحمد بن حنبل غير ذلك بخصوص الإمام علي، قال عبد الله: قلت لأبي (أحمد بن حنبل) ما تقول في التفضيل ؟ قال في الخلافة:

أبو بكر وعمر وعثمان، فقلت: فعلي ؟ قال: يا بني علي بن أبي طالب من أهل البيت لا يقاس بهم أحد. وعنه أيضا قال: كنت بين يدي أبي جالسا ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخية، فذكروا خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، وخلافة علي بن أبي طالب، فزادوا وأطالوا، فرفع أبي رأسه إليهم فقال: يا هؤلاء قد أكثرتم القول في علي والخلافة. إن الخلافة لم تزين عليا بل علي زينها (43).

ليس معنى هذا أن أحمد بن حنبل كان علويا، أو يرى أحقية علي بن أبي طالب في الخلافة دون غيره، أو مثل أبي حنيفة الذي كان هواه مع الثوار العلويين في عصره. لقد كان أحمد عباسي الميل السياسي، ويرى أن العباس

____________

(43) مناقب أحمد لابن الجوزي، ص 163. يقول صاحب العواصم والقواصم: " هذا دليل على شدة موالاته لأهل البيت وقيامه بحق القرابة. وقد وصفه بذلك الإمام المنصور بالله، فقال في المجموع المنصوري في الدعوة العامة إلى جيلان وديلمان ما لفظه: وأما أحمد بن حنبل، فيكفيك في الاستقصاء عن أمره أنه ذكر له الحديث المطرق بعلي بن موسى بن جعفر، قال: أخبرني موسى العبد الصالح عن أبيه جعفر بن محمد الصادق باقر علم الأنبياء، عن أبيه علي بن الحسين زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه علي بن أبي طالب سيد العرب، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأولين والآخرين، أنه قال:

الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ". فذكر هذا السند لأحمد بن حنبل فقال: " لو قرئ هذا على مجنون لبرء من جنونه " انظر ج 4 ص 259.

الصفحة 128
أبو الخلفاء ولم يخلع طاعتهم رغم ما تعرض له من تنكيل ومضايقة من طرف ثلاثة ملوك منهم، (المأمون والمعتصم والواثق). لكن موقفه من المتوكل كان فيه بعض التناقض فهو وإن كان يؤمن بشرعية خلافته وضرورة إطاعته والتسليم له، إلا أنه كان يرفض صلاته ويفر منها فراره من الأسد. بل كان ينهى أهله وأقاربه وخصوصا ابنه عبد الله عن أخذ ما يبعثه المتوكل من أموال، ولقد اعتبر ذلك شدة ورع منه وتجنبا للحرام ؟ !.

إن هذا الموقف لأحمد من علي بن أبي طالب عليه السلام وأهل بيته والذي بدا معتدلا ومتميزا في تلك الفترة، التي كان بغض علي وأهل بيته رائجا فيها ومما يتقرب به إلى الخلفاء، قد جعل بعضا من علماء الشيعة وعامتهم ينظرون إليه بنوع من الاحترام. وقد ذكر لنا التاريخ أن بعضا من الهاشميين قد شارك في جنازته وتغسيله وتشيعه حتى قال بعضهم: لقد غلبنا على تغسيل أحمد الهاشميون.

طبعا يجب الانتباه إلى شئ مهم، وهو أن مواقف أحمد بن حنبل جاءت بعد شهرته وانتشار صيته، وبعدما أصبحت له مكانة خاصة لدى السلطان والعامة. فلم يكن لأحمد شهرة تذكر قبل انفراج الأزمة، لوجود عدد من كبار المحدثين، من هم شيوخه وأساتذته. كما أن محنة خلق القرآن التي تورط فيها المعتزلة لم تكن لتخص أحمد بن حنبل بن طالت عددا كبيرا من الفقهاء والمحدثين، ومنهم من قدم حياته جراء موقفه المخالف. ومنهم من نكل به وضرب وسجن ومات في السجن، ومنهم من لم يفرج عنه إلا زمن المتوكل.

وبما إن اسم أحمد وشهرته قد ارتبطت بهذه المحنة، وغالى الحنابلة في وصفها وأنشأوا القصص والأساطير حولها، وكثرت المبالغات، صبوا جلها في رافد مذهب إمامهم، وجعلوا ذلك مقياسا للأفضلية والاتباع. فسنعرض لهذه المحنة حتى نعرف مكانة أحمد بن حنبل فيها. كما دونتها وقائع التاريخ العام بعيدا عن الغلو والزيادات التي عرف بها أتباع المذهب الحنبلي ماضيا وحاضرا.