والسلفية اليوم في إطلاقهم وصف الابتداع الضلال على الصوفية وأهل الطرق ليسوا مجتهدين وإنما مقلدة، يقلدون رأي إمامهم ابن تيمية فهم يصدرون عن رأيه وفتاويه ويحاكمون بها هؤلاء الطرقيين، وهذا لعمري إشكال يظهر تناقضا فظيعا في للفصل في هذه القضية. لذلك قلنا سابقا إن للشيخ الحراني إزاء التصوف مواقف متناقضة وأراء غامضة. فاتباعه يضللونهم ويبدعونهم - أي الصوفية - بل يكفرون قسما كبيرا منهم، ويتهمون قسما آخر بالوقوع في الشرك وعبادة القبور، في الوقت نفسه الذي نجد البعض من أهل الطرق والصوفية يستنجد بكلام الشيخ نفسه وفتاويه لإبراء ساحة أصحابه مما يصفهم به أتباع الشيخ " السلفية الوهابية ".
ينقل عبد الحفيظ المكي نصا لابن تيمية ينتصر فيه لطريقة أصحابه - الصوفية - وينزهم عن الابتداع والكفر والشرك. ويطلب من المنتسبين إلى السلفية وإلى شيخ الإسلام ابن تيمية على حد تعبيره، أن يلاحظوا ويقرأوا قول إمامهم: يقول ابن تيمية في الفتاوي: فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام. وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وكلا في طرفي هذه الأمور ذميم والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله. ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، والمقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أولا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه (55).
____________
(55) المرجع السابق، نقلا عن المكي، ص 206.
وإذا أراد الباحث أن يحقق في الأمر ليرسو على بر، سيجد أن مصدر هذا التناقض الواقعي بين الأتباع والخصوم، إنما مصدره كتابات الشيخ الحراني ومواقفه العملية. فقد ذكرنا سابقا أنه قد دارت بينه وبين الصوفية ملاحم وفتن خصوصا لما كان منفيا، كما أن رأيه في ابن عربي والحلاج صريح فهو يكفر ابن عربي، وهو من هو في التصوف وتاريخ القوم. كما ذم طريقة الغزالي وكان كثير التعرض له والوقوع فيه.
كل هذا إلى جنب ما خطه يراعه في كتبه والتي ينبعث منها الهدوء والوصف الموضوعي والمعالجة العلمية الرصينة. ونعتقد إن ذلك مرده إلى نفسية الشيخ وطبعه فقد كانت تنتابه حدة ومزاج عصيب فينزل على خصومه لا يرى لهم في الحق نصيبا يذكر، وربما كتب أو أفتى وهو متزن المزاج هادئ البال فيكون منه خلاف ما نطق أو أفتى به في حاله الأول.
هذا من جهة أخرى فقد يلقي هذا التناقض الكبير في مواقف الشيخ وكتاباته ظلالا من الشك في كل ما ينسب إليه من رأي وضده. على اعتبار أن التعارض يفضي إلى التساقط. وعليه فإن كلا من السلفية والصوفية ليسوا على شئ في ما يدور بينهم من حرب ضروس. وإن كانت كفة أهل التصوف راجحة لأنهم في موقف من يدافع على نفسه أمام الهجوم السلفي الذي يصدر عن فتاوى الشيخ وآرائه ليضع القوم في خانة الابتداع والضلال أو الكفر.
البوطي يرد على ابن تيمية والسلفية:
وقد انتبه لهذا التناقض والخلط في كتابات ابن تيمية ومواقفه الدكتور البوطي وهو يعالج بعضا مما اختلف فيه الشيخ مع أهل السنة في العقائد وكذا
ولكن الدكتور البوطي الذي يقف حائرا أمام هذا التناقض في كلام شيخ الإسلام لا يجد بدا من الرد عليه وعلى تلامذته منتصرا للتصوف وطرائقه، عندما أخد على نفسه أن يعالج جذور الصراع بين هؤلاء السلفية والمتصوفة.
يقول البوطي: إن هناك أعمالا ومسالك تربوية كثيرة أخرى يأخذ بها بعض الناس أنفسهم، أو يسلكون فيها تلامذتهم، ابتغاء تطهير النفس ما أمكن من هذه الرعونات، وإخضاع القلب للمشاعر والمعاني الإيمانية التي أشرنا إليها، لم يتمخض فيها وجه الصحة من حيث اتفاقها مع أحكام الشرع، كما لم يتمخض فيها دلائل الحرمة أو البطلان من حيث مخالفتها لتلك المبادئ والأحكام. فكانت بذلك أمورا اجتهادية...
فهذه المسالك والأعمال الاجتهادية، التي تتخذ سبيلا إلى التحقق بجوهر الإسلام ولبه، تضل سائغة ومشروعة، شأنها كشأن سائر الفهوم والأعمال الاجتهادية الأخرى. ولا يملك صاحب رأي فيها أن يحتج بالرأي الذي انتهى إليه على ضلال الرأي الآخر الذي انقدح في ذهن صاحبه، كما لا يملك صاحب هذا الرأي أن يبادله النظرة ذاتها...
فمن ذلك التداعي إلى حلقات الذكر في أوقات محدودة، وعلى نحو معين. فإن كثيرا ممن ينتسبون إلى المذهب المسمى " بالسلفية " ينكرون مثل هذا الذكر وينكرون على أصحابه، وينسبونهم إلى الابتداع والضلال، مستدلين
____________
(56) السلفية، م س، ص 186.
آية 191). وهو عموم بين لا يخرج من نطاقه إلا ما أخرجه نص آخر عن طريق الاستثناء والتخصيص، وذلك كأن يتلبس الذكر بعمل منهي عنه كالرقص والتثني. فهذا ممنوع وخارج من عموم النص القرآني العام استنادا إلى دليل حرمة الرقص والتثني...
كما إنهم يحتجون بأحاديث كثيرة ثابتة، من مثل حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم مرفوعا: " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " (57).
إلى أن يقول: " إن اعتداد أحد الفريقين برأيه إلى درجة تسوقه إلى تضليل الفريق الثاني ونسبته إلى الابتداع والفسق، أمر لا يقره جوهر الدين، ولا يعبر إلا عن أنانية نفسية بغيضة تقنعت - كما قلت - بقناع الدعوة إلى الدين والانتصار للحق (58).
ويستطرد الدكتور البوطي رادا على ابن تيمية الذي بدع وضلل من يذكرون الله بذكر مخصوص كذكرهم الله بالاسم المفرد (الله). وأن المنع من أن يذكر المسلمون الله بأي اسم من أسمائه لا دليل عليه، وحتى أن طرح تمت خلاف، فإن البوطي يذهب إلى أن أغلب القضايا المختلف فيها بين ابن تيمية وأتباعه من سلفية الوهابية وبين أهل الطرق الصوفية هي محل اجتهاد وخلاف. ولا يجوز بتاتا أن ينسب فريق فريقا إلى الابتداع أو الضلال فإن
____________
(57) السلفية، صفحات 190 - 191 - 192، بتصرف.
(58) المرجع السابق، ص 193.
أما فيما يخص المصطلحات التي درج الصوفية على تداولها بينهم مثل الوجد والفناء والشهود والحضرة، والمقامات السلوكية فإن لابن تيمية تفصيل في شرح بعضها يحسبه المرء عند قراءته أحد أقطاب التصوف، بل لسان يتكلم عن حال.
يقول عن الفناء: " وهذا الفناء لا ينافيه البقاء، بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيا عن إرادة ما سواه وإن كان شاعرا بالله وبالسوي، وترجمته: قول " لا إله إلا الله ".. والأمر الثاني: فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء الشهادة.. ولكن عرض كثير من هذا لكثير من المتأخرين من هذه الأمة، كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق: الموت والغشي والصياح والاضطراب، وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه وعن شهود التفرقة في الجمع والكثرة في الوحدة، حتى اختلفوا في إمكان ذلك...
وفي هذا الفناء قد يقول: أنا الحق أو سبحاني أو ما في الجبة إلا الله (59)، إذا فنى بمشهوده عن شهوده وبموجوده عن وجوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن عرفانه. كما يحكون أن رجلا كان مستغرقا في محبة آخر فوقع المحبوب في اليم فألقى الآخر نفسه خلفه، فقال: ما الذي أوقعك خلفي ؟
فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني...
وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود حلاوة الإيمان كما يحصل بسكر الخمر وسكر عشيق الصور، وكذلك يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء، كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق ويصدر منه قول أو عمل من جنب أمور السكارى، وهي
____________
(59) القول الأول والثاني ينسب إلى العارف أبو يزيد البسطامي، أما القول الثالث فقد إشتهر به الحلاج.
وهذا النص وغيره مما ذكره في كتاب الإستقامة يحجم الاختلاف بينه وبين القوم في قضايا محدودة جدا قد تكون نفسها التي اختلف بشأنها مع أهل السنة من الأشاعرة، ما دام على حد قوله أنهم يعتقدون مذهب الأشعري.
ولكنه سيذكر كلاما غامضا بعض الشئ عندما يفضل كتاب " التعرف
____________
(60) مجموع الفتاوى، ج 10 ص 337، نقلا عن م س، ص 230 - 231.
(61) الإستقامة، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود. ط 1403. ج 1 ص 81، نقلا عن المكي، ص 233 - 234.
بالإضافة إلى أن جل المشايخ الذين ذكرهم ومدحهم وأثنى عليهم في كتابه الإستقامة ليسوا على خلاف أو عداء مع من ذمهم ونسبهم إلى الضلال والابتداع أو الكفر وعلى رأسهم ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين. فلا نعلم أن أحدا ممن أرخ لهم في كتب التصوف وذكر سيرهم أنه تعرض لهم بالشتم أو سب أو تضليل. وابن عربي الذي حمل عليه الشيخ الحراني حملة شعواء وكفر اعتقاده، يعتبر نفسه تلميذا شرعيا لهؤلاء المتصوفة والعارفين، قد سلك طريقهم ونهج نهجهم ولم يحد عنه، وأنه لم يقل ولم يكتب - أي ابن عربي - إلا ما رآه وشاهده في رحلته الروحية.
ابن تيمية يرفض التصوف الأشعري:
ونعود لنؤكد شيئا مهما قد يكون مفتاحا لحل ذلك التناقض العجيب في موقف ابن تيمية من الصوفية والتصوف، فإذا كان قد تكلم بلسانهم وشرح مقاماتهم ودافع عن أحوالهم وبررها كما ذكرنا من قبل في نصوص مقتطفة من فتاواه، فإن الهجوم على بعضهم والحمل عليه بالتضليل أو التكفير قد يكون سببه وجذره يعود إلى عدائه القديم للأشاعرة. فالحنابلة - وبالخصوص الحشوية منهم - كانوا وما زالوا يكنون للأشاعرة - أهل السنة والجماعة - العداء والرفض، بسبب موقفهم التوحيدي. حيث رمى الأشاعرة حشوية الحنابلة بالتجسيم والتشبيه، وأنهم منحرفون في التوحيد، في الوقت الذي
وابن تيمية إذا كان من أقطاب هذا المذهب الحشوي التجسيمي فقد نصب نفسه للدفاع عنه والانتصار له، ومما لا شك فيه أنه ورث العداوة والنفور من الأشاعرة. وعليه فإنه ربما كان ينظر إلى المتصوفة الذين صدورا عن علم الكلام الأشعري بنفس النظرة لعلماء الأشاعرة. فهو عندما يفضل الكلاباذي يثني كثيرا على أبو عبد الرحمان السلمي جامع كلام الصوفية، لأنه وعلى حسب قول ابن تيمية " كان ينكر مذهب الكلابية ويبدعهم، وهو المذهب الذي ينصره أبو القاسم " أي القشيري في رسالته. كما يثني على أبي العباس القصاب لأن له " التصانيف المشهورة في السنة ومخالفة طريقة الكلابية الأشعرية "، وهو هنا يذكر الأشاعرة صراحة.
ومما يحير الباحث ويجعله يتخبط في الآراء المتناقضة، هو قول الشيخ الحراني في أثناء كلامه عن الرسالة القشيرية لأبي القاسم: بأنه جمع فيها متفرقات كلامهم مما يستدل به على أنهم يوافقون الأشاعرة في معتقدهم.
لكنه لا يفتئ يذكر بعد ذلك بأن جل من أرخ لهم أبو القاسم وذكر سيرتهم " لا يعرف عن شيخ منهم أنه كان ينصر طريقة الكلابية والأشعرية.. بل المحفوظ عنهم خلافها، ومن صرح منهم فإنما يصرح بخلافها... " (62).
ولعمري إن هذا اتهام خطير جدا من ابن تيمية لأبي القاسم القشيري فكيف يجرأ مؤرخ أن ينسب لطوائف من رجالات الأمة اعتقادا لم يكونوا يؤمنون به بل كانوا بخلافه. فهل يطمأن بعد ذلك لقول مؤرخ أو مصنف.
لقد كان أبو القاسم أشعريا على مذهب الخلف - خلف الأشاعرة ابن فورك والإسفراييني وغيرهم - فهل يحق له أن ينسب كذبا وزورا كل من أرخ له من رجالات التصوف على أنه كان أشعريا، أو يصدر عن رأيهم أو حتى أنه لم يعرف لبعضهم انتصاره لمذهب الأشعري أو نقضه. فكيف يحق لأبي (62) المرجع السابق، ص 235.
لقد كان القشيري صوفيا وسالكا للطريق وبشهادة الكثير من المؤرخين، أنه كان يعرف عقائد القوم ومذاهبهم وأفضل من كتب عندهم، وأوضح مكنون سرهم ودافع عن غريب قولهم وفعلهم. كل ذلك معضدا بالكتاب والسنة ليظهر أن طريق القوم هو الاتباع وليس الابتداع. فهل كان القشيري في كل ذلك مزورا للحقيقة محرفا لما عليه القوم ؟ ! لا نعتقد ذلك أبدا، وللباحثين النظر في هذه القضية للفصل فيها ؟ !
إننا قد لا نعدو الحقيقة إذا قلنا بأن ابن تيمية كان ينتصر للمتصوفة الحنابلة، أي من علم أنهم صدروا عن مذهب أحمد بن حنبل في العقائد خصوصا.
فهو لا يفتأ يذكر الشيخ عبد القادر (63) بكل خير ويعتمد أقواله وأفعاله. ويؤمن بكل ما يروي من كراماته بحجة أنها وصلت بالتواتر، في الوقت نفسه الذي يرفض كرامات أخرى لبعض المتصوفة بحجة أنها قصص مكذوبة وغير صحيحة. وعبد القادر هذا لا يشك أحد أنه كان حنبليا في بداية الطريق. كما أنه يستشهد بقوله في كتاب " الإستقامة " انتصارا لعقائد أحمد: فعن الشيخ علي بن إدريس إنه سئل قطب العارفين أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الجيلي فقال: يا سيدي ! هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل ؟ فقال:
ما كان ولا يكون (64). وبذلك يجزم شيخ الإسلام في غلو منقطع النظير بأن تحقيق الولاية يمر عبر عقائد الإمام أحمد بن حنبل. ولست أدري ما بال القرون الأولى حيث لم يكن لابن حنبل وجود يذكر ؟ !
____________
(63) الشيخ عبد القادر الجيلاني أو الجيلي ولد سنة 470 ه، وكان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره.. أخذ الخرقة الشريفة من يد شيخه القاضي أبي سعد المخزمي بالسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم... كان كثيرا ما يخطو في الهواء في مجلسه على رؤوس الناس خطوات ثم يرجع إلى الكرسي... وكان يفتي على مذهب الشافعي وأحمد.. " أنظر مختصر طبقات الحنابلة، لابن الشطي، ص 41 - 42.
(64) المكي، م س، ص 235.
وابن تيمية الذي يعتقد هذا الغلو في كلام هذا المتصوف وكذا في إمامه ابن حنبل، لو نقل إليه نفس الكلام أو أقل منه في غيره من الناس، لاتهم القائل بالابتداع والضلال والانحراف، بل ربما أوصله إلى مشارف الكفر وحكم عليه بالوقوع فيها. لكنه ابن تيمية ! ومن يجرأ على الكلام اليوم فيه وفي أتباعه فسيجد ترسانة من الأسلحة في مواجهته قوامها " ضال، مبتدع، كافر، جهمي، زنديق " وما أمضى تلك الأسلحة وأفعلها عندما يكون المال والسلطان والعامة إلى جانب هؤلاء السلفية تصديقا وانتصارا.
نرجع لنقول إن ابن تيمية حسب ما جاء في " الإستقامة " لم يكن يؤمن أن يكون الرجل وليا لله وهو صادر عن معتقد الأشاعرة يقول: حدثني أيضا الشيخ محمد بن أبي بكر بن قوام أنه سمع جده الشيخ أبا بكر بن قوام يقول:
إذا بلغك عن أهل المكان الفلاني - سماه لي شيخ محمد - إذا بلغك أن فيهم رجلا مؤمنا - أو رجلا صالحا - فصدق، وإذا بلغك أن فيهم وليا لله فلا تصدق، فقلت: ولم يا سيدي ؟ قال لأنهم أشعرية " (65).
وقد نقل كثيرا من الأقوال في كتابه تبعد طريق الصوفية الخلص كما يراهم أو أولياء الله الكمل، عن طرق الكلام الأشعري وأصحابه. وليتفادى الحرج إذا ما سئل عن رجالات " الرسالة القشيرية " فإنه يقول: ما ذكره أبو القاسم في رسالته من اعتقادهم وأخلاقهم وطريقتهم فيه من الخير والحق والدين أشياء كثيرة، ولكن فيه نقض عن طريقة أكثر أولياء الله الكاملين (66).
____________
(65) المرجع السابق، ص 236.
(66) المرجع السابق، ص 237.
وعقيدة الإمام أحمد هنا أو عقائد السلف شيئا يختلف عما يعرفه أبو القاسم فهو يقول في رسالته مبررا الغرض من تأليفها: " هذا ذكر جماعة من شيوخ هذه الطائفة كان الغرض منه ذكرهم في هذا الموضع التنبيه على أنهم كانوا مجمعين على تعظيم الشريعة متصفين بسلوك طريق الرياضة متفقين على متابعة السنة غير مخلين بشئ من آداب الديانة... " (67).
إذن فرجال القشيري يعظمون الشريعة ويتبعون السنن ويتشبثون بآداب الديانة. وهذا في عرف ابن تيمية فيه من الخير والحق، لكنه لا يوصل إلى درجة الولاية الكاملة. والسبب في ذلك على ما نعتقد هو عدم أخدهم بأحد الأصول المهمة وهي اعتقاد أحمد، هذا الاعتقاد الذي يمكن أن يكون مادة خصبة لمذاهب وفرق متعددة ومتناحرة ؟ ! وبإمكان كل فرقة أن تجد السبيل النظري والواقعي لتكفير باقي الفرق الأخرى.
الشئ الثاني الذي يعزى له خلاف ابن تيمية الحراني مع رجال التصوف هو ما اعتقده أو بالأحرى أن نقول ما ظهر في منطوق كلامهم أو كتاباتهم مما يفيد في ظاهره خلاف الشريعة وما هو معلوم من دين الإسلام بشكل عام. فعندما تعرض مثلا لنقاش مسألة الفناء الصوفي وما جاء فيه من كلام أرباب العرفان، لم يكتف بإيراد كلامهم وشرحه بل انتصر لقول بعضهم وقال أنه الحق ورد كلام آخرين مع أنه حشر نفسه في مقام القوم
____________
(67) المرجع السابق، ص 240.
والدكتور البوطي الذي استحسن كلام ابن تيمية في تحليله معاني الفناء وموقف الشريعة منها، لا يجد بدا من مخالفته والرد عليه بقوة بخصوص ما أورده في حق ابن عربي. فلا سبيل شرعي يقول البوطي لموافقة ابن تيمية على هذا الكلام. وخلاصة المشكلة أنه - أي ابن تيمية - ومن قلده في نهجه يظلون يأخذون ابن عربي وأمثالهم بلازم أقوالهم، دون أن يحملوا أنفسهم على التأكد من أنهم يعتقدون فعلا ذلك اللازم الذي تصوروه... ويضيف البوطي:
أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة ويستوجب الكفر، فهذا ما لا ريبة ولا نقاش فيه. وأما أن يدل ذلك دلالة قاطعة
____________
(68) الشيخ السهروردي كان صحيح الاعتقاد في نظر ابن تيمية ليس فقط لأنه يميز العبد عن الرب ولكنه ممن امتنع عن الكلام الأشعري في بداية طريقه عملا بنصيحة الشيخ عبد القادر الصوفي الحنبلي لذلك فهو أثير لدى ابن تيمية، صحيح المذهب والمعتقد. وإن كان الأمر يتعلق بجزئية غارقة في الباطن ويصعب معرفة الحق فيها لتعسر الاتفاق على منهج واضح ما دام طريق القوم هو الذوق والمشاهدة الباطنية والتي لا يشاركهم فيها غيرهم.
(69) السلفية، م س، ص 240.
وكلام ابن عربي في الجملة قد أثار الكثير من الجدل فقد كفره الكثير من الفقهاء قبل ابن تيمية وبعده، كما اعتقد بولايته طائفة من فقهاء المذهب الحنبلي (71)، بل إن قاضي قضاة المذهب الحنبلي بالديار المصرية المعروف بابن
____________
(70) المرجع السابق، ص 204 - 205، أنظر الهامش.
(71) يقول مترجم سيرة مصطفى الشطي الحنبلي " وغلب عليه حب الصوفية أصحاب وحدة الوجود والعناية بكلامهم وطريقتهم. درس في المدرسة الباذرائية وانتفع به الطلبة في الفقه والنحو وغير ذلك ". ومنهم محيي الدين عبد القادر الشيباني المزي المعروف بابن الرجيحي... تصوف ولبس الخرقة من جماعة منهم والده " وهو شيخ الطائفة البونسية ".
ومنهم الشهاب أحمد الفتوحي الشهير بابن النجار قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية..
كان في أول عمره ينكر على الصوفية. ثم لما اجتمع بالقوم من أول عمره. ومنهم أبو بكر تقي الدين بن الذباح. كان يكتب كتب الصوفية. كتب (كفاية المعتقد) لليافعي و (الفتوحات) وغيرها للشيخ الإمام الأكبر محيي الدين بن عربي قدس الله تعالى سره.
وكان يعتني بكلامه كثيرا، ص 149.
والحنابلة ممن عرف بالتصوف أو الانتساب إلى الطرق الصوفية كثيرا جدا ذكرتهم كتب التراجم منهم من عاش قبل ابن تيمية ومنهم من عاصره وكثير منهم جاء بعده فلم يراعوا لمذهبه بالا وظلوا منتسبين لمذهبهم الحنبلي مع اعتناقهم عقائد التصوف وسلوك أهله بل منهم من رد عليه وفند شذوذه أنظر النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل، تأليف محمد كمال الدين العامري المتوفى سنة 1214 ه. =
وقد كان لعدد من فقهاء هذا المذهب اعتقاد حسن في ابن عربي، وشهدوا له بالولاية وتداولوا كتبه بالنسخ والقراءة. وقد وجد مكتوبا بخط أبو بكر الذباح الحنبلي. كما أورده صاحب النعت الأكمل " بسم الله الرحمن الرحيم، سئل الإمام علامة الأنام مجد الدين الفيروزآبادي صاحب القاموس رحمه الله تعالى بما صورته: ما قول السادة العلماء شد الله بهم أزر الدين ولم بهم شعث المسلمين في الشيخ محيي الدين بن عربي وفي كتبه المنسوبة إليه ك (الفتوحات) والفصوص) هل تحل قرائتها وإقراؤها ؟ وهل هي من الكتب المسموعة المقروءة أم لا ؟ أفتونا مأجورين جوابا شافيا لتحرزوا جزيل الثواب من الكريم الوهاب. فأجاب بما صورته: اللهم انطقنا بما فيه رضاك. الذي اعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به أنه شيخ الطريقة حالا وعلما وإمام التحقيق حقيقة ورسما ومحيي رسوم المعارف فعلا وإسما.. " (72) كما أن جلال الدين السيوطي كان يعتقد بولايته. وعليه فحكم ابن تيمية على ابن عربي بالكفر ليس إلا رأيا خالف فيه الكثير من فقهاء مذهبه، ولا يمكن بحال أن يعتبر ذلك مصداقا للحقيقة أو هو رأي السلف برمتهم. ولكن الحقيقة أن للشيخ الحراني جرأة كبيرة على تكفير من يخالفه دون احترازا أو تريث، وقد ورث أتباعه هذه الصفة. فالسلفية الوهابية اليوم لا يجدون أي حرج في تكفير قطاعات كبيرة من مسلمي هذه الأمة بقضايا لا تعدو آخر المطاف أن تكون في أغلبها أمورا اجتهادية، إن لم نجزم بأن الحق والصواب هو ما عليه تلك الطوائف.
____________
= وانظر ما يقوله صاحب الذيل على طبقات الحنابلة عند ترجمته لكبير الحنابلة عبد الله الهروي الأنصاري " ثم إذا انصرف إلى بيته عاد إلى المرقعة والقعود مع الصوفية في الخانقاه "، ص 410.
(72) النعت الأكمل. م س، ص 151.
وعليه فكل حكم يصدر في حق المتصوفة عامة يشملهم، وكل تضليل أو تبديع أو تكفير ينالون لا محالة نصيبهم منه. بالإضافة إلى ملاحظة مهمة جدا تخص المتصوفة الذين ذكرهم الشيخ وأثنى عليهم ووصفهم بأنهم أولياء كمل وأقرب للسف والاتباع وأبعد عن الابتداع، مثل الشيخ عبد القادر السهروردي والجنيد وغيرهم. إن هؤلاء وإن لم يشتهر عنهم كلام مثل الذي اشتهر به ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض، فإنهم لا يذهبون مذهب ابن تيمية في قضايا التوسل بالأنبياء والأولياء وكذا زيارة قبر الرسول والصالحين ومجمل القضايا الأخرى التي بدع الشيخ الحراني من يقوم بها بل نسبهم إلى الشرك.
إن للصوفية اعتقادا خاصا في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يختلف فيه صغيرهم عن كبيرهم. ومعلوم أن تلك القضايا وغيرها كانت إحدى أهم الأسباب التي أثارت عامة أهل التصوف على ابن تيمية، فهم كباقي أهل السنة يرون أن زيارة قبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قربة من أعظم القربات، أما التوسل بذاته المقدسة لقضاء الحوائج والمهمات فإنها من عقائدهم العملية الشائعة. وعليه فالشيخ لا يختلف مع ابن عربي وابن سبعين وعمر بن الفارض لأن في كلامهم ما يفيد الكفر بل إنه يختلف مع جملة أهل التصوف سواء من مدحهم أو الذين تعرضوا لذمه ومدحه. فهو
لذلك فالمستشرق ماكدونالد كان مصيبا عندما وصفه بأنه عدو للحياة الروحية والتصوف على حد سواء. والغريب في الأمر بل من عجائب التاريخ إنه وجد في أتباعه من يعتبره قطبا صوفيا بل أحد العارفين بالله، وأن ما دار بينه وبين الصوفية من سجال إنما كان بسبب عرضه أقوالهم وسلوكهم على الكتاب والسنة. فقد حاول تشذيب أقوالهم وتطهير اعتقاداتهم من كل ما يخالف الكتاب والسنة، وليضع قدمهم على المحجة البيضاء. والحقيقة أن هذا الادعاء فيه الكثير من التهافت لأنه يتهم طوائف كثيرة من العلماء لقرون عدة قبل الشيخ وبعده بالجهل بالكتاب والسنة والانحراف عنهما، إلا أن جاد الزمان في القرن السابع الهجري بنبوغ الشيخ الحنبلي، هذا الرجل الذي جعل من نفسه ورأيه مقياسا يعرف به الحق من الباطل ! ولكننا في الأخير سنجد أنفسنا مضطرين لتكرار قول ماكدونالد في حقه لأنه أقرب إلى واقع الأمر مما يذهب إليه هؤلاء: ف " ليس لديه من نفع لطريق الزهد أو الفلسفة أو الدين، ولم يقصد إلا نفع نفسه " (73).
إن أتباع ابن تيمية المعاصرين من السلفية الوهابية عندما يقرأون كلام شيخهم بخصوص المتصوفة وما فيه من جزم وفصل بتبديعهم أو تكفيرهم، لا يساورهم أدنى شك من أن القوم ليس لهم حظ في العلم بالكتاب والسنة، وأن قواعدهم أوهن من بيت العنكبوت. لذلك ترى الداعي السلفي لا يحدث نفسه بركوب العناء أو المشقة عندما يحاور شخصا ما ينتسب إلى إحدى الطرق الصوفية. وتراه كشيخه سريع الحكم عليهم بالضلال والابتداع وعبادة القبور.
____________
(73) موقف أئمة الحركة السلفية من التصوف والصوفية. م س، ص 195.
ابن عطاء الله الصوفي يناظر ابن تيمية:
ولهؤلاء الأتباع الذين ينتصرون بابن تيمية على خصومهم الصوفية ننقل محاورة سجلتها كتب التاريخ دارت بين شيخ الإسلام وبين ابن عطاء الله الإسكندري الصوفي المعروف، وذلك لمعرفة قدرة شيخهم على المناظرة ومواجهة خصومه ومدى علمه وحجته، كي يتسنى لهؤلاء الأتباع معرفة بعضا من الحقيقة فيقل غرورهم ويأوون إلى رشدهم إن هم أرادوا ذلك.
صلى ابن تيمية المغرب في الأزهر وراء ابن عطاء الله الإسكندري ولما انقضت الصلاة دار بينهما هذا الحوار: وهذا نصه ملخصا:
ابن عطاء الله: ما ذا تعرف عني يا شيخ ابن تيمية ؟.
قال: أعرف عنك الورع، وغزارة العلم، وحدة الذهن، وصدق القول، وأشهد أني ما رأيت مثلك في مصر ولا في الشام حبا لله أو فناء فيه أو انصياعا لأوامره ونواهيه، ولكنه الخلاف في الرأي، فماذا تعرف عني أنت ؟
هل تدعي علي الضلال إذ أنكر استغاثة غير الله ؟.
قال ابن عطاء الله الإسكندري: أما آن لك يا فقيه أن تعرف إن الاستغاثة هي الوسيلة والشفاعة، وأن الرسول (ص) يستغاث ويتوسل به ويستشفع ؟ قال
والرسول (ص) لما ماتت أم أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما، دعا لها الله على قبرها: " الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، إغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين " (75). فهذه هي الشفاعة، أما الاستغاثة ففيها شبهة الشرك بالله تعالى.
وقد أمر الرسول ابن عمه عبد الله بن عباس ألا يستعين بغير الله.
قال ابن عطاء الله: أصلحك الله يا فقيه، أما نصيحة الرسول (ص) لابن عباس فقد أراد منه أن يتقرب إلى الله بعلمه لا بقرابته من الرسول، وأما فهمك أن الاستغاثة استعانة بغير الله فهي شرك، فمن من المسلمين الذين
____________
(74) هذا الإجماع غير متحقق لأن أصحابه من حشوية الحنابلة يفسرون المقام المحمود بأن الله جل شأنه سيقعد نبيه يوم القيامة معه على العرش، وقد خالفهم في ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره فهجموا على منزله وحدثت فتنة. كما أن تفسير الآية من القضايا المختلف فيها بين أهل السنة (الأشاعرة) والحنابلة لأنهم يرون أن المقام المحمود هو الشفاعة.
وبذلك يعرف حقيقة قول ابن تيمية (أجمعت الآثار). أنظر " الكامل " لابن الأثير، حوادث سنة 317 ه وما وقع بين أصحاب المروذي الحنابلة وغيرهم حول تفسير الآية.
(75) وهذا الحديث رواه الطبراني بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه في كلام طويل إلى أن قال عليه السلام: " الله الذي يحيي وهو حي لا يموت إغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين ". وكبر عليها أربعا وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر. كما رواه غيره كالحاكم في مستدركه والذهبي في سيرة أعلام النبلاء والمتقي الهندي في كنز العمال.
والغريب في الأمر أنه معتمد من يجيز التوسل بالنبي وغيره من الأنبياء لأن عبارة الحديث صريحة في ذلك وقد انتبه أتباع ابن تيمية لذلك فلم يجدوا طريقا للتنصل من إفادة الحديث فراموا تضعيف سنده والطعن في رواته. لكن هيهات من أن تحجب الخفافيش ضوء الشمس الساطع.
إنما نزلت هذه الآية في المشركين الذين كانوا يدعون آلهتهم من دون، إنما يستغيث المسلمون محمدا (ص) بمعنى التوسل بحقه عند الله، والتشفع بما رزقه الله من شفاعة، أما تحريمك الاستغاثة لأنها ذريعة إلى الشرك، فإنك كمن أفتى بتحريم العنب لأنه ذريعة إلى الخمر، ونخصي الذكور غير المتزوجين سدا للذريعة إلى الزنا. وضحك الشيخان ! ! واستطرد ابن عطاء الله، وأنا أعلم ما في مذهب شيخكم الإمام أحمد من سعة، وما لنظرك الفقهي من إحاطة، وسد الذرائع يتعين على من هو في مثل حدقك، وحدة ذهنك، وعلمك باللغة أن تبحث عن المعاني المكنونة الخفية وراء ظاهر الكلمات، فالمعنى الصوفي روح، والكلمة جسد، فاستقصي ما وراء الجسد لتدرك حقيقة الروح.
ثم استطرد ابن عطاء الله يقول: ثم إنك اعتمدت في حكمك على ابن عربي، على نصوص قد دسها عليه خصومه، وأما شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام فإنه لما فهم كتابات الشيخ، وحل رموزها وأسرارها، وأدرك إيحاءاتها استغفر الله عما سلف منه، وأقر بأن محيي الدين بن عربي إمام من أئمة الإسلام. وأما كلام الشاذلي ضد ابن عربي فليس أبو الحسن الشاذلي هو الذي قاله، بل أحد تلاميذه من الشاذلية، وهو ما قاله في الشيخ ابن عربي، بل قاله في بعض المريدين الذين فهموا كلامه على غير وجهه...
قال ابن تيمية: ولكن أين تذهبون من الله وفيكم من يزعم أنه (ص) بشر الفقراء بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فسقط الفقراء منجذبين ومزقوا
قال ابن عطاء الله: ما كان الصوفية يلبسون الخرق، وهأنذا أمامك فما تنكر من هيئتي ؟ !.
قال ابن تيمية: أنت من رجال الشريعة، وصاحب حلقة في الأزهر.
قال ابن عطاء الله: والغزالي كان إماما في الشريعة والتصوف على السواء وقد عالج الأحكام والسنن والشريعة بروح المتصوف وبهذا المنهاج استطاع إحياء علوم الدين.
نحن نعلم الصوفية أن القذارة ليست من الدين، وإن النظافة من الإيمان، وأن الصوفي الصادق يجب أن يعمر قلبه بالإيمان الذي يعرفه أهل السنة.
لقد ظهر بين الصوفية منذ قرنين من الزمان، أشياء كالتي تنكرها الآن واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا في ميدان الغفلات... وادعوا أنهم تحرروا من رق الغفلات والأغلال، ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أغلى الحقائق والأحوال كما وصفهم القشيري الإمام الصوفي العظيم فوجه إليهم الرسالة القشيرية، ترسم طريق الصوفي إلى الله، وهي تمسكه بالكتاب والسنة.
إن أئمة الصوفية يريدون الوصول إلى الحقيقة، ليس فقط بالأدلة العقلية التي تقبل العكس، بل بصفاء القلب ورياضة النفس، وطرح الهموم الدنيوية، فلا ينشغل العبد بحب غير الله ورسوله. وهذا الانشغال السامي، يجعله عبدا صالحا، جديرا بعمارة الأرض وإصلاح ما أفسده حب المال والحرص على الجاه والجهاد في سبيل الله.
وقال ابن عطاء الله: إن الأخذ بظاهر المعنى يوقع في الغلط أحيانا يا فقيه، ومن هذا رأيك في ابن عربي، وهو إمام ورع من أئمة الدين، فقد فهمت ما
قال ابن تيمية: هذا الكلام عليك لا لك. فالقشيري لما رأى أتباعه يضلون الطريق قام عليهم ليصلحهم، فماذا فعل شيوخ الصوفية في زماننا ؟ ! إنما أريد من الصوفية أن يسيروا على سنة هذا السلف العظيم من زهاد الصحابة، والتابعين وتابعيهم بإحسان، إني أقدر من يفعل منهم ذلك وأراه من أئمة الدين. أما الابتداع وإدخال أفكار الوثنيين من متفلسفة اليونان، وبوذية الهند، كادعاء الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ونحو ذلك مما يدعو إليه صاحبك فهذا هو الكفر المبين.
قال ابن عطاء الله رضي الله عنه: ابن عربي رضي الله عنه كان أكبر فقهاء الظاهر بعد ابن حزم الفقيه الأندلسي المقرب إليكم يا معشر الحنابلة. كان ابن عربي ظاهريا، ولكنه يسلك إلى الحقيقة طريق الباطن، أي تطهير الباطن ! !
وليس كل أهل الباطن سواء ! ! ولكيلا تضل أو تنسى أعد قراءة ابن عربي بفهم جديد لرموزه، وإيحاءاته تجده مثل القشيري، قد اتخذ طريقة إلى التصوف في ظل ظليل من الكتاب والسنة، إنه مثل حجة الإسلام الشيخ الغزالي يحمل على الخلافات المذهبية في العقائد والعبادات، ويعتبرها انشغالا بما لا جدوى منه، ويدعو إلى أن محبة الله هي طريقة العابد في الإيمان فماذا تنكر من هذا يا فقيه ؟ أم أنك تحب الجدل الذي يمزق أهل الفقه. لقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يحذر من الجدل في العقائد، ويقول (كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص الدين).
قال الغزالي: " إعلم أن الساعي إلى الله تعالى لينال قربه هو القلب دون البدن، ولست أعني بالقلب اللحم المحسوس، بل هو سر من أسرار الله عز وجل لا يدركه الحس... ".
إن أداء التكاليف الشرعية في رأي ابن عربي وابن الفارض، عبادة محرابها
وهذا هو الذي يعنيه ابن عربي بقوله إن التعبد محرابه القلب أي الباطن لا الظاهر...
الصوفي الحق ليس هو الذي يستجدي قوته ويتكفف الناس، إنما هو الصادق الذي يهب روحه وقلبه، ويغني في الله بطاعة الله، ومن هنا تنبع قوته، فلا يخاف غير الله.
ولعل ابن عربي قد أثار عليه بعض الفقهاء لأنه أزرى على اهتمامهم بالجدل في العقائد، مما يشوش على صفاء القلب، ثم في وقوع الفقه وافتراضاته فأسماهم (فقهاء الحيض) وأعيذك بالله أن تكون منهم ألم تقرأ قول ابن عربي (من يبني إيمانه بالبراهين والاستدلالات فقط لا يمكن الوثوق بإيمانه، فهو يتأثر بالاعتراضات، فاليقين لا يستنبط بأدلة العقل إنما يعترف من أعماق القلب). ألم تقرأ هذا الكلام الصافي العذب قط ؟ !.
قال ابن تيمية: أحسنت والله إن كان صاحبك كما تقول فهو أبعد الناس عن الكفر، ولكن كلامه لا يحمل على هذه المعاني فيما أرى.
قال ابن عطاء الله: إن له لغة خاصة، وهي مليئة بالإشارات والرموز والإيحاءات والأسرار والشطحات.
ولكن فلنشتغل بما هو أجدي، وبما يحقق مصلحة الأمة فلنشتغل بدفع الظلم، وحماية العدل المنتهك، أرأيت ما فعله بيبرس وسلار بالرعية منذ خلع الناصر نفسه، فانفرد بالحكم، وإن عاد السلطان الناصر وهو يؤثرك على كل الفقهاء، ويستمع لك فاسرع إليه وانصح له (76).
____________
(76) الدكتور سيد الجميلي مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1985 م، ص 12 إلى 20، بتصرف. وقد ذكر هذه المناظرة عدد من المؤرخين =
وقد نبه القوم كل من يطلع على كلامهم أن لا يحمله على ظاهره وأن لا يأخذهم بلازمه لأنهم أهل باطن وإشارات وقد تضيق اللغة على استيعاب ما يشعرون به أو ما يشاهدونه في رحلاتهم الروحية الباطنية. فمن الحكمة إذن الاحتراز في الحكم عليهم والاستنجاد بالتأويل عند الحاجة لتحقيق حسن الظن بعقائد القوم. خصوصا وأن أغلبهم يعتمد الكتاب والسنة منطلقا، وإنما هو الاجتهاد في العبادة وتحقيق اليقين. أما من حسب نفسه على القوم وجاهر بمخالفة صريح الكتاب أو السنة وبالخصوص على مستوى التطبيق والسلوك فإن رؤساء القوم أول من يتبرأ منه ويلفظونه خارج جماعتهم. وقد أشار الشيخ ابن عطاء الله لذلك فضرب مثلا بمن ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل وهو منحرف عقيدة وسلوكا فهل يذم الإمام أحمد على ذلك.
وما ورد في هذه المناظرة يدعم قولنا بوجود تناقض صارخ في آراء الشيخ ابن تيمية تجاه التصوف وقضاياه بل يمكننا أن نجزم بأن التناقض والاختلاف لازم لمجمل أقواله وفتاويه (77) في القضايا التي تناولها في كتبه. لذلك نجد الدكتور البوطي يركب ظهر هذا الاختلاف والتناقض للهروب من تكفير الشيخ الحنبلي فهو - أي البوطي - يعتقد كغيره من علماء أهل السنة والجماعة بكفر من يقول بالقدم النوعي للعالم على سبيل المثال، وقد كفر
____________
= مثل ابن كثير وأوردها الأستاذ عبد الرحمان الشرقاوي. كما نقلتها مجلة المسلم الصادرة عن العشيرة المحمدية بالقاهرة عدد 4 - 5 الصادر في 20 أغسطس 1982 م.
(77) لذلك كان " إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالا بعيدا ". كما
يقول ابن حجر في الدرر الكامنة.