الصفحة 83

الفصل الحادي عشر
في (1) أغلاطهم في [ حق ] الصحابة


ومن عجيب أمرهم: غلوهم في تفخيم [ أمر ] الصحابة، وإفراطهم في تعظيمهم، وقولهم: لا يدخل الجنة مستنقص لأحد منهم، وليس بمسلم من روى قبيحا عنهم، ويقولون: إنا لا نعرف لأحد منهم بعد إسلامه عيبا، وليس منهم من واقع ذنبا، ويجعلون من خالفهم في هذا زنديقا، ومن ناظرهم فيه أو طلب الحجة منهم عليه مبتدعا شريرا.

هذا ولهم في الرسل المصطفين والأنبياء المفضلين، الذين احتج الله تعالى بهم على العالمين صلوات الله عليهم أجمعين أقوال تقشعر منها الجلود، وترتعد لها [ الأبدان، وتنفطر ] القلوب [ لها ]، ولا تثبت عند سماعها النفوس، يتدينون بذكرها، ويتحملون بنشرها (2)، ويغتاظون على من أنكرها ودحضها، كغيظهم على من أضاف إلى أحد الصحابة بعضها، فينسبون آدم وحواء إلى الشرك، وإبراهيم الخليل إلى الإفك والشك، ويوسف إلى ارتكاب المحظور، والجلوس

____________

(1) في " ح ": من.

(2) في " ش ": ويتجملون بنثيرها.


الصفحة 84
من زليخا مجلس [ ذوي ] الفجور، وموسى إلى أنه قتل نفسا ظلما، وداود [ إلى ] أنه عشق امرأة أوريا [ بن حنان ] وحمله عشقها إلى (1) أن قتل زوجها وتزوجها، ويونس [ إلى ] أنه غضب على الله تعالى، ويقولون في سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين في تزويجه بامرأة زيد بن حارثة، وفي غير ذلك من الأقوال القبيحة المفتعلة ما لا ينطلق لمؤمن بذكره لسان، ولا يثبت لمسلم عند سماعه جنان، ولا يطلقه عاقل [ عليه ]، ولا يجيزه منه إلا [ كل ] كافر جاهل.

فإذا قيل لهم: إن جميع الأخبار الواردة في ذلك باطلة، وسائر الآيات التي تظنون أنها تقتضيه متأولة، وقد شهدت العقول بعصمة الأنبياء (عليهم السلام)، ودل القرآن على فضلهم وتميزهم عن الأنام، فوجب أن تتأول الأقوال بما يوافق مقتضى الاستدلال، قالوا إذا سمعوا هذا الكلام: هذا ضلال وترفض، وهو فتح باب التزندق، فياليت شعري كيف صار الهتف بالأنبياء بالباطل إسلاما وسترا، والطعن على بعض الصحابة بالحق ضلالا وكفرا؟ وكيف صار (2) القادح في الأفاضل المصطفين ثبتا صديقا، ومن قدح في أحد قوم غير معصومين رافضيا زنديقا؟ ألم يسمعوا قول الله تعالى في أنبيائه صلوات الله عليهم: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) (3)، وقوله تعالى: (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) (4)، وقوله سبحانه وتعالى لأصحاب نبيه (صلى الله عليه وآله) (5): (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله

____________

(1) في " ش ": على.

(2) في " ش ": حصل.

(3) سورة الدخان: 32.

(4) سورة ص: 47.

(5) في " ش ": لأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله).


الصفحة 85
الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (1)، وقول النبي (صلى الله عليه وآله): " إن من أصحابي (2) [ من ] لا يراني بعد أن يفارقني " (3)، فأي نسبة بين الطبقتين، وأي تقارب بين القبيلتين، لولا [ ما ] مع خصومنا من العصبية التي حرمتهم حسن التوفيق.

وقد قال بعض المعتزلة لأحد الشيعة: إن أمركم - معشر الشيعة - لعجيب، ورأيكم طريف [ غير مصيب ]، لأنكم أقدمتم على وجوه الصحابة الأخيار، وعيون الأتقياء الأبرار، الذين سبقوا إلى الإسلام، واختصوا بصحبة الرسول (4) (صلى الله عليه وآله)، [ وشاهدوا المعجزات، ] وقطعت أعذارهم الآيات، وصدقوا بالوحي، وانقادوا إلى الأمر والنهي، وجاهدوا المشركين، ونصروا رسول رب العالمين، ووجب أن يحسن بهم الظنون، ويعتقد فيهم الاعتقاد الجميل، فزعمتم أنهم خالفوا الرسول (صلى الله عليه وآله) وعاندوا أهله من بعده، واجتمعوا على غصب حق الإمام (5)، وإقامة الفتنة في الأنام، واستأثروا بالخلافة (6)، [ وسارعوا ] إلى الترأس على الكافة، وهذا مما تنكره العقول وتشهد أنه مستحيل، فالتعجب منكم طويل!

قال له الشيعي (7): أما المؤمنون من الصحابة (8) الأخيار، والعيون من الأتقياء

____________

(1) سورة آل عمران: 144.

(2) في " ح ": الصحابة.

(3) مسند أحمد بن حنبل: 6 / 290 و 307 و 312 و 317. الشافي في الإمامة: 177 - الطبعة الحجرية -. بحار الأنوار: 23 / 165.

(4) في " ش ": بصحبته.

(5) في " ش ": الإمام حقه.

(6) في " ح ": في الخلافة.

(7) في " ح ": قال الشيعة.

(8) في " ح ": أصحابه.


الصفحة 86
الأطهار، فمن هذه الأمور (1) مبرؤون، ونحن عن ذمهم متنزهون، وأما من سواهم ممن ظهر زللهم وخطائهم، فإن الذم متوجه إليهم، وقبيح فعلهم طرق القول عليهم، ولو تأملت حال هؤلاء الأصحاب لعلمت أنك نفيت عنهم خطأ قد فعلوا أمثاله، ونزهتهم عن خلاف قد ارتكبوا أضعافه، وتحققت أنك وضعت تعجبك في غير موضعه، وأوقعت استطرافك في ضد موقعه، فاحتشمت من خصمك، ورددت التعجب إلى نفسك.

وهؤلاء القوم الذين فضلتهم وعظمتهم، وأحسنت ظنك بهم ونزهتهم، هم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة (2) بين رجلي ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3) طلبا لقتله (4).

وهم الذين [ كانوا ] يضحكون خلفه إذا صلى بهم ويتركون الصلاة معه وينصرفون إلى تجاراتهم ولهوهم حتى نزل القرآن يهتف بهم.

وهم الذين جادلوا في خروجه إلى بدر وكرهوا رأيه في الجهاد، واعتقدوا أنه فيما دبره على غير الصواب، ونزل فيهم (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى

____________

(1) في " ش ": هذا الأمر.

(2) وذلك حين رجوع النبي (صلى الله عليه وآله) من غزوة تبوك إلى المدينة. والعقبة: مرقى صعب من الجبال، والطريق في أعلاها، والجمع عقاب وعقبات... (أقرب الموارد: 2 / 807).

وقال في لسان العرب: 1 / 621: العقبة: الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه وهو طويل صعب شديد.

والدباب جمع الدبة: وهي التي يجعل فيها الزيت والبذر والدهن طرحوا فيها الحصى.

(3) في " ش ": ناقة النبي (صلى الله عليه وآله).

(4) إرشاد القلوب: 331.


الصفحة 87
الموت وهم ينظرون) (1).

وهم الذين كانوا يلتمسون من النبي (صلى الله عليه وآله) بمكة القتال وينازلونه في الجهاد منازلة، ويرون أن الصواب خلاف (2) ما تعبدوا به في تلك الحال من الكف والإمساك، فلما حصلوا في المدينة (3)، وتكاثر معهم الناس، ونزل عليهم فرض الجهاد، وأمروا بالقتال، كرهوا ذلك، وطلبوا التأخير من زمان إلى زمان، ونزل فيهم: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم (4) كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) (5)، فيما اتصل بهذه الآية من الخبر عن أحوالهم، والإبانة عن زللهم.

وهم الذين أظهروا الأمانة والطاعة، وأضمروا الخيانة والمعصية، حتى نزل فيهم:

(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) (6).

وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر، وطمعوا في الغنائم، حتى نزل فيهم: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (7).

____________

(1) سورة الأنفال: 5 و 6.

(2) في " ش ": ويروون أن الصواب في خلاف.

(3) في " ش ": بالمدينة.

(4) إلى هنا تنتهي نسخة " ش ".

(5) سورة النساء: 77.

(6) سورة الأنفال: 27.

(7) سورة الأنفال: 67 و 68.


الصفحة 88
وهم الذين شكوا يوم الخندق في وعيد الله ورسوله، وخبثت نياتهم، فظنوا أن الأمر بخلاف ما أخبرهم به النبي (صلى الله عليه وآله) إذ نزل فيهم: (إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) (1).

وهم الذين نكثوا عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونقضوا ما عقده عليهم في بيعته تحت الشجرة، وأنفذهم إلى قتال خيبر فولوا الدبر، ونزل فيهم: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا) (2).

وهم الذين انهزموا يوم حنين، وأسلموا النبي (صلى الله عليه وآله) للأعداء، ولم يبق معه إلا أمير المؤمنين (عليه السلام) وتسعة من بني هاشم، ونزل فيهم (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) (3)، وأمثال ذلك مما يطول بشروحه الذكر (4).

وهم الذين قال الله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (5).

وهم الذين قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله): " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموه "، قالوا: يا رسول الله، اليهود

____________

(1) سورة الأحزاب: 10 - 12.

(2) سورة الأحزاب: 15.

(3) سورة التوبة: 25.

(4) كذا.

(5) سورة آل عمران: 144.


الصفحة 89
والنصارى؟ قال: " فمن إذا " (1)؟

وهم الذين قال (صلى الله عليه وآله) لهم: " ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " (2).

وهم الذين قال لهم: " إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة، وأنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " (3).

وهم الذين قال لهم: " بينما أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا فتفرق بكم الطرق فأناديكم: ألا هلموا إلى الطريق، فينادي مناد من ورائي: إنهم بدلوا بعدك، فأقول: ألا سحقا ألا سحقا " (4).

وهم الذين قال لهم عند وفاته: " جهزوا جيش أسامة "، ولعن من تخلف عنه، فلم يفعلوا (5).

وهم الذين قال لهم: " ائتوني بدواة وكتف، أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي " (6)، فلم يفعلوا، وقال أحدهم: دعوه فإنه يهجر، ولم ينكر الباقون عليه، هذا مع إظهارهم الإسلام، واختصاصهم بصحبة النبي (صلى الله عليه وآله)، ورؤيتهم الآيات،

____________

(1) صحيح مسلم: 2 / 2054، ح 4822. جامع الأصول: 10 / 409، ح 7472. الطرائف: 2 / 72.

بحار الأنوار: 23 / 165، وج 28 / 30.

(2) الشافي: 177 - الطبعة الحجرية. بحار الأنوار: 23 / 166.

(3) صحيح مسلم: 4 / 2194، ح 58. الطرائف: 2 / 69. بحار الأنوار: 23 / 165، وج 28 / 25.

(4) الشافي: 177 - الطبعة الحجرية. بحار الأنوار: 23 / 165.

(5) تقدمت تخريجاته في الفصل الثاني.

(6) مسند أحمد بن حنبل: 4 / 299. صحيح البخاري: 1 / 39، وج 4 / 85 و 121، وج 6 / 11.

المعجم الكبير: 11 / 36 و 445. حلية الأولياء 5 / 25.


الصفحة 90
وقطع أعذارهم بالمعجزات.

فانظر الآن أينا أحق بأن يتعجب، وأولانا بأن يتعجب منه، من أضاف إلى هؤلاء الأصحاب ما يليق بأفعالهم، ومن جعلهم فوق منازل الأنبياء وهذه أحوالهم! فسكت المعتزلي متفكرا كأنه ألقمه الشيعي حجرا.

ومن عجيب أمرهم، وظاهر جهلهم: أنهم إذا آمنوا بالمعارض، وعدموا المناقض، ركبوا بهيمة البهتان، فأرخوا فضلة العنان، وجروا في ميدان الهذيان، فبثوا من فضل أئمتهم كل مختلف، وبثوا من قول رواتهم كل ملفق، وشغلوا الزمان بذكر المحال، وشحنوا الأوقات بنصرة الضلال، وجعلوا معظم الدين مودة العاصين، وقاعدة الإسلام حب الظالمين، فألسن مسارعة، وعيون دامعة، ووجوه خاشعة، وقلوب طائعة، حتى إذا حضر بصير أظهر أغلاطهم، ونحرير أوضح إفراطهم، وعارف أبان ضلال ساداتهم، وعالم نص على زلل أئمتهم، قالوا: الكشف عن هذا الأمر لا يلزم، واستماعه محرم، والشغل بغيره أوجب، ولم يتعبدنا الله بذكر من ذهب، والاطلاع في أخبارهم مشكل، فليس غير الصلاة والنسك، وكل أحد يلقى عمله، وليس يلزم العبد إلا ما فعله، فهم المقدمون والمحجمون، وهم المحللون والمحرمون، ولقد أخبرني الخبير بأحوالهم، إنهم في المغرب يأمرون بقراءة مقتل عثمان وينهون عن قراءة مقتل الحسين (عليه السلام)، فهذا ما في ضمائرهم شاهد وعنوان.

ومن عجيب أمرهم، وظاهر عصبيتهم، وحكمهم بالهوى القاهر لعقولهم:

قولهم: إنا لما رأينا الصحابة قد شرفهم الله تعالى بصحبة رسول الله، وميزهم بالكون معه على الأنام، وجعل أعمالهم أفضل الأعمال، وطاعتهم أفضل طاعات أهل الإيمان، علمنا أن كبير معاصيهم في جنب ذلك صغير، وعظيم زللهم

الصفحة 91
بالإضافة إلى طاعتهم حقير، وأن الذم لا يتوجه إلى جناتهم، والعقاب ساقط عن عصاتهم، وهذا ضد الصواب، وهو الحكم الباطل عند أولي الألباب، إلا من كان بمحل من عرف واستبصر، وحضر الآيات فشاهد وأبصر، وكان من بعده قدوة فيما روى ونقل، وحصل للخلف سلفا فيما قال وفعل، وجب أن يكون أثر معصيته أعظم الأثر، وضرر زلته أكثر من كل ضرر، وأن يكون ما يستوجبه من الذم والعقاب أضعاف ما يستحقه من فعل مثل فعله من أصاغر الناس، لأن معصيته تتعدى إلى غيره فيهلك من يتبعه ويقتدي به، كما أن طاعة من كان بهذا المحل أعظم الطاعات، وأعماله أنفس الأعمال، ومدحه وثوابه فوق كل مدح وثواب، إذ كان طاعاته يتعدى من يتبعه أيضا إلى سواه، فيعمل فيها من بعده ويهتدي بهداه، فيكون على العاصي وزر معصيته ونظير وزر من هلك في العمل بها، وللطائع أجر طاعته ونظير أجر من نجا باتباعه فيها.

هذا هو العدل في الحكم الذي شهد بصحته أهل العلم، والمعروف أن الناس يستعظمون خطيئة العالم، ويحتقرون معصية الجاهل، ويقولون: إن زلة العالم كانكسار السفينة تغرق وتغرق، فكيف انسد دون إدراكهم الحق هذا الباب، حتى تاهوا عن الوصول إلى الصواب؟ أتراهم لم يسمعوا الله تعالى يقول في ذكر أزواج نبيه (صلى الله عليه وآله): (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما) (1)؟ بل إنهم قد سمعوا ذلك بحواس صدية، وعلموه بقلوب قد قهرتها العصبية، وإنما صار جزاء من عمل من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)

____________

(1) سورة الأحزاب: 30 - 31.


الصفحة 92
طاعة أو معصية مضاعفا لصحبتهن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقربهن منه، ومشاهدتهن آياته، ولأنهن قد حصلن قدوة لسواهن، وسلفا لمن بعدهن، ولسن فيما يفعلن كغيرهن.

ومن عجيب أمر المعتزلة: أنهم يظهرون التمسك بالدليل، ويتحملون بالاعتماد على ما توجبه العقول، ويعترفون بأن الواجب على كل عاقل أن لا يعدل عن المعلوم إلى المجهول، ولا يترك اليقين ويأخذ بالظنون، ولا يهجر المشتهر المجمع عليه انصرافا إلى الشاذ من القول، وأن من فعل ذلك فهو على خطأ كبير وزلل عظيم.

ثم إنهم مع هذا يخالفون أقوالهم، ويناقضون أنفسهم، فيقولون في عائشة وطلحة وزبير الذين قد انقطع العذر بفسقهم عن الدين، وصح لكل عاقل ضلالهم بالبرهان المبين، وتحصيل عداوتهم فريضة على جميع المؤمنين، أنهم تابوا مما اقترفوه، وأقلعوا عما اجترحوه، ولم يخرجوا من الدنيا إلا وهم من الخلصاء المؤمنين، والأتقياء الطاهرين، وأن الزبير الذي لم يشك في حربه، وطلحة الذي هلك في قتاله وحربه، لم يقتلا إلا وهما صفيان لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ووليان له ومخلصان، وأنهما معه في القيامة عند الله في جملة من قال الله: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) (1).

ويعتمدون في ذلك على أخبار آحاد، وحكايات شواذ، لم يجتمع عليها مع إمكان تأويلها، وأحسن أحوالها أن توجب الظن لسامعها من غير علم ويقين يحصل بها، وينتقلون بها من اليقين إلى الظنون، وينصرفون من المعلوم إلى

____________

(1) سورة الحجر: 47.


الصفحة 93
المجهول، يوالون بالظن من عادوه باليقين والعلم، حتى كأنهم لم يطلعوا قط على دليل عقلي، ولا علموا أنه لا يدفع اليقين بالظن، ولا سمعوا قول الله عز وجل:

(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر كل أولئك كان عنه مسؤولا) (1)، وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) (2)، وقول النبي (صلى الله عليه وآله): " ردوا الجهالات إلى السنة، وعليكم بالمجمع عليه فإنه لا ريب فيه " (3) أترى أنهم يستجيزون عكس ذلك من الانصراف عن موالاة من ثبت إيمانه بواضح الدليل، وعلم إخلاصه بالحق اليقين، إلى معاداته بضرب من الظنون، والتقرب إلى الله بلعنه والبراءة منه بخبر غير موجب لليقين، أم لهم فرق بين الموضعين؟

ومن عجيب أمرهم: إشفاقهم من ذم عائشة والبراءة منها، على ما ارتكبته من معصية ربها، ومخالفة نبيها، وخروجها من بيتها، وسعيها في فتنة هلك فيها كثير من الخلق وسفكت دماؤهم فيها، ونصبها لنفسها فتية تقاتل أمامها طالبة باطلا في فعلها، ولو كان حقا لم يكن إليها ولا لها، واعتذارهم في التوقف عن ذمها ومعاداتها بأنها زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) مع سماعهم قول الله تعالى: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) (4)، وقوله تعالى:

(يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) (5)،

____________

(1) سورة الإسراء: 36.

(2) سورة الزخرف: 86.

(3) أورده في مناقب ابن شهرآشوب: 2 / 361 منسوبا إلى عمر، عنه بحار الأنوار: 40 / 227، و 104 / 3، ح 8.

(4) سورة التحريم: 10.

(5) سورة الأحزاب: 30.


الصفحة 94
ومع علمهم بأن عصمة البنوة آكد من الزوجية، وقد أخبر الله تعالى عن ابن نبيه نوح: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) (1).

هذا مع قول الرسول على رؤوس الأشهاد في آخر أيامه من الدنيا حيث وعظ أمته وذكرهم ووصاهم، ثم أقبل على أهل بيته خاصة، فقال: " يا فاطمة ابنة محمد، اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا.

يا عباس يا عم رسول الله، اعمل فإني لا أغني عنك من الله شيئا.

ثم أقبل على سواهم من الناس فقال: أيها الناس لا يدعي مدع، ولا يتمنى متمن، والذي بعثني بالحق لا ينجيني إلا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت.

اللهم هل بلغت " فقرأ ثلاثا (2).

ولو تأمل القوم ذلك وخافوا الله عز وجل لوجهوا الذم إلى أهله، والمدح والثناء إلى مستحقه، فوالوا أولياء الله، وعادوا أعداء الله، واتبعوا كتابه حيث يقول سبحانه: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) (3).

ومن عجيب أمرهم: قولهم: يجب أن يحفظ رسول الله في زوجته، ولا يوجبون أن يحفظ في فاطمة ابنته، ويعلنون بلعن من ظلم عائشة، ولا يستطيعون سماع لعن من ظلم فاطمة، وهذا عند العقلاء قصور غير خافية، ودلائل على ما في النفوس كافية.

ومن عجيب أمرهم: دعواهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " أصحابي كالنجوم، بأيهم

____________

(1) سورة هود: 46.

(2) الطبقات الكبرى: 2 / 256. صحيح البخاري: 4 / 8، وج 6 / 140. إتحاف السادة المتقين: 7 / 77.

(3) سورة المجادلة: 22.


الصفحة 95
اقتديتم اهتديتم " (1) واحتجاجهم بذلك في تفضيلهم، واعتمادهم عليه في تصويب جميعهم، مع علمهم بما جرى بينهم من الخلف العظيم والتباين المبين، في أمور الدنيا والدين، وأن الحال انتهت بهم إلى أن ضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف، وطلب بعضهم دم بعض على وجه التحليل، فكيف يصح أن يكون بأيهم اقتدوا اهتدوا مع كونهم على هذا السبيل؟! وهل المستفاد من هذا الخبر إلا أن الهداية فيما بين الجميع.

ومن عجيب أمرهم: قولهم: يجب الإمساك عن ذكر مساوئ الصحابة، وهم يعلمون مع ذلك أن بعضهم لم يمسك عن بعض، وقد تجاوز الخلف منهم حد الذم والطعن إلى البراءة واللعن، وتجريد السيف والقتل.

ومن عجيب أمر المعتزلة وظاهر مناقضتهم: أنهم يجعلون تصرف بعض وجوه الشيعة في الصدر الأول من قبل عمر بن الخطاب في الظاهر دليلا على موالاتهم القوم في الباطن، كولاية سلمان المدائن، وعمار الكوفة، ويقولون: لو لم يتولوهم ويعتقدوا صوابهم ما تصرفوا تحت واحد منهم، ولا تولوا عملا من قبل من هو ظالم عندهم، ولا يلتفتون مع هذا إلى اعتقادهم أن الخيرة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) تصرفوا من قبل معاوية بن أبي سفيان، وأظهروا اتباعه وسموه بإمرة المؤمنين وعظموه وأجلوه، ومعاوية عند جميع المعتزلة ظالم فاسق يستحق الخلود في نار جهنم، ويعلمون أنه عقد لابنه يزيد الأمارة على وجوه الصحابة في حياته، وأنفذهم إلى قتال الروم تحت رايته، حتى بلغوا قسطنطينة ممتثلين أمره، منقادين إلى طاعته، متصرفين تحت حكمه وتدبيره، منهم: عبد الله بن العباس،

____________

(1) ميزان الاعتدال: 1 / 607. تلخيص الحبير: 4 / 190، ح 2098. كشف الخفاء: 1 / 147، ح 381.

إتحاف السادة المتقين: 2 / 223.


الصفحة 96
وعبد الله بن عمر بن الخطاب الذين يتفقون على تفضيله، وعبد الله بن الزبير بن العوام الذين يعتقدون الجميل فيه، وأبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا يرون أن تصرفهم هذا من قبل معاوية ويزيد لا يدل على موالاتهم لهما واعتقادهم صوابهما، وكذلك جماعة ممن يفضلهم المعتزلة قد تصرفوا من قبل معاوية مثل أبي هريرة في ولايته على المدينة، وغالب بن فضالة الذي تولى أمارة خراسان، والمغيرة بن شعبة الذي كان أميرا على الكوفة، وسمرة الذي كان أميرا من قبل زياد على البصرة، وكل ما علم من تصرف شيوخ المعتزلة من قبل الولاة الظلمة في قضاء وعمالة، بل يقيمون لهم المعاذير، ويخرجون لهم الوجوه التي لا تجبره مثلها في تولي سلمان وعمار من قبل عمر بن الخطاب، وهذا تحكم ومناقضة لا تخفى على ذوي الألباب.