خصوصية القرابة الطاهرة
البطن الهاشمي خير بطون الناس عامة، وخير بطون العرب خاصة بالنص الشرعي. وبيت عبد المطلب هو أيضا خير بيوت الناس عامة، وخير بيوت العرب خاصة، وبالنص الشرعي أيضا (1) وهو هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب (2).
وآل محمد هم أفضل الآل، وقد افترض الله مودتهم بالكتاب، وجعل الصلاة عليهم ركنا من أركان الصلاة، وهذا معنى قول الشافعي:
وأهل بيت محمد هم دسمة هذه الأمة، وهم الشجرة التي يتداوى بها، وهم العترة (وعترة الرجل هم نسله ورهطه الأقربون) (4).
وقد طهر الله أهل بيت نبيه وأذهب عنهم الرجس - وآية التطهير لا تخفى على أي مسلم - وبفضله تعالى وجهادهم في سبيل الله تقدموا على ما سواهم، فهم المرجعية الشرعية للمسلمين وللدين، ومنهم القيادة السياسية، وهذا مجد لا يضاهيه مجد، وشرف يقصر عنه كل شرف، وخصوصية لآل محمد.
____________
(1) راجع الطبقات لابن سعد، وراجع السيرة الحلبية، وراجع كنز العمال، وقد نقل عن الحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه وعن الطبراني وعن ابن عساكر.
(2) راجع الطبقات لابن سعد ج 1 ص 75، وراجع السيرة الحلبية.
(3) راجع ابن حجر في تفسير آية: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * في صواعقه المحرقة ص 88، وراجع النبهاني ص 99 من الشرف المؤيد وهي مرسلة عن الشافعي، إرسال المسلمات كما يقول الإمام شرف الدين.
(4) راجع مختارات الصحاح ص 31 و 185 و 70 و ص 410، وراجع المعجم الوسيط ص 21 ج 1 و ص 588 ج 2.
ما هي الغاية من هذه الخصوصية ؟
الغاية الشرعية من خصوصية القرابة حقيقة أنه تشريف، ولكنها بجوهرها تكليف لها معنى ولها وظائف فمعناها: أنها نقطة ارتكاز للمسلمين، فبهم تكتمل الدائرة ويتحدد مركزها، فيستقطبون الأمة كلما تفرقت، فتقدم لهم الحل بالتأشير على نقطة الارتكاز الإلهية، فلا يذهب المسلمون لا للشرق ولا للغرب، ولا للشمال ولا للجنوب، إنما يذهبون للقرابة الطاهرة، ويتجمعون حولها فتجمعهم، وهي بنفس الوقت مرجعية للدين، ومرجعية للمسلمين، فتبين الدين للمسلمين ولغير المسلمين، وتسمع من المسلمين ثم تقدم الفهم الأمثل لهذا الدين والموافق تماما للمقصود الإلهي.
وظائف القرابة الطاهرة
1 - نقطة ارتكاز واستقطاب.
2 - مرجعية للدين لبيانه للناس عامة وللمسلمين خاصة.
3 - ثقل أصغر، والقرآن هو الثقل الأكبر، والعترة هم الثقل الأصغر، والهداية لا تدرك إلا بالثقلين، والضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بهذين الثقلين معا.
فلو تمسكت الأمة بالقرآن الكريم وحده وتركت العترة الطاهرة فستضل حتما.
لماذا ؟ لأن القرآن هو الدواء، والعترة هي الطبيب، والطب عملية اختصاصية. (1)
____________
(1) راجع ج 1 ص 44 من كنز العمال، وقد نقله عن النسائي والترمذي عن جابر عن رسول الله وأخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم، وأخرجه الإمام أحمد من حديث زيد بطريقين صحيحين في أول ص 182 وفي آخر ص 189 ج 5 من مسنده، وأخرجه أيضا عن ابن أبي شيبة وأبو يعلى، وابن سعد عن أبي سعيد، وراجع الحديث 945 ج 1 ص 47، من كنز العمال، وأخرجه الحاكم في مستدركه ج 3 ص 148 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على طريق الشيخين، ولم يخرجاه وأخرجه الذهبي معترفا بصحته على شرط الشيخين، راجع تلخيص المستدرك للذهبي.
لماذا أعطيت القرابة الطاهرة هذه الخصوصية ؟
لماذا اختار الله محمدا للرسالة ولم يختر أبا سفيان ؟ هذا فضل الله يؤتيه من يشاء. لماذا فضل الله بعض النبيين على بعض ؟ هذا فضل الله. لماذا اختار محمدا من بني هاشم ولم يختره من بني عدي أو بني تيم أو بني أمية ؟ هو الذي بيده الفضل يؤتي فضله من يشاء. ولكن باستقرائنا العميق لتاريخ الإسلام يمكن أن نجد بعض التعليلات لهذا الاختيار.
تعليلات
1 - لقد بين الله سبحانه وتعالى أن قرابة محمد هم خير الناس وأفضلهم، ومن مصلحة العباد أن يقودهم الأفضل والأحسن. وقد وثقنا هذه الناحية قبل قليل.
2 - الانذار الصادر عن بني هاشم والموجه لبطون قريش كلها عندما همت بقتل محمد، إذ أنذرهم أبو طالب قائلا: والله لو قتلتموه ما أبقيت منكم أحدا حتى نتفانى وإياكم. وأثبت لهم أنه قد هم بقتل زعماء قريش عند ما أشيع بأن محمدا قد قتل.
3 - إن كل بطون قريش قررت مقاطعة بني هاشم، وكتبوا كتابا بأن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم. وتم حصر الهاشميين في شعاب أبي طالب ثلاث سنوات، وانحاز بنو عبد المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه.
وقطعت عنهم قريش الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، وسمعت أصوات صبيانهم من وراء الشعب، ولقريش مطلب واحد وهو أن يسلم الهاشميون محمدا لقريش لقتله، أو يخلي الهاشميون بين قريش وبين محمد. ولكن الهاشميين أبوا ذلك، ودافعوا عن محمد بأرواحهم وأموالهم
4 - لما فشل الحصار، وخوفا من القرابة الطاهرة اضطرت قبائل قريش أن تختار من كل قبيلة رجلا تعبيرا عن اشتراكها بقتل محمد يضيع دمه بين القبائل ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه، وتحرك مندوبو القبائل فعلا ليقتلوا النبي، ولكن الله نجاه.
5 - والقرابة الطاهرة في الجاهلية هي ناصية قريش ولا تقطع الأمور دون مشورتهم.
6 - وهم وسيلة النجاة بالنص الشرعي، وهم الأمان بالنص الشرعي لهذه الأسباب مجتمعة ومنفردة بالإضافة إلى الفضل الإلهي أعطيت القرابة الطاهرة هذه الخصوصية بالإضافة إلى الإعداد الرباني لعمدائهم من الناحية العملية والتربوية.
تحولت هذه الخصوصية إلى حجة سياسية طوال التاريخ
قال أبو بكر الصديق مخاطبا الأنصار: الناس تبع لنا، ونحن عشيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
وقال عمر الفاروق مخاطبا الأنصار: إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم. لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة (2).
قال بشير بن سعد مخاطبا الأنصار ومعقبا على قول الفاروق والصديق: " إن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل من قريش، وقومه أحق بميراثه وتولي سلطانه، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم " (3).
____________
(1) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 84.
(2) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 84.
(3) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 197 - 198.
فوجئ الإمام علي بما جرى، وطلب منه نائب الخليفة وولي عهده عمر بن الخطاب أن يبايع أبا بكر كخليفة للمسلمين، فقال علي مخاطبا أبا بكر وعمر: " إنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا ؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الأمارة. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار. نحن أولى برسول الله حيا وميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون ".
فقال له عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع. فقال له علي: احلب حلبا له شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. الله الله يا معشر المهاجرين لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به، لأنا أهل البيت ونحن أحق بهذا الأمر ما كان فينا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية. والله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا. فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان (2).
ولما ماتت فاطمة (عليها السلام) أرسل علي إلى أبي بكر أن أقبل إلينا، فأقبل أبو بكر حتى دخل على علي وعنده بنو هاشم. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال، أما بعد
____________
(1) راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 120 وما فوق.
(2) راجع الإمامة والسياسة ص 11 - 12.
أتى المغيرة بن شعبة فقال: الرأي يا أبا بكر أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذه الإمرة نصيبا، وتكون لكما الحجة على علي وبني هاشم. فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة إلى العباس. ومما قاله أبو بكر للعباس:... وقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا... إلى أن قال: على رسلكم يا بني عبد المطلب، فإن رسول الله منا ومنكم. فأجابه العباس على كل النقاط التي أثارها إلى أن قال: وأما قولك إن رسول الله منا ومنكم، فإنه قد كان من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها (2).
وقد آلت الأمور إلى الفاروق، لأن أبا بكر أوصى له، ولأنه من قريش عشيرة النبي، ثم آلت إلى عثمان لنفس الأسباب، فقد أوصى له عمر عمليا، ولأنه أيضا من قريش. وآلت الأمور إلى علي لأنه الولي، ولأن الناس بايعوه، كذلك الحسن (عليه السلام)، وعندما غصب معاوية الأمر بالقوة كان من مبررات حكمه أنه من قريش ومن أقارب النبي، فهاشم وعبد شمس إخوة، فسنده الظاهري القربى والغصب، وهكذا سند الحكم الأموي كله، وجاء بنو العباس وقد تسلحوا بالقرابة وضربوا على وتر الآلام التي لحقت بأهل البيت كمقتل الأئمة علي والحسن والحسين والذرية الطاهرة، ثم تسلموا بالقوة فغلبوا وحكموا.
فالحكم من بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وحتى سقوط آخر خلفاء بني العباس قام في جانب منه على قاعدة أن الأئمة من قريش، وقريش هي قرابة النبي، وأنت تلاحظ أن القرابة من النبي يحرم منها أهل البيت، ويستفيد منها الأبعدون.
____________
(1) راجع الإمامة والسياسة ص 14 - 16.
(2) راجع الإمامة والسياسة ص 14 - 16.
معاملة الحكام للقرابة الطاهرة من الناحية السياسية
مشى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في جماعة وأخرجوا عليا غير عابئين ببكاء فاطمة الزهراء وجاء به إلى أبي بكر فقالوا له: بايع. فقال علي: إن لم أفعل فمه ؟ قالوا: إذا نضرب عنقك. قال علي: تقتلون عبد الله وأخا رسوله ؟ فقال عمر للخليفة أبي بكر: ألا تأمر فيه بأمرك ؟ فقال أبو بكر: لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جانبه. فلحق بقبر رسول الله يصيح ويبكي وينادي: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني "، ونادت فاطمة بأعلى صوتها: يا أبت، يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من الخطاب وابن أبي قحافة.
وتخلف قوم عن بيعة أبي بكر، وكانوا في بيت علي، فبعث أبو بكر إليهم عمر فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقن الدار على من فيها، فقيل: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة، فقال: وإن (1). وخرجوا ولم يحرق الفاروق بيت فاطمة، وماتت فاطمة ودفنت ليلا، لأنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر. وبعد موتها بايع علي أبا بكر وأوصى أبو بكر لعمر، وخلال حياتهما كانا يقدمان أهل البيت عند توزيع العطايا. فقد بدأ عمر بمحمد وآله، ثم أبو بكر وآله، ثم عمر وآله، كما يروي البلاذري في فتوح البلدان، وكانا يستشيران الإمام علي ويرجعان إليه (2). وعصر أبي بكر وعمر في جانب من جوانبه عصر ذهبي لأهل البيت.
وجاء الأمويون فحاربوا عليا، وسموا الحسن، وقتلوا الحسين، وأبادوا إبادة
____________
(1) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 12، والعقد الفريد لابن عبد ربه المالكي ج 4 ص 259 و 260، وشرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 1 ص 134 و ج 2 ص 19، وراجع تاريخ الطبري ج 3 ص 202، وراجع أنساب الأشراف للبلاذري ج 1 ص 586، وملحق المراجعات تحقيق حسين راضي ص 261.
(2) راجع الإستيعاب بهامش الإصابة ج 3 ص 39. وذخائر العقبى ص 81 و 82، وتذكرة الخواص للجوزي الحنفي ص 144 - 148، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 192، والمناقب للخوارزمي ص 38.. الخ.
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل كانت مجالس الوعاظ في الشام تختم بشتم علي، كما يروي ابن عساكر (ج 3 ص 407)، وبالتالي، فلم يجيزوا لأحد من شيعته وأهل بيته شهادة، ومحوا من الديوان كل من يظهر حبه لعلي وأولاده، وأن يسقطوا عطاءه ورزقه (1).
وجاء بعدهم العباسيون. يقول أبو بكر الخوارزمي: " والجملة أن هارون مات وقد حصد شجرة النبوة واقتلع غرس الإمامة " (2).
ثم ها هو المنصور في ثورة غضبه يقول وقد عزم على قتل الإمام جعفر الصادق: قتلت من ذرية فاطمة ألفا أو يزيدون، وتركت سيدهم ومولاهم جعفر بن محمد (3). ثم قال مشافهة للإمام الصادق: لأقتلنك ولأقتلن أهلك حتى لا أبقي على الأرض منك قامة سيف، ولأضربن المدينة حتى لا أترك فيها جدارا قائما (4).
ويقول الطبري في تاريخه: إن المنصور هذا ترك خزانة رؤوس ميراثا لولده المهدي كلها من العلويين، وقد علق بكل رأس ورقة كتب فيها ما يستدل به على صاحبه، ومن بينها رؤوس شيوخ وشبان وأطفال (5). والمنصور هو الذي كان يضع
____________
(1) راجع معاوية بن أبي سفيان في الميزان لعباس العقاد ص 16، وراجع شيخ المضيرة للشيخ محمود أبو رية ص 180.
(2) راجع معاوية بن أبي سفيان في الميزان لعباس العقاد ص 16، وراجع شيخ المضيرة للشيخ محمود أبو رية ص 180.
(3) رسائل أبي بكر الخوارزمي ص 178.
(4) الحياة السياسية للإمام الرضا ص 87.
(5) راجع مناقب ابن شهر آشوب ج 3 ص 357، والبحار ج 47 ص 178.
وأما الرشيد فقد أقسم على استئصالهم وكل من تشيع لهم، واشتهر عنه قوله:
حتام أصبر على آل بني أبي طالب والله لأقتلنهم ولأقتلن شيعتهم ولأملقن ولأملغن (2) ، وكان شديد الوطأة على العلويين يتبع خطواتهم ويقتلهم (3).
كتب المنصور يوما إلى الإمام الصادق (عليه السلام): لم لا تغشاني كما تغشاني الناس ؟ فأجابه الصادق: ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك، ولا تراها نقمة فنعزيك، فما نصنع عندك ؟ " فكتب المنصور إليه، تصحبنا لتنصحنا. فأجابه الإمام من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك (4).
نوعا القرابة
1 - القرابة القريبة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم فاطمة وعلي وحسن وحسين ونسلهم لاحقتهم خصوصية القرابة وجرت عليه كل الويلات والمآسي، وتلك مكافأة على موقف أبي طالب نحو الإسلام ونبي الإسلام وعلى موقف علي في حروب الإسلام مع أعدائه، فعليهم الغرم كله والغنم لسواهم.
____________
(1) راجع تاريخ الطبري ج 10 ص 446 وراجع النزاع والتخاصم للمقريزي ص 52.
(2) الحياة السياسية للإمام الرضى ص 88.
(3) الأغاني للأصفهاني ج 5 ص 225.
(4) العقد الفريد ج 2 ص 80 وراجع كشف الغمة في أموال الصادق لابن حمدون ج 2 ص 208 وراجع المحاضرة التي ألقاها الشيخ محمد باقر بمناسبة مولد الإمام الصادق في المؤتمر الدولي المنعقد في دمشق بتاريخ 26 / 9 / 91 - 28 / 9 / 91 وقد نشرت البحوث في كتاب يقع على 494 صفحة.
عزل العترة الطاهرة
النتيجة المنطقية أن عزل الإمام بعد وفاة فاطمة، وتجلت رغبة عزل الإمام عن بني هاشم بمحاولة اجتذاب العباس إلى السلطة وإغرائه ببعض الأمر له ولعقبه. لكن العباس رفض ذلك رفضا قاطعا، ورد ردا حاسما على السلطة الراشدة. ومع الأيام عزلت القرابة القريبة الطاهرة عن بني هاشم وعن آل البيت وعن الناس لأنه وبالمعيار الموضوعي فإذا قدر للشخص العادي أن يختار بين السلطة وبين خصومها فإنه سيختار جانب السلطة لأنها هي الجانب القوي المالك لزمام الأمور. فكانت أغلبية الأمة مع الحكام. وأقليتها مع أهل البيت، أو كما عبر الشاعر: القلوب مع أهل البيت والسيوف عليهم ومع أعدائهم. فعمرو بن سعد بن أبي وقاص الذي قاد جيش الخليفة ضد الحسين وأهل البيت في كربلاء صلى الصبح وقال: اللهم صل على محمد وآل محمد وبعد أن أنهى الصلاة قام بقتل الموجودين من أهل بيت محمد، ولم يكتف بقتلهم بل قطع رؤوسهم كلهم، كما يجمع على ذلك ثقات المؤرخين، وسلبوا أهل البيت حتى لباسهم وهم أموات. وتحركت الخيول فوطئت جثة الحسين وجثث من معه من أهل البيت تقربا إلى ابن زياد وإلى يزيد بن معاوية. ولله في خلقه شؤون.
وتلك ثمرة من ثمرات المقولة " لا ينبغي أن يجمع الهاشميون النبوة مع الملك ".
تأويل الخصوصية
ما ثبته الله لن يهزه البشر، وما وضعه الخالق لن يغيره المخلوق، أدرك الحكام أن خصوصية أهل البيت لن تتغير مهما فعلوا بهم. فالصلاة عليهم مفروضة وطهارتهم واردة في القرآن الكريم، وولايتهم على الأمة ثابتة، والنصوص بفضلهم آخذة بالأعناق. وحتى لو تم إبادة أهل البيت إبادة تامة فإن هذه الخصوصية ستبقى شبحا يلاحق الحكام ليلا نهارا. ومن هنا لا بديل عن تأويل هذه الخصوصية.
الفصل الخامس
الآمال التي علقت على نظرية الصحابة
الذين اخترعوا هذه النظرية علقوا عليها الآمال التالية:
1 - تأويل خصوصية أهل بيت النبوة تأويلا يفرغها من مضمونها ووظيفتها.
2 - إيجاد خصوصية بديلة تنافس خصوصية أهل البيت، وتقوم بالتعاون مع الحكام بوظائف أهل البيت.
3 - خلق الشبهات وإيجاد حالة من الحيرة والشك لتفريق المحكومين وإشغالهم عن الحكام بخلافات جانبية وتغذية هذه الخلافات لتتحول إلى خلافات عميقة ودائمة.
التقابل بالصفات
أهل البيت الكرام أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. ومن أهل البيت - بكل الموازين - فاطمة وعلي وحسن وحسين على الأقل. لقد طهر الله هؤلاء وبشرهم في الجنة قبل أن يبشر المبشرين في الجنة، وهم سادات أهل الجنة بالنص (1). وغني عن البيان أنهم عدول، لأن من ملك الأكثر ملك الأقل، ومن حاز الدائرة حاز ما في ضمنها.
الصحابة: أجلاء الصحابة الذين أخلصوا لله قوم مكرمون عدلهم الله، ولكن الذين حكموا ليسوا من أجلاء الصحابة، بل هم في غالبهم طلقاء أسلموا بعد أن
____________
(1) يمكنك الرجوع إلى ج 12 ص 93 وما فوق من كنز العمال فقد روى ذلك عن أكثر أهل الحديث.
العدالة الوضعية ترفض هذا التكييف، ومن باب أولى أن ترفضه عدالة السماء، الله فرق بين الاثنين، ونبيه فرق بين الاثنين، والأعمال فرقت بين الاثنين، فمن أمرنا بمساواتهما ؟ وما هو الدليل على ذلك غير نظرية عدالة الصحابة ؟.
تلك النظرية التي وجدت أصلا للقضاء على الفوارق بين المتقدمين والمتأخرين، بين المجاهدين والقاعدين، بين الأولين والآخرين.
فما وجدت نظرية عدالة كل الصحابة وما خلصت صفة العدالة على الجميع إلا لغايات منافسة العدالة للطهارة التي اختص الله بها أهل بيت نبيه.
مثال من الواقع
علي عميد أهل البيت بالنص، وولي الأمة بالنص، وأول من أسلم بالنص، ومجاراة للذين يكرهون أن يكون الأول هو ثاني من أسلم بالنص، والحق معه يدور حيث دار بالنص، وموالاته موالاة لله بالنص، ومعاداته معاداة لله بالنص، وهو صحابي باعتراف كل الذين أسسوا نظرية عدالة الصحابة، وهو مبشر بالجنة. فإذا كان علي صحابيا، فلماذا فرضتم لعنه فوق كل المنابر وفي كل الأمصار الإسلامية ؟
ولماذا لعنتموه وشتمتموه فعلا ؟ ألستم أنتم الذين حددتم عقوبة من يشتم الصحابي فقلتم: إنه زنديق، لا يواكل ولا يشارب ولا يصلى عليه ؟ أم أن عدالة كل الصحابة
مثال آخر من الواقع
الحسن بن علي والحسين بن علي سيدا شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتا النبي من هذه الأمة، وهما ابنا رسول الله بالنص، فقد جعل الله ذرية كل نبي من صلبه، وجعل ذرية النبي من صلب علي، وهما صحابيان ومن العدول لأنهما صحابيان، ومن غير الجائز الانتقاص من صحابي أو شتمه أو طعنه، ومن يفعل ذلك فهو زنديق لا يواكل ولا يشارب ولا يصلى عليه.... الخ.
فما بالكم بمن سموا الصحابي الحسن بن علي ؟ وما هو حكمكم بمن قتل الحسين وحرم عليه وعلى أهل بيته أن يشربوا من ماء الفرات وهو حلال للوحش والطير والحيوان وحتى للكلاب ؟ ألا يعتبر القتل انتقاصا ؟ ما رأيكم بمن يقتل ذرية محمد كلها ويسلبها متاعها وهي ميتة ويسبي النساء وذرية محمد من الصحابة ونساء الذرية من الصحابة ؟!!!
توضيح الصورة
الذين سموا الحسن صحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي، والذين قتلوا عليا صحابة، والذين قتلوا الحسين صحابة، والذين أبادوا ذرية النبي في كربلاء صحابة، والذين لعنوا عليا وشتموه ومن والاه صحابة، والذين لم يقبلوا شهادة من يحب عليا صحابة.
تساؤل واستغراب
الحسن بن علي المسموم من العدول، لأنه من الصحابة، والذين سموه عدول، لأنهم من الصحابة، والحسين بن علي من العدول لأنه صحابي، والذين قتلوه من العدول، لأنهم من الصحابة، وذرية محمد التي قتلت في كربلاء عدول، لأنهم صحابة، والذين قتلوهم عدول، لأنهم صحابة.
السام (الذي ارتكب جريمة القتل بالسم) وهو الجاني، والمسموم وهو
هذه المساواة تشكل استهتارا بالعقل البشري ومظهرا من مظاهر العبودية المخجلة للتقليد.
أدت الرسالة
ونظرية عدالة الصحابة أدت الرسالة تماما. فعلي كمعاوية، فكلاهما صحابي، وهما من العدول، وكلاهما في الجنة، وكلاهما على الحق، والمنتصر هو ولي الأمة، والعام الذي انتصر أحدهما على الآخر هو عام الجماعة.
التقابل بالحماية
من آذى أهل البيت فقد آذى النبي، ويقابلها: من آذى صحابيا فقد آذى النبي، ومن أبغض أهل بيت محمد فهو في النار، ومن أبغض صحابيا على الاطلاق فهو في النار. وزيادة على الحماية المخصصة لأهل البيت فإن من انتقص صحابيا فهو زنديق، ويجب أن يعزل فلا يواكل ولا يشارب ولا يصلى عليه، إنما ينبذ كجيفة ميتة. فنظرية عدالة الصحابة أعطت الصحابة الحماية المقررة لأهل البيت وزيادة.
في مجال البيان
القرآن هو الثقل الأكبر، وأهل بيت محمد هم الثقل الأصغر، والهداية لا تدرك إلا بالتمسك بالثقلين. والضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بهما. هذا بالنص الشرعي القاطع (1). وأهل البيت هم سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق بالنص الشرعي القاطع وهم باب حطة، من دخله غفر له بالنص الشرعي القاطع. وهم أمان لهذه الأمة.
النجوم أمان لأهل الأرض، وأهل بيته أمان لأمة محمد من الاختلاف بالنص
____________
(1) في باب المرجعية والقيادة السياسية سأوثق كل كلمة قلتها.
أمثلة ما تعطيه نظرية عدالة كل الصحابة للصحابة
" مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام فلا يصلح الطعام إلا بالملح ". ورد هذا الحديث في الاستيعاب على هامش الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (ج 1 ص 7) وانظر إلى الحديث رقم 33792 (ج 12 ص 22) من كنز العمال حيث جاء فيه بالحرف: قريش صلاح الناس، ولا يصلح الناس إلا بهم، ولا يعطى إلا عليهم، كما أن الطعام لا يصلح إلا بالملح... نقله عن ابن عدي في الكامل عن عائشة. وانظر الحديث 33807 (ج 12 ص 25) " أمان لأهل الأرض من الغرق القريش، وأمان الأرض من الاختلاف الموالاة لقريش، قريش أهل الله، فإذا خالفتها قبيلة من قبائل العرب صاروا حزب إبليس ". وقد نقله عن الطبراني في الكبير، وعن الحاكم في مستدركه.
وقد روى الترمذي وابن حيان كما ذكر ابن حجر في الإصابة (ص 19) أن الرسول (ص) قد قال: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم عرضا، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " (2).
نصوص للتدبر
أ - قال (ص): " يا علي من فارقني فقد فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني " (3).
وقال: " من آذى عليا فقد آذاني " (4).
وقال: " من أحب عليا فقد أحبني، ومن أبغض عليا فقد أبغضني " (5).
____________
(1) في باب المرجعية والقيادة السياسية سأوثق كل كلمة قلتها هنا.
(2) راجع الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ص 19.
(3) أخرجه الحاكم في مستدركه ص 124 ج 3، وصححه على طريق الشيخين.
(4) أخرجه الحاكم في ج 3 ص 130 من المستدرك.
(5) أخرجه الحاكم في ج 3 ص 130 من المستدرك.
وقال: " طوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك " (2) وقال: " أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله، ومن أحبه أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله " (3).
ب - قال (ص): " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من قبائل العرب، واختلفوا فصاروا حزب إبليس " (4). وانظر إلى قوله (ص): " النجوم أمان لاهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي " (5).
تساؤلات
ماذا يكون الموقف لو أن صحابيا أبغض عليا أو آذاه، أو أن عليا أبغض صحابيا أو آذاه فمن نتبع ؟ ومن هو المحق ومن هو المبطل ؟ ماذا يكون الموقف لو أن قريشا قالت: نحن أمان لهذه الأمة، وقال أهل البيت: نحن أمان لهذه الأمة ؟ فمن نصدق ؟ ماذا يكون الموقف لو أن قسما من الأمة اتبعوا قريشا، وقسما آخر اتبعوا أهل البيت ؟ وكل فريق زعم أنه على الحق، فمن هو الذي على الحق في الحق والحقيقة ؟
أنظر إلى الحديث المكذوب على رسول الله (ص) وهو: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
____________
(1) أخرجه الحاكم ج 3 ص 135.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير وهو الحديث 2571 ج 3 ص 154 من الكنز، وأخرجه ابن عساكر.
(3) راجع الحديث 2576 ص 155 ج 6 من الكنز، وأخرجه الطبراني.
(4) سأوثق ذلك في باب القيادة السياسية.
(5) سأوثق ذلك في باب القيادة السياسية.
فمن يكون المبطل إذا ؟!!.
ماذا يكون الموقف لو أن صحابيا قال: إن الحق عندي هنا في الشرق. وبنفس الوقت قال صحابي آخر: إن الحق عندي في الغرب، ثم قال ثالث: إن الحق عندي هنا في الشمال، وقال رابع: إن الحق عندي هنا في الجنوب، وقال خامس: إن الحق عندي هنا في زاوية 45 شمال... الخ، وانقسمت الأمة 73 فرقة كما أخبرنا النبي، وبيد كل فرقة ذريعة، فهل يعقل بالشرع والعقل أن يكونوا كلهم على الحق ؟
إنه لا يوجد إلا حق واحد!! إن الفرقة جريمة، وإن الوحدة قربة من الله، فهل يعقل أن يفرق النبي أمته ؟.
تلقين الحجة بالواسطة
قال النبي (ص) لعلي: " أنت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي " (1).
(مع أن أبا حنيفة كان متحمسا للعباس، فقد كان يقدم رأي الصحابي عليه إذا تعارضا في مورد من الموارد) (2). وجاء عنه أنه كان يقول: " إن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه، فإن اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة أخذت بقول من شئت وأدع من شئت، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم من التابعين " (3).
____________
(1) راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد، وأورده أبو نعيم في حلية الأولياء.
(2) المستصفى للغزالي ص 35 - 136 وآراء علماء المسلمين في التقية، والصحابة للسيد الرضوي.
(3) راجع أبا حنيفة لأبي زهرة ص 304.
ونذكر بالمناسبة بأن سنة الرسول تعني: القول والفعل والتقرير. ولاحظ " وقوله عن الصحابي بمنزلة عمله ". فقول الصحابي على الاطلاق بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي يخصص عموم القرآن ويقيد مطلقاته، كأن قول الصحابي وحي من السماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمشكلة أي صحابي بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي. إن نظرية عدالة الصحابة أعطت الصحابة ما لم يعطه الشرع لأئمة أهل البيت.
قال ابن خلدون: إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان مختصا بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه، ومحكمه، وسائر أدلته بما تلقوه من النبي (ص) أو ممن سمعه منهم وعن عليتهم، وكانوا يسمون لذلك " القراء " أي الذين يقرأون الكتاب، لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان قارئا للكتاب بهذا الاسم لقرابته يومئذ، وبقي الأمر كذلك صدر الملة.
وعن محمد بن أبي سهل بن أبي خيثمة عن أبيه قال: " كان الذين يفتون على عهد رسول الله ثلاثة نفر من المهاجرين وثلاثة نفر من الأنصار: عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت.
وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق كان إذا نزل به أمر يريد مشاورة أهل الرأي دعا رجالا من المهاجرين والأنصار. دعا عمر وعثمان وعليا و عبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وكل هؤلاء
____________
(1) راجع المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي.
التوسعة في التفقه
أنت تلاحظ أن نظرية عدالة كل الصحابة نسفت كل الأعراف التي اعتمدت زمن أبي بكر وعمر وخرجت عن كل المفاهيم المألوفة في عهده (ص)، وأعطت الفرصة لكل صحابي على الاطلاق وبالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ليدلي بدلوه في كل مسألة من المسائل. ومن حق المجتهد والباحث عن الجواب للسؤال المطروح أن يأخذ برأي أي واحد من هؤلاء الصحابة. كيف لا وكلهم عدول، وكلهم من أهل الجنة، ولا يجوز عليهم الكذب، فاختلطت الأمور، فالمتقدم كالمتأخر، والطليق كالمهاجر، فكلهم ينعم بصفة العدالة، ولا تثريب عليه، ولا معقب لقوله حسب الاطار العام لنظرية عدالة كل الصحابة وما يروى عنهم. وتثبت صحة نسبته إليهم، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل، لأنه قد صدر عن عدول بإمكانهم أن يخصصوا العام من القرآن، وأن يقيدوا المطلق منه. ومن هنا فقد كانت الجهود منصبة بالدرجة الأولى على درس حياة أولئك الذين ينقلون هذه الأحاديث والتحقق من حسن سيرتهم، وصدق إيمانهم، وصدق أقوالهم. فإذا توافرت هذه الصفات بالراوي، وتحققت نسبة النص إلى الصحابي، فهذا النص حق لأنه صادر عن صحابي من العدول.
قيد على الرواة من حيث المبدأ
يمكن لأحد الرواة أن يتشيع لأبي بكر أو لعمر أو لعثمان أو لسعد أو لأي صحابي على الاطلاق. فهذا لا يخدش بصدقه وأمانته، ولا يكون محلا للشبهة، إنما الشبهة تقع على من يوالي عليا وأهل البيت ويتشيع لهم، فمن المحال أن يكون ثقة ولا تقبل روايته، وإذا اجتمع عدة رواة كلهم ثقات وبينهم رجل يحب أهل البيت، ويتشيع لهم فيترك الحديث كله، لأنهم لا يقبلون إلا رواية الثقة، والثقة
____________
(1) راجع طبقات ابن سعد ج 4 ص 168، وراجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم ص 50 وما فوق.
قال أبو عمر بن عبد البر: روينا عن محمد بن وضاح قال: سألت يحيى بن معين عن الشافعي (محمد بن إدريس الشافعي) فقال: ليس بثقة. ويحيى بن معين هذا من كبار أئمة الجرح والتعديل الذين جعلوا قولهم في الرجال حجة قاطعة.
فتصور أن الشافعي صاحب المذهب ليس بثقة بنظر ابن معين، لأن فيه بعض التشيع لأهل البيت. وقد أدرك الذهبي أن هذا غير معقول فقال: " وكلام ابن معين في الشافعي إنما كان من فلتات اللسان بالهوى والعصبية ". والإمام جعفر بن محمد الصادق أستاذ أصحاب المذاهب الأربعة وصاحب مدرسة تخرج منها أربعة آلاف فقيه ومحدث، وهو صاحب مذهب أهل البيت الكرام، وعلم شامخ من أعلام النبوة وثقة أبو حاتم والنسائي، إلا أن البخاري لم يحتج به كأنه ليس ثقة مع أنه قد روى لمروان بن الحكم.
قال يحيى بن معين: وقيل له في سعيد بن خالد الجلي حين وثقه (شيعي) قال: وشيعي ثقة ؟ إنه يستغرب أن يتشيع رجل لأهل البيت ويكون ثقة.
ومن لا يواليهم ولا يشايعهم فهو ثقة. قال العجلي في عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش الذي قتل الحسين وأهل البيت في كربلاء: هو تابعي ثقة روى عنه الناس. وقال العجلي كذلك في عمران بن حطان: ثقة، وعمران هذا مدح ابن ملجم لعنه الله، وابن ملجم هو قاتل الإمام علي. يقول عمران في مدح ابن ملجم:
الباب الثالث
المرجعية
الفصل الأول
المرجعية
يبدو واضحا أن نظرية عدالة كل الصحابة قد أوجدت مرجعية واقعية تركت بصماتها على الحياة الفقهية والسياسية الإسلامية، وصارت بحكم النقل والتقليد كأنها هي المرجعية الشرعية التي حددها الله وبينها رسوله. أما المرجعية الشرعية نفسها فأصبحت غريبة لكثرة تناسيها وإبراز المرجعية البديلة لها، وظن بعض الناس - وإن بعض الظن إثم - أن المرجعية الشرعية هي غير شرعية، وأن المرجعية البديلة هي نفسها الشرعية. وفي سبيل بيان الحقائق الشرعية المجردة لا بد من إفراد باب خاص لهذه الناحية.
ما معنى المرجعية
تعني المرجعية تلك الجهة المختصة ببيان أحكام وقواعد العقيدة الإسلامية الإلهية لا على سبيل الافتراض والتخمين، إنما على سبيل الجزم واليقين، بحيث يكون بيانها هذا هو عين المقصود الإلهي من هذه الأحكام، وبالتالي يتقبل الإنسان المؤمن بهذه العقيدة بيان تلك المرجعية على أنه حقيقة إيمانية أو عقلية تصلح كمنطلق فكري أو كقاعدة يبنى فوقها أو كطريق يسار عليها. فالنبي، هو المرجع لكل المسلمين خلال حياته، يرجعون إليه في أمور عقيدتهم، وقوله الفصل لأنه هو الأعلم بأحكام العقيدة، وعميد أهل بيت النبوة - الإمام - بعد وفاة النبي هو المرجع لأنه الأعلم بأحكام العقيدة - حسب رأي الشيعة - والصحابة مجتمعين ومنفردين هم المرجع أو المراجع لبيان أحكام العقيدة بعد وفاة النبي، فهم مجتمعين عدول كلهم وكل واحد منهم من العدول وهم من أهل الجنة وهم الشهود الذين نقلوا لنا هذا
وهذا رأي أهل السنة، فالغالب هو المرجع يجتهد بنفسه حتى ولو لم يكن مجتهدا، أو يأخذ برأي من شاء من المجتهدين حتى لو لم يكونوا مجتهدين بالحق والحقيقة كما سنرى.
تلازم المرجعية مع العقيدة
تتلازم المرجعية مع العقيدة وترتبط معها ارتباطا عضويا. فالمرجعية تنهل من العقيدة، فلا عقيدة بدون مرجعية ولا مرجعية إلا في عقيدة، لأن المهمة الأساسية للمرجعية هي بيان العقيدة الإلهية. فالنبي يبين هذه العقيدة عين البيان الذي يريد الله تعالى، والمرجع بعد النبي بين هذه العقيدة عين البيان الذي أراده الله وبينه النبي.
فالعقيدة الإلهية حددت معاني الأقوال والأفعال، وحددت الأهداف ووسائل بلوغها، ونظمت العلاقات بين المؤمنين بها وعلى كل الأصعدة. فيكون دور المرجع منحصرا ببيان العقيدة بيانا كاملا وتكييفها على الوقائع المستجدة.
فالمرجع هو المسؤول عن ترجمة نصوص وقواعد وغايات تلك العقيدة من النظر إلى التطبيق، ومن الكلمة إلى الحركة على صعيدي الدعوة والدولة معا. فبيان النبي للعقيدة الإلهية هو جزء منها ويحسب من جملة مضامين العقيدة لأنه نبي، ولكن بيان علي أو الحسن أو الحسين أو زين العابدين أو جعفر الصادق، أو أي إمام لا يعتبر جزءا من العقيدة إنما يعتبر سوابق دستورية وضرورية لمن يريد أن يلتقي عمله مع
____________
(1) راجع الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني وبهامشها الاستيعاب لابن عبد البر ص 5 وما فوق.
(2) راجع نظام الحكم للقاسمي ص 244 - 245.
(3) راجع نظام الحكم للقاسمي ص 244 - 245.