3 - بروز فكرة التغلب وترجيح التابع على المتبوع
نبتت بهذا المواجهة فكرة التغلب وترجيح التابع على المتبوع أو المساواة بين التابع والمتبوع، وخلق حالة من الشبهات والحيرة مع من يكون الصواب، هل هو مع التابع أو مع المتبوع ؟.
فحجة الفاروق أن النبي قد اشتد به الوجع، وكتابة الكتاب بمثل هذه الحالة قد تشكل خطرا، وشايع الفاروق بذلك مجموعة من الصحابة، وهذا شك، وحجة الطرف الآخر أن محمدا ما زال نبيا وسيبقى نبيا حتى تصعد روحه الطاهرة إلى باريها، وأنه لا ينطق عن الهوى وهذا يقين، فترك اليقين إلى الشك غير معقول!! والمرض ليس مانعا من القول.
حادثتان مشابهتان
الأولى: لقد مرض الصديق واشتد به الوجع كما يجمع على ذلك كل أتباع
____________
(1) الإمامة والسياسة ص 13.
(2) راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 1 ص 306 - 307 تحقيق حسن تميمي مكتبة الحياة.
اقرأ علي، فقرأ عليه ما كتب فقال أبو بكر: أراك خفت أن يختلف الناس إن اقتتلت نفسي في غشيتي ؟ قال عثمان: نعم. قال أبو بكر: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر " (1)، تلك حقيقة بالإجماع.
الثانية: مرض عمر نفسه. قال طبيبه: لا أرى أن تمسي، فما كنت فاعلا فافعل فقال لابنه عبد الله: ناولني الكتف فمحاها، وقال من شدة الوجع: والله لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع، وكان رأسه في حجر ابنه عبد الله فقال لابنه: ضع خدي بالأرض، فلم يفعل، فلحظه وقال: ضع خدي بالأرض لا أم لك الويل لعمر ولأم عمر إن لم يغفر الله لعمر (2).
وبالرغم من شدة وجع أبي بكر فقد أوصى وكتب ما أراد، وبالرغم من شدة وجع عمر فقد أوصى وكتب ما أراد، ورتب أمر الشورى، واطمأن أن عثمان سيكون الخليفة، واطمأن أنه لا يسلط هاشمي على رقاب الناس حتى ولو كان ذا قوة وذا أمانة، ونفذت بدقة وصية الاثنين، وسمح لهما بقولها، وسمح لهما بالتوصية، وبالرغم من اشتداد الوجع بكل واحد منهما، فعندما كتب كل واحد منهما وصيته كان ما زال رسميا على رأس عمله خليفة للمسلمين ومن حقه أن يمارس عمله ما دام حيا أو لم يعزل.
تلك حقيقة مسلم بها بالإجماع وقول واحد لا خلاف عليه، فكيف يسمح لأبي بكر ولعمر بالتوصية وكتابة ما أراد، مع أن المرض قد اشتد بكل واحد منهما أكثر من اشتداده برسول الله (ص) ويحال بين الرسول وبين كتابة ما أراد!!.
____________
(1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 429 و ص 176 من نظام الحكم للقاسمي و ص 37 من سيرة عمر لابن الجوزي و ج 2 ص 85 من تاريخ ابن خلدون و ص 120 من كتابنا النظام السياسي في الإسلام على سبيل المثال فقط.
(2) راجع الإمامة والسياسة ص 21 - 31 والطبقات لابن سعد و ص 120 - 121 من كتابنا النظام السياسي على سبيل المثال.
وهذا افتراض مرفوض شكلا وموضوعا، لأن محمدا نبي مرسل من الله وإمام، بينما أبو بكر وعمر من الأتباع، ومحمد يوحى إليه، وقد أكد وقال أكثر من مرة: " إن أكثر ما كان يأتيه الوحي كان يأتيه وهو مريض " (1).
والله يقول: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * ويقول:
* (وما صاحبكم بمجنون) * * (ما ضل صاحبكم وما غوى) * * (إن هو إلا وحي يوحى) * فكيف يتحول بطرفة عين من كانت هذه صفاته وملكاته إلى رجل حاشا له يهجر!! ؟ ولا يؤمن على كتابة وصية!!.
ومع أن هذه حقائق دامغة لا قوة في الأرض تستطيع أن تنكرها أو تدافع عنها، ومع أن هذه الواقعة نسفت مستقبل الإسلام كله، وكانت هي البذرة التي انطلقت منها كل المآسي والنكبات التي حلت بالمسلمين، إلا أن أهل السنة يتجاهلونها تماما ولا يفكرون بها إلا أنها مجرد قصة.
وهكذا، وعمليا رجح قول التابع على قول المتبوع، فأصبح التابع مرجعا والمتبوع متفرجا، وتم للتابع ما أراد وغلبت مشيئته واستقطب الناس لها ووجدت واقعيا فكرة الغلبة وأثمرت، واعتبرت الغلبة فيما بعد مبدأ شرعيا وأجيز للأمة أن تتفرج على الصراع بين متغالبين ثم تقف في النهاية مع الغالب مهما كانت صفاته ومهما كان دينه ؟ (2).
فطمع المتبوع بالتابع وتقدم المفضول على الأفضل، ومن هنا فلا ينبغي أن ندهش إذا رأينا معاوية بن أبي سفيان يعتلي سدة الخلافة وهو الطليق ابن الطليق ومن المؤلفة قلوبهم، وينازع بالخلافة أول من أسلم وولي الله بالنص، ومولى كل مؤمن ومؤمنة بالنص، ويحاول أن يقنع المسلمين بأنه أفضل من علي وأصلح للأمة منه، ولا ينبغي أن نندهش إذا وجدنا في عصور الإسلام من يقول: هذا مجتهد وهذا
____________
(1) راجع الطبقات لابن سعد ج 2 ص 193.
(2) راجع نظام الحكم للقاسمي ص 244 - 245 وكتابنا النظام السياسي ص 153
وما ينبغي أن ندهش عندما يطالب مروان بن الحكم بالخلافة وهو ابن الحكم بن العاص الذي كان محظورا عليه أن يدخل المدينة في زمن الرسول وأبي بكر وعمر، حتى تولى الخلافة عثمان فأدخله معززا مكرما واتخذ ابنه مروان رئيسا لوزرائه وزوجا لابنته.
لقد تداعت الفوارق بين التابع والمتبوع وبين المتقدم عند الله وفي الإسلام والمتأخر في موازين الله والإسلام، فالوليد بن عقبة يتأمر على الحسين بن علي والوليد يعظ وعلى الحسين أن يسمع وعظ هذا الواعظ، والوليد يصلي بالناس صلاة الصبح أربعا وهو سكران ويسأل المأمومين إن كانوا يرغبون بالزيادة، وبعد ذلك فإنه لا حرج أن يكون هذا الرجل إماما للحسين بن علي بن أبي طالب وأميرا عليه ومرجعا يمكن للحسين إذا أراد أن يسأله في أمور دينه ودنياه!!!.
4 - ظفر الغالب ونجاحه
أصبح الغالب - أي غالب وأيا كان - هو الظافر، وهو سيد الموقف وهو إمام المسلمين ورئيس دولتهم وهو مرجعهم في كل الأمور الدينية والدنيوية وهو الحائز لكل وسائل القوة، بيده السيطرة الكاملة على كل موارد الدولة يعطي لمن يشاء ويمنع العطاء عمن يشاء، لا رقيب عليه إلا الله ومقدار دينه، وهو القائد العام لجيوش الإسلام يستعملها لتحقيق الأمنين الخارجي والداخلي ولتطويع الرعية رغبة ورهبة، وهو المسيطر سيطرة تامة على وسائل الإعلام، فلو شاء جعل الأبيض أسود ولو شاء جعل الأسود أبيض، ويمكنه بسيطرته على وسائل الإعلام أن يجعل القزم عملاقا وأن يحول العملاق إلى قزم، وتحول مؤيدوه إلى واجهة له بيدهم الحل والعقد، ومع الأيام أصبحوا مراجع، فهم يتبنون وجهة نظر الغالب ويستعملون وسائله المرجعية، فهم سادات المجتمع وهم الفراقد المتألقة، وإذا سار معهم أي واحد قادوه إلى نقطة الارتكاز ومحور الهداية - أي عين ما يراه الغالب - وعزف العامة على ذات الوتر، واتحدت الأمة على هذه الشاكلة، وكلما مضت سنة ترسخت هذه السنة وتوطدت، وكلما مر عقد ضربت جذورها في الأرض وأصبحت رأيا عاما وقناعة وعقيدة سياسية.
عزل العترة الطاهرة
بهذا المناخ نادت العترة الطاهرة بالشرعية، وقالت إن لها حقا وتطالب به، ولكن الناس يحولون بينها وبين حقها الشرعي، كانت معارضة أبي الحسن لأبي بكر معارضة متحضرة وشرعية ومنطقية جدا بشهادة بشير بن سعد أول من بايع أبا بكر حيث قال عندما سمع حجة الإمام: " لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان " (1). ولكن تبقى السلطة سلطة، وتبقى المعارضة معارضة، ولا يمكن بالفطرة للقائمين على السلطة بأي مقياس أن تثق سياسيا بالمعارضة ولا أن تسلم للمعارضة مكتسباتها، ولكن لأن فاطمة بنت محمد بجانب الإمام علي، فقد رؤي عدم قتله، بالرغم من أنه هدد بالقتل إن لم يبايع ورؤي عدم إكراهه على البيعة تقديرا لفاطمة.
ولم تتخذ أية إجراءات فعالة ضد الإمام وزوجته الزهراء عندما كانا يطوفان ليلا في مجالس الأنصار ويسألان النصرة فكان الأنصار يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به فيقول علي: أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أؤمنه وأخرج أنازع الناس سلطانه ؟
فتقول فاطمة: ما صنع أبو حسن إلا ما كان ينبغي ولقد صنعوا ما الله حسبهم عليه وطالبهم (2).
ومع هذا فالنتيجة المنطقية كانت عزل الإمام بعد وفاة فاطمة وعزل شيعته، وتجلت الرغبة بعزل الإمام عن بني هاشم خاصة محاولة السلطة اجتذاب العباس إليها بإغرائه ببعض الأمر له ولعقبه، ولكن العباس رفض ذلك رفضا قاطعا ورد ردا حاسما على السلطة (3).
وبالمعيار الموضوعي فإنه إذا قدر للشخص العادي أن يختار بين السلطة وبين خصومها، فإنه سيختار جانب السلطة لأنها هي الجانب الأقوى خاصة وأن معارضات
____________
(1) الإمامة والسياسة ص 12 على سبيل المثال.
(2) الإمامة والسياسة ص 12 على سبيل المثال.
(3) الإمامة والسياسة ص 15 - 16.
ولقد بلغ من حجم القناعة لدى السلطة أنها اقتنعت بأنه لا يجوز لبني هاشم أن يجمعوا مع النبوة الخلافة كوسيلة لمنع الاجحاف الهاشمي، وآمنت السلطة أن قريش قد اهتدت عندما أخذت بهذا المبدأ (2).
والأهم من ذلك أنه قد وضع شرطا بأنه لا يجوز أن يسلط هاشمي على رقاب الناس حتى ولو كان ذا قوة وأمانة، وقد نفذ هذا الشرط بدقة في عهدي أبي بكر وعمر، وكان عمر يحرص على أن لا يتولى أعماله أي مؤيد لهم.
فعزل علي وعزل شيعته، وتعايش الإمام مع الشيخين وتعايشت شيعته، وقدم أهل البيت في زمنهما على الجميع في العطايا، فكانوا يبدأون بآل محمد ثم ببقية الناس، وأمن الإمام وأهل البيت وشيعتهم على أرواحهم وأموالهم، وكانا يستشيران الإمام ويرجعان إليه في كثير من الأمور، واستقرت الأحوال وساعد على استقرارها فتوح البلدان وعدم تدنس الشيخين بشهوة.
وبعد فترة من استلام عثمان للخلافة بدأ الصحابة يتراجعون من حوله، وبدأ الأمويون ينزلون في بلاطه، فانفض الصحابة جميعا من حوله، والتف الأمويون عليه وغص بهم بلاطه.
ولم يأت الأمويون بجديد، فآل البيت وشيعتهم حرموا الأعمال في زمن الشيخين، وغير وارد أن يتولوها في زمن عثمان، ولأن الإمام وشيعته لا يمكن أن يسكتوا على أخطاء بني أمية وهم حاشية عثمان وعماله، اعتبروا أن أمر أهل البيت بالمعروف ونهيهم عن المنكر معارضة للأمويين لأنهم أمويون، فلذلك ضاقوا ذرعا
____________
(1) راجع مراجع التحريق.
(2) راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3 ص 24 آخر سيرة عمر من حوادث سنة 23، وراجع علامة المعتزلة ابن أبي الحديد وشرح النهج مجلد 3 ص 97 و 107 وقد نقلها عن الإمام أحمد بن أبي طاهر في تاريخ بغداد، وراجع كتابنا النظام السياسي ص 149 وما فوق ص 6، مروج الذهب ج 2 ص 353 للمسعودي.
وبدأ عهد جديد لمطاردة آل محمد ملئ بالدمع والدم، فأبيدوا إلا من كتبت له الحياة، وفرضت مسبتهم وشتمهم في الأمصار، ورددت الأمة المسبات والشتائم وراء الحكام. وطوردت شيعة آل محمد، ولم يجيزوا لأحد من أهل البيت أو لأحد من شيعتهم شهادة، ومحوا من الديوان كل من يظهر حبه لعلي وأولاده وأسقطوا عطاءهم ورزقهم " (1).
الاستيلاء على السلطة
1 - استذكار وربط الأحداث
قال النبي (ص) كما أسلفنا: " هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا " ولما أتم النبي هذه الجملة قال الفاروق موجها كلامه لمن حضر: " إن النبي قد اشتد به الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله " وعلى الفور انقسم الحاضرون إلى قسمين:
القسم الأول يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله، والقسم الآخر يقول ما قاله عمر، فأكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، حتى بلغ الأمر بالقسم الذي أيد عمر أن قالوا:
" حاشا للرسول، هجر رسول الله " إن " رسول الله يهجر " ورسول الله يسمع ويرى، عندئذ قال رسول الله: " دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه " (2).
____________
(1) راجع تاريخ ابن عساكر ج 3 ص 407 وراجع معاوية في الميزان للعقاد ص 16، وراجع شيخ المضيرة للشيخ محمود أبو رية ص 180.
(2) نحن أهل السنة نعتبر صحيحي البخاري ومسلم من أصح كتب الحديث على الاطلاق وقد روى البخاري تلك الحادثة الأليمة بست روايات ولها كلها نفس المضمون ورواها مسلم أيضا، وراجع إن شئت صحيح البخاري ج 7 ص 9، وصحيح مسلم ج 5 ص 75 و ج 11 ص 95 بشرح النووي و ج 4 ص 85 صحيح البخاري وصحيح مسلم ج 5 ص 75 و ج 11 ص 89 - 94 بشرح النووي.
2 - النجاح الساحق
نجح الفاروق بشق الحاضرين إلى قسمين: 1 - جماعة تؤيده وهو التابع، وجماعة تؤيد النبي وهو المتبوع، فأزال الفوارق بين التابع والمتبوع. ونجح الفاروق ومؤيدوه بالحيلولة بين النبي وبين كتابة ما يريد.
الخياران
فإذا أصر النبي على كتابة الكتاب الذي يريد، ففريق الفاروق يرى أن النبي حاشا له: هجر، يهجر وفي ذلك كارثة على الدين كله، وإذا عدل النبي عن كتابة الكتاب الذي أراد ففريق الفاروق عندئذ يرى أن الرسول قد اشتد به الوجع وحسبنا كتاب الله، فاختار النبي العدول عن كتابة الكتاب، وصدم خاطره الشريف هذا القول الموجع " هجر يهجر " فقال: " دعوني...... ".
ثوب الشرعية
الفاروق لم يخرج عن إطار الشرعية من حيث الشكل، فهو لا يدعو إلى باطل، فهو يقول مخاطبا من حضر: " عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اشتد به الوجع "، فهو حريص على أن لا يكتب النبي هذا الكتاب، وحريص على تقديم واجبات الاحترام الرسمية للنبي حيث قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اشتد به الوجع ".... وحريص على التمسك بالقرآن، وهو وحده يكفي ولا حاجة لكتاب النبي، فكامل هذه التصرفات ترتدي ثوب الشرعية.
وهذا عين موقف فريق أمير المؤمنين عمر.
الفصل التاسع
مقاصد الفاروق وأهدافه
لقد قاومت بطون قريش النبوة الهاشمية بكل فنون المقاومة وحاربتها بكل وسائل الحرب، لا حبا بالأصنام ولا كراهية للإسلام، فليس في الإسلام ما تعافه الفطرة فيكره، لكن قريش لا تريد أن تغير صيغتها السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف، ولا تريد أن يتميز البطن الهاشمي عن بقية البطون، ولا أن يتفوق هذا البطن عليها، وقد تصورت بطون قريش أن التفاف الهاشميين حول النبوة، ودفاعهم المستميت عن النبي هو إصرار هاشمي على التميز ورغبة هاشمية بالتفوق على الجميع، فحاصرت بطون قريش مجتمعة الهاشميين، وتآمرت بطون قريش مجتمعة على قتل النبي، وتعاونت بطون قريش مجتمعة على حرب النبي، ففشل الحصار، وفشلت المؤامرة، وهزمت البطون في حروبها وأحيط بها فأسلمت وأدركت أن النبوة الهاشمية قدر محتوم لا مفر منه، ولا محيد، وطالما أن النبوة قدر محتوم، ولا طاقة للبطون بمواجهة هذا القدر ومنعه، فلتكن النبوة للهاشميين خالصة لهم لا يشاركهم بالنبوة أحد من البطون، وليتوقف الزحف الهاشمي على حقوق البطون الأخرى، فالنبي قد أعد العدة لتكون الخلافة لعلي الهاشمي ولذرية النبي من بعد علي، لأنهم بعلم الله الأعلم بالإسلام، والأفهم بأحكامه، والأفضل من أتباعه، والأنسب لقيادة الأمة، والأطيب لنفوس الجميع.
الحل المثالي
لقد دخلت كل البطون في الإسلام، والإسلام يجب ما قبله، وتوحيد قريش في ظلال الإسلام مصلحة شرعية وضرورة من ضرورات انتصاره وشيوعه وانتشاره في البلدان ولا يحقق ذلك إلا:
2 - أن تكون الخلافة لبطون قريش تتداولها فيما بينها لا يشاركها في الخلافة أي هاشمي على الاطلاق، ولا حرج لو تداولها مع البطون من غيرهم كالأنصار، وكالموالي، لأن اشتراك هذا الغير بتداول الخلافة لا يخدم التميز والتفوق الهاشمي، واستقرت بأذهانهم نهائيا مقولة " لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة " وتحولت هذه المقولة إلى تيار غلاب مستقر في النفوس.
استكشاف الحل
قريش وبالإجماع قبلت النبوة الهاشمية باعتبار أنها قدر لا مفر منه وهي تتمنى لو تحقق حلمها بالحل المثالي، فلا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ولكن، هذه الأماني ملجومة بوجود النبي، وإمكانية تحقيقها بعد وفاته واردة ومتاحة.
اقتناع الفاروق بالمقولة وتطويرها على يديه
لسوء الحظ أن الفاروق قد اقتنع بالمقولة القريشية: " لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة، وهو يلتقي هنا مع التيار الغلاب الساكن في نفوس قريش والمتأهب للظهور بعد وفاة النبي. وأضفى عليها الفاروق ثوب الشرعية فوصفها بأنها الصواب والتوفيق وأن الغاية منها منع الاجحاف الهاشمي على بطون قريش، وهكذا طور الفاروق هذه النظرية وألبسها ثوب الشرعية فشقت طريقها بيسر وسهولة وبلا حرج تختال بثوبها الشرعي مخفية أحاسيسها الجاهلية، لأن شعار " لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة " شعار جاهلي من كل الوجوه، تجد جذوره مستقرة وواضحة في الصيغة الجاهلية التي سادت مكة قبل ظهور الإسلام والقائمة أصلا على اقتسام البطون القريشية لمناصب الشرف، ومن جهة أخرى فإن الخليفة المقترح من النبي (ص) وهو علي بالذات نكل ببطون قريش فليس فيها بطن إلا وله دم عند علي، فهو قاتل سادات بني أمية في بدر، وقاتل حنظلة بن أبي سفيان، وقاتل العاص بن هشام بن المغيرة، وهشام هذا هو خال أمير المؤمنين " (1)،
____________
(1) الطبقات: ج 2 ص 17 - 18.
قريش تتحد ضد الولي كما اتحدت ضد النبي
وحدة الرؤى الرئيسية وحدت قريش كلها خلف شعار " لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة "، فقد وقفت كل بطون قريش بلا استثناء (1) ضد النبوة الهاشمية واشتركت كل بطون قريش في مقاطعة بني هاشم ثلاث سنين بهدف القضاء على هذه النبوة وفشل الحصار، وتآمرت كل بطون قريش على قتل النبي وعبرت عن وحدتها بهذا التآمر بإرسال أحد رجالها للاشتراك في قتله، وفشلت المؤامرة ونجا النبي ثم جهزت كل بطون قريش الجيوش وحاربت النبي وفشلت، وأحيط بها فاستسلمت وأدركت أن النبوة قدر لا مفر منه وسلمت بها لبني هاشم.
لكنها عزمت وجزمت على أن لا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة، فوقفت وقفة رجل واحد ضد علي كما وقفت كل بطونها وقفة رجل واحد ضد النبي وغايتها محددة وهي أن لا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة وبنفس الوقت الاحتفاظ بالهوية
____________
(1) الإمامة والسياسة ص 70 - 72.
قريش تخطط والهاشميون يرزحون في مصابهم
قريش مدركة أن النبي ميت لا محالة في مرضه هذا، وقد أخرهم النبي (ص) بذلك وهم يصدقون النبي، وهي مدركة أيضا أن ترك الأمور على طبيعتها يؤدي حتما لفوز علي بالخلافة عندئذ يقع المحظور، فيجمع الهاشميون مع الخلافة النبوة لذلك فلا غنى لها عن التحرك بالخفاء لمنع وقوع المحظور.
والهاشميون كذلك وعلي بالذات مشغولون بمصابهم، فالنبي ميت لا محالة في مرضه هذا، وهو يعاني الألم، وألمه ألمهم لأنه النبي والسيد، وهم الأتباع المخلصون، ولأنه الأخ والقريب وابن العم والحبيب فلا أخ مثله، ولا قريب يغني عنه، ولا ابن عم يتحلى بمزاياه ولا حبيب نظيرا له على الاطلاق، لذلك انصرفوا له بكليتهم وانشغلوا به عمن سواه مفترضين أن الآخرين مثلهم.
التخطيط المحكم
كيف علم عمر بأن النبي سيوصي ذلك اليوم بالذات فحضر ؟ ومن الذي أخبره ؟
وكيف تجمع هذا الفريق الذي ما إن سمع النبي يقول: " هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده " حتى سمعوا الفاروق يرد فورا على النبي موجها الكلام لمن حضر:
" إن النبي قد اشتد به الوجع وحسبنا كتاب الله "، فردد هذا الفريق فورا: القول ما قاله عمر، وزادوا: رسول الله هجر!! استفهموه إنه يهجر كما أسلفنا وأثبتنا، فقول النبي لا يمكن أن يخلق هذا النفور الفوري. والرد العمري الفوري بجملته الشهيرة " إن الوجع قد اشتد برسول الله حسبنا كتاب الله " لا يمكن أن يخلق الاقناع الفوري.
مثل هذا الاقتناع الذي حمل أصحابه على اللفظ والخلاف والتنازع في حضرة رسول الله، والأقرب إلى الذهن والمنطق والعقل أن هنالك معرفة يقينية مسبقة لدى هذا الفريق بمضمون الكتاب الذي أراد الرسول أن يكتبه، وأن هنالك نوع من الاتفاق المسبق للحيلولة بين النبي وبين كتابة هذا الكتاب، ولو أدى ذلك إلى مواجهة مع النبي نفسه، والقول بأنه يهجر أو هجر حاشا الله، والأقرب إلى التفكير أيضا بأن هنالك رابط أو اتفاق يضمن تماسك هذا الفريق ووحدته حتى بمواجهة مع النبي
الثمرة الأولى لهذا التخطيط
تمكن هذا الفريق من أن يحول بين النبي وبين كتابة ما يريد، وبرز عمر بن الخطاب كأقوى رجل في هذا الفريق على الاطلاق فهو الذي خاطب الحاضرين:
" إن النبي قد اشتد به الوجع حسبنا كتاب الله "، بمعنى أنه لا حاجة لنا بكتاب النبي " هذا معنا حسبنا يكفينا " وما زاد عن الكفاية فهو لغو ولا ضرورة له. مما شجع مؤيدي هذا الرأي على القول: رسول الله هجر استفهموه إنه يهجر. حاشا لك يا رسول الله. والخلاصة أن الثمرة الأولى للتخطيط كانت الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما يريد، ولنفترض جدلا أن النبي قد أصر على رأيه ولخص الموقف وقال:
" لا تنسوا بأن الخليفة من بعدي عليا "، فإن هذا القول سيعقد مهمة الفريق وسيضطره في ما بعد لإثبات الهجر مع ما يجره ذلك على الدين نفسه من ويلات وكوارث، فلو رفعوا شعار الهجر فيما بعد لكان الدين نفسه في خطر ولما أمكن التفريق بين ما قاله النبي في هجرة المزعوم وصحوه المؤكد، ففضل النبي (ص) أن يعدل عن كتابة الكتاب ليصون الأهم وهو الدين بدلا من صيانة المهم وهو خلافة علي، فقال لهم:
" قوموا عني ما أنا فيه خيرا مما تدعوني إليه "، وحرج هذا الفريق وهو يتصور أنه المنتصر، وأنه قطف الثمرة، وأن العقبة الكبرى في طريق تحقيق الهدف قد زالت.
التخطيط لهزيمة الهاشميين
بمواجهة متكافئة وعادلة وشريفة بين قريش والهاشميين، فإن الفائز المؤكد هم بنو هاشم وقد أثبتت وقائع التاريخ ذلك، فقد حاصرت كل بطون قريش مجتمعة بني هاشم ثلاث سنين، وفشل الحصار وانتصر الهاشميون، وقد تآمرت كل بطون قريش على قتل محمد واختارت من كل بطن منها رجلا ليشتركوا بقتل النبي مجتمعين، فيضيع دمه بين القبائل، ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه، وفشلت المؤامرة ونجا النبي وانتصر الهاشميون.
وجيشت بطون قريش الجيوش وحاربت محمدا وبني هاشم، وانتصر محمد
الترجيح بمرجح لتحقيق الهدف
أدركت قريش أن سر الانتصارات المتوالية للهاشميين على بطون قريش، وسر التميز والتفوق الهاشمي يكمن في وجود المرجح الذي ساهم بترجيح الكفة الهاشمية على كفة بطون قريش، فالمرجع للهاشميين في صراعهم ضد بطون قريش هو الله الناصر أولا وأسبابه بالترجيح ثانيا، فإجماع قريش على مقاطعة الهاشميين ظلم صارخ أخل بالتوازن، وتزويد الله للهاشميين بالصبر والأخذ بيدهم وتزويدهم بمن يؤيدهم من صفوف بطون قريش ويطلب فك هذا الحصار مرجح أدى لفشل الحصار.
ومؤامرة قريش لقتل النبي إفساد في الأرض وقتل دون سبب يوجب ذلك، ونوم علي بن أبي طالب في فراش النبي ونجاة النبي واستقراره في يثرب سبب مرجح أدى لفشل مؤامرة القتل.
وتجييش بطون قريش الجيوش ومحاربة النبي وملاحقته بلا كلل ولا ملل تماد بالباطل وإصرار عليه، والتفاف الأنصار حول النبي واحتضانه ومحاربتهم إلى جانبه وجانب الهاشميين سبب مرجح أدى لفشل كل الحروب التي شنتها بطون قريش وأسفر عن هزيمة ساحقة أدت في النهاية لانهيار الزعامة المشركة واستسلامها بالكامل.
التكافؤ والفرصة والموضوعية
إذا كان هنالك تكافؤ بالفرض بين رأي قريش وبين رأي بني هاشم، فإن الرأي الهاشمي سيسمو على رأي قريش ويثبت أنه الأصوب والأجدر، وإذا كان هنالك فرصة موضوعية لتقرع الحجة بالحجة، فإن الولي من بعد النبي سيفرغ بحجته الباهرة
المرجع الذي سيهزم الولي والخطة المثلى
اهتدت قريش إلى مفصل الأمور وفيصلها اهتدت إلى الأنصار. إذا استطاعت قريش أن تضمن ولاء الأنصار لموقفها فقد حققت النصر الساحق وتحقيق هدفها، الأعظم بمنع الهاشميين من أن يجمعوا مع الخلافة النبوة، ومنع الولي من أن يكون هو الخليفة، لأنه إذا تولى علي الخلافة فسوف يقترح الحسن ليخلفه من بعده، فالإمام الحسن إمام مسمى من قبل الله وقبل رسوله، ومن له مكانة ابن بنت رسول الله حتى يعترض يوم تسميته، وبالتالي سيكون الخليفة من بعد أبيه، فإذا تولى الحسن الإمامة فسيقترح الحسين إماما من بعده، وليس بإمكان أحد أن يعترض عليه... الخ وهكذا تبقى الأمور بيد أبناء النبي الهاشميين ويجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة، فيكون فوزهم على البطون ساحقا.
ووسيلة منع ذلك كله تكمن في المرجع وفي انعدام تكافؤ الفرص، وفي السرعة والحزم:
1 - المرجع الأعظم واقعيا هم الأنصار، فإذا وقفت الأنصار مع علي فقد هزمت قريش وفق موازينها ووقع المحظور، فجمع الهاشميون الخلافة والنبوة، وإذا وقفت الأنصار مع قريش ومع هدفها هذا فإن هزيمة الهاشميين وهزيمة الولي مؤكدة وفق هذه الموازين.
وإذا أمكن تحييد الأنصار فلا يقفوا مع الولي فإن هذا إنجاز، وإمكانية تحقيق هدف قريش واردة بكل الموازين الموضوعية.
2 - النقطة الثانية انعدام تكافؤ الفرص، فإذا وقف الولي على قدم المساواة مع قريش ومع أي زعيم من زعمائها، في فرصة متكافئة، فإن الولي سيغلب وسيقيم الحجة الشرعية على قريش مجتمعة وعلى أي زعيم من زعمائها والمهم بهذه الحالة أن
3 - السرعة القصوى بحيث يتم البت بموضوع الخلافة خلال فترة انشغال العترة الطاهرة بتجهيز النبي ودفنه، فلا يحضر منهم أحد على الاطلاق ويتم تنصيب الخليفة بغيابهم كلهم، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر ولا مبرر للاعتراض إلا الفتنة ومواجهة دولة حقيقية لها رئيسها ونائبها وجيشها، وهم أتباع الخليفة الجديد ومبايعوه.
اجتماع السقيفة
مات النبي (ص)، غاب القمر المنير الذي أضاء الوجود بنوره، وشاع الخبر، وهرع سكان العاصمة وتجمعوا في بيت النبي وأحاطوا به يبكون نبيهم ووليهم وإمامهم الأعظم، والآل الكرام وعلى رأسهم الولي والخليفة بعد النبي منصرفون كلهم وبكليتهم إلى مصابهم الذي لا مصاب مثله، ومشغولون بتجهيز النبي لمواراته في ضريحه الأقدس.
في هذا الوقت بالذات انعقد الاجتماع في سقيفة بني ساعدة.
أسئلة بدون أجوبة
لماذا انعقد هذا الاجتماع بهذا الوقت بالذات ؟ ومن الذي دعا إليه ؟ وكيف أمكن عقده بهذا الوقت بالذات ؟ ومتى بدأ التحضير له ؟ ومن حضره على وجه اليقين من الأنصار ؟ فالسقيفة لا تتسع لكل الأنصار، وقسم كبير منهم كان بحكم المنطق في بيت النبي أو متحلقا حوله ؟ لأن من المستحيل أن يغيبوا كلهم عن النبي دفعة واحدة ؟
ومن الذي بدأ بالتحضير لهذا الاجتماع ؟ وكم استغرق التحضير له ؟ ولماذا لم يعلم بهذا الاجتماع من المهاجرين إلا عمر بالذات ؟ ومن الذي أخبره ؟ لأن عمر لم يكن في بيت النبي ولا مع المتحلقين حوله، إنما كان في مكان ما وهو يعلم أن أبا بكر في منزل النبي بالضرورة، فأتى عمر فأرسل إلى أبي بكر: أن أخرج إلي فأرسل إليه: إني منشغل، فأرسل إليه: أنه حدث أمر لا بد من حضوره، فخرج أبو بكر إليه فقال:
أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر
من الذي أتى بالخبر
يقول الطبري: إن أول من سمع خبر " اجتماع الأنصار هو عمر " (2)، وفي رواية أخرى: " أبا بكر بلغه الخبر " (3)، وفي رواية ابن هشام " فأتى آت إلى أبي بكر وعمر ". أما من هو هذا الذي أتى بالخبر ؟ فلا أحد يعرفه على الاطلاق لأن اسم هذا المخبر ضاع (4).
اثنان من الأنصار
عندما سار الثلاثة باتجاه السقيفة وجدا عويم بن ساعدة الأنصاري ومعن بن عدي (5) وهما من صفوة الأنصار، وفي رواية ثانية للطبري: فلقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة، وهما صحابيان قد شهدا بدرا.
وفي رواية أنهما قالا للثلاثة: ارجعوا واقضوا أمركم بينكم، وفي رواية ثانية:
ارجعوا فإنه لن يكون ما تريدون.
الملفت للانتباه: أنهما من الأنصار وشهدا بدرا، ومع هذا لم يحضرا اجتماع السقيفة، ولا كانا متوجهين إليه مع علمهم بالاجتماع، إنما كان اتجاه مسيرهما معاكس لاتجاه مسير الثلاثة، فقد تبادل الاثنان الحديث مع الثلاثة المهاجرين ومضى كل نفر في دربه. لأن لم يشر أحد أن الخمسة ساروا معا باتجاه اجتماع السقيفة. ثم مضمون الحوار فمرة قالوا للثلاثة: ارجعوا واقضوا أمركم بينكم، بمعنى أنه لا علاقة للأنصار بهذا الأمر، ومرة أخرى قالا: إنه لن يكون الذي تريدون بمعنى أن الأنصار
____________
(1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 219 (2) تاريخ الطبري ج 3 ص 219.
(3) تاريخ الطبري.
(4) نظام الحكم للقاسمي ص 126.
(5) تاريخ الطبري ج 3 ص 206.
الفصل العاشر
تحليل موضوعي ونفي الصدفة
هنالك إجماع بين مؤرخي أهل السنة بأن أول من سمع بخبر الاجتماع هو عمر (1)، وفي رواية أخرى له أن أبا بكر بلغه الخبر (2). وبلوغ الخبر لأبي بكر لا ينفي كون عمر هو أول من سمع الخبر وفي رواية ابن هشام: " فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال... " (3) ثم إنه لا أحد يعرف اسم الذي أتى بالخبر لحد الآن!! إنه ليس صدفة إن يضيع اسم المخبر، مع أن هذا المخبر شخص بارز في المجتمع لأنه يعلم ما يدور في الخفاء، ولأنه أخبر عمر وأبا بكر، ومما يدل على بروز هذا الشخص أن عمر وأبا بكر أصغيا إليه وصدقاه وكلماه، فمخبر بهذا الوزن لأمر بهذه الأهمية لا يمكن أن يضيع اسمه إن وجد، مما يلقي ظلالا من الشك على وجود حقيقي لمثل هذا المخبر.
ثم إنه ليس صدفة أن تجتمع الأنصار وهم الأغلبية الساحقة من سكان العاصمة " المدينة " ولا يعلم بهذا الاجتماع من المهاجرين كلهم إلا عمر وحده! ثم لماذا ينادي عمر أبا بكر وحده ولا ينادي غيره من المهاجرين مع أن المهاجرين كلهم يلقون نظرة الوداع على نبيهم وإمامهم ويشاركون الآل الكرام مصابهم الفادح ؟ وهذا ليس صدفة أيضا، ثم أين كان الفاروق الذي لم تتحمله رجلاه عندما سمع بخبر وفاة النبي وتوعد بالموت وتقطيع أطراف من يزعم موت النبي (4) ؟ ولما تأكد له الموت من
____________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 219.
(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 201.
(3) ابن هشام ج 2 ص 656.
(4) تاريخ الطبري ج 3 ص 197.
وحول الأنصار أنفسهم، من المؤكد قطعا أن الأنصار لم يجتمعوا جميعا فالذين اشتركوا في بدر هم الخيار، كما ورد بنص الشرع ومن غير الممكن أن يتم اجتماع الأنصار ولا يحضره البدريون وهم الخيار، فاللذان صادقا المهاجرين الثلاثة هما من أهل بدر ولو كانت غاية الاجتماع اختيار خليفة لحضره هذان البدريان أو على الأقل لما كانا خارج الاجتماع بتلك اللحظة. ثم إن النبي قد فارق الحياة وهو مسجى في بيته الطاهر، فهل يعقل أن يتركه الأنصار ولا يذهب منهم أحد لإلقاء نظرة الوداع عليه بالوقت الذي تتأهب فه العترة الطاهرة لمواراته في ضريحه المقدس ؟ هذا أمر لا يمكن تصديقه إلا بحكم التقليد الأعمى، ثم إن الأنصار على فرض اجتماعهم كلهم من أجل انتخاب خليفة عرفوا أحكام الشرع وعرفوا أن محمدا من قريش، وأن الأئمة من قريش، وعرفوا الأحكام الواردة في أهل بيت النبوة، وشهدوا تنصيب الولي والخليفة من بعد النبي في غدير خم وأوصاهم النبي بعلي وبأهل بيته وخاطبهم مجتمعين ذات مرة قائلا لهم: يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبدا ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل (1). فكيف ينسون هذا النص أو يتناسونه جميعا ؟ كيف ينسون قضية التنصيب، وما هي علاقتهم بشعار " لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة "، فهم ليسوا من قريش ولا مصلحة لهم بإبعاد آل محمد، كيف ينسون قوله (ص) عن علي: إنه وليكم بعدي، وإنه مولى
____________
(1) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 9 ص 170 تحقيق أبي الفضل وحلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 ص 63 ومجمع الزوائد ج 9 ص 132 وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 210 وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 313 وكنز العمال ج 15 ص 126 والرياض النضرة للطبري ج 2 ص 233 وفضائل الخمسة ج 2 ص 98 ومطالب السؤول لابن طلحة ج 1 ص 60 وفرائد السمطين ج 1 ص 197 ح 154.
فتقول فاطمة: ما صنع أبو حسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم ومطالبهم (2).
وبشير بن سعد - الذي خرج عن إجماع الأنصار وكان أول من بايع أبا بكر - لما سمع حجة الإمام واحتجاجه قال مخاطبا عليا: " لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان " (3).
من كان هذا تفكيرهم لا يعقل أن يعقدوا اجتماعا بقصد انتخاب خليفة للنبي في غياب الولي الذي نصبه النبي وليا لهم من بعده أمام أعينهم في غدير خم وقدموا بأنفسهم له التهاني، وسمعوا النبي مرات ومرات وهو يقول لهم: إنه وليكم من بعدي، وإنه مولى كل مؤمن ومؤمنة بعدي.
ثم إن سعد بن عبادة الصحابي الجليل وسيد الخزرج وصاحب المواقف التي لا تعرف المهادنة أكبر من أن يقبل الخلافة من بعده في وجود الولي وأهل بيته وشيوخ
____________
(1) راجع على سبيل المثال ج 3 ص 198 والإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 8 وشرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 266.
(2) راجع الإمامة والسياسة ص 12.
(3) الإمامة والسياسة ص 12 و ص 8.
دخول المهاجرين الثلاثة
أخذ الاجتماع طابعا خاصا بدخول المهاجرين الثلاثة ومن الطبيعي أن الحديث سينقطع بعد دخول هؤلاء المهاجرين، من الذي بدأ الحديث ؟ من الذي فتح المناقشة بعد دخولهم ؟ لا أحد في الدنيا من أهل الملة يعرفه على وجه التحديد، لكن الفاروق يتصور أن هؤلاء يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر (1)، وأن الفاروق نفسه كان يتوقع قدوم جدد وانضمامهم إلى هذا الاجتماع. وأقبلت أسلم بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر فكان عمر يقول: " ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر " (2) بمعنى أنه يعلم اسم مؤيده سلفا.
وأسلم بطن كبير من بطون الأنصار كثير العدد كما يبدو، ومع هذا لم يكونوا في الاجتماع هذا، مما يؤكد أن اجتماع الأنصار لم يكن له طابع سياسي أبدا، ثم قول الفاروق: " فأيقنت بالنصر " النصر على من ؟ والنصر بماذا ؟ وكل هذا يؤكد المهمة الترجيحية التي فرضت على الأنصار بالمعنى الذي نوهنا عنه آنفا.
الغاية من قدوم المهاجرين الثلاثة
كان الهدف من ذهاب المهاجرين الثلاثة إلى الأنصار هو بالتحديد تنصيب خليفة للنبي وذلك بغياب قريش كلها، فرأي قريش هو عينه رأي الثلاثة، وهو ينصب بالدرجة الأولى والأخيرة على عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين الخلافة والنبوة،
____________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 201 - 218.
(2) الطبري ج 3 ص 222.