الصفحة 628
حجب نور الشمس، ببراقع الكذب والتلاعب ؟ !.

وبعد أليس من الحق والموضوعية أن ننقل النصوص كما هي أو على الأقل ألا نتصرف فيها تصرفا يلغي نصفها أو كلها ؟ !.

ويقول ابن الجوزي: " في سنة ثمان وأربع مائة استتاب القادر بالله أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة والحنفية، فأظهروا الرجوع، وتبرؤوا من الاعتزال، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة، والرفض، والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم (24). أما الدكتور عبد المجيد بدوي فيقول: " في هذا العام استتاب (القادر) الشيعة والمعتزلة عن المقالات المخالفة للسنة (25). ويكمل كلامه بما جاء في المنتظم بتصرف واقتضاب.

والفرق بين ما جاء في المنتظم وما قاله الدكتور بين، فابن الجوزي، يقول بأن القادر قد استتاب فقهاء المعتزلة والحنفية، ولم يقل الشيعة ؟ ! وكيف يستتيب فقهاء الشيعة عن المقالات المخالفة للإسلام ؟ ! نعتقد أن هذا الاضطراب منشأه وجود كلمة حنفية، أي المذهب الحنفي. على اعتبار إن المعتزلة ليسوا من أهل السنة، فليس هناك مشكل في عرض اسمهم. أما الأحناف فإن مذهبهم الفقهي والأصولي يعتبر من مذاهب أهل السنة والجماعة. وعليه فإذا كان هناك تحريف، فإن الغرض منه هو التستر على المذهب الحنبلي، فالقادر كان ينتصر لحشوية الحنابلة ويدعمهم، وهم ليسوا أعداء الشيعة فقط بل يعادون مذاهب أهل السنة الأصولية والفقهية كذلك.

أو لجعل الصراع يقتصر على الشيعة وغيرهم من الفرق التي تدخل في خانة الابتداع والهوى.

لكن الدكتور سيعترف بأن هذه الفتن كان يقف وراءها الحنابلة، مستعينين

____________

(24) المنتظم، ج 7، ص 287. أنظر صراع الحرية، م س، ص 36.

(25) التاريخ السياسي والفكري، م س، ص 88.

الصفحة 629
بالسلطان. يقول: " وهذه الثورات كثيرا ما كان يوجهها المفكرون السنيون المحافظون وعلى رأسهم فقهاء الحنابلة ورجال الحديث، الذين كانوا يقفون بالمرصاد لأي حركة يقوم بها الشيعة أو غيرهم من المبتدعة في نظرهم.. " (26).

ويضيف: " وقد حدث أن تجمع هؤلاء المحافظين في جمادى الأولى من عام (460 ه‍ / 1068 م) في ديوان الخلافة وطلبوا إخراج الاعتقاد القادري، وقراءته، فأجابوا إلى ذلك، وقرئ المحضر على المجتمعين ومما ورد في هذا الاعتقاد السالف الذكر، لعن الرافضة من الشيعة، وتكفيرهم، وتكفير من لا يكفرهم، ولعن المبتدعة " (27).

إن النصوص التاريخية التي وصفت الفتن لا تترك مجالا لأي قارئ أو باحث، أن يشك في أن الحنابلة كانوا هم السابقون دائما لإثارة الفتن والتهجم على الشيعة. يراقبونهم ويتتبعون جميع تصرفاتهم وعبادتهم، فأي فعل أو قول يخالف المذهب الحشوي، يعني الابتداع والكفر، ومن ثم الهجوم فالقتل. أنظر ماذا يقول الدكتور عبد المجيد بدوي: " لم يسلموا (أي الشيعة) من تحرش المحافظين (الحنابلة) الذين حاولوا إثارة الخليفة المقتدي ضدهم في شوال سنة (479 ه‍ / 1087 م) عندما شكا أحد الفقهاء إلى الخليفة من أن الشيعة لا يذكرون أسماء الصحابة على جنائزهم، مع أن السنة ظاهرة ويد أمير المؤمنين قاهرة، فخرج كتاب من دار الخلافة ينعي على الشيعة إغفالهم لذكر صاحبي رسول الله (ص) على الجنائز، وأنهم تورطوا في هذه الجهالة، واستمروا على هذه الضلالة " التي استوجبوا بها النكال، واستحقوا بها عظيم الخزي والوبال.. " (28).

____________

(26) التاريخ السياسي والفكري، م س،، ص 189.

(27) المرجع السابق، ص 189، وهذا الاعتقاد القادري نسبة إلى الخليفة القادر هو نسخة لما تذهب إليه الحشوية الحنبلية في الأصول. وليس اعتقاد أهل السنة والجماعة.

(28) المرجع السابق، ص 191.

الصفحة 630
وفعلا استمر القتل فيهم والتشريد، لكن أحدا منهم لم يترك مذهبه لينتقل إلى الحنبلية، أصحاب السلطان. كما سيفعل فقهاء الحنابلة الذين انتقلوا زرافات إلى مذاهب أهل السنة بعد ما تغير السلطان وتغير معه الزمان (29).

إنتصار الفاطميين ومحنة الشيعة في بغداد:

لقد كانت هذه الفترة بالذات عصيبة على شيعة بغداد، كما تعرض أهل السنة المضايقات لكن سرعان ما انفرج عنهم، فأصبح لهم السلطان، وكالوا الحنابلة بنفس المكيال. وقبل أن نعرض لبعض الأمثلة على ذلك، لا بد أن نشير إلى حقيقة تاريخية مهمة. وهي أن دعم الحشوية وتسليطهم على شيعة بغداد، والطلب من بعض رجالات أهل السنة أن يؤلفوا الكتب في نقض مذاهب الشيعة وخصوصا عقيدة الإمامة، كان سببه الرئيسي الدولة الفاطمية التي امتدت من مصر لتبسط سلطتها على مناطق الشام، وبالتالي بدأ خطرها يطرق أبواب الخلافة العباسية في بغداد، هذه الخلافة التي لم يبق منها إلا الرسم على عهد البويهيين.

لذلك كانت الخلافة تحس وتشعر بأن شيعة بغداد رغم أنهم إمامية ويختلفون مع الفاطميين الإسماعيلية في مجمل الأصول والفروع. لكن شعورا ما بالتعاطف قد يكون موجودا لدى العامة منهم، لذلك جاء إطلاق عوام الحشوية عليهم، لقتلهم ونهب أموالهم، بمثابة رد احترازي مبدئي عن أي

____________

(29) انتقل أبو جعفر عمر ابن أبي بكر الدباسي (ت 601 ه‍) إلى المذهب الشافعي، فعين مشرفا لمكتبة النظامية. أنظر تاريخ العراق في العصر العباسي الأخير، للدكتور بدري محمد فهد، ص 437. وانتقل أبو الفتح أحمد بن علي بن تركان المعروف بالحمامي (ت 518 ه‍) إلى المذهب الشافعي وقد كان حنبليا، وأصبح مدرسا بالنظامية. أما المبارك بن المبارك الواسطي النحوي (ت 612 ه‍) فقد كان حنبليا فتحول إلى الحنفي ومنه إلى الشافعي، فعين مدرسا بالنظامية. وكذلك القاضي أبو بكر محمد بن يحيى ابن المظفر (ت 639 ه‍) أصبح شافعيا ودرس بالنظامية. أنظر طبقات الشافعية، ج 3 ص 252. راجع المرجع السابق ص 225.

الصفحة 631
تفكير في ربط علاقات سرية سياسية مع الدولة الفاطمية أو دعاتها، الذين يجوبون أرض الخلافة العباسية دون أن يعرفهم أحد.

وعليه فشيعة بغداد كانوا يدفعون ثمن انتصار الفاطميين وتهديدهم للخلافة العباسية. لكن شدة الصراع وتكاثف السلطة العباسية والحنابلة على الشيعة، كان يواكب تراجع قوة البويهين في العراق، الذين لم يخفوا تعاطفهم مع الشيعة الإمامية، وبداية ظهور السلاجقة الأتراك في أقصى الشرق الإسلامي، وبما أنهم كانوا سنة، فقد انبعث في الخلافة العباسية أمل في استعادة بعض ما ضاع من بريقها وقوتها، هذا الأمل الذي ترجمه القادر العباسي بتزعمه حركة قمع البدع. والانتصار للسنة.

إن الملابسات السياسية في هذه الفترة كانت دقيقة ومعقدة، والسياسة وحدها هي التي كانت تمسك بخيوط اللعبة. أما حشوية الحنابلة فكانوا مجرد أدوات، ينفذون سياسة ماكرة، ولا يقولن أحد أن العقيدة وحدها هي التي كانت تتحكم في هؤلاء الحشوية وتحركهم. لأنهم كانوا ينقمعون عندما يأمر السلطان بذلك. بل المضحك والمبكي في آن هو ما كان يقع بين الجانبين من صلح في بعض الأحيان.

يقول ابن الأثير عن سنة (442 ه‍)، " بادرت الفئتان إلى الصلح، وأخذ الشيعة يترحمون على الصحابة، ويصلون في مساجد السنة، وتبادل كل فريق أذان الفريق الآخر، فأخذ الشيعة بالصلاة خير من النوم، وأذن السنة بحي على خير العمل (30).

إذن أين موقع البدعة هنا ؟ ! وكيف يؤذن الحنابلة بحي على خير العمل، وقد كانوا يكفرون الشيعة من أجل ذلك ؟ ! أما الشيعة فإنهم لا يكفرون الحنابلة أو أهل السنة، وليس الأذان عندهم أصلا من أصول الدين حتى لو

____________

(30) الكامل، ج 9، ص 561. والعبر، ج 3، ص 199، أنظر المرجع السابق، ص 183.

الصفحة 632
زيد فيه كلمة الصلاة خير من النوم ؟ ! بل إن الأمر سيتجاوز هذا الحد في بعض الأحيان عندما يكتشف الشيعة بأن مهاجميهم الحشوية من العوام والسوقة لا يفقهون حديثا، فيتعاملون معهم بذكاء وتعقل، ينزع معه فتيل الفتنة، ويحفظ الشيعة أموالهم وأرواحهم بذلك.

يقول الدكتور عبد المجيد: " استمر السنة في التحرش بهم - أي بالشيعة - إذ خرجوا في شعبان من العام نفسه (501 ه‍) لزيارة قبر مصعب بن الزبير، وكانوا قد تركوا ذلك منذ مدة طويلة منعا للفتنة. واتفقوا أن يجعلوا طريقهم على الكرخ تحديا لمشاعر الشيعة وإثارة لهم، ولكن الشيعة كانوا حريصين على عدم إشعال الفتنة... ومن ثم استقبلوا السنة بالبخور والزينات والترحيب حتى خرجوا من الكرخ، واستقبلوهم عند عودتهم بما استقبلوهم به أولا. وهذا المسلك من جانب الشيعة فرض على السنة أن يتسامحوا مع الشيعة، فلم يعترضوا طريقهم عندما خرجوا في النصف من شعبان لزيارة مشهد موسى الكاظم " (31).

أفول نجم الحنابلة:

لكن سرعان ما بدأ نجم الحنابلة في الأفول، مع سيطرة السلاجقة على بغداد، فهؤلاء كانوا يتعصبون للمذهب الحنفي، وقد مارسوا بعض المضايقات على الشافعية والأشاعرة بصفة عامة، بادئ الأمر. لكن وصول نظام الملك للوزارة في عهد ألب أرسلان السلجوقي سيغير الوضع عندما ينتصر للشافعية الأشاعرة، ويبني لهم المدارس والنظاميات، وينفق الأموال الطائلة عليها وعلى جلب خيرة الأساتذة، للتدريس بها.

والغرض من ذلك لم يكن الانتصار لمذاهب أهل السنة فقط، وإنما مواجهة

____________

(31) أنظر المرجع السابق، ص 193 - 194. نقلا عن الكامل، ج 10، ص 469.

الصفحة 633
الفكر الشيعي الإسماعيلي بالخصوص، لأن الحرب مع الدولة الفاطمية كانت قائمة على قدم وساق. وكتاب " فضائح الباطنية " ألفه أحد كبار المدرسين بهذه النظاميات، وهو الغزالي المدرس في نظامية بغداد. لكن تمكن الشوافع الأشاعرة " أهل السنة " وانتشار نفوذهم، سيدفعهم لتصفية الحسابات القديمة مع منافسيهم داخل الإطار السني. وهم بالطبع حشوية الحنابلة الذين كانوا يكفرون الأشعري ويتعرضون للشوافع بالسب والقتل في بعض الأحيان.

انطلق أهل السنة " ينتصرون لمذهب الأشعري ويعرضون بخصومهم من الحنابلة لما يعتقدونه من التشبيه والتجسيم. وكثيرا ما كان هذا السلوك يثير حفيظة الحنابلة، فتثور الفتن بين الفريقين. وكان نظام الملك يقف بكل ثقله إلى جانب هؤلاء الأساتذة الذين يرسلهم " (32) إلى النظاميات ويعينهم فيها.

أهل السنة يكفرون الحنابلة:

بل استطاع هؤلاء الأساتذة أن يصرحوا بكفر الحنابلة من على المنابر. فقد ذهب الشريف أبو القاسم البكري المغربي، وهو مدرس بالنظامية، إلى جامع المنصور وهو مركز تجمع الحنابلة. " في حراسة الشرطة ووعظ به، وهاجم الحنابلة، ورماهم بالكفر قائلا: " ما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا.. " ما كفر أحمد بن حنبل، إنما كفر أصحابه، فرماه الحنابلة بالآجر " (33) وهذا القول يؤكد دعوانا بأن المذهب الفقهي والأصولي إنما اختلق وصنع للإمام أحمد بن حنبل وليس له.

وفي (عام 566 ه‍) جاء إلى بغداد محمد بن البروي، فوعظ بالنظامية، ونصر مذهب الأشعري وبالغ في ذم الحنابلة، وكان يقول: " لو كان لي أمر

____________

(32) التاريخ السياسي والفكري، م س، ص 219 - 220.

(33) المنتظم، ج 9 ص 403، والكامل، ج 10 ص 124. أنظر المرجع السابق، ص 243.

الصفحة 634
لوضعت عليهم الجزية " فقال إن الحنابلة دسوا عليه من سمه " (34).

إلا أن التاريخ لم يسجل أن أهل السنة هجموا على الحنابلة وقتلوهم أو نهبوا أموالهم، كما كان يفعل الحنابلة مع الشيعة. لقد تقلص حجم الحنابلة وضعف خطرهم مع سيطرة أهل السنة، وحوصرت دعوتهم وحركتهم، وتعرضوا للمضايقات بين الحين والآخر، يذكر السبكي: إن العادل (الأيوبي) عزر جماعة من أعيان الحنابلة لقولهم بالتجسيم تعزيرا رادعا وأهانهم " (35).

وتستمر المذابح الشيعية:

وبذلك خفت حدة الفتن المذهبية. لكن الشيعة لم يتنفسوا الصعداء بعد، لأن القضاء على الدولة الفاطمية في الشام ومصر واكبه مذابح فظيعة لتجمعات الشيعة هنا وهناك. فقد أفتى الشيخ نوح بقتل الشيعة في حلب (36). وبعده جاء ابن تيمية الحنبلي ليحيي الصراع الحنبلي الشيعي من جديد، فافتى بقتل جميع شيعة الجرد وكسروان في جبال لبنان (37). وعكف على التأليف وإصدار الفتاوى في حقهم، هذه الفتاوى التي حصدت ألوفا منهم وما زالت تجثم على صدروهم، وتطاردهم أينما حلوا أو ارتحلوا

____________

(34) مرآة الزمان، ج 8 ق 1 ص 292، أنظر المرجع السابق، ص 243.

(35) وفيات الأعيان، ج 2 ص 168. أنظر المرجع السابق، ص 298.

(36) أنظر صراع الحرية في عصر المفيد، ص 46، نقلا عن دول الإسلام، ص 220.

(37) كان انتقام المماليك من أهالي كسروان انتقاما رهيبا إلى درجة تساوى فيها مع إرهاب وتنكيل المغول ببغداد وأهاليها عام 1258 م. هذا الانتقام الدموي دفع بالسلطان الناصر بن قلاوون أن يطلب من الإمام ابن تيمية تبرير هذه المجازر. أنظر محمد أبو زهرة، ابن تيمية ص 45. ويقول الدكتور عاطف الأثات " وكان كبير أئمة السنة في الشام في تلك الحقبة تقي الدين بن تيمية وهو شيخ المذهب الحنبلي في دمشق، فقدم إلى كسروان عام 1304 م على رأس وفد من الأمراء لمفاوضة الشيعة هناك في الرجوع إلى الطاعة، فلم ينجح في مهمته وعاد إلى دمشق بعد ذلك وأخذ يدعو في جميع أنحاء الشام إلى حملة جديدة ضد أهل كسروان تقضي عليهم وتحد من نفوذهم نهائيا. كما أصدر فتوى بهدر دماء =

الصفحة 635

ابن تيمية والشيعة

تجديد الصراع وتعميقه:

إذا كان ابن تيمية قد أحدث بلبلة فكرية ودينية في عهده، عندما أعاد نشر الفكر الحشوي الخاص بالتشبيه والتجسيم ودافع عنه، كما خالف أهل السنة في قضايا أصولية وفروعية، وتعرض على أثر ذلك لموجة من المناظرات والمحاكمات انتهت بسجنه وموته فيه.

فإن حملته على الشيعة كانت أقوى وأشد خطورة، فإلى جانب استباحته دم شيعة كسروان، تفرغ للكتابة والرد على عقائدهم. وأهم مؤلف له بخصوص الشيعة. هو " منهاج السنة " الذي قيل إنه كتبه " للرد على الشيعة الإمامية الاثني عشرية في عقائدهم "، إذ كان لهم في عصره انتصار كبير في العراق وإيران. تحقق على يد عالمهم ابن المطهر الحلي، الذي أفلح في نشر المذهب في هذين البلدين، ولا سيما في إيران التي كان فيها الشيعة أقلية، فتزايد عددهم بجهوده تزايدا مذهلا، فصار يتردد في الأوساط العلمية والمجالس الشعبية اسم علامة الشيعة ابن المطهر، ذلك الاسم الذي أزعج ابن تيمية كثيرا، فنال منه في مجالسه وخطبه على ما بينهما من بعد المسافة (38).

____________

= الشيعة الكسروانيين وهدم بيوتهم وحرق أشجارهم. أنظر مجلة العرفان، المجلد 77 العددان 9 - 10، جمادى الثانية ورجب 1414 ه‍، 11 / 12 / 1993 م.

(38) ابن تيمية، صائب عبد الحميد، ص 192.

الصفحة 636

العلامة الحلي ومنهاج الكرامة:

و " منهاج السنة " جاء كما يقول بعض المؤرخين ردا على كتاب العلامة الحلي " منهاج الكرامة في إثبات الإمامة ". وقبل أن أعرض لبعض ما احتواه كتاب " شيخ الإسلام " من ردود على الشيعة. أقف مع الدكتور سيد الجميلي الذي كتب عن العلامة الحلي يقول: وله كتاب " منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة خلط فيه بين المعقول والمنقول وخرج عن طريق الاستقامة بغير وعي " (39).

أقول بغض النظر عن صحة اسم الكتاب وهل سماه صاحبه " منهاج الكرامة " أم منهاج الاستقامة ؟ ! فإن الدكتور يقول عنه: خلط بين المنقول والمعقول ؟ ! ونحن نسأل الدكتور هل قرأ هذا الكتاب ؟ وهل وصلت إلى يده نسخة منه، فطالعها وتبين له أن العلامة قد خلط المنقول بالمعقول ؟ لا نعتقد ذلك أبدا ؟ ! وإنما هو اجترار لكلام ابن تيمية ليس إلا، لأننا على يقين بأن الدكتور المحترم لو يقتني له نسخة من هذا الكتاب من مطابع بيروت ويعكف على قراءتها بتمعن وموضوعية لانتهى به الأمر إلى الكفر بابن تيمية، ولرفع صوته معنا، بأن شيخ الإسلام هو الذي خلط المنقول بالمعقول، وافترى على الحقيقة والتاريخ، وبهت الرجل ! ؟.

ثم يضيف الدكتور " وقد انتدب ابن تيمية للرد عليه - أي على الحلي - في مجلدات يقول عنها ابن كثير في تاريخه المشهور " أتى فيها ابن تيمية بما يبهر العقول من الأشياء المليحة الحسنة ". ثم يقول بعد ذلك ابن كثير عن ابن مطهر " ابن مطهر الذي لم تطهر خلائقه ولم يتطهر من دنس الرفض " (40).

ماذا نقول لهذا المؤرخ ؟ ! إنه تلميذ ابن تيمية وصنيعته ؟ وقد سن ابن تيمية لتلاميذه وأتباعه سنة السب والقدح، فهم يتوارثونها خلفا عن سلف ؟ ! مع أن

____________

(39) مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره، أنظر الهامش، ص 21.

(40) المرجع السابق، ص 21، نقلا عن البداية والنهاية، 14 / 125.

الصفحة 637
ابن كثير لم يكن يعرف عن ابن المطهر - وليس " مطهر " كما ورد في النص - شيئا. إلا سماعه بنبوغه الذي انتشر في الآفاق، وانتصاره لعقيدة الإمامية.

والإسلام والخلق الرفيع يقضيان بمعالجة آراء القوم وأفكارهم والرد عليها بموضوعية وليس تجريح ذواتهم والتعرض لأخلاقهم. ولنا وقفة أخرى مطولة مع الدكتور الجميلي لأنه سينتصر لابن تيمية بما لم يثبت تاريخيا وقوعه.

ويكفي أن نرد على هذا الكلام بما قاله مؤرخون آخرون أكثر موضوعية من ابن كثير. قال الصفدي وقد عاصره: هو الإمام العلامة ذو الفنون، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته. وكان إماما في الكلام والمعقولات كان يصنف وهو راكب، وكان ريض الأخلاق، مشتهر الذكر، تخرج به أقوام كثيرة (41).

وقال ابن حجر: هو عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم، وكان آية في الذكاء، اشتهرت تصانيفه في حياته، وكان مشتهر الذكر وحسن الأخلاق (42).

والعلامة الحلي كان قد درس على عدد من كبار علماء أهل السنة مثل علي بن عمر الكاتبي القزويني الشافعي، وبرهان الدين محمد بن محمد النسفي الحنفي، وابن الصباغ الحنفي. كما كانت له مع القاضي البيضاوي الشيرازي، صاحب التفسير، المتوفى (685 ه‍) مكاتبات تفصح عن الخلق الإسلامي والعلمي النبيل، ومن تلك المكاتبات، كتاب بعثه البيضاوي فصدره بقوله: مولانا جمال الدين، أدام الله فواضلك، أنت إمام المجتهدين في علم الأصول... فأجابه ابن المطهر بكتاب استهله بقوله: وقفت على إفادة مولانا الإمام أدام الله فضائله، وأسبغ عليه فواضله (43). أنظر ففي الوقت الذي يصفه أعلام المؤرخين والفقهاء من أهل السنة بالعلم والذكاء وحسن الخلق، يقول

____________

(41) الوافي بالوفيات، ج 3، ص 79، نقلا عن صائب عبد الحميد، م س، ص 204.

(42) ذيول العبر، ج 4، ص 77، أنظر المرجع السابق، ص 204.

(43) أنظر المزيد التفصيل أعيان الشيعة، ج 5 ص 401، والمرجع السابق، ص 205 - 206.

الصفحة 638
عنه ابن كثير تلميذ ابن تيمية " لم تطهر خلائقه " ؟ ! !.

ابن تيمية ومنهاج السنة:

ونرجع إلى " منهاج السنة في نقض كلام الشيعة والقدرية " لابن تيمية، نقلب صفحاته، لنرى ماذا يخبئ فيه " الشيخ " للإمامية من ادعاءات وافتراءات رخيصة. وبما أن المقام لا يسع للتعرض لكل ما جاء في الكتاب والرد عليه فسنكتفي ببعض الأمثلة، ويمكن الرجوع للدراسات المختصة في هذا الموضوع وهي كثيرة (44).

لقد ناقش ابن تيمية الشيعة الإمامية في مجمل عقائدهم، وعارضها بعقائد المذهب الحنبلي. يقول في باب التوحيد مثلا: " وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات والقول بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة، ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر وأن الله لا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يقدر أن يضل من يشاء " (45).

وذهب إلى أن الشيعة في عقيدة التوحيد قد اتبعوا المعتزلة والقدرية، وتارة يتبعون المجسمة والجبرية (46). لكن الدكتور يوسف محمود يرد على هذا الخلط والخبط فيقول: إن من الواضح والبين من كتب مفكري الشيعة السابقين على " ابن مطهر الحلي " والشيعة المحدثين: إن عقيدة التوحيد لديهم بصفة عامة صافية كل الصفاء، وخالية من كل تشبيه أو تجسيم، وذلك أن هؤلاء الشيعة في أبحاثهم العقدية وخاصة عقيدة التوحيد قد اعتمدوا على القرآن والسنة النبوية، وإذا أخذنا على سبيل المثال الشيخ الصدوق " المتوفى

____________

(44) مثل منهاج الشريعة في الرد على منهاج السنة، للسيد مهدي بن صالح القزويني، و " إكمال المنة في نقض منهاج السنة " لسراج الدين الحسن بن عيسى اليماني اللكهنوي.

(45) على دروب التقريب بين المذاهب الإسلامية، ص 124، نقلا عن منهاج السنة، ج 1 ص 79.

(46) المرجع السابق، ص 124.

الصفحة 639
سنة 381 ه‍ " لوجدنا بأنه يثبت هذه العقيدة الصافية والمطابقة للقرآن الكريم والسنة النبوية (47).

وابن تيمية عندما يتهم الشيعة بالتشبيه والتجسيم وهم رواد التنزيه، يرد عليه السبكي الشافعي الذي قرأ كتابه متهما إياه بنفس التهمة، ويزيد عليه بأنه سقط فيما وقع فيه الفلاسفة من الإيمان بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية، وهذه نكتة عقائدية كنا قد ذكرناها في فصله، كيف يتهم من سماه أهل السنة " بشيخ أهل التشبيه والتجسيم " الشيعة الإمامية بهذه التهمة ؟ ! ولا ينفع الجدل هنا، لأن كتب الشيعة في التوحيد مطبوعة وموزعة، وعلى من أراد التحقيق أن يرجع إليها. فليس الادعاء كالحقيقة !.

ابن تيمية يرد الأحاديث الجياد:

ولما راجع الكتاب عالم الحديث ابن حجر، المعتمد لدى السلفية اليوم، قال عنه: " لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر ! وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه رد في رده كثيرا من الأحاديث الجياد، التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره والإنسان عامد للنسيان !. وقال:

وكم من مبالغة لتوهين كلام (الرافضي) أدته أحيانا إلى تنقيص علي عليه السلام ؟ ! ! (48).

هذا هو رد ابن تيمية العلمي والموضوعي، رفض أحاديث الرسول وإن كانت كما قال ابن حجر " من الأحاديث الجياد "، ثم انتقاص الإمام علي عليه السلام ! ؟. رد سنة الرسول (ص) والتهجم على الرجل الذي نصر الله الإسلام

____________

(47) موقف ابن تيمية من الشيعة (دراسة مقارنة) ضمن المرجع السابق. للدكتور يوسف محمود محمد الصديقي مدرس الفلسفة والعقيدة جامعة قطر.

(48) ابن تيمية، صائب عبد الحميد، ص 217 - 218، نقلا عن لسان الميزان، ج 6، ص 319.

الصفحة 640
بسيفه وجهاده، رجل ولد في الكعبة وقتل في المحراب، وقدم للإسلام ولنبي الإسلام ما لا يجرؤ أحد أن يدعي مثله، إلا كاذب أو مفتر. لكنه الحقد الأموي، والبغض لأهل بيت رسول الله، الذي ورثه ابن تيمية من تراث الحشو الحنبلي الذي يمدح معاوية وطلحة والزبير، وينتقص الإمام عليا وذريته.

وكيف يرد ابن تيمية أحاديث الرسول، ألا يؤمن ابن حجر وأمثاله أن رد السنة هو كفر بها ؟ ! أم إن عذر النسيان يمحو هذه الخطيئة ؟ ! وهل يباح أو يجوز النسيان هنا ؟ ! إن فتاوى التكفير وإباحة الدماء ستنبني على هذا النسيان ؟ !.

الجزء الأول وقسم من الجزء الثاني الذي خصه ابن تيمية لمعالجة قضايا التوحيد، سينتهي فيه إلى عرض عقيدة التشبيه والتجسيم، ونسبتها إلى السلف الصالح، وقد تكفل أهل السنة بالرد عليه ونسف عقيدته، أما ما يخص الشيعة، كتعريف التشيع، وإمامة أهل البيت وفضلهم، فإنه قد أخفق إخفاقا ذريعا في أن يقارب الحقيقة، أو يتمسك بحبل الصواب، بل شط بعيدا، وهوى به حقده وتعصبه لبني أمية، في مكان سحيق.

الأحاديث الضعيفة والأساطير الواهية:

وهو إن كان قد رفض أحاديث ابن المطهر التي أوردها نقلا عن مصادر أهل السنة والحشوية، بحجة أنها ضعيفة أو واهية. فإنه سيحشو كتابه " منهاج السنة " بكم هائل من أحاديث الحشو التي وضعت للحط من مكانة أهل البيت، وتزوير الحقائق التاريخية الإسلامية، أحاديث تكفي قراءتها لبيان تهافتها وعدم صحتها.

إنك سترى كما يقول الباحث صائب عبد الحميد: " رجلا آخر سترى ابن تيمية وهو يتحصن بالواهيات ويحشو أسس حصنه بما يشهد عليه بنفسه أنه لا حظ له من الصحة، ولا سبيل إلى دفع شبهة الوضع عنه، ثم يقيم عليه

الصفحة 641
كلاما أشد تهافتا، وينقض بعضه بعضا، من حيث يدري أو لا يدري لكنها وسيلته الوحيدة في مواجهة خصمه (49).

سيدعي بأن التشيع من تأسيس عبد الله بن سبأ اليهودي، هذه الشخصية الأسطورية التي صنعها أعداء الشيعة لمواجهتهم. والتي يقول عنها الدكتور طه حسين: " إن السبئية وصاحبهم ابن السوداء - ابن سبأ - إنما كان متكلفا منحولا قد اخترع بأخرة حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم والنيل منهم " (50)، وطه حسين ليس شيعيا، ولكنه البحث العلمي الذي يكشف الحقائق ويرد الخرافات والأوهام. ولنا وقفة بعد قليل مع ابن سبأ وأقوال المحققين مع العلماء فيه.

لقد اعتمد ابن تيمية أقوال الشعبي لوصف الشيعة وبيان أخبارهم، لأنه في نظره كان أخبر الناس بهم. وهذا الشعبي هو عامر بن شراحيل. كان قاضي الكوفة في عهد بني أمية، وصحب عبد الملك بن مروان الأموي وكان أمين سره، وشارك في المؤامرات السياسية. ونحن نعلم أن بني أمية لم يكونوا يقربون إلا من كان يبغض عليا وشيعته. وقد كان الشعبي كذلك. لقد اتهم الشعبي الحارث الأعور الهمداني بالكذب. وهو من أصحاب علي بن أبي طالب. يقول ابن عبد البر: أظن أن الشعبي عوقب على تكذيبه الحارث، لأنه لم تبن منه كذبة أبدا، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي (51).

لقد استحل بنو أمية وأتباعهم الكذب، وألصقوا بخصومهم ما هم به متلبسين. وجاء ابن تيمية ليغرف من هذه الأكاذيب ويصنع منها ردا، يقول

____________

(49) المرجع السابق، ص 231.

(50) علي وبنوه المجموعة الكاملة لمؤلفات د. طه حسين، ج 4، ص 518 ه‍، نقلا عن المرجع السابق، ص 238.

(51) تهذيب التهذيب، ج 2 ص 127. نقلا عن المرجع السابق، ص 244.

الصفحة 642
عنه ابن كثير تلميذه بأنه " من الأشياء المليحة الحسنة ". وفعلا فما أحلى الكذب عندما تعوز الخصم الحجة والدليل ؟ !.

والمضحك أن شيخ السلفية يتهم الشيعة بأنهم " ليسوا أهل علم وخبرة بطريق النظر والمناظرة ومعرفة الأدلة والأحاديث " في الوقت الذي يصف البيضاوي صاحب التفسير وهو أحد كبار علماء أهل السنة ابن المطهر الحلي عالم الشيعة بأنه إمام المجتهدين في علم الأصول " ! ؟.

والصفدي يقول عنه كما مر معنا " كان إماما في الكلام والمعقولات " ؟ !

ونحن على يقين بأن ابن تيمية وأتباعه من السلفية قديما وحديثا، لو اجتمعوا لفهم كتاب " الألفين في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " (52) لما استطاعوا ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. إلا أن يرشدهم أستاذ في علوم العقل والنقل. وإبداعات علماء الشيعة في الأصول والكلام والمنطق تملأ المكتبات، وليس تحصيلها عسيرا على من أراد أن يكشف الحقائق بنفسه.

وبالجملة فقد رام " الشيخ " بعد ما أعياه الدليل إلى جمع كل ما قيل في الشيعة من مثالب وأقوال ولم يرد أن يميز بين الغلاة والمنحرفين من الفرق التي تنسب إلى الشيعة وبين الشيعة الإمامية. الذين يبرؤون ؟ من الغلاة ويكفرونهم. وفي ذلك نصوص وأحاديث كثيرة عن الأئمة.

على أننا نجد التفاتات من الشيخ الحنبلي لهذا الأمر في منهاجه، فبعد عرضه لعقائد القوم المختلفة يقول: " لكن قد لا يكون هذا كله في الإمامية الاثني عشرية، ولا في الزيدية، ولكن كثير منه في الغالية، وفي كثير من

____________

(52) يقول المؤلف: " هذا الكتاب الموسوم ب‍ " كتاب الألفين " الفارق بين الصدق والمين، فأوردت فيه الأدلة اليقينية والبراهين العقلية والنقلية ألف دليل على إمامة سيد الوصيين علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام، وألف دليل على أبطال شبه الطاعنين وأوردت فيه من الأدلة علي باقي الأئمة عليهم السلام ما فيه كفاية للمسترشدين " أنظر الكتاب طبع مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط 3 - 1982 م.

الصفحة 643
عوامهم (53). لكن هذه الحقائق وغيرها مما كتبه قلم الشيخ، جاءت باهتة ضائعة في الكم الهائل من الدعاوي والخرافات التي نسبها للشيعة دون أن يميز بين طوائف الشيعة المختلفة. وهذا المنهج يعض عليه أتباعه اليوم بالنواجد. فهم يكتبون عن الشيعة الإمامية، لكن بتراث وعقائد الغلاة من إسماعيلية ونصيرية وغيرهم.

ثم يعرض ابن تيمية لرأي الشيعة في الصحابة. فيعيد كل ما قيل وما أخذ كذريعة لسفك دماء هؤلاء الشيعة في بغداد وغيرها، ولنا وقفة مع الشيعة والصحابة فيما سيأتي.

ابن تيمية وأهل البيت:

أما موقف ابن تيمية من أهل البيت فكان غريبا جدا، فعندما ستصادفه عشرات الأحاديث الصحيحة ومن في حكمها، وكلها تشهد لأهل البيت، علي وفاطمة والحسن والحسين، بالأفضلية، وتدعو لاحترامهم ومحبتهم وتقديمهم على غيرهم وهذه الأحاديث تملأ الصحاح وكتب الحديث المختلفة، فإن شيخ الحنابلة، سيقول: " إن فكرة تقديم آل الرسول هي من أثر الجاهلية، في تقديم أهل بيت الرؤساء " (54) ! ؟.

إذن هذا الاجتباء الإلهي لآل الأنبياء هو من أثر الجاهلية، وكل هذا الذي في القرآن هو من أثر الجاهلية ؟ !.

وهذه الصلاة على آل محمد وآل إبراهيم التي ترددها في صلاتك هي من أثر الجاهلية ! ! أتدري لماذا جدع قصير أنفه ؟ ! لأنه لا يستريح حين يذكر لآل محمد (ص) حق في ذلك الاصطفاء (55). أما عندما يصطدم بحديث غير

____________

(53) منهاج السنة، ج 1، ص 13. أنظر صائب عبد الحميد، م س، ص 240.

(54) منهاج السنة، ج 3، ص 269.

(55) أنظر صائب عبد الحميد، ص 293 - 294.

الصفحة 644
خم الواضح في ولاية علي وأهل بيته، فإنه يحذف أوله ويثبت آخره. وهذا تحريف ليس جديدا على الشيخ، وقد تكلمنا في فصله عن اتهام أهل السنة له بالتحريف لأقوال الفرق الإسلامية والكذب على أصحابها.

ويتابع الشيخ الحنبلي نقض مستمسكات الشيعة الإمامية عروة عروة. لقد أجمعت الأمة أن الرسول آخى بين المهاجرين والأنصار، وآخى بينه وبين علي بن أبي طالب، وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن الرسول (ص) في حق علي: أنت أخي وأنا أخوك "، لكن ابن تيمية ينفي ذلك، ويحكم ببطلان الأحاديث الواردة في ذلك. مع أن أحاديث المؤاخاة صحيحة وقد رواها الحاكم والترمذي وذكرها أصحاب التواريخ.

الحقد الأموي ورفض سنة رسول الله (ص):

ويبلغ التهافت والتجني على الحقيقة منتهاه، عندما يرفض هذا الحنبلي حديث الطير (56). لأنه يصرح بأفضلية الإمام علي (عليه السلام) على جميع الناس ما عدا الرسول (ص). يقول ابن تيمية " إن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل " وقال: " وقد سئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح " (57).

أما إذا رجعنا إلى أهل العلم لنعرف مصداق كلام الشيخ فسنجد أن هذا الحديث، قد رواه الترمذي من طريق السدي ووثقه، ورواه النسائي، وصححه الحاكم في المستدرك وقال: رواه عن أنس أكثر من ثلاثين نفسا، وصححه الذهبي وألف جزءا في ما صح عنده من طرقه، ورواه البغوي أيضا وآخرون.

وقال الخوارزمي أخرج ابن مردويه هذا الحديث بمئة وعشرين إسنادا... وقال

____________

(56) عن أنس بن مالك قال: كان عند النبي (ص) طير أهدي إليه فقال: " اللهم ائتني بأحب الخلق إليك ليأكل معي هذا الطير، فدخل علي عليه السلام فأكله معه ".

(57) منهاج السنة، ج 4، ص 99. نقلا عن صائب عبد الحميد، م س، ص 303.

الصفحة 645
سبط ابن الجوزي: قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: حديث الطائر صحيح، يلزم البخاري ومسلم إخراجه في صحيحيهما لأن رجاله ثقات، وهو على شرطهما (58).

ماذا يقول علماء السلفية عندما يكذب شيخهم السلفي على علماء الحديث فالحاكم صحح الحديث، لكن ابن تيمية يقول لم يصححه ؟ ! إن هذا العمل هو الذي يشرح قول ابن حجر السالف الذكر من أن الشيخ رد الأحاديث الجياد. إن الانتصار لملوك بني أمية أعداء الإسلام والإنسانية، قد أعمى الشيخ وصمه، لدرجة رد أحاديث الرسول (ص) وضربها عرض الحائط.

وكذا فعل مع حديث الإنذار، الذي ذكره أهل التفسير عندما، شرحوا قوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء الآية 214). وهذا الحديث يعلن صراحة وبوضوح كون الإمام علي هو الوصي والخليفة. وقد رأينا كيف حرفه ابن كثير أو حرفه الذين طبعوا كتابه. بل إن الشيخ الحنبلي سيتنكر لبعض الحقائق الواضحة والتي لا تحتاج إلى عناء للتحقق منها. فهو يقول عن سورة الدهر أنها " مكية باتفاق العلماء " (59). وسورة الدهر أو الإنسان مدنية، باتفاق الأمة وهذه المصاحف بين أيدينا تشهد على ذلك ؟ ! ولا ندري، ألم يكتف الشيخ بضرب السنة وتجريحها، فهل انتقل إلى القرآن لتغيير حقائقه.

نقول هذا الكلام للسلفية، ليسرعوا إلى تصحيح عثرات شيخهم، لأنها عثرات قاتلة ؟ !.

إن كذب الشيخ على علماء الحديث والمفسرين، وتحريف أقوالهم، كثير جدا في منهاجه، وقد جئنا بهذه الأمثلة لمعرفة منهجه وطريقة رده على الشيعة الإمامية، ولو كان المقام يسع لجئنا بعشرات الأمثلة على هذا التحريف والكذب الصريح على علماء الإسلام وتراثهم. ومن أراد الاستزادة فعلية

____________

(58) صائب عبد الحميد، م س، ص 303 - 304.

(59) منهاج السنة، ج 2 ص 117، أنظر المرجع السابق، ص 307.

الصفحة 646
بكتاب " ابن تيمية حياته، عقائده، موقفه من الشيعة وأهل البيت " للباحث صائب عبد الحميد، وهو من مراجع هذا الكتاب. فقد تتبع كلامه في منهاجه وحققه، فجاءت الحقائق دامغة، نقضت بنيان صاحبه وأبانت عن عوار قصده وتأليفه.

الشيخ الحنبلي يجترئ على مقام النبوة:

لكن الذي لا يسكت عنه أبدا، هو تجاوز الشيخ الحنبلي حده، واجتراؤه على مقام النبوة والرسالة، عندما بدأ يحدد ما يقصده الرسول من كلامه دون قرينة أو معتمد، وهذا عمل خطير، ينذر بعواقب وخيمة قد تلحق شريعة الإسلام من جراء ذلك، خصوصا إذا تبعه أصحابه ونهجوا نهجه.

فهو يقول بعد ذكر الحديث الذي رواه البخاري عن قول الرسول (ص) لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " يقول الشيخ:

ليس فيه أية مزية لعلي، ولا فيه ما يشير إلى حقيقة الاستخلاف، وما هو إلا كلام أراد منه النبي إيناس علي لا غير (60). وعلى هذا التفسير فإن هارون لم تكن له أية مزية ؟ ! فهو كباقي أفراد بني إسرائيل ؟ ! وإذا كانت له مزية النبوة، فهل كلام الرسول لغو في لغو ؟ ! حاشاه فما كان ينطق عن الهوى. ولماذا جاء بهذه المقارنة ؟ !.

ألا يفهم الإنسان العادي من كلام رسول الله إن لعلي ميزة عند رسول الله، كما كان لهارون ميزة عند موسى عليه السلام ؟ لكن هارون كان نبيا وعلي ابن أبي طالب ليس كذلك. والحديث واضح الدلالة في أن عليا يشبه هارون في مؤازرة الرسول ودعمه والوقوف بجانبه، وسيرة علي شاهدة على ذلك. ومن يدعي بأنه كان أكثر مؤازرة من علي للرسول (ص). فكتب السيرة

____________

(60) الحديث في صحيح البخاري، ج 5 ص 89. ورواه مسلم، ج 4، ص 1870. وأحمد بن حنبل في مسنده، أنظر صائب عبد الحميد، ص 310.

الصفحة 647
ستكذبه ؟ !.

ومن أخبر ابن تيمية بأن الرسول أراد أن يؤنس عليا بقوله هذا ؟ ! إنه تقول على الرسول. وسوء أدب في حقه عليه الصلاة والسلام. لكنه الحقد الأعمى، ومعاداة أولياء الله، انتصارا للظلم والانحراف عن صراط الأنبياء والمرسلين.

الشيخ يتنكر لجهاد الإمام علي وينقد أعماله:

ويتابع شيخ الإسلام مسيرة في منهاجه السني، يعرض بالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويتتبع سيرته وينتقد تصرفاته ومواقفه، في جرأة لم يفعلها أحد قبله ولا بعده. مما حدا ببعض علماء أهل السنة لاتهامه بالنفاق، فقد صح عن الرسول (ص) قوله لعلي عليه السلام. " لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق ". وهذا الحديث رواه أحمد بن حنبل إمام السلفية الكبير.

الذي نقل عنه الطوسي، سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما روي في فضائل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحاح ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (61).

لقد رفض ابن تيمية أن يكون علي بن أبي طالب محقا في حروبه، خصوصا مع معاوية، وهذا بخلاف ما أجمعت عليه الأمة. وكتب التواريخ شاهدة على ذلك.

ورفض أعلمية الإمام علي، وهو هنا لا يرد الحقائق المسلمة، بل يرد أحاديث الرسول التي صرح أئمة الحديث بصحتها ؟ ! وتنكر لجهاده عليه السلام، وأدار ظهره لكل الوقائع التاريخية. لقد كذب هذا الرجل " السلفي " على كل الناس، رد أقوال الرسول، ورد أقوال المحدثين والفقهاء والمؤرخين، وأغمض عينيه ووضع في أذنيه وقرا، فهو لا يسمع ولا يرى. وليس العيب إلا

____________

(61) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، ص 235.

الصفحة 648
على من يتخذه إماما وقدوة، لكن الطيور على أشكالها تقع.

إن المستشرقين والكفار لم يفعلوا بحقائق الإسلام ما فعل بها " شيخ السلفية " فهنيئا لأتباعه به. وإنما نوجه كلامنا للعقلاء من أبناء الصحوة الإسلامية، وندعوهم لقراءة " منهاج السنة " ثم مراجعة كتب الحديث والتواريخ، ليروا بأم أعينهم مبلغ التحريف والكذب على الحقيقة.

وبهذا المنهج عالج الشيخ أحداث السقيفة وخلافة الخلفاء الثلاث، وما جرى في خلافة الإمام علي، من فتن وقلاقل. لكن لا يسع المجال لذكر بعض أمثلته. لقد انطلق الشيخ من فكرة النقض لكل ما يتشبث به الإمامة من حقائق، تصب في دعم عقيدة الإمامية. لذلك ضرب بعرض الحائط كل ما وجد أمامه من أحاديث النبوة وأقوال العلماء. هذا من جهة، من جهة أخرى دافع عن خصوم أهل البيت دفاعا مستميتا، برر أعمالهم، وأول النصوص الصادرة عنهم بما يفيد اتهامهم. ولم يترك وسيلة تقربه من هدفه إلا وركبها.

وبالجملة لقد كان لسان شيخ الإسلام وقلمه أكثر حدة من سيوف بني أمية خصوم أهل البيت ؟ !.

قتل الحسين (ع) ليس بأعظم من قتل الأنبياء ؟:

يعترف ابن تيمية بأن معاوية قد قتل الحسن بن علي عندما دس عليه من سمه. لكن الشيخ يعتبر قتل ابن بنت رسول الله أمرا اعتياديا، وهو من قبيل " قتال بعضهم بعضا " (62). بل لا يشك أحد في أن معاوية كان مجتهدا متأولا، وهو مأجور على قتله الإمام الحسن بن علي. أليس كذلك ؟ ! ! وإذن أين حكم القرآن ؟ هل نسي شيخ السلفية - لفرط حبه لمعاوية - إن الله سبحانه وتعالى يقول * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * (63).

____________

(62) منهاج السنة، ج 2 ص 225، أنظر صائب عبد الحميد، ص 371.

(63) سورة النساء، الآية: 93.

الصفحة 649
أم أن أحكام القصاص لم تنزل للمسلمين، كما ادعى معاوية من قبل، بأن حكم كنز الأموال نزل في أهل الكتاب وليس في المسلمين ؟ ! !.

أم أن حكم الإسلام في الدماء قد استثني منه الصحابة والخلفاء ؟ ! نحن نعلم أن للفقهاء أبوابا فقهية تعالج حكم من قتل حشرة أو حيوانا مهما صغر حجمه في الحرم المكي. لكن ما بال هذه الدماء والأرواح ؟ ! ما هو حكم قتل الإمام الحسن بن علي ؟ ! هل يستطيع دعاة السلفية أن يجيبونا عن هذا السؤال ! !. أم سيطلبون منا أن نلزم الصمت، أن نسكت، فتلك أمة قد خلت ! ! ولا شأن لنا فيما وقع بين الصحابة ؟ !.

إن هذا الأمر - أي السكوت - لن يتسنى لنا إلا إذا ضربنا كشحا عن الإسلام ككل. وابتعدنا عن الالتزام بالدين، فهل يعقل أن يؤمن الناس بدين لا تاريخ ؟ !.. ويبقي السؤال معلقا ويحتاج إلى جواب. ما هو حكم قتل الإماميين الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب، وقبلهما حجر بن عدي وأصحابه والمئات من الأرواح التي أزهقت بسيف معاوية بن أبي سفيان وبني أمية ؟ ! !.

قتل الحسين بن علي في كربلاء ومن معه من أولاده وأصحابه. فما ذا يقول " شيخ الإسلام " في ذلك ؟ ! يقول: " ويزيد ليس بأعظم جرما من بني إسرائيل، كان بنوا إسرائيل يقتلون الأنبياء، وقتل الحسين ليس بأعظم من قتل الأنبياء " (64). وإذن، أين هو المشكل ؟ ! يستطيع أي حاكم أن يقتل أي شخص من رعيته، وإذا قيل له لماذا ؟ ! يجيبهم بأن المقتول ليس أفضل عند الله من أنبياء الذين قتلتهم بنو إسرائيل ؟ ! هذا هو الحكم السلفي في الدماء، دماء المظلومين والأبرياء ! ! !.

____________

(64) منهاج السنة، ج 2 ص 247، أنظر المرجع السابق، ص 372.

الصفحة 650

الدفاع عن الظلم والإجرام:

لكن ابن تيمية سيعترف بوقعة الحرة التي قتل فيها جيش يزيد بن معاوية عشرة آلاف مسلم من التابعين وأبنائهم، وفضت بكارة ألف عذراء من بنات أهل المدينة سفاحا واغتصابا. وقع هذا في مدينة الرسول (ص)، وابن تيمية لا يسعه إنكار الحادثة، وإن أنكر عدد القتلى دون دليل طبعا (65).

لكنه سيهرع بحثا عن حسنات ليزيد علها تستر هذه المخازي والموبقات ؟ !

وفعلا وجد الشيخ ضالته، قال إن يزيد ابن معاوية شارك في غزو القسطنطينية وأن الرسول - كما يدعي الكذبة - قال: أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له. لكن هذا الحديث الواهي لم يعرفه عامة علماء الحديث. ولا بد أنه صنع بعد ما انتشر السخط من أفعال يزيد. فأراد بنو أمية أن يختلقوا له فضيلة تستر عواره. لكن هيهات، فحتى مشاركته في جيش القسطنطينية كانت مؤامرة وتدليس من معاوية لتهيئته للخلافة من بعده، ولسنا نحن نقول ذلك، بل التاريخ هو الذي يفضح هذه المؤامرات والدسائس الأموية.

أما حرق يزيد للكعبة المشرفة فإن شيخ الإسلام يدعي بأنه لم يكن يقصد ذلك، وإنما كان يحارب ابن الزبير فوقع حرق الكعبة.

إلى غير ذلك من التأويلات الغريبة دفاعا عن الظلم والانحراف. وعلماء أهل السنة يتبرؤون من يزيد ويلعنونه، لعنه الإمام أحمد بن حنبل، وذكر القاضي أبو يعلى الحنبلي إنه ممن يستحق اللعن. وقال ابن عقيل الحنبلي ومما يدل على كفره وزندقته فضلا عن سبه ولعنه أشعاره التي أفصح بها بالإلحاد وأبان عن خبث الضمائر وسوء الاعتقاد (66).

____________

(65) يقول عبد الله بن حنضلة ابن الصحابي الجليل حنضلة الذي غسلته الملائكة: " والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ! إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات، والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة " أنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي.

(66) أنظر تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي. يقول: " ولما لعنه جدي أبو الفرج على المنبر ببغداد بحضرة الإمام الناصر وأكابر العلماء قام جماعة من الجفاة من مجلسه فذهبوا =