الصراعات الفقهية داخل المساجد:
أما الصراعات داخل المساجد وإثارة الشغب، فحدث ولا حرج فقد أصبحت من الظواهر السلبية العامة، التي يشتكي منها المصلون. وهذا الصراع داخل المساجد لا يقتصر على الصوفية وأتباع الطرق. بل الخلاف محتدم مع جميع أبناء الصحوة الإسلامية ممن يتمذهب بغير المذهب الحنبلي، ولا يتخذ أفكار ابن تيمية وابن عبد الوهاب النجدي عقائد له.
ومواضيع الخلاف هنا مع أهل السنة والجماعة تتجاوز العقائد لتشمل الاجتهادات الفقهية والفتاوى المذهبية. فهم كما يقول الشيخ أبو زهرة المصري: " يفرضون - أي علماء الوهابية - في آرائهم الصواب الذي لا يقبل الخطأ. وفي آراء غيرهم الخطأ الذي لا يقبل التصويب " (125). وبذلك يتم عرض مشكل التقليد والتمذهب على بساط البحث والمناقشة. بين أوساط العامة فترى أنصاف المتعلمين والجهلة من العوام يخوضون في نقاش هذه الأمور ويفصلون في كثير من قضاياها الشائكة بكل حزم وجرأة. في الوقت الذي يرى أكثر العلماء، قديما وحديثا مثل هكذا مواضيع، لا يجوز أن يخوض فيها العوام بل تقتصر معالجتها على ذوي العلم والاختصاص.
____________
(124) سورة الذاريات، آية 56.
(125) المذاهب الإسلامية، ص 355.
وإذا كان العوام قاصرون على فهم أو معالجة القضايا العلمية والفكرية المتعلقة بالدين الإسلامي، فإنهم يستنجدون في غالب الأحيان، بالقوة والشغب والعنف، لإقناع خصومهم بما يؤمنون به من عقائد وأفكار، بثها فيهم دعاة السلفية، أو توصلوا إليها بمفردهم نتيجة قراءة حديث في كتاب، أو شرح لآية في تفسير. وعليه فلنا أن نتصور حجم الاختلاف، وكثرة الآراء والأهواء المتضاربة، وما يتبعه من زيادة الفوضى الفكرية والعقائدية التي بدأت تعصف بواقع الصحوة الإسلامية اليوم. وقد عجز علماء أهل السنة في معالجة هذا الوضع واكتفوا بالصراخ والتنديد ونقد هذه الظاهرة.
يقول الدكتور البوطي: " لقد تركوا - أي دعاة السلفية - سبيل الدعوة إلى الله وإلى دينه وأعرضوا عن المنحرفين وما هم فيه من ضلال وشكوك وغي، وانطلقوا يتصدون لكل متدين يخالفهم في اجتهاداتهم أو يصر على تمسكه بمذهب إمام من الأئمة الأربعة، أو يعلن عن ضعفه عن الاجتهاد وحاجته إلى التقليد، فيثيرون معهم جدالا لا نهاية له، وينتهون بهم إلى شحناء لا مسوغ لها، يتهمونهم بالضلال، ويرمون أئمتهم بالجهل، ويصفون كتبهم بالصدأ والانحراف.. " (126).
ومن يتتبع جل القضايا والمسائل الأصولية والفروعية التي يختلف حولها " السلفية " وأهل السنة والجماعة بالخصوص. يجد أن المذهب الحنبلي بصيغته المعدلة والجديدة مع ابن تيمية وابن عبد الوهاب. يريد أن يفرض نفسه على
____________
(126) اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية، ص 90.
السيطرة على المجال الديني والدعوي:
والنتيجة التي يريد القائمون على هذه الدعوة الوصول إليها، تعدو تحقيق السيطرة والتوجيه للشأن الديني العام في العالم الإسلامي والتحكم به. ومن ثم التحكم في ظاهرة الصحوة الإسلامية التي أصبحت تشكل الهم الاستراتيجي الأكبر لجميع دوائر الأمن في العالمين الشرقي والغربي، ومن ضمنهم بلا شك مجمل الحكومات الإسلامية.
علما بأن هذا الحكم في المجال الديني والسيطرة عليه سيؤدي بالضرورة إلى التحكم في المجال السياسي العام. فالمؤسسة الدينية الوهابية " السلفية " التي تباشر حركة الدعوة وتمدها بما تحتاجه من كتب وفتاوى، هي مؤسسة مملوكة لأسرة آل سعود الحاكمة في الرياض. تأتمر بأمرها وتنتهي بنهيها، وتخضع في النهاية لمفردات الاستراتيجية السياسية لهذه الدولة. وأي انتصار للدعوة السلفية في أرجاء العالم يمكن أن تستثمره بالنتيجة السياسة السعودية.
وبالتالي فأي تحكم أو توجيه للصحوة الإسلامية اليوم لا يمكنه أن يخلو من التأثير السياسي المباشر أو غير المباشر للدولة السعودية. ولا أحد ينكر مدى
ويكفي أن نعلم أن القرآن قد صرح وفي قوله الصدق والحق، بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم.
نشر الجهل داخل الأوساط الإسلامية:
وخطورة هذه المسألة وتداعياتها ظهرت جلية في الجزائر. فالصحوة الإسلامية هناك يشرف عليها دعاة وقادة ينتمون للتيار السلفي. وارتباطهم بما تصدره المؤسسة السلفية السعودية من كتب وفتاوي، يشكل إحدى الدعائم المهمة في دعوتهم وحركتهم، بل يمكن اعتبار الساحة الجزائرية المستهلك الأول لفتاوي " شيخ الإسلام " كما أن أطنانا من الكتب والكراريس السلفية المنتجة في الخليج بشكل عام، تجد طريقها إلى المتلقي الجزائري.
لكن وفي الوقت الذي يتغدى سلفيو الجزائر بالمنتوجات السلفية السعودية تراهم يناهضون ويعادون الحكومة السعودية، وينتقدون سياستها الداخلية والخارجية ويتبرأون منها. ولو تفكر هؤلاء القادة أو الأتباع في هذه المعادلة الصعبة لوجدوا أنفسهم في خضم الاستراتيجية السياسية السعودية يخدمونها ويتماشون معها خطوة خطوة، خصوصا موقفهم من الشيعة وإيران.
فأغلب السلفيين في الجزائر لم يكن يعرف مثلا أن هناك، لا نقول طائفة بل مجتمعا شيعيا داخل المملكة العربية السعودية. وأن الطائفية والصراع المذهبي متفجر هناك وعلى أشده تغذيه الحكومة وتستفيد منه أيما استفادة.
وعليه فالأطنان من الكتيبات والفتاوى التي وصلت الجزائر ووزعت مجانا، كان الغرض منها خلق رأي عام ضد الشيعة والتشيع وسد الطريق على أبناء
ولقد أثمرت هذه السياسية وأينعت زهورها ووجدت أرضا خصبة من الجهل والغلظة والجفاء فنبتت أشواك الحقد والكراهية للتشيع، وبذلك حجب عن أبناء الصحوة هناك حقيقة غدت كالشمس في واضحة النهار.
تحريف مسار الصحوة الإسلامية:
هذا مثال أوردناه للإشارة إلى خطورة تحكم المؤسسة الوهابية السعودية في توجيه الصحوة الإسلامية، ومدى تأثيرها السلبي عليها، خدمة لأهداف سياسية محلية أو عالمية. والضحية هم أبناء الصحوة، الذين تمارس عليهم سياسة التجهيل باسم الدين. وينحرفون عن الأهداف الرئيسية إلى قضايا جزئية خلافية في الفروع. لا تسمن ولا تغني اللهم إلا صرف الجهد والطاقة والزمن في ما لا طائلة من ورائه. لذلك قال الدكتور البوطي وهو الرجل الذي خبر دعوتهم ورد عليهم في أكثر من موقع وكتاب. بأنهم تركوا سبيل الدعوة إلى الله وانطلقوا يتصدون لكل متدين. ولا شك إن إلهاء أبناء الصحوة بقضايا فروعية، جزء لا يتجزء من خطة تحريف الصحوة عن أهدافها، والمتمثلة في الإحياء الحضاري الإسلامي العام والدعوة إلى الالتزام بالإسلام واتخاذ شريعته مصدرا وقانونا ينظم جميع مجالات الحياة في العالم الإسلامي.
والذي يزيد الطين بلة، ونحن هنا نتكلم عن أسلوب الدعوة عند هؤلاء السلفية، ليس فقط المواضيع المطروحة للنقاش والجدل داخل المساجد وعلى المنابر. ولكن الأسلوب الخاص الذي يستخدمه هؤلاء في دعوتهم ونقاشهم.
وإذا كان القرآن يحث على الدعوة بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن. فإن دعاة السلفية - إلا ما ندر - يفسرون بالتي هي أحسن، بالسب والقدح والشتائم والاستهزاء واتهام الخصم أي كان بالتهم الباطلة. ونشر
ولكي لا يقال إننا مجانبون للحقيقة، بتهويل حجم هذه الظاهرة الدعوية السلفية. فلا بأس من إيراد بعض النصوص لعلماء ومفكرين يشتكون من هكذا أسلوب ينسبونه لدعاة الحركة السلفية. أنظر مثلا لما يقوله أحد المفكرين في مقام النصيحة للدكتور البوطي الذي يخوض معهم صراعا مريرا: يقول:
" حاذر أن يستزلك هؤلاء إلى مستواهم المعروف في الجدل فإن في أفئدتهم من الحقد على جمهور المسلمين سلفهم وخلفهم ما يجعلهم ينهشون في عرض كل من يخالفهم (127). ولقد أطال الدكتور البوطي الشكوى في كتبه من رموز السلفية الذين يردون عليه. فهم لا يعرفون من النقاش العلمي سوى:
" السباب والشتائم المتسعرة المحمومة " (128).
معاناة مشتركة:
ولو رجعنا إلى كتب الرد على السلفية، التي ألفها علماء من أهل السنة والجماعة أو الصوفية أو الشيعة الإمامية. فسنجد معاناة مشتركة بين هؤلاء الكتاب والعلماء. وإجماعا مطلقا على أنهم يتعرضون شخصيا أو بشكل عام تتعرض مذاهبهم وعلماؤهم للسب والشتم المنظم من طرف دعاة السلفية.
وكيف أن البعض نأى بنفسه بعيدا عن مناقشتهم أو جدالهم. لأنه لم يجن من ذلك سوى أن نهش السلفيون عرضه وعرض مذهبه الذي ينتمي إليه.
يقول مهدي الحسيني الروحاني وهو أحد علماء الإمامية الذين كتبوا ردودا على السلفية " إن تلك الفرقة - الحنابلة - لا تريد من وراء مخاصمتها لنا، وجدالها معنا إلا أن ترشدنا إلى خصائصها المذهبية بالتهويش والسب،
____________
(127) المرجع السابق، ص 110.
(128) نفسه، ص 109.
والرجل عندما يقول " الكذب الصراح " يعلم تمام العلم ماذا يقصد ولنا وقفة مع " الكذب السلفي " وما المقصود منه، وتطبيقاته الواقعية وأمثلة على ذلك، عندما نتكلم عن " السلفية والشيعة الإمامية ". لأن هذه الفرقة الأخيرة كان لها النصيب الأكبر في الهجوم السلفي المعاصر، كما أن حصتها من " الكذب السلفي " جاءت متميزة. ويشير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء إلى أسلوب آخر في الدعوة يمارسه السلفية. بل إن انتشار الفكر السلفي يكاد يرجع لهذا الأسلوب دون غيره، وأن رمنا الموضوعية قلنا بأنه الأسلوب الأنجح الذي استغلته المؤسسة السلفية للوصول إلى عمق الحواضر الفكرية والدينية في العالم الإسلامي السني. هذا الأسلوب هو الدعم المالي وشراء الرجال من كتاب، وعلماء وصحفيين ومؤسسات علمية وفكرية وإعلامية، وصولا إلى شيوخ القبائل ورؤساء العشائر كما حدث في اليمن.
السيف والريال:
يقول الشيخ كاشف الغطاء " لو كنا نعلم أنهم يقنعون بالحجة البالغة ويخضعون للأدلة القاطعة، لملأنا الطوامير من الحجج الباهرة التي تترك الحق أضحى من ذكاء، وأجلى من صفحة السماء ولكن سلطان نجد له حجتان قاطعتان عليهما يعتمد، وإليهما يستند، ولا فائدة إلا بمقابلتهما أو بأقوى منهما. وهما: الحسام البتار والدرهم والدينار، السيف والسنان، والأحمر الرنان، هذا لقوم وذلك للآخرين " (130). وقوله " الحسام البتار " إشارة إلى
____________
(129) بحوث مع أهل السنة والسلفية، المكتبة الإسلامية، ط 1 1979 م، ص 8 - 9.
(130) مجلة تراثنا، العدد الرابع (13) السنة الثالثة، شوال 1408 ه، ص 186.
ولا يشك أحد من المطلعين والمتابعين اليوم لحركة المد السلفي في دور المال " والريال " في نشر الفكر الوهابي السلفي، والكتاب المرتزقة في مصر والشام يعرفون ذلك جيدا، ولولا هؤلاء المرتزقة لما كان للفكر السلفي هذا الوجود الكبير على الساحة الإسلامية، لأن علماء الوهابية في نجد لا يحسنون الكتابة ولا يتقنون فن التعبير والتحليل. وليس لهم. تاريخ عريق - لبداوتهم - في صنع الأيديلوجيات. والدعوة لها وتزوير الحقائق وتجييرها لخدمة هذه النحلة أو ذاك المذهب، وللحقيقة والتاريخ نقول إن بعض الكتاب والصحفيين في بلد الكنانة " مصر " لهم قدرة رهيبة على صنع المذاهب الفكرية والسياسية والدفاع عنها وإيجاد الحجج العقلية والنقلية لتثبيتها. ونحن ندعي ونؤكد أن لولا هؤلاء وغيرهم، لما تجاوز الفكر الوهابي بلاد نجد، وفي أحسن الظروف شبه الجزيرة العربية، وحتى إن تعدى هذه الحدود، فإن حلل البداوة ولهجة العراء القاحلة وجفاء نفوس ساكينها كانت كفيلة بتقزيمه وانحصاره وتقلص امتداده في الآفاق البعيدة.
طبعا لسنا في حاجة إلى أدلة واستشهاداته لدعم هذه الحقيقة - حقيقة دور المال الوهابي السعودي في نشر الفكر السلفي - ولكننا نحيل القارئ إلى ما تداولته الصحف العربية أثناء أزمة الخليج الثانية واحتلال العراق للكويت، فقد انتشر خبر قطع المعونات والإمدادات المالية (السعودية) على فئات عريضة ومؤسسات في مصر، وذلك بسبب موقفها من استخدام الجيوش الغربية لإخراج صدام من الكويت.
ولا شك أن الكل يعلم مقدار ضخامة وحجم الأموال السعودية التي تصرف على المؤسسات الإعلامية والدينية في العالم كي تتماشى مع
نشر الطائفية البغيضة:
لن نسترسل طويلا في وصف أسلوب الدعوة السلفي المعاصر، هذا الأسلوب الذي ورثه الخلف عن السلف، والذي يجعل من العنف والتهجم على المخالفين ورميهم بكل أنواع السباب والشتائم ونهش أعراضهم، النهج القويم الذي يتم من خلاله نشر عقائد وأفكار دعاة السلفية. فإثارة الفتن ونشر البغضاء بين فئات المجتمع الإسلامي. وتعميق الخلافات المذهبية وصولا إلى الطائفية البغيضة، غدت من مميزات التحرك السلفي. فحيث تستعر نار الطائفية والخلافات المذهبية، تجد هناك دون شك أو ريب عقل سلفي وهابي حنبلي يؤجج هذه النار ويمدها بالوقود كي تشتعل أكثر وتدوم. ولا شك أن هذه النار قد أحرقت مساحات واسعة من أراضي التفاهم والتسامح التي كانت سائدة بين مجمل الفرق والمذاهب الإسلامية. خصوصا بين الشيعة والسنة.
فلم يسمع عن قلاقل واضطرابات بين التجمعات السكانية الشيعية والسنية. مثلا في مناطق تواجدهم معا إلا بعد ما نفخ العقل السلفي في بوق الطائفية البغيض (131). فبدأ السني يسمع من أفواه الدعاية السلفية أن الشيعي
____________
(131) يقول حمزة الحسن: إن معظم الحروب الطائفية التي نشهدها في كل مكان في العالم إنما مولت بأموال النفط السعودي، بل إن الحروب السنوية في باكستان لم تثرها إلا الجماعات المتحالفة والمدعومة من السعودية، وقد وصل أعلام آل سعود الطائفي إلى كل الدنيا، إذ أن مهمة المؤسسات الدينية الرسمية السعودية ومهمة أعلام السعوديين، هو إثارة الفتنة والبلبلة في صفوف المسلمين لكي يدعوا بعدئذ أنهم حماة " السنة " وما هم كذلك. الشيعة في المملكة العربية السعودية، مؤسسة البقيع لإحياء التراث، ط 1 1993 م، ج 2 ص 149.
فالأطنان من الكتب والفتاوى في تكفير الشيعة والتهجم على مذهبهم تنزل إلى الأسواق باستمرار وتتابع. والفضل كل الفضل لأموال النفط السلفي التي توزع وتدفع بسخاء لكل مرتزق يستطيع أن يغدي هذه المعركة الخسيسة، بين فئات المجتمع الإسلامي الواحد.
السلفية يكفرون زعماء الصحوة الإسلامية:
وإذا كان الإسلام والقرآن يدعو إلى الوحدة وتجنب أسباب الاختلاف وتحجيمها إن وجدت. فإن الدعوة السلفية الوهابية تدعو إلى التفرقة ونبذ الوحدة وتمزيق جسد الإسلام الاجتماعي، وإذا كان القرآن الكريم قد أكد على الدعوة بالتي هي أحسن واستمالة قلوب المخالفين وإيصال الحق لهم بأفضل الطرق. فإن دعاة السلفية يدعون إلى مذهبهم بالتي هي أسوء وأعنف.
والويل كل الويل لمن يختلف معهم في قضية أصولية أو فروعية، فردا كان أم مجتمعا.
فإنه لو سلم من بطشهم المباشر واعتدائهم. فإنه لن يسلم أبدا من حدة ألسنتهم وجلافة طباعهم، والتظافر عليه بالكذب والبهتان وافتراء التهم
وقصة الشيخ محمد الغزالي ليست بعيدة عنا فقد ألف هذا المفكر الإسلامي المعاصر كتابا بعنوان " السنة بين أهل الفقه والحديث " تعرض فيه لعلاج أمهات القضايا الفكرية التي تعصف بساحة الصحوة الإسلامية. ومن بينها ضمنا أسلوب الدعوة السلفي. فما شعر الرجل إلا ودعاة السلفية ينهالون عليه من كل جانب نقدا وتجريحا وتسفيها. وقد سمعت أن البعض منهم دعاه للتوبة وتأليف كتاب جديد يتبرء فيه من الأفكار والآراء التي أوردها في هذا الكتاب.
لكني لا أعلم كيف انتهت القصة وهل تاب الرجل أم لا زال مارقا عن الحق " السلفي "، نائيا بنفسه بعيدا عنه، لكني على يقين أنه لم يؤلف كتابا جديدا بعد، ينفي فيه آراءه السابقة. كما أنني أشك في قبولهم توبته، لأنه لن يلتزم إطلاقا بشروط التوبة لديهم. وهذا يذكرنا بموقف الخوارج الذين طلبوا من الإمام علي أن يثوب بعد أن يعترف حقا بأنه كفر.
وفي المغرب الأقصى ألف أحد السلفيين كتابا تهجم فيه على زعيم حركة العدل والإحسان الإسلامية الشيخ عبد السلام ياسين وقيل أن كفره فيه.
وذلك يرجع في ما يظهر للطابع الصوفي الذي يتحلى به هذا الشيخ، أو لانتصاره لبعض العقائد والسلوكيات الصوفية والطرقية. وهكذا فقد عمت الفتن المذهبية وتعمقت الكراهية والطائفية بين طوائف المسلمين. ويمكن أن نعلن ونؤكد أن أنباء الصحوة الإسلامية اليوم يخوضون حربا ضروسا فيما بينهم (132). والجبهة الداخلية التي كانت إلى وقت قريب متراصة وقوية في
____________
(132) من الأمثلة الأكثر وقعا على النفس، الحديث الذي أدلى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز لمجلة (المجاهد) التي يصدرها المجاهدون الأفغان... حيث سأله مجري المقابلة (سلطان عبد المحسن الخميس): من خلال معرفة سماحتكم بتاريخ الرافضة ما هو موقفكم من =
ويكفي أن نعلم أن الإنتاج الفكري الإسلامي الذي كان منصبا في بداية هذا القرن على معالجة قضايا المسلمين العامة واقتراح سبل النهضة الحضارية، والانعتاق من قيود الاستعمار، ومواجهة التخلف، قد تحول إلى معالجة قضايا أخرى، مذهبية جزئية قتلتها المذاهب الإسلامية الفقهية بحثا وتصنيفا. وأنتهي منها بتقرير كل مذهب لاجتهاد معين وقف عنده وألزم أصحابه باتباعه.
انتكاسة الفكر الإسلامي المعاصر:
لكن موجة الصراع الجديد بين السلفية وباقي خصومها قد دفع الكثير من المؤلفين والعلماء إلى بذل جهد كبير في إعادة إنتاج هذه القضايا مرة ثانية في حلل جديدة. وبعثها للتداول والنقاش، فظهرت كتب كثيرة في وصف صلاة الرسول (ص) ووضوئه. وما كان عليه السلف في الملبس والمأكل، ونوقشت جزئيات الطهارة والنجاسة، وكأنها تعرض لأول مرة على المسلمين. كما
____________
= مبدأ التقريب بين أهل السنة وبينهم ؟.
أجاب الشيخ: " التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة غير ممكن، لأن العقيدة مختلفة، فعقيدة أهل السنة والجماعة توحيد الله وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، وأنه لا يدعى معه أحد... والرافضة خلاف ذلك، فلا يمكن الجمع بينهما، كما أنه لا يمكن الجمع بين اليهود والنصارى والوثنيين وبين أهل السنة، فكذلك لا يمكن التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة لاختلاف العقيدة التي أوضحناها ".
وسئل الشيخ مرة أخرى: وهل يمكن التعامل معهم - الشيعة - لضرب العدو الخارجي كالشيوعية وغيرها ؟. أجاب الشيخ: " لا أرى ذلك ممكنا، بل يجب على أهل السنة أن يتحدوا وأن يكونوا أمة واحدة وجسدا وأحدا، وأن يدعوا الرافضة أن يلتزموا بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله (ص) من الحق...
تجدر الإشارة إلى أن هذا الحديث موجه للمجاهدين الأفغان، الذين يواجهون الحكم الشيوعي، وبينهم نسبة غير قليلة من الشيعة تصل إلى 30 % من السكان تشاركهم في الجهاد... فافهم لماذا لم يتوفق المجاهدون حتى الآن في مسعاهم ؟ ! الشيعة في المملكة العربية السعودية، ج 2 ص 398.
كل هذا الزخم الفكري الجديد شكل بحق، وباعتراف كثير من المفكرين الإسلاميين، انتكاسة للفكر الإسلامي المعاصر، الذي بدأ واعدا ومبدعا في عملية الإحياء الحضاري الإسلامي العام. وسجل باعتراف الخصوم. خطوات متميزة في بعض إبداعاته وهو يعالج إشكالات النهوض، والخروج من مأزق التخلف العام، رغبة في وضع قطار النهضة الإسلامية على مساره الحقيقي لتحقيق الأقلاع الحضاري والعلمي للأمة. كي تأخذ مكانها اللائق بها بين الأمم، ويعود الإسلام للواجهة كدين ورسالة خالدة، لا بد من إيصالها لجميع أبناء البشرية أفرادا وجماعات لتخرجهم من ظلام الجهل والكفر إلى نور الإيمان وعدل والإنسانية الحقة.
لكن موجة الدعوة السلفية ظهرت فجأة، كقدر أريد به إيقاف هذه المسيرة النهضوية والإبداعية في الفكر والحياة الإسلامية. فبدلا من معالجة القضية الاقتصادية وإثراء البحث والنقاش حول المنهج الإسلامي الاقتصادي لتحقيق العدالة والتكافل الاجتماعي، مثلا. يتحول الجهد الفكري والمالي لمناقشة فكرة عذاب القبر، وحجم الحيات والعقاب التي سيجدها الإنسان هناك، حالما يصل إلى تلك الحفرة. ونحن عندما نأتي بهذا المثال نطلب من القارئ أن يمر وهو في طريقه إلى عمله، على أية مكتبة إسلامية اليوم، ليرى حجم وكثرة هذه الكتب التي تناقش عذاب القبر وتصور أهواله ومصائبه، والعقل السلفي هو الذي يؤلف ويكتب وينشر ويهتم بهذه المواضيع ! أما الاقتصاد والسياسية أو العلم أو كل ما يتعلق بمصير المسلمين الدنيوي، وما يتخبطون فيه من مشاكل ومحن وإحن. فلا أظن أن المكتبة السلفية يهمها أن تحتوي على كتب
وأخيرا نود من دعاة السلفية وكبار علمائها وفقهائها، أن يجيبونا على هذا السؤال بكل هدوء وموضوعية: هل استخدم الرسول أثناء دعوته أسلوب العنف والسب والشتم ؟ ! وهل كان كبار الدعاة من السلف، يثيرون الأحقاد والبغضاء بين المسلمين ويثيرون الفتن المذهبية والطائفية ؟ !.
نرجوا من هؤلاء الدعاة أن يحيلونا على وقائع التاريخ المكتوب في مصادره المعتمدة لدى الأمة. بشرط أن ألا تقتصر هذه الوقائع على يوميات الدعوة السلفية الحنبلية، وسيرة دعاتها الكبار. كابن تيمية وابن عبد الوهاب. لأننا نعلم سلفا أن هذه الوقائع واليوميات هي المصدر الرئيسي والثري الذي يستقي منه دعاة السلفية اليوم عقائدهم وأفكارهم وسلوكياتهم في الحياة والدعوة.
إنهم يحرفون التراث
طرق تحريف السلفية للتاريخ الإسلامي:
عندما تحدثنا عن وقائع الاختلاف والمناظرات التي وقعت بين ابن تيمية وخصومه من أهل السنة والجماعة وباقي الفرق. قلنا: بأن هناك شبه إجماع لدي أصحاب هذه المذاهب والفرق بأن " شيخ الإسلام " لم يكن أمينا في نقل آرائهم وعقائدهم، التي أجهد نفسه في الرد عليها. وهذه الادعاء بعدم الأمانة في النقل والتحريف المتعمد لكلام الخصوم. لم يكن دون دليل، بل استطاعت كل فرقة أو مذهب أن يستدل وأن يأتي بنص من مذهبه واعتقاده يخالف ما ادعاه أو نقله ابن تيمية عنه. لذلك كان هناك إجماع على اتهام " شيخ الإسلام " بالكذب ! هذا الكذب الذي تمثل في التحريف المتعمد لتراث الخصوم عند النقل والاستشهاد.
الإجماعات الوهمية عند ابن تيمية:
والذي يرجع إلى " فصل ابن تيمية " سيجد الأمثلة على هذا التحريف الصريح. فعلماء أهل السنة والجماعة مثلا، يقولون إن " شيخ الإسلام " حكى عن السلف أقوالا وإجماعات وتفسيرات لا وجود لها في الواقع. كما حكى على لسان بعض الأئمة ما لم يتفوهوا ! ولو قالوا شيئا من ذلك فأتباعهم أدرى وأعلم بذلك !.
مثلا يقول ابن تيمية: " إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما
لقد ادعى ابن تيمية إن أحدا من الصحابة لم يتأول شيئا من آيات الصفات، وعندما يرجع الباحث لكتب التفسير يجدها زاخرة بنقل تأويلاتهم.
فهذا الطبري الذي مدح ابن تيمية تفسيره ووصفه في فتاويه بأنه تفسير ليس فيه بدعة. يقول: اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي، فقال بعضهم هو علم الله تعالى ذكره.
ذكر من قال ذلك: أبو كريب وسلم بن جنادة، عن إدريس، عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كرسيه علمه.
وعن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم عن مطرف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " كرسيه " علمه. ألا ترى إلى قوله: * (ولا يؤده حفظهما) * (134).
فحين يجزم الشيخ تقي الدين ابن تيمية قائلا: لم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات، يفتتح الطبري تفسيره بتأويل الصحابي الجليل ابن عباس على خلاف ما يذهب إليه الشيخ ابن تيمية، فهو يذهب إلى ما جاءت به الحشوية من أخبار ذكرها الطبري بعد قول ابن عباس، مفادها إن الكرسي هو موضع القدمين من العرش، أو هو العرش الذي يقعد عليه الله تعالى شأنه، فلا يفضل منه مقدار أربع أصابع، وله
____________
(133) تفسير سورة النور، ابن تيمية، ص 178 - 179. عن ابن تيمية لصائب عبد الحميد ص 121.
(134) تفسير الطبري، ج 3 ص 7، بتوسط " ابن تيمية " لصائب عبد الحميد ص 122.
وقد نقل الطبري وغيره من المفسرين كثيرا من تأويلات الصحابة والتابعين " السلف ". لآيات الصفات. ومن أراد أن يعرف صدق ابن تيمية من كذبه فليراجع كتاب " الأسماء والصفات " للبيهقي فإنه عرض لكل التأويلات السلفية والخلفية.
وعلى هذا المنوال تم مراجعة أحكام " الشيخ الإسلام " وأقواله. فظهر للمحققين من كل مذهب، أن كلام الشيخ هو خلاف الحقيقة. بل هو التحريف بعينه لتراث المسلمين وتعميم الجهل ونشر الأكاذيب بين السواد الأعظم من الأمة، الذين لا يستطيعون التحقق من الأمر ومعرفة الصواب.
وهو أسلوب بالتالي في الدعوة للعقيدة السلفية " الحشوية ". فالمسلم مثلا، عندما يسمع أن السلف من الصحابة والتابعين لم يعرف عنهم أنهم أولوا صفة من هذه الصفات. وأنهم أثبتوها دون تأويل، سيركن إلى تفسير ابن تيمية وأتباعه، الذين يثبتونها حقيقة. وبالتالي ستنتشر عقيدة التجسيم والتشبيه، على أنها إحدى الحقائق العقائدية الإسلامية.
ويؤكد الدكتور البوطي ذلك، خلافا لما جاء به ابن تيمية فيقول: ليس صحيحا أنه لا يوجد في السلف من جنح في تفسير آيات الصفات أو بعض منها إلى التأويل التفصيلي (136). ففي السلف حسب الدكتور من جنح إلى التأويل التفصيلي ولم يكتفي بالإجمال فقط. من ذلك ما صح من تأويل الإمام أحمد " جاء " في قوله عز وجل * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * (الفجر:
آية 22) بمعنى: وجاء أمر ربك، أما قال تعالى * (أو يأتي أمر ربك) * (النحل آية 32) (137). وقد أورد الدكتور البوطي بعضا من أسماء السلف، الذين أولوا
____________
(135) ابن تيمية، صائب عبد الحميد، ص 122.
(136) السلفية، م س، ص 134.
(137) المرجع نفسه، ص 134.
بل ذهب إلى أن ابن تيمية نفسه سقط في التأويل عندما قال بأن الوجه الوارد في الآيات ليس من الصفات.
ادعاءات لا نصيب لها من الصحة:
ويتكلم البوطي كذلك عن نقل غير صحيح وادعاء على " القدرية " بأنهم يعتقدون بأن أفعال الحيوان لم يخلقها الله. كما ذكر ابن تيمية عنهم يقول الدكتور: " غير أني ما سمعت وما رأيت إلى هذا اليوم أن القدرية يعتقدون أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله ! وها هي ذي كتب الفرق والملل والنحل أمامنا ولم أجد في شئ منها مثل هذا النقل عنهم. ثم رأيت العلامة المحقق الشيخ محمد زاهد الكوثري قد سبقني إلى البحث عن هذا النقل الغريب وأصله، فكتب تعليقا عليه: " لم نر من صرح بذلك منهم في كتاب من كتبهم. وإلزام الشئ غير القول به " (138).
وإذا رجعنا إلى المدافعين عن التصوف فسنجد محمود غراب يتهم شيخ الإسلام بالكذب على ابن عربي. ويورد نصوصا واضحة في ذلك، وكيف أن " شيخ الإسلام " زور على الشيخ الأكبر أقوالا مفتراة لا وجود لها فيما كتبه زعيم الصوفية. وقد أوردنا بعضها فيما تقدم.
أما إذا بحثنا في كتب " الشيخ الإسلام " لمعرفة رأيه في الشيعة والتشيع فلن نصطدم بالتحريف فقط. ولكن سنجد الإفتراء والكذب الصراح، وتزوير الحقائق الواضحة، واللف والدوران لإنكار الكثير مما سطرته أقلام المؤرخين من وقائع. وقد ألف محققوا الشيعة كتبا في ذلك وأزاحوا الستار عن كل أكاذيب " الشيخ " وتحريفاته. ولنا وقفة مع هذا الموضوع في الفصول القادمة.
____________
(138) نفسه، ص 166 - 167.
تضعيف الأحاديث النبوية المخالفة للمذهب:
ولابن تيمية طرق متعددة في تحريف الحقائق التي تخالف مذهبه، وتقف بالتالي كحجر عثرة أمام إدعائه " الإجماع السلفي "، أو عدم وجود ما يخالف رأيه ومعتقده في تراث الأمة الفقهي أو الأصولي. من هذه الطرق والأساليب تضعيف الأحاديث النبوية التي تنطق صراحة بخلاف رأيه ومذهبه. وإن كانت ضمن كتب الصحاح. وقد أشار الحافظ الذهبي لذلك عندما قال مخاطبا ابن تيمية: " يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار، أو التأويل والإنكار " (139).
وهذا التضعيف من طرف الشيخ، لا يرجع إلى لعلل حقيقية في الأحاديث التي ينكرها. وإنما ذنبها أنها تنطق بخلاف معتقد الشيخ. أما مستنده في هذا التضعيف، فهو جرأته الكبيرة على قول ذلك. لدرجة تجعل العامة تعتقد أن للشيخ مستندا قويا لكن الحقيقة بخلاف ذلك تماما.
انتقاء الأحاديث الموافقة فقط:
كما أن الشيخ أسلوبا آخر اكتشفه المحققون، وهو انتقاء الأحاديث الخاصة بموضوع معين فما كان منها يصب في عقيدته ظاهرا أخذ به وقدمه وصححه أما إذا وجد في نفس الباب أحاديث أخرى يظهر منها خلاف ذلك، فترى الشيخ يضرب عنها صفحا وكأنها لم توجد. وإن وقع وتعرض لبعضها أو أوردها في محل نقاشه، فإنه سرعان ما يرجح الأحاديث الداعمة لمعتقده ويترك غيرها، دونما سبب علمي لهذا الترجيح. بل قد يكون البحث الموضوعي في صالح الجمع بين الروايات والخروج برأي انطلاقا من ذلك. وقد استشنع - يقول الدكتور البوطي - ابن حجر رحمه الله هذا التصرف الذي لا
____________
(139) بحوث في الملل والنحل، ج 4 ص، 40، نقلا عن تكملة السيف الصقيل للمحقق الكوثري، ص 192.
رفض الأحاديث والروايات الصحيحة:
وأنظر مثلا إلى أسلوب " الشيخ " وهو يعالج " مسألة الدعاء مستقبلا قبر الرسول (ص). فهو لما كان ينكر ذلك، ولا يراه جائزا، وكان يدعي الإجماع السلفي على ذلك، وأن أحدا من الصحابة والتابعين أو الأئمة لم يفعله ! تراه يصطدم بقول الإمام مالك ابن أنس الذي نقل عنه أنه أجاب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لما سأله، بأن يستقبل القبر الشريف ويدعو. قال: " لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه الصلاة والسلام إلى الله تعالى يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله. فماذا كان موقف شيخ الإسلام من هذا النقل عن رجل يعتبره من أئمة السلف ! ؟ بكل هدوء وبساطة يقول الشيخ: " أمر منكم لم يقل بن أحد ولم يرد إلا في حكاية مفتراة على الإمام مالك " !
وهذه الحكاية المفتراة عند ابن تيمية أوردها القاضي عياض رحمه الله تعالى هنا، ولله دره حيث أوردها بسند صحيح، وذكر أنه تلقاها عن عدة من ثقات مشايخه. فقول أي ابن تيمية إنها أمر منكر كذب محض ومجازفة من ترهاته، وقوله: لم ينقل ولم يرو باطل. فإن مذهب مالك وأحمد والشافعي رضي الله تعالى عنهم استحباب استقبال القبر الشريف في السلام والدعاء
____________
(140) السلفية، ص 171. يقول البوطي: " إن ابن تيمية رحمه الله يعلم ما هو معلوم لدى جميع علماء أصول الفقه، من أن الترجيح إنما يلجأ إليه عند التعارض وعدم إمكان الجمع.
فأما إن كان الجمع بين الروايات ممكنا بل لا تعارض بينهما، فيجب المصير إليه ويمنع من الإلغاء والترجيح ".
هذه القصة كما يقول الشيخ يوسف النبهاني ذكرها القاضي عياض بإسناد صحيح. والإمام السبكي في " شفاء السقام في زيارة خير الأنام " والسمهودي في " خلاصة الوفاء " والعلامة القسطلاني في " المواهب اللدنية "، والعلامة ابن حجر في " تحفة الزوار والجوهر المنتظم " وقال ابن حجر في المنتظم جاءت بالسند الصحيح الذي لا مطعن فيه ". وقال العلامة الزرقاني في " شرح المواهب " رواها ابن فهد بإسناد جيد (142).
ونحن إذ نورد هذا المثال، فقط ليعلم القارئ حقيقة ادعاء ابن تيمية بأن هذه الرواية كذب وافتراء على مالك. في الوقت الذي يجمع أئمة المذهب المالكي وغيرهم على صحتها وصحة سندها. لذلك لم يجد الشيخ شهاب الخفاجي غضاضة في اتهام شيخ الإسلام ب " الكذب المحض والمجازفة ". أما نحن فنعتبر ذلك محاولة رخيصة لتحريف تراث الإسلام والمسلمين، والكذب على الحقيقة.
ولو استطاع كل مدع لرأي أو تابع لمذهب أن يثبت صحة معتقداته وخطأ ما يعتقد غيره فقط بمجرد الادعاء أن أفكار خصومه غير صحيحة. أو أن سندها غير صحيح دون أي بحث علمي. فلن يتيسر الركون لأي مذهب ونحلة، أو اعتناق عقائدها وأفكارها، وسيكون ذلك بمثابة إعلان عن انتهاء جميع المذاهب والأديان. لإن الشك والارتياب في صحة المنقول والمكتوب سيشمل كل التراث الفكري والعقائدي لهذه المذاهب والأديان (143).
____________
(141) شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق (ص)، الشيخ يوسف النبهاني، ضمن مجموع " علماء المسلمين والوهابيون "، ص 186.
(142) المرجع نفسه، ص 156.
(143) يقول الدكتور محمد عوض الخطيب: " إنهم يختارون بعض الأحاديث ويفسرونها بمعزل عن القرآن الكريم أو عن غيرها من الأحاديث. ومن أجل قطع الطريق على إمكانية مناقشتهم في هذا المجال فهم يلجأون إلى أسلوب التهويل فيستخدمون تعبير =
الفهم السطحي لأفكار المخالفين:
وهناك أساليب أخرى استخدمها " شيخ الإسلام " وأدت إلى تحريف تراث المسلمين نذكر منها: الفهم السطحي لعقائد بعض الفرق وأفكار أصحابها، وقد وقع ذلك مع " الصوفية " بالخصوص. فالفهم السطحي قد يؤدي عند الاستنتاج والمقارنة إلى أفكار وتقريرات لا يرضاها أصحاب المذهب ولا يؤمنون بها. ومن ثم فقد يعتبر " الشيخ " فهمه لمعتقدات القوم هو ما هم عليه حقيقة، فيتكلم باسمهم ويرد عليهم، بالتبديع والضلال تارة، والكفر والزندقة تارة أخرى.
والحقيقة أن الشيخ سيكون عند ذاك رادا على نفسه مسفها لأحلام فهمه.
والمشكل هنا يصبح خطيرا عندما يعلن " الشيخ الحنبلي " فهمه على المنبر.
وتتلقاه الجماهير الأمية على أنه الحق. أو ينشر ذلك في كتب وكراريس وتوزع مجانا على أبناء الصحوة الإسلامية اليوم، على أنها فتاوى شيخ الإسلام وزعيم " دعوة السلف ". وكم من عراك نشب في مسجد أو قسم دراسي بين أبناء الصحوة انطلاقا مما ذكرنا. فأتباع الدعوة السلفية لا يشكون أبدا في صدق إمامهم وصحة ما بين أيديهم، وغيرهم يجد ذلك محض كذب وافتراء، ويتبرأ ويبرئ مذهبه من هذا الفهم أو النقل. وتبقى القضية معلقة دون حل لأن كلا الطرفين لا يعرف الخطأ الذي نجم عن هذا الفهم السطحي السريع لشيخ الإسلام، تلاه حكم جرئ وقاطع لا يحتمل التأويل أو المراجعة. وهذه إحدى المحن والمعاناة التي يشكو منها مخالفوا مذهب السلف.
ومن الصور والمواقف المضحكة والمبكية معا أن تجد شابا داخل مسجد ما
____________
= " أجمع العلماء " وينفون مخالفة أحد لما ذهبوا إليه، وعند الاضطرار الشديد يرمون رواة الأحاديث التي تخالف ما يدلون به بالوضع والكذب ". صفحات من تاريخ الجزيرة العربية الحديث، ص 69.
وتستمر المعاناة، فأغلب أتباع الحركة السلفية من العوام أو أنصاف المتعلمين، ممن يصعب عليهم التحقيق والتدقيق أو المطالعة العامة، كي تتضح لهم الحقائق، إلا النزر القليل، وهؤلاء لما فعلوا ذلك وجدوا أنفسهم خارج الموكب السلفي، بل من أشد أعدائه وخصومه، بعد ما كانوا من أتباعه ودعاته. وكم كان الحافظ الذهبي صادقا في وصفه وهو يتكلم على أتباع " شيخ الإسلام " آنذاك عندما قال: فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل ؟ أو عامي كذاب بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر ؟ أو ناشف صالح عديم الفهم ؟ فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل (145).
وهذه الأوصاف تكاد تنطبق على أتباعه اليوم كذلك. خصوصا كونهم من العوام وقليلي الفهم أو خفيفي العقل. مع وجود فئة قليلة متنورة وصادقة الإيمان والسلوك. وإنما وجودهم ضمن الحركة السلفية لأنهم تعرفوا عليها على أنها الإسلام الصحيح، وما كان عليه السلف الصالح. وأغلبهم ليس لديه
____________
(144) يقول أحد قيادي جبهة الإنقاذ الجزائرية: و " الجبهة الإسلامية المسلحة سلفية عقيدة ومنهجا وسلوكا وموقفها من الشيعة معروف، وهو الحكم عليهم بالردة والخروج عن شرائع الإسلام ". جريدة الحياة اللندنية، 4 أيلول سبتمبر 1994 م، ص 4.
(145) بحوث في الملل والنحل، ص 40. عن تكملة السيف الصقيل للمحقق الكوثري المعاصر. ويقول محمد هادي الأميني يصف المجتمع الوهابي المعاصر: " فالجهل لم يزل فيهم حاكما مع التقدم والتطور الحاصل في العالم اليوم للحركة العلمية ". أنظر " مكة " ص 289.
السلفيون يجيزون الكذب على خصومهم:
نرجع إلى أساليب تحريف التراث لدى الشيخ الحنبلي السلفي وأتباعه نؤكد هذه المرة حقيقة أخرى من الحقائق الغامضة للتحريف السلفي. وهذه الحقيقة تنبش في حفريات المذهب الحنبلي لمعرفة جذور وأسباب هذا التحريف المتعمد الذي تبين أن ابن تيمية نفسه لم يكن مبتدعا له، وإنما مقلدا لبعض المشايخ الذين ينتحلون النسبة للمذهب الحنبلي. وأول ما يصادفنا ونحن ننقب حول هذه الجذور، إطلاق الإمام السبكي مصطلح " الخطابية " على الحنابلة. حيث نقل إن كلتا الفرقتين ترى جواز الكذب على من خالفهم في العقيدة " (146).
وهذا الاستحلال للكذب على الخصوم يجعلنا دون شك نعتبره القاعدة
____________
(146) بحوث مع أهل السنة والسلفية، م س، ص 261.
يقول السبكي: " وقد بلغ الحال بالخطابية... وهم المجسمة في زماننا، فصاروا يرون الكذب على مخالفيهم في العقيدة، لا سيما القائم عليهم بكل ما يسوءه في نفسه وماله.. وبلغني إن كبيرهم استفتى في شافعي أيشهد عليه بالكذب فقال ألست تعتقد أن دمه حلال ؟ قال:
نعم: فما دون ذلك دون دمه فاشهد وادفع فساده عن المسلمين. قال السبكي فهذه عقيدتهم
يرون أنهم المسلمون وأنهم أهل السنة، ولو عدوا عددا لما بلغ علماؤهم لا عالم فيهم على
الحقيقة مبلغا يعتبر، ويكفرون علماء الأمة ثم يعزون إلى الإمام أحمد بن حنبل، وهو منهم
برئ.. " أنظر طبقات الشافعية، ج 1 ص 193. والمرجع السابق، ص 188.