المقدمة

أحمدك اللهم حمدا كثيرا، بمدى علمك، وبسعة رحمتك، طيبا يليق بربوبيتك لي وبعبوديتي لك، وبنفس الكم والكيف أستغفرك من كل ذنوبي وآثامي كما أمرت، وأتوسل إليك أن تجود علي بالمغفرة كما وعدت، إنك يا مولاي لا تخلف الميعاد.

وأسألك باسمك العظيم الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة، أن تصلي وتسلم على رسولك محمد الذي أرسلته بالإسلام، فميزه وبينه، وسلك بمعتنقيه الصراط السوي إليك، فعبده، اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، أهل الثقل والتقى، ونجوم الأمان والهدى، وسفين النجا، خصهم الله بالفضل، وقدمهم على أهل الملة، وجعل الصلاة عليهم ركنا من أركان الصلاة المفروضة على العباد، لتكون تذكرة دائمة بتلك المنزلة، (إن نفعت الذكرى) (إن الذكرى تنفع المؤمنين)، أما بعد:

فإن المنظومة الحقوقية الإلهية التي جاء بها الإسلام، ما هي في مجملها وحقيقتها، وبكل جوانبها إلا خطة إلهية متكاملة، أعدت بإحكام، ووضعت خصيصا لترشيد الجنس البشري للأقوم، ولإسعاده في الدارين، وهي بطبيعتها وبحكم تكوينها الإلهي قائمة على الجزم واليقين، بعكس المنظومات الحقوقية الوضعية المبنية أصلا على الافتراض والتخمين. ومما يؤكد الثقة المطلقة بهذه المنظومة أنها لم تبق مجرد قواعد نظرية، إنما شقت طريقها إلى عالم التطبيق، ونقلت من النظر إلى العمل، ومن الكلمة إلى الحركة، وبالتصوير الفني البطئ، عبر دعوة قادها النبي (ص) بنفسه، تمخضت عن دولة ترأسها النبي (ص) نفسه، ونتيجة تطبيق هذه المنظومة، تكونت خير أمة أخرجت للناس، وقامت أعظم دولة عرفتها البشرية، وهي دولة النبي (ص).

والنبي الكريم على فراش الموت، وبعيد انتقاله إلى جوار ربه بدأت سلسلة من

الصفحة 4
التداعيات والإنهيارات السياسية واقعيا، وبدأت معها عمليات التعتيم والتظاهر بالسلامة، والتستر على هذه الإنهيارات، ظنا من أرباب تلك العمليات أنها قد تعطي الفرصة لإيقاف تلك الإنهيارات، فلا يسمع بها أحد، ولا يشمت بالدين وأهله شامت، ولكن الإنهيارات لم تتوقف، بل توالت عبر التاريخ، ومهد الانهيار إلى انهيار، حتى تحول النظام السياسي في الإسلام إلى هيكل عظمي لم يبق له من الإسلام إلا الاسم، حيث اختفى وانهار نهائيا بسقوط آخر سلاطين بني عثمان، واستفاق المسلمون من ذهولهم، فإذا بالأمة الواحدة أمم ممزقة، تحيا الحيرة والضياع، فلو أرادت أن تتحد لما عرفت، كيف تتحد - كما يقول العقاد في ميزانه، وإذا بدولة الإسلام الواحدة دول، وإذا بحمى الإسلام يتحول إلى مائدة تتداعى فيها الأمم، والعالم من حولنا تتحكم به شريعة الغاب، وقد أنشبت المادية أظافرها في ذاته فأدمتها، يجري وراء السراب، يتوهم أنه اكتشف العلاج الذي يوقف النزيف، ويحاول أن يجر إليه البشرية جرا، تحت شعار الرحمة وإكراه المريض على تناول العلاج. وبينما الطبول تصدر أنغام الفرح والمسرة، يكتشف العالم أن الذي تصوره علاجا كان وهما، وليس انهيار العقيدة الشيوعية ببعيد.

لماذا حدثت الإنهيارات ؟ لماذا توالت ؟ حتى حولت النظام السياسي الإسلامي إلى هيكل عظمي وأخرجته عن معناه وصورته، ثم أتت عليه ورفعته من واقع الحياة بعد أن أبطلت مفعول المنظومة الحقوقية الإلهية وحرمت الجنس البشري من التداوي بعلاج الإسلام ومن الانتفاع بمنظومته ؟ أين يكمن سبب ذلك كله ؟ من المحال عقلا أن يكون سبب كل هذه البلايا والمحن من المنظومة الحقوقية ذاتها، لأنها من صنع الله الذي أتقن كل شئ خلقه!

إذن، فمن المؤكد أن السبب في كل ذلك يكمن في الذين قادوا التاريخ السياسي الإسلامي وصنعوه، أو في الأمة التي اشتركت معهم في صناعة هذا التاريخ وإخراجه، أو بالاثنين معا!

الأحزاب الدينية العربية التي تولت قيادة موكب التقليد الأعمى، وتاجرت بالآلام، وخلطت كل الأوراق لغاية في نفس يعقوب، تحاول بكل قواها أن تلقي بروع الناس، أن فهم هذه الأحزاب للإسلام هو الإسلام بعينه، وأنه لا فرق بين

الصفحة 5
فهمها للإسلام وبين الإسلام، فهما وجهان لعملة واحدة، مع أن الإسلام من صنع الله، وفهم الأحزاب للإسلام من إنتاجها، كما تحاول بكل قواها أن تثبت للناس بأن التاريخ السياسي الإسلامي الذي صنعه البشر من بعد وفاة النبي (ص) وحتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان هو عينه النظام السياسي الإسلامي الذي أنزله الله على عبده لترشيد الحركة السياسية للمجتمع البشري، وهي جادة في ما تقول وجادة فيه، مع أنها بعملها هذا قد خلطت الفهم بالمفهوم، وقدمت التابع على المتبوع، والفرع على الأصل، واستبدلت المنظومة الحقوقية الإلهية بالاجتهادات التي نشأت في ظلالها، ولم تتكلف الأحزاب الدينية العربية بذلك، إنما ضاق صدرها بالرأي الإسلامي المخالف، وحاولت بكل الوسائل أن تخنقه، وهي مع ذلك تدعي الانفتاح على الفكر العالمي، وتعد بإعطاء الحرية له ولأربابه ليعرضوا فكرهم في الوقت الذي تخنق فيه هذه الأحزاب الرأي الإسلامي المعارض لها، وتمنع أصحابه من التصريح به، فكيف يصدق بربك العالم ادعاءات هذه الأحزاب بالإنفتاح ؟

هكذا قدمت الأحزاب الدينية العربية الإسلام للعالم الحديث، فالإسلام الذي جاء لينقذ الجنس البشري كله، ويتسع به كله، ويشبع حاجاته وآماله كلها، يضيق على أبنائه ويضيق حتى بهم!! ذلك مبلغهم من العلم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وبهذا البحث المتواضع حاولت جهدي إثبات أن ما أنزله الله شئ، وأن فهمنا له شئ آخر، وأن الإنهيارات التي بدأت بعد وفاة النبي (ص)، وتوالت حتى اقتلعت النظام السياسي الإسلامي من واقع الحياة، لم تكن بسبب علة في الدين، ولا لنقص أو خطأ في منظومته الحقوقية الخالدة، إنما بسبب المسلمين الذين بدلوا نعمة الله وأعمالهم لما تهوى الأنفس، بدلا من حكم الله، وهنا يكمن جذر البلاء، ومن هنا المنطلق نحو الله.

وتأصيلا وتجذيرا وتسهيلا لاستيعاب هذا البحث، فقد قسمته إلى أربعة أبواب، عالجت في الباب الأول مفهوم الصحبة، وفي الباب الثاني كشفت الجذور التاريخية لهذا المفهوم، أما الباب الثالث فقد وضحت فيه المرجعية في الإسلام، ونظرا لارتباط مبدأ المرجعية بالقيادة السياسية، فقد تناولت في الباب الرابع القيادة

الصفحة 6
السياسية في الإسلام، وسيكتشف القارئ المتمعن أن هذه المواضيع الأربعة تتشابك مع بعضها تشابكا عضويا يتعذر فصله، وفي كل موضوع من هذه المواضيع سقت رأي أهل السنة باعتباره رأيا إسلاميا، قاد أصحابه الأمة الإسلامية طوال التاريخ، بعد أن استخرجته من مصادر أهل السنة المعتبرة، ثم سقت رأي أهل الشيعة، باعتباره رأيا إسلاميا تولى مهمة المعارضة طوال التاريخ الإسلامي، بعد أن استمزجت هذا الرأي من مصادر أهل الشيعة. وبعد ذلك وضعت تحت تصرف عشاق الحقيقة الشرعية المجردة حكم الشرع في كل موضوع من تلك المواضيع.

فجاء البحث وحيد زمانه شكلا وموضوعا ومنهجية، وحسب علمي القاصر، فإنه لأول مرة في العصر الحديث يتم تناول هذا الموضوع من قبل عربي من أهل السنة بهذا الشمول والتكامل والموضوعية، وبهذا الحجم من المعلومات والمراجع.

ولم أخف ولائي لآل محمد خاصة، ولبني هاشم عامة، ومن يلمني بولائي لهم وهم الثقل الأصغر والقرآن هو الثقل الأكبر، والهداية لا تدرك إلا بهما معا، والضلالة لا يمكن تجنبها إلا بهما معا كما هو ثابت في النصوص الشرعية القاطعة، وكيف يلمني لائم وهم سفن النجا، ونجوم الأمان والهدي في كل ليل كما هو ثابت في النص، وهم الحل، فالنبي هو القاسم المشترك بين المسلمين، وحصر القيادة والولاية في أولاده تطييب لنفوس الجميع، وانتزاع لجذور الطمع بها من نفوس الجميع، ونبذ التنافس عليها مما يؤدي إلى الاستقرار، ناهيك عن فضل القرابة الطاهرة على الإسلام، فهم الذي حموا النبي ومنعوه، وهم الذين حاصرتهم كل قبائل العرب مجتمعة وبلا استثناء ثلاث سنين في شعاب أبي طالب، وللعرب مطلب واحد وهو أن يسلم الهاشميون محمدا، أو أن يخلوا بينه وبين العرب ليقتلوه، ولو استجاب الهاشميون لأحد هذين المطلبين لما قامت للإسلام قائمة، ولقتل النبي (ص) كما قتل غيره من الأنبياء، فضلا عن جهاد الهاشميين الذي لا ينكره أحد، وتضحياتهم التي لا تخفى على أحد. هذا غيض من فيض من مبررات ولائي وشغفي، فمن يلمني بعد ذلك ؟

إلهي ومولاي، أنت تعلم سري وعلانيتي، وتعلم أنني ما قصدت إلا رضاك، فإن أصبت فمنك، إنك نعم المولى ونعم النصير، وإن أخطأت فمن نفسي، وثانية

الصفحة 7
أقول: اللهم اجعل عملي هذا خالصا لوجهك وهدية لمحمد ولآل محمد ولكل هاشمي أو مطلبي دب على وجه الأرض أو سيدب إلى يوم الدين، وليكن عملي صدقة تطفئ بها خطاياي، وتقربني منك، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

المؤلف


الصفحة 8

الصفحة 9

الباب الأول
مفهوم الصحبة والصحابة


الصفحة 10

الصفحة 11

الفصل الأول
مفهوم الصحبة والصحابة

1 - معنى الصحابة لغة

أ - في قواميس اللغة

الأصحاب، الصحابة، صحب، يصحب صحبة " بالضم " وصحابة " بالفتح "، صاحب أي عاشر، رافق، جالس، انقاد، شايع. والصاحب هو المعاشر أو المنقاد، أو المجالس أو المشايع، أو المرافق، أو القائم على الشئ، أو الحافظ له. ويطلق أيضا على كل من تقلد مذهبا، فيقال: أصحاب الإمام جعفر (عليه السلام)، وأصحاب أبي حنيفة. وأصحاب الشافعي.... الخ. يقال:

اصطحب القوم أي صحب بعضهم بعضا، واصطحب البعير أي انقاد له (1).

ب - في القرآن الكريم

الله تبارك وتعالى أنزل الكتاب قرآنا عربيا، وهو بوجه من وجوهه المرجع اليقيني الأوحد للغة العربية، لأنه كلام الله العالم علما يقينا بأدق خفايا هذه اللغة

____________

(1) ويمكن لمن أراد التفصيل أن يراجع على سبيل المثال: لسان العرب لجمال الدين محمد بن مكرم بن منظور ج 1 ص 915. وتاج اللغة لإسماعيل بن حماد الجوهري ص 161 - 162. وتاج العروس لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي ج 3 ص 186. والمعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى ورفقاه ج 1 ص 509 - 510. والقاموس المحيط للفيروز آبادي مجدي بن محمد يعقوب. ومختارات الصحاح لأبي بكر الرازي ص 356.


الصفحة 12
وأعمق أسرارها.

وبتلاوتنا للقرآن الكريم، نجد أنه قد اشتمل على كلمات: " تصاحبني، وصاحبهما وصاحبه، وصاحبته، وأصحاب، وأصحابهم ". وأن هذه الكلمات تكررت بمجموعها في القرآن الكريم (97) مرة.

ومن المثير للانتباه، أننا لم نعثر في القرآن الكريم كله على لفظ لكلمتي (صحابة / بالفتح / أو صحبة / بالضم).

ج - استقراء الآيات لصالح المعنى اللغوي

وباستقرائنا لتلك الكلمات نجد أنها تشكل تغطية كاملة للمعاني اللغوية التي أشرت إليها في الفقرة السابقة (أ). فالصحبة يمكن أن تأخذ وجها أو صورة واحدة ويمكن أن تأخذ وجوها أو صورا متعددة، ويمكن أن يكون لها وجه أمثل يشمل كل نواحي الخير، وقد يكون لها وجه أبشع يشمل كل نواحي الشر.

د - وجوه أو صور الصحبة

فقد تكون بين مؤمن ومؤمن (1)، وقد تكون بين ولد ووالدين مختلفين بالاعتقاد (2) وقد تكون بين رفيقي سفر (3) وقد تكون بين تابع ومتبوع (4) وقد تكون بين مؤمن وكافر (5) وقد تكون شمولية على الشر بين كافر وكافرين (6) وقد تكون بين نبي وقومه الكافرين النبي يحاول أن يشدهم نحو الخير وهم يحاولون إعادته إلى

____________

(1) راجع الآية 26 من سورة الكهف، و ج 3 ص 92 - 93 من تفسير ابن كثير على سبيل المثال.

(2) راجع الآية 15 من سورة لقمان و ج 3 ص 444 من تفسير ابن كثير.

(3) راجع الآية 36 من سورة النساء و ج 1 ص 494 من تفسير ابن كثير.

(4) راجع الآية 40 من سورة التوبة ج 2 ص 358 من تفسير ابن كثير.

(5) راجع الآيتين 34 و 37 من سورة الكهف و ج 3 ص 83 من تفسير ابن كثير.

(6) راجع الآية 29 من سورة القمر و ج 4 ص 265 من تفسير ابن كثير.


الصفحة 13
حظيرة الشر (1) وقد تكون الصحبة اضطرارية (2) وقد تكون صحبة أثر فيقتدي فاسد بفعل فاسد وينسج على منواله (3) وقد تكون الصحبة انقيادا لعقيدة إلهية وولاء مطلق لقيادتها السياسية كانقياد الآل الكرام للعقيدة الإلهية وولائهم المطلق لقيادة النبي السياسية وتضحياتهم الجسام، وكانقياد وولاء الصفوة الصادقة من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله). فمحور الصحبة (بالضم) محور شمولي يرتكز على عقيدة وقيادة وأهداف ومثل عليا يسعى القائد وأصحابه لتحقيقها وسيادتها على مجتمع معين (4).

2 - معنى الصحابة اصطلاحا

يقول ابن حجر العسقلاني الشافعي بالحرف: " الصحابي من لقي النبي (صلى الله عليه وآله) مؤمنا به ومات على الإسلام " (5).

أ - توضيح ابن حجر لهذا التعريف

1 - فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت.

2 - من روى عنه أو لم يرو.

3 - من غزا معه أو لم يغز.

4 - من رآه ولو لم يجالسه.

5 - من لم يره لعارض كالعمى.

ويخرج بقيد الإيمان " مؤمنا به "

____________

(1) راجع الآية 2 من سورة النجم والآية 41 من سورة سبأ و ج 3 ص 543 و ج 4 ص 246 لابن كثير.

(2) راجع الآية 31 من سورة يوسف ج 2 ص 479 لابن كثير.

(3) راجع الآية 59 من سورة الذاريات و ج 2 ص 238 لابن كثير.

(4) راجع سلسلة مقالاتنا المنشورة تباعا في جريدة اللواء الأردنية عام 91 - 92.

(5) راجع الإصابة في تمييز الصحابة لأحمد بن علي بن محمد بن علي الكناني العسقلاني الشافعي المعروف بابن حجر ص 10.


الصفحة 14
1 - من لقيه مؤمنا بغيره كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة.

2 - وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث، أو لا يدخل محل احتمال، ومن هؤلاء بحيرة الراهب ونظراؤه.

3 - ويدخل في قولنا مؤمنا به كل مكلف من الجن والإنس.

4 - وإنكار ابن الأثير على أبي موسى تخريجه لبعض الجن الذين عرفوا في كتاب الصحابة فليس بمنكر.

5 - وقال ابن حزم: من ادعى الإجماع فقد كذب على الأمة فإن الله تعالى قد أعلمنا أن نفرا من الجن آمنوا وسمعوا القرآن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم صحابة (1).

6 - الملائكة محل نظر، وقد نقل الإمام فخر الدين الرازي في " أسرار التنزيل " الاجماع على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن مرسلا إلى الملائكة، ونوزع في هذا النقل بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مرسلا إليهم واحتج بأشياء.

7 - وخرج بقولنا " ومات على الإسلام " من لقيه مؤمنا به ثم ارتد ومات على دينه والعياذ بالله من ذلك عدد يسير كعبيد الله بن جحش الذي كان زوجا لأم حبيبة، فإنه أسلم معها وهاجر إلى الحبشة فتنصر ومات على نصرانيته، وكعبد الله بن خطل الذي قتل وهو متعلق بأستار الكعبة.

8 - ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة أخرى أم لا. وهذا هو الصحيح المعتمد والشق الأول لا خلاف في دخوله. وأبدى بعضهم في الشق الثاني احتمالا وهو مردود لإطباق أهل الحديث على أن ابن قيس من الصحابة وعلى تخريج أحاديثه في الصحاح والمسانيد وهو من ارتد ثم عاد للإسلام في خلافة أبي بكر.

____________

(1) راجع ص 11 وما فوق من المرجع السابق

الصفحة 15

ب - تقييم ابن حجر لهذا التعريف

هذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما. ووراء ذلك أقوال آخرين شاذة كقول من قال: لا يعد صحابيا إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: 1 - من طالت صحبته. 2 - أو حفظت روايته. 3 - أو ضبط أنه قد غزا معه. 4 - أو استشهد بين يديه. وكذلك من اشترط في صحة الصحبة بلوغ الحلم أو المجالسة ولو قصرت. وأطلق جماعة أن من رأى النبي (صلى الله عليه وآله) فهو صحابي، وهو محمول على من بلغ سن التمييز، إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه، وعندما يراه النبي (ص) فيكون صحابيا من هذه الحيثية ومن حيث الرؤية يكون تابعيا. وهل يدخل من رآه ميتا قبل أن يدفن كما وقع لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر إن صح محل نظر والراجح عدم الدخول.

ج - وسائل معرفة الصحابة

أن يثبت بطريق التواتر أنه صحابي ثم بالإستفاضة والشهرة، ثم أن يروي عن أحد من الصحابة أن فلانا له صحبة مثلا، وكذلك عن آحاد التابعين بناء على قبول التزكية من واحد وهو الراجح، ثم بأن يقول هو إذا كان ثابت العدالة: أنا صحابي.

أما الشرط الأول وهو العدالة فجزم به الآمدي وغيره لأنه قوله قبل أن تثبت عدالته:

أنا صحابي، أو ما يقوم مقام ذلك يلزم من قبوله قوله إثبات عدالته، لأن الصحابة كلهم عدول فيكون بمنزلة القائل أنا عدل وذلك لا يقبل.

وفوق ذلك المعاصرة فيعتبر بمضي مائة سنة وعشر سنين من هجرة النبي (ص). ومن هنا لم تصدق الأئمة من ادعى الصحبة بعد الغاية المذكورة، وقد ادعاها جماعة فكذبوا لأن الظاهر كذبهم في دعواهم، ومن لا تعرف حاله إلا من نفسه فمقتضى كلام الآمدي أن لا تثبت صحبته.

د - كل الشعب صحابة

من المجمع عليه أن الدعوة المحمدية تمخضت عن الدولة المحمدية التي قادها

الصفحة 16
النبي (ص) بنفسه قرابة عشر سنين، أرسى خلالها قواعد النظام السياسي الإسلامي وبين عقيدة الإسلام بيانا كاملا من خلال نقل النص من النظر إلى التطبيق على كل صعيد، ومن خلال إبراز روحها العامة.

ومن المتفق عليه دستوريا أن مقومات الدولة - أية دولة - على الاطلاق تتكون من: 1 - شعب 2 - إقليم يستقر فوقه هذا الشعب 3 - سلطة تسوس هذا الشعب.

وإذا أخذنا بالتعريف الذي أورده ابن حجر العسقلاني للصحابة فإن المعول لينال شرف الصحبة ويكون صحابيا هو:

1 - الالتقاء بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) سواء أكان هذا الالتقاء عن طريق المجالسة أو المحادثة أو المشاهدة. فمن شاهد النبي أو شاهده النبي فهو صحابي حتى ولو كان طفلا رضيعا لأن المشاهدة لا تنسب له إنما تنسب للنبي نفسه.

2 - الإيمان بالنبي أنه نبي، فلو أخذنا برأي ابن حجر العسقلاني لوجب علينا أن نتأكد من حقيقة هذا الإيمان، وهذا أمر خارج عن قدرة البشر، وكان على ابن حجر العسقلاني أن يقول: مؤمنا به أو متظاهرا بالإيمان به. فعبد الله بن أبي زعيم المنافقين قولا واحدا هو من الصحابة بالإجماع. فقد قال النبي (ص) لمن أشار بقتله: " فلعمري لنحسنن صحبته ما دام بين أظهرنا " (1). و عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله ثم افترى على الله الكذب، وأباح الرسول (ص) دمه ولو تعلق بأستار الكعبة. وعند فتح مكة تشفع له عثمان ودخل في الإسلام لينجو بروحه.... وهو صحابي شاء الناس أم أبوا (2). ومثله الحكم بن العاص طريد رسول الله (ص) إذ طرده الرسول وحرم عليه دخول المدينة، وبوفاة الرسول راجع عثمان أبا بكر ليدخله لكن أبا بكر رفض، ولما مات أبو بكر راجع عثمان عمر ليدخل ولكن عمر رفض أيضا أن يدخله المدينة في عهده،

____________

(1) راجع الطبقات لابن سعد ج 2 ص 56 على سبيل المثال وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 103.

(2) راجع المعارف لابن قتيبة ص 131 و 141.


الصفحة 17
ولما تولى عثمان الخلافة أدخله معززا مكرما وأعطاه مئة ألف درهم لأنه صحابي (1). وباختصار فلا يشترط بالشخص حتى يكون صحابيا أن يكون مؤمنا حقيقة بالنبي بل يكفي أن يتظاهر بالإيمان وأن يموت على هذا الإيمان أو على هذا التظاهر به، لأن النبي لا يعنى بالبواطن إنما يكلها إلى الله.

ومن هنا، ومن خلال دعوة النبي ومن خلال دولته وغزواته (2)، ومن خلال بيعة الناس له، والحج والعمرة وفتح مكة وحجة الوداع خاصة، وسيطرة دولته الكاملة على الجزيرة العربية أتيحت الفرصة للجميع للإلتقاء به لم يبق في مكة ولا الطائف أحد في السنة العاشرة إلا أسلم وشهد مع النبي حجة الوداع، ومثل ذلك قول بعضهم في الأوس والخزرج أنه لم يبق منهم أحد في آخر عهد النبي إلا ودخل في الإسلام، وما مات النبي وواحد منهم يظهر الكفر (3) " حتى الأطفال صاروا صحابة " على سبيل الالحاق لغلبة الظن على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رآهم لتوفر دواعي أصحابه على إحضارهم أولادهم عنده عند ولايتهم ليحنكهم ويسميهم ويبرك عليهم. والأخبار بذلك كثيرة: " كان النبي يؤتي بالصبيان فيبرك عليهم " " ما كان يولد مولود إلا أتي به النبي " (4).

فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الفوارق قد أزيلت تماما بين الحاكم والمحكوم في دولة النبي، وأنه كان يمشي في الشارع وحده. ويقضي حاجته بنفسه، فكان بإمكان أي مواطن في الدولة الإسلامية أن يراه وأن يتكلم معه أو أن يحضر مجلسه مما جعل شعب دولة النبي كله صحابة بهذا المفهوم، بمعنى أن كل مواطني الدولة قد التقوا بإمامهم ورئيس دولتهم أو شاهدوه أو سمعوه فيه أو جالسوه.

الفرق الإسلامية الأخرى تتفق مع أهل السنة من حيث المعنيين اللغوي والاصطلاحي، ولكنهم يختلفون من حيث صفة العدالة، فبينما يعمم أهل السنة

____________

(1) راجع المعارف لابن قتيبة ص 54 و 131 وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 103.

(2) راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 232 وما فوق.

(3) راجع الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ص 16.

(4) الإصابة في تمييز الصحابة ص 7 لابن حجر العسقلاني.


الصفحة 18
ويرون أن كل الصحابة بلا استثناء عدول ترى الفرق الإسلامية الأخرى أن العدالة لها مستلزمات شرعية ومواصفات موضوعية. فمن توفرت فيه تلك المستلزمات والمواصفات فهو العدل، ومن لم تتوفر فيه فليس بعدل، ولديهم أدلة من الكتاب والسنة والمنطق كما سنرى.


الصفحة 19

الفصل الثاني
نظرية عدالة الصحابة عند أهل السنة

اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة، على حد تعبير ابن حجر العسقلاني، ويجب الاعتقاد بنزاهتهم، إذ ثبت أن الجميع من أهل الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار (1). والمقصود بالصحابة كل الصحابة بالمعنى الذي عرضناه عند تحليل تعريف ابن حجر.

ما هو دليل أهل السنة على ذلك

ذكر الخطيب أن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم. فمن ذلك قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * وقوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * وقوله: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم) * وقوله: * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) * وقوله:

* (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * وقوله: * (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) * إلى قوله: * (إنك رؤوف رحيم) * وفي آيات كثيرة يطول ذكرها، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها (2).

____________

(1) راجع الإصابة في تمييز الصحابة ص 9 و 10 (2) راجع الإصابة في تمييز الصحابة ص 9 و 10.


الصفحة 20

مضمون عدالة الصحابة عند أهل السنة

تعني عدالة الصحابة فيما تعنيه، أن كل من عاصر الرسول أو ولد في عصره، لا يجوز عليه الكذب والتزوير، ولا يجوز تجريحه، ولو قتل آلافا، وفعل المنكرات. وعلى أساس ذلك فجميع الطبقة الأولى من الأمويين، كأبي سفيان وأولاده، وجميع المروانيين بما فيهم طريد رسول الله وأولاده، والمغيرة بن أبي شعبة وولده عبد الله الذي كان في حدود العاشرة من عمره حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك نسبوا إليه مجموعة من الأحاديث كتبها على النبي في صحيفة يسمونها الصادقة. فجميع هؤلاء من العدول ومروياتهم من نوع الصحاح ولو كانت في تجريح علي وأهل البيت، وفي التقريظ والتقديس لعبد الرحمن بن ملجم. هذه المرويات يجب قبولها ولا يجوز ردها لأن رواتها من العدول، والعادل لا يتعمد الكذب، والذين اتبعوا معاوية وسايروه طيلة ثلاثين عاما من حكمه، هؤلاء كلهم على الحق والهدى، وحتى الذين سموا الحسن بن علي وقتلوا الحسين وأصحابه، وفعلوا ما فعلوا من الجرائم في الكوفة وغيرها كانوا محقين ومن المهتدين بحجة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال بزعمهم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم " (1). وهذا الحديث ضعفه أئمة أهل الحديث فلا حجة فيه وطعن فيه ابن تيمية (2).

ما هو جزاء من لا يعتقد بهذا الرأي ؟

بأقل أقوال أهل السنة: " إذا رأيت الرجل ينقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق. والذين ينقصون أحدا على الاطلاق من أصحاب رسول الله هم زنادقة والجرح أولى بهم " (3). ومن عابهم أو انتقصهم فلا تواكلوه ولا تشاربوه ولا

____________

(1) راجع ص 81 و 82 من كتاب آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم للسيد مرتضى الرضوي.

(2) المرجع السابق ص 91 وقد نقل عن محب الدين الخطيب وعن المنتقى للذهبي.

(3) راجع الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ص 17 و 18.


الصفحة 21
تصلوا عليه) (1).

ما هو سر هذا التشدد والصرامة عند أهل السنة ؟

ذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة. وهؤلاء الذين ينقصون أحدا من الصحابة يريدون أن يخرجوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح أولى بهم وهم زنادقة (2).

استذكار

يقصد أهل السنة بالصحابة ما قصده ابن حجر عند تعريفه للصحابي بدءا من خديجة وعلي وزيد بن حارثة وأبي بكر وانتهاء بآخر طفل رأى الرسول أو رآه الرسول، ويستحسن أن نرجع لعرضنا لتحليل ابن حجر لتعريف الصحابي.

محاولة للتخفيف من هذا الغلو

قال المارزي في شرح البرهان: " لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما أو زاره لماما، أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب، وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون " انتهى (3).

استنكار المحاولة ودفنها

والجواب على ذلك أن التغييرات المذكورة خرجت مخرج الغالب وإلا فالمراد من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو القوة. وأما كلام المازري فلم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء. وقال الشيخ صلاح العلاني: هذا قول غريب يخرج

____________

(1) راجع ص 238 من كتاب الكبائر للحافظ الذهبي وراجع آراء علماء المسلمين ص 85 للسيد مرتضى.

(2) راجع الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ص 17 و 18.

(3) الأعراف: 157، راجع الإصابة في تمييز الصحابة ص 19.


الصفحة 22
كثيرا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن العاص وغيرهم ممن وفد عليه (صلى الله عليه وآله) ولم يقم عنده إلا قليلا وانصرف. وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ولم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر (1).

الآثار المترتبة على هذا التعميم

المساواة العشوائية، فالصحابة حسب رأي أهل السنة متساوون بالعدالة، فجميعهم عدول، فالقاعد كالمجاهد، والعالم كالجاهل، ومن أسلم عن اقتناع تماما كمن أسلم لينجو بروحه، والسابق كاللاحق، والمنفق كالمقتر، والعاصي كالمطيع، والطفل المميز تماما كالراشد، ومن قاتل الإسلام في كل المعارك تماما كمن قاتل مع الإسلام كل معاركه. فعلي عليه السلام الذي قاتل مع الإسلام كل معاركه هو تماما كأبي سفيان الذي قاد كل الحروب ضد الإسلام، وهو تماما كمعاوية ابن أبي سفيان وحمزة عليه السلام وهو المقتول وسيد الشهداء تماما مثل قاتله (وحشي) وعثمان بن عفان المبشر بالجنة هو تماما مثل عمه الحكم بن العاص والد خلفاء بني أمية، وهو طريد رسول الله وطريد صاحبيه. وقد لعنه الرسول ولعن ولده (2)، و عبد الله بن أبي سرح الذي افترى على الله الكذب وارتد عن الإسلام وأباح الرسول دمه ولو تعلق بأستار الكعبة (3) هو تماما كأبي بكر، و عبد الله بن أبي زعيم المنافقين تماما كعمار بن ياسر...... الخ.

كيف لا ؟ فكلهم صحابة وكلهم عدول وكلهم في الجنة ولا يدخل أحد منهم النار أبدا كما نقلنا.

____________

(1) راجع الإصابة في تمييز الصحابة ص 19.

(2) راجع كنز العمال ج 11 ص 358 - 361 وراجع المعارف لابن قتيبة ص 131 و 41 و 54.

(3) راجع كنز العمال ج 11 ص 358 - 361 وراجع المعارف لابن قتيبة ص 131 و 41 و 54.


الصفحة 23

تساؤل واستنتاج

هل يعقل أن يكون العالم كالجاهل والقاعد كالمجاهد ومن أسلم عن اقتناع كمن أسلم خوفا ؟ هل من المعقول أن يتساوى القاتل والمقتول ؟ وهل يتساوى السابق باللاحق، والمنفق بالمقتر والعاصي بالمطيع وصادق الإيمان بالمتظاهر ؟ وأن يتساوى المؤمن والمنافق.... الخ هل يعقل أن يكون معاوية مثل علي ؟

لا الشرع يقبل هذه المساواة ولا العقل ولا المنطق وهي ظلم صارخ وخلط فظيع ينفر منه العقل وتأباها الفطرة الإنسانية السليمة (1).

نقد رأي أهل السنة

الائتلاف والاختلاف

على ضوء المعنيين اللغوي والاصطلاحي لكلمة صحابة فإنه لا بديل أمام أتباع الإسلام (الفرق الإسلامية) من الاتفاق على أن اصطلاح الصحابة يشمل كل الذين أسلموا أو تظاهروا بالإسلام وسمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو جالسوه أو شاهدوه، ولكن الخلاف يكمن في التعميم، فبينما يرى أهل السنة أن الصحابة بهذا المعنى الواسع كلهم عدول إلا أن الفرق الإسلامية الأخرى لا تقر أهل السنة على ذلك ولا توافق على هذا التعميم.

محاولة للتوفيق

الصحابة بالمعنى الواسع الذي يركن إليه أهل السنة هم كل شعب دولة النبي، أو هم كل الأمة الإسلامية التي دانت لدولة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهم أول المخاطبين المعنيين بآيات القرآن الكريم. فعليهم طبقت أحكامه كلها، فمن أعلن إسلامه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله اعتبر مسلما ومواطنا في دولة النبي، لأن الله هو المطلع على الضمائر، العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور،

____________

(1) راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 106 وما فوق.


الصفحة 24
وهو وحده الذي يثيب على هذا الإسلام. وانطلاقا من هذا الاعتقاد، فقد كان النبي يكتفي بالظاهر ويترك البواطن لله. وسلوك الإنسان متروك للمستقبل ولرحمة الله وتأثير المجتمع المسلم عليه، ولموقف الفرد من معارك الإيمان مع الكفر تحت قيادة النبي أو من ينتدبه. ومن الطبيعي أن النبي لم يقل لمنافق أنت منافق، بل كان يدعو الله أن يستر على عيوب خلقه وأن يصلحهم ويهديهم، مع أن القرآن الكريم حافل بالآيات التي تقرع بشدة المنافقين المنتشرين في عاصمته المدينة ومن حولها من الأعراب. وكشفت هذه الآيات أسرارهم وفضحت أضغانهم وعالجت أمورا واقعية ووصفت وشخصت حالات فردية لأشخاص كانوا يعتبرون صحابة بل وأقيمت الحدود على الكثير منهم.

والشريعة وضعت صفات موضوعية لأعمال البر والتقوى ولأعمال الفجور.

فمن توافرت فيه صفات معينة حشرته تلك الصفات بإحدى هاتين المجموعتين، وترجمة الصفات وبيانها متروك لسلوك الإنسان ميدانيا. فالصدام مع الكفر لم يتوقف طيلة حياة النبي، والإنسان بطبعه يعكس دائما حقيقة اعتقاده بسلوكه آجلا أم عاجلا.

وبانتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، كان كل مسلم من مواطني الدولة الإسلامية يعرف حقيقة موقعه في حوض التقوى أو في بؤرة الفجور، وعرف الناس كلهم منازل بعضهم، مع أن المجتمع المسلم، خاصة مجتمع المدينة المنورة، كان مجتمع صحابة ولكل واحد من أفراده صفة صحابي لغة واصطلاحا. ثم من يأمن مكر الله وما معنى الأمور بخواتمها ؟ إنه لا بديل من تقسيم الصحابة الكرام إلى مجموعتين كبيرتين:

1 - أفاضل الصحابة: وهم الأخيار الذين قامت الدولة على أكتافهم وتحملوا سخرية وأذى الأكثرية الكافرة حتى ظهر أمر الله وتمسكوا بأمر الله ووالوا نبيه ووالوا من والاه، وانتقلوا إلى جوار ربهم وهم معتصمون بحبل الله، فهؤلاء عدول بالإجماع ولا تشذ عن ذلك أية فرقة من الفرق الإسلامية.

2 - بقية الصحابة: وهم متفاوتون، الله أعلم بهم، فمنهم الصبي ومنهم المنافق.

فالمنافقون الأشرار جعلهم الله في الدرك الأسفل من النار مع أنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام ويسمون أيضا صحابة بكل المعايير الموضوعية المعروفة عند أهل السنة.


الصفحة 25

ما هي الفائدة من هذا التقسيم ؟

إن معرفة أفاضل الصحابة أمر في غاية الأهمية، فهم الذين يبايعون الإمام البيعة الخاصة، وهم ركن من أركان أهل الشورى، وهم الذين ينفذون أوامر الإسلام، وهم حكومة الإمام الفعلية، وهم الذين يقومون بتهيئة المجتمع لتلقي الذكر ولتطبيق الشريعة ولإعطاء البيعة العامة وبرضاهم يجب أن ترضى العامة وبسخطهم يسخطون.

فإذا تحقق ذلك نجت الأمة ونجوا، وإن لم يتحقق هلكت الأمة وتأخروا، ووسد الأمر لمن يغلب. وفائدة هذا التقسيم الآن هو دراسة الماضي دراسة موضوعية لمعرفة سر اختلاف المسلمين وبعثرة كلمتهم وانهيار دولتهم تمهيدا لاستشراق مستقبلهم وتوثيق خطواتهم بحيث تبقى ضمن المقصود الشرعي كطريق أوحد لتوحيدهم ثانية وإقامة دولتهم التي ينبغي أن تقوم على الأسس الشرعية حتى تدوم وتحقق غايتها ولا تنهار ثانية.

ثم إن التفضيل ضروري لمعرفة الأفضل ومن هو المستحق لملء الوظائف العامة. يقول تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)، وقد فسرها الطبري بإسناد الولاية لمن هو جدير بها. وكيف يمكن تأدية هذه الأمانات في هذا المجال دون اللجوء للتفاضل ؟ إن أول من سمع بذلك هم الصحابة، ومن المعني بذلك غيرهم ؟!.

التفاضل سنة إلهية

التفاضل سنة إلهية، ومنهج من مناهج الحياة، وحافز من حوافز السمو بها تقتضيه طبيعة الحياة ويقتضيه التباين بين الخلق في القدرة والقوة والفهم، وتحقيق العدل السياسي والوظيفي من حيث وضع الشخص المناسب في المكان المناسب المؤدي لتحقيق الغاية الشرعية ووسيلة ذلك كله هو نظام التفاضل الشرعي في الإسلام على اعتبار أن التفضيل مكافأة وحافز إلهي وأن التفاضل وسيلة شرعية.


الصفحة 26

الدليل الشرعي للتفاضل

وسيلة التفاضل مكرسة بالشريعة الإسلامية وبروحها العامة. قال تعالى:

* (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين) * * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) *. والتفضيل وارد حتى على مستوى الأسر والأقوام، فها هو سبحانه وتعالى يخاطب بني إسرائيل: * (أني فضلتكم على العالمين) * * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) * * (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا) * * (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة) *...... الخ.

والتفضيل ضرورة لمعرفة الأفضل ومن هو المستحق لملء الوظائف العامة عملا بقوله (صلى الله عليه وآله): من ولي على عصابة رجلا وهو يجد من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله.

طبقات الصحابة

إن الصحابة شرعا وعقلا وواقعا ليسوا بدرجة واحدة. فمنهم الصادقون وهم طبقات في صدقهم، ومنهم الأقوياء وهم طبقات في قوتهم، ومنهم الضعفاء وهم أيضا طبقات في درجات ضعفهم، ومنهم المنافقون وهم أيضا طبقات في نفاقهم.

أنظر إلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي رأس النفاق في المدينة: " لعمري لنحسنن صحبته ما دام بين أظهرنا " (1) فزعيم المنافقين حسب هذا النص صحابي، وهو صحابي بالموازين المتفق عليها عند أهل السنة.

ولو جارينا أهل السنة بحرفية فهمهم لتجمدت الحياة ولتجمد الفكر تماما. وبالرغم من أن أهل السنة قد أجمعوا أو أشاعوا الاجماع على أن الصحابة كلهم عدول، إلا أن هذا لم يمنعهم من أن يعترفوا ضمنا بأن هذا التعميم غير واقعي وغير منطقي ويتعارض مع المقصود الشرعي. ولعل تقسيمهم الصحابة الكرام إلى طبقات أكبر شاهد على

____________

(1) راجع الطبقات لابن سعد ج 6 ص 65 وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 103.


الصفحة 27
هذا الاعتراف حيث أن انتماء الصحابة لطبقة من الطبقات يحدد شرعا دوره في الأمور السياسية والحقوق (1) وهذه ليست مسألة اجتهادية لأن الشرع الحنيف بقرآنه وسنته قد وضع معالم تلك الطبقات. ومن هنا فإن ابن سعد تصدى لهذه الناحية فجمع الصحابة في خمس طبقات (2). وكذلك فإن الحاكم في مستدركه قسم الصحابة إلى اثنتي عشرة طبقة.

طبقات الصحابة كما ذكرهم الحاكم في مستدركه (3)

الطبقة الأولى: الذين أسلموا بمكة قبل الهجرة كالخلفاء الراشدين.

الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة.

الطبقة الثالثة: مهاجروا الحبشة.

الطبقة الرابعة: أصحاب العقبة الأولى.

الطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية.

الطبقة السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا بعد هجرة الرسول للمدينة.

الطبقة السابعة: أهل بدر.

الطبقة الثامنة: الذين هاجروا بين بدر والحديبية.

الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان.

الطبقة العاشرة: من هاجر بين الحديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص.

الطبقة الحادية عشرة: الطلقاء وهم الذين أسلموا يوم فتح مكة كأبي سفيان ومعاوية.

الطبقة الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوه يوم الفتح.

فأول الناس إسلاما خديجة ثم علي عليه السلام: تنبأ رسول الله

____________

(1) راجع فتوح البلدان للبلاذري وانظر إلى طريقة عمر بن الخطاب بتسلسل العطايا ومقدارها.

(2) ويمكن لمن أراد التوسع أن يراجع طبقات ابن سعد.

(3) راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 227 - 228 وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 108.


الصفحة 28
(صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر (1).

وتقسيم الصحابة إلى طبقات دخول واقعي في باب التفاضل، فمن غير المنطقي أن يكون أول من أسلم بنفس الدرجة من العدالة التي يتمتع بها طليق أسلم يوم الفتح. وقد تنبه إلى هذه الناحية الفاروق عند توزيع العطايا، فأخذ بعين الاعتبار توزيع العطايا حسب الطبقة، ولم يساو بين أول من أسلم وآخر من أسلم، ولا ساوى بين من قاتل الإسلام بكل فنون القتال حتى حوصر بجزيرة الشرك مع الرجل الذي قاتل مع الإسلام كل معاركه حتى أعز الله دينه. وفي اجتماع السقيفة كانت حجة المهاجرين على الأنصار: هي أنهم أول من عبد الله في الأرض (السابقة في الإيمان) وأنهم أولياء الرسول وعشيرته وأحق الناس بالأمر من بعده، ولا ينازعهم إلا ظالم، ولأن العرب تأبى أن تؤمر الأنصار ونبيها من غيرهم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم. وانظر إلى قول عمر: " من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أهله وعشيرته " هذا بالحرف ملخص ما قاله أبو بكر وعمر في السقيفة (2). ألا ترى أن هذا تطبيق نظري دقيق لعملية التفاضل الشرعية وبالتالي نسف لكامل المقولة إن الصحابة كلهم بلا استثناء عدول ؟ فأذعن الأنصار لتلك الحجج القوية وقالوا: طالما أن الأمر هكذا فإننا لا نبايع إلا عليا (3). وعند ما واجه الإمام علي القوم بحجته بعد البيعة قال بشير بن سعد الذي شق إجماع الأنصار وبايع أبا بكر مخاطبا عليا: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، وما كان بالإمكان الوصول إلى هذه القناعات لولا إعمال نظام التفاضل كوسيلة لتقديم الأعلم والأفضل والأنسب لكل أمر تحتاجه الأمة. ونظام التفاضل يتعارض بطبيعته مع مقولة " كل الصحابة عدول: لأنه لو

____________

(1) راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 227.

(2) راجع تاريخ الطبري ج 7 ص 198 وراجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة وراجع ج 2 ص 326 من شرح النهج وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 126 و 133.

(3) راجع تاريخ الطبري ج 7 ص 198 وراجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة وراجع ج 2 ص 326 من شرح النهج وراجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 126 و 133.