المبحث الثالث
صور التقية في فقه العامّة

الاَحكام الشرعية الفرعية: إمّا عبادات كالصوم والصلاة، أو معاملات.

والمعاملات: إمّا أن تكون عقوداً مثل البيع والشراء، أو ايقاعات كالطلاق والعتق، أو أحكاماً مثل الحدود والتعزيرات.

ومع كون التقية من الفروع الشرعية بلا خلاف، إلاّ أنّ فقهاء العامّة لم يفردوا لها عنواناً باسم التقية في كتبهم الفقهية، وإنّما بحث معظمهم مسائلها في قسم العقود من المعاملات، وتحديداً في كتاب الاِكراه.

والسبب في ذلك، هو علاقة التقية بالاكراه مع دخول كل منهما في أغلب الفروع الشرعية. وهذا السبب ليس كافياً في الواقع، فالشهادات مثلاً مع

الصفحة 145
صلتها الوثقى بالقضاء، ودخولها في أغلب الفروع إلاّ أنهم أفردوا لها عنواناً، وكذلك الحال مع الاِقرار والصلح وغيرهما من العناوين الفقهية، وهذا مايسجل ثغرة في المنهج الفقهي الخاص بترتيب مسائل الفقه وتبويبها.

بل، وثمّة إشكال آخر على بحث مسائل التقية تحت عنوان الاكراه؛ لما مرّ سابقاً من انتفاء الاكراه في بعض أقسام التقية، ولهذا ترك بعضهم مسائلها موزعة على مواردها في أغلب الاَبواب الفقهية.

ومن هنا صار بحث التقية فقهياً بحثاً مضنياً يتطلب الرجوع إلى أبواب الفقه كافة، بغية الوقوف على مسائلها، وهو ما حاولنا القيام به، مع مراعاة الاختصار باجتناب الاطالة ما أمكن، والاكتفاء بالاَهم دون المهم، والبعد عن كلِّ ما فيه من غموض أو تعقيد.

وقد ارتأينا تقسيم مسائلها على غرار التقسيم الفقهي السائد لفروع الاحكام، مسبوقاً بما اتصل منها بركن الرسالة الاَعظم: الاِيمان بالله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، أو بالاَخلاق والآداب العامّة كما في مداراة الناس ومعاشرتهم بالحسنى، كما سنبينه قبل ذلك التقسيم، وعلى النحو الآتي.

أولاً: افتاء فقهاء العامّة بجواز التقية في لب العقيدة وجوهرها

ويدل عليه أمور:

1 ـ قولهم بجواز تلفظ كلمة الكفر بالله تعالى والقلب مطمئن بالايمان، عند الاكراه عليها (1).

____________

1) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10: 180. وأحكام القرآن | ابن العربي المالكي 3: 1177 | 1182. والمبسوط | السرخسي الحنفي 24: 48. وبدائع الصنائع | الكاساني الحنفي 7:

=


الصفحة 146
وقد مرّ في دليل الاجماع أكثر من تصريح لهم بالاجماع على ذلك.

2 ـ تجويزهم سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال التقية (1).

3 ـ تجويزهم أيضاً السجود إلى الصنم في مالو أُكره المسلم عليه (2).

وإذا كان كل هذا جائزاً عندهم في حال التقية، فمن باب أولى جوازها عندهم في سائر أصول العقيدة، بل وفي سائر فروعها أيضاً. وكيف ينال المسك وتسلم فأرته ؟

ثانياً: افتاؤهم بجواز التقية في الآداب والاخلاق العامّة

ويدل عليه قول الشيخ المراغي: «ويدخل في التقية مداراة الكفرة، والظلمة، والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم، وبذل المال لهم لكف أذاهم، وصيانة العرض منهم، ولا يُعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع» (3).

ولعلّ في مداراة الفرقة الوهابية لسائر المسلمين في عدم تهديم قبر

____________

=

175، ط2، دار الكتاب العربي، بيروت | 1402 هـ. وأحكام القرآن | محمد بن ادريس الشافعي 2: 114 ـ 115، دار الكتب العلمية، بيروت | 1400 هـ. والمغني | ابن قدامة الحنبلي 8: 262، ط1، دار الفكر، بيروت | 1404 هـ.

1) فتاوى قاضيخان | الفرغاني الحنفي 5: 489 وما بعدها، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية، ط4، دار إحياء التراث العربي، بيروت | 1406 هـ.

2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10: 180. وتفسير ابن جزي الكلبي المالكي: 366 دار الكتاب العربي، بيروت | 1403 هـ.

3) تفسير المراغي 3: 136 ـ 137، وقد صرّح بجواز المداراة المعتزلة كما في مسائل الهادي يحيى ابن الحسين الرسي المعتزلي: 107 نقلناه من معتزلة اليمن | علي محمد زيد: 190، ط2، دار العودة، بيروت | 1405 هـ، وكذلك الخوارج الاَباضية كما في المعتبر لاَبي سعيد الكديمي الاَباضي 1: 212 طبع وزارة التراث القومي في سلطنة عُمان | 1405 هـ.


الصفحة 147
النبي صلى الله عليه وآله وسلم واظهارهم في ذلك بخلاف ما يعتقدون بشأن هدم القبور مطلقاً خير دليل على تقيتهم المداراتية.

ثالثاً: افتاؤهم بجواز التقية في العبادات

ونكتفي بأهم العبادات التي جوزوا التقية فيها وقس عليها ما سواها.

1 ـ جواز التقية في الصلاة خلف الفاسق:

مرّ سابقاً عن ابن قدامة الحنبلي قوله: «لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد، فيصليان بمكان واحد من البلد، فان من خاف منه إن تَرَكَ الصلاة خلفه، فإنّه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة».

2 ـ جواز ترك الصلاة تقية:

اتفق المالكية والحنفية والشافعية على جواز ترك الصلاة المفروضة في مالو أُكره المسلم على تركها (1).

3 ـ جواز الافطار في شهر رمضان تقية:

صرّح المالكية والحنفية والشافعية بعدم ترتب الاثم على من أفطر في شهر رمضان تقية بسبب ضغط الاكراه عليه (2).

4 ـ الافتاء العجيب بشأن الافطار المتعمد قبل الاكراه عليه:

ومن الفتاوى العجيبة الداخلة في دائرة التقية عند الاحناف، ما رواه

____________

1) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10: 180 وما بعدها. والمبسوط | السرخسي الحنفي 24: 48. والاَشباه والنظائر | السيوطي الشافعي: 207 ـ 208.

2) الجامع لاَحكام القرآن 10: 180. والمبسوط | السرخسي الحنفي 24: 48. وفتاوى قاضيخان | الفرغاني الحنفي 5: 487. والاَشباه والنظائر | السيوطي الشافعي: 207 ـ 208.


الصفحة 148
ابن زياد عن أبي حنيفة، كما في قول الفرغاني الحنفي: إنّه لو أفطر الصائم في يوم من أيام شهر رمضان عن عمد واصرار، ثم أكرهه السلطان بعد ساعة أو ساعتين على افطاره المتعمد على السفر في ذلك اليوم، فانه سيكون حكمه حكم المكره، وتسقط عنه الكفارة (1)!!

5 ـ سقوط الكفارة عمن جامع امرأته كرهاً في شهر رمضان:

قال الفرغاني: «لو أُكرِه الرجل على أن يجامع امرأته في شهر رمضان فلا كفارة عليه ويجب القضاء» (2).

رابعاً: افتاؤهم بجواز التقية في المعاملات

القسم الاَول ـ العقود:

وتقتصر على بعض مسائله وهي:

1 ـ جواز التقية في البيع والشراء:

تصح التقية فيهما بلا خلاف بين المالكية والحنفية(3)، كما صححها غيرهم كالظاهرية (4).

2 ـ جوازها في الوكالة:

صرّح القرطبي المالكي ـ كما مرَّ في تقية أصحاب الكهف ـ بالاتفاق على صحة توكيل الانسان حال التقية، فراجع.

3 ـ جوازها في الهبة:

وهي أيضاً مما تصح فيه التقية عند المالكية

____________

1) فتاوى قاضيخان | الفرغاني 5: 487.

2) فتاوى قاضيخان | الفرغاني 5: 487.

3) البحر المحيط | أبو حيان المالكي 2: 224. وبدائع الصنائع | الكاساني الحنفي 7: 175. ومجمع الاَنهر في شرح ملتقى الاَبحر | داماد أفندي الحنفي 2: 431 ـ 433، دار احياء التراث العربي، بيروت.

4) المحلّى | ابن حزم 8: 331 ـ 335 مسألة: 1406.


الصفحة 149
والحنفية والظاهرية، مشروطة بقيد الاكراه عليها (1).

القسم الثاني ـ الايقاعات:

ونكتفي منها بالصور الآتية:

1 ـ جواز التقية في الطلاق:

لو طلق الاِنسان زوجته تقية بسبب الاكراه، فهل يصح الطلاق، أو لا يصح، بمعنى: هل يقع الطلاق تقية أو لا ؟

اختلفوا في ذلك على قولين، أحدهما الوقوع، والآخر عدمه.

فمن اجاز طلاق المكره، هم: أبو قلابة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وأبو حنيفة، وصاحباه، قالوا: لاَنّه طلاق من مكلّف في محل يملكه، فينفد كطلاق غير المكره.

وأما من ذهب إلى عدم وقوع مثل هذا الطلاق؛ لاَنّه وقع تقية بلا رضا الزوج فهم: أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعمر بن الخطاب، وعبدالله بن عباس، وابن الزبير، وجابر بن سمرة، وعبدالله بن عبيد بن عمير، وعكرمة، والحسن البصري، وجابر بن زيد، وشريح القاضي، وعطاء، وطاوُس، وعمر بن عبدالعزيز، وابن عون، وأيوب السختياني، ومالك، والاوزاعي، والشافعي، واسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، صرّح بكل هذا ابن قدامة الحنبلي واختار القول الثاني (2).

____________

1) البحر المحيط | أبو حيان المالكي 2: 424. وبدائع الصنائع | الفرغاني الحنفي 7: 175، والمحلى | ابن حزم 8: 331 ـ 335 مسألة: 1406.

2) المغني | ابن قدامة الحنبلي 8: 260 مسألة 5846.


الصفحة 150
وهو الصحيح الذي عليه المالكية (1)والشافعية (2)والحنبلية (3)، كما اختاره بعض فقهاء الاحناف (4).

2 ـ جوازها في العتق:

تجوز التقية فيه عند المالكية (5)، وغيرهم (6)، مع عدم ترتب آثارها بمعنى عدم وقوع العتق في حال التقية، لحصوله من غير رضا المُعتِق.

3 ـ جوازها في اليمين الكاذبة:

لو حلف انسان بالله كاذباً، فلا كفارة عليه إن كان مكرهاً على اليمين، وله ذلك تقية على نفسه، وتكون يمينه غير ملزمة عند مالك والشافعي وأبي ثور، وأكثر العلماء على حد تعبير النووي الشافعي، واستدل بحديث: «ليس على مقهور يمين» (7).

أقول: صرّح بهذا الشافعي ونسبه إلى عطاء بن أبي رياح (8)وقد افتى به غير واحد من فقهاء المالكية (9)ونقل القرطبي عن ابن الماجشون: إنّه لا فرق في ذلك بين ان تكون اليمين طاعة لله تعالى، أو معصية، وإنه

____________

1) المدونة الكبرى | مالك بن أنس 3: 29 كتاب الايمان بالطلاق وطلاق المريض أورده تحت عنوان (ما جاء في طلاق النصرانية والمكره والسكران)، مطبعة السعادة، مصر. والكافي في فقه أهل المدينة المالكي | ابن عبدالبر: 503، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت | 1407 هـ. والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 1: 180.

2) أحكام القرآن | الكيا الهراسي الشافعي 3: 246.

3) المغني | ابن قدامة 8: 260 مسألة: 5846.

4) بدائع الصنائع 7: 175.

5) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي: 503.

6) بدائع الصنائع 7: 175.

7) المجموع شرح المهذب | النووي الشافعي 18: 3، دار الفكر، بيروت.

8) أحكام القرآن | محمد بن ادريس الشافعي 2: 114 ـ 115.

9) أحكام القرآن | ابن العربي المالكي 3: 1177 | 1182. وتفسير ابن جزي المالكي: 366.


الصفحة 151
لاحنث عند الاكراه على اليمين الكاذبة(1) وهذا هو محل اتفاق فقهاء الاَحناف (2).

وقد كان مالك بن أنس يقول لاَهل المدينة في شأن بيعتهم للطاغية المنصور العباسي: إنكم بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين (3) يحثهم بهذه الفتيا على الخروج مع إبراهيم بن عبدالله بن الحسن للثورة على المنصور.

____________

1) الجامع لاحكام القرآن | القرطبي المالكي 10: 191.

2) بدائع الصنائع 7: 175، واُنظر تفصيل فتاوى الحنفية بشأن موارد التقية في اليمين الكاذبة وغيرها في مصادرهم التالية:

1 ـ البحر الرائق | ابن نجيم 8: 70.

2 ـ تحفة الفقهاء | السمرقندي 3: 273، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت | 1405 هـ.

3 ـ تقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين | محمد رشيد الرافعي 2: 278، ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت | 1407 هـ.

4 ـ رد المحتار على الدر المختار| ابن عابدين 5: 80، ط2، دار احياء التراث العربي، بيروت | 1407 هـ.

5 ـ شرح فتح الغدير | ابن همام 8: 65، دار احياء التراث العربي، بيروت.

6 ـ غمز عيون البصائر | شهاب الدين الحموي 3: 203 و4: 339، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت | 1405 هـ.

7 ـ الفتاوى الهندية| الشيخ نظام وجماعته 5: 35، ط4، دار احياء التراث العربي، بيروت | 1406 هـ.

8 ـ الفروق | الكرابيسي 2: 260، المطبعة العصرية، الكويت | 1402 هـ.

9 ـ اللباب | الميداني 4: 107، ط4، دار الحديث، بيروت | 1399 هـ.

10 ـ المبسوط | السرخسي الحنفي في الجزء (24) كله تقريباً (تقدم التعريف بطبعته).

11 ـ مجمع الضمانات | ابن محمد البغدادي: 204، ط1، عالم الكتب، بيروت | 1407 هـ.

12 ـ النتف في الفتاوى | السغدي 2: 296، مطبعة الارشاد، بغداد | 1975 م.

13 ـ الهداية | المرغيناني 3: 275، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

3) تاريخ الطبري 4: 427 في حوادث سنة (145)، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت | 1408 هـ.


الصفحة 152

القسم الثالث: الاَحكام:

1 ـ جواز التقية في حكم الاَطعمة والاَشربة المحرمة:

أفتى القرطبي المالكي بجواز التقية في شرب الخمر (1)، وقالت الحنفية: تجوز التقية إذا كان الاقدام على الفعل أولى من الترك، وقد تجب إذا صار بالترك آثماً، كما لو أُكرِه على أكل لحم الميتة أو أكل لحم الخنزير، أو شرب الخمرة (2).

وهذه المحرمات المذكورة تجوز كلّها إن كان المتقي باتيانها مكرهاً عليها بغير القتل، وأما لو كان الاكراه عليها بالقتل، فقد صرّح الشافعية بوجوبها (3).

وقال ابن حزم الظاهري: «فمن أكره على شرب الخمر أو أكل الخنزير أو الميتة أو الدم أو بعض المحرمات، أو أكل مال مسلم أو ذمي، فمباح له أن يأكل ويشرب ولا شيء عليه لاَحد ولا ضمان» (4).

وقد عرفت أن التقية في شرب الخمر ممنوعة عند فقهاء الشيعة ما لم يصل الاكراه الى حد القتل.

2 ـ جوازها في الزنا:

إذا أكره الرجل على ارتكاب هذه الجريمة، واتقى على نفسه بارتكابها فهل يسقط الحد عليه أو لا ؟

____________

1) الجامع لاَحكام القرآن 10: 180، وبه قال الاِمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى في البحر الزخار 6: 100، مؤسسة الرسالة، بيروت 1393 هـ، وقد ذكرناه هنا؛ لادعاء بعض خصوم الشيعة من الجهلة الاغبياء بان الزيدية أنكروا التقية، ولولا خشية الاَطالة لزدت البحث فصلاً في تقيتهم.

2) فتاوى قاضيخان 5: 489. واُنظر: أحكام القرآن | الجصاص الحنفي 1: 127. والمبسوط| السرخسي 24: 48 وما بعدها. وبدائع الصنائع 7: 175 وما بعدها.

3) التفسير الكبير | الفخر الرازي الشافعي 20: 121.

4) المحلّى | ابن حزم 8: 330 مسألة: 1404.


الصفحة 153
اختلفوا على قولين:

أحدهما: سقوط الحد عنه، وهو قول القرطبي المالكي (1)، وابن العربي المالكي (2)، والفرغاني الحنفي (3)، وابن قدامة الحنبلي (4)، وابن حزم (5)، وقال أبو حنيفة: يسقط الحد إن كان الاكراه من السلطان، وإلاّ حُدّ استحساناً (6).

والآخر: إقامة الحد على الزاني تقية ويغرّم مهرها، وهو قول مالك بن أنس، والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجب المهر (7).

وأما لو استكرهت المرأة على الزنا، فلا حدّ عليها، قولاً واحداً (8).

3 ـ جوازها في الدماء: تقدم أن أهل البيت عليهم السلام صرّحوا بأنّ التقية إنّما شرعت لحقن الدم، وإنّه إذا بلغت التقية الدم فلا تقية، وبهذا أفتى فقهاء الشيعة اقتداءً بأهل البيت عليهم السلام. وقد وافقهم على هذا من فقهاء العامّة مالك بن أنس (9).

وهو ظاهر المذهب المالكي، قال ابن العربي المالكي: «قال علماؤنا:

____________

1) الجامع لاَحكام القرآن 10: 180.

2) أحكام القرآن | ابن العربي 3: 1177 | 1182.

3) بدائع الصنائع 7: 175 ـ 191.

4) المغني | ابن قدامة 5: 412 مسألة: 3971.

5) المحلّى 8: 331 مسألة 1405.

6) بدائع الصنائع 7: 175 ـ 191.

7) المغني | ابن قدامة 10: 155 مسألة 7167.

8) كما في سائر المصادر المذكورة في هذه الفقرة، وفي الصفحات المؤشرة ازائها، وهو قول الزيدية أيضاً كما في البحر الزخار 6: 100.

9) تفسير بن جزي الكلبي المالكي: 366.


الصفحة 154
المكرَه على اتلاف المال يلزمه الغرم، وكذلك المكرَه على قتل الغير يلزمه القتل» (1). وهو أحد قولي الشافعي (2). وخالف بذلك أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف.

فقال أبو حنيفة: يصح الاكراه على القتل، ولكن يجب القصاص على المكره، دون المأمور.

وقال أبو يوسف: يصح الاكراه على القتل ولا يجب القصاص على أحد، وكان على الآمر دية المقتول في ماله في ثلاث سنين (3)!!

واعترف بهذا الكاساني الحنفي، قائلاً: «والمكرَه على القتل لا قصاص عليه عند أبي حنيفة وصاحبه محمد، ولكن يعزر القاتل، ويجب القصاص على المكرِه.

وعند أبي يوسف لا يجب القصاص لا على المكرِه ولا على المكرَه، وإنّما تجب الدية على الاَوّل» (4).

وقد اعتذر السرخسي الحنفي عن أبي يوسف عن فتياه العجيبة هذه، فقال: «وكان هذا القول لم يكن في السلف، وإنّما سبق به أبو يوسف واستحسنه» (5).

____________

1) أحكام القرآن | ابن العربي 3: 1298.

2) التفسير الكبير | الرازي الشافعي 20: 121.

3) فتاوى قاضيخان 5: 484. واُنظر: الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية | مفتي الشام محمود حمزة: 219، ط1، دارالفكر، دمشق | 1406 هـ.

4) بدائع الصنائع 7: 175 ـ 191. وكذلك مجمع الاَنهر 2: 431 ـ 433.

5) المبسوط | السرخسي 24: 45.


الصفحة 155
أقول: ومن فروع هذه المسألة عند أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني، أنه يجوز للرجل أن يتقي في قتل أبيه، ولا يحرم من ميراثه.

قال الفرغاني الحنفي: «لو أُكرِه الرجل على قتل موروثه بوعيد قتل فَقَتَل، لا يحرم القاتل من الميراث، وله أن يقتُل المُكرِه قصاصاً لموروثه في قول أبي حنيفة ومحمد» (1).

والخلاصة، إنّ المذهب الحنفي يجوز التقية في الدماء !! وهو أحد قولي الشافعي (2).

4 ـ جوازها في قطع الاَعضاء: تصح التقية في قطع أعضاء الاِنسان، ولا قصاص في ذلك لا على الآمر ولا على المأمور، بل تجب الدية عليهما معاً من مالهما عند أبي يوسف(3)!!

والاَعجب من كلِّ هذا، جوازها في قطع الاَعضاء تبرعاً من غير اضطرار أو إكراه !!!

إنّه لو أكرَه السلطان رجلاً على أن يقطع يدَ رجُلٍ فقطعها، ثم قطع يدَه الاُخرى، أو رجله تطوعاً من غير اكراه من السلطان، وإنّما قطعها اختياراً، فهل يجب عليه القصاص فيما قطعه مختاراً أو لا ؟

الجواب: لا قصاص عليه، ولا على السلطان، بل تجب عليهما الدية

____________

1) فتاوى قاضيخان 5: 489.

2) التفسير الكبير | الرازي 20: 121.

3) فتاوى قاضيخان 5: 486.


الصفحة 156
من مالهما عند أبي يوسف (1)!!

5 ـ جوازها في هتك الاَعراض !!: ومن فتاوى العامّة المخجلة حقاً تجويزهم التقية على الاِنسان في هتك عرضه وشرفه وناموسه، وعليه أن يقف ذليلاً وبكل نذالة وهو يرى الاعتداء على شرفه ولا يدفع عنه شيئاً !

ففي الجامع لاَحكام القرآن للقرطبي المالكي أنّه إذا أُكرِه الاِنسان على تسليم أهله لما لا يحلّ، أسلمها، ولم يقتل نفسه دونها، ولا احتمل أذية في تخليصها (2).

6 ـ جوازها في قذف المحصنات: تجوز التقية في قذف المحصنات عند الجصاص الحنفي (3)، وقد زاد على ذلك السرخسي، جواز الافتراء على المسلم تقية (4).

7 ـ جوازها في اتلاف مال المسلم: جوّز الحنفية والشافعية وغيرهم التقية في اتلاف مال المسلم لمن يُكرَه على ذلك، ولا ضمان عليه وإنّما الضمان على من أكرهه (5).

____________

1) فتاوى قاضيخان 5: 486.

2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10: 180 وما بعدها في تفسيره الآية 106 من سورة النحل.

3) أحكام القرآن | الجصاص الحنفي 1: 127.

4) المبسوط | السرخسي 24: 48.

5) مجمع الاَنهر 2: 431 ـ 433. والاشباه والنظائر | السيوطي الشافعي 207 ـ 208. والسيل الجرار على حدائق الاَزهار | الشوكاني 4: 265، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت | 1405 هـ. وقد قيّد بعضهم مثل هذه التقية في حالة كون الاكراه عليها بالقتل وهو ما يسمونه بالاكراه الملجيء الذي يكون معتبراً في التصرفات القولية والفعلية، وفي مثل هذا الحال يكون الضمان على المكرِه،

=


الصفحة 157
وأطلق الاِمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى القول باباحة مال الغير بشرط الضمان في حال التقية (1).

8 ـ جوازها في شهادة الزور: صرّح السيوطي الشافعي بجواز شهادة الزور عند الاكراه عليها، فيما لو كانت تلك الشهادة في اتلاف الاموال (2).

كلمة أخيرة عن سعة التقية في فقه المذاهب الاَربعة

لقد تركنا الكثير جداً من المسائل التي جوّز فيها فقهاء العامّة التقية بغية للاختصار، كتجويزهم التقية مثلاً في: الصدقة، والاقرار، والنكاح، والاجارة، والمباراة، والكفالة، والشفقة، والعهود، والتدبير، والرجعة ـ بعد الطلاق ـ والظهار، والنذر، والايلاء، والسرقة، وغيرها من الفروع الشرعية (3) ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. ومن هنا قال المالكية: «الاكراه، إذا وقع على فروع الشريعة لا يؤخذ المكره بشيء»(4).

وأوسع من هذا المعنى ما صرّح به موسى جار الله التركماني بقوله:«والتقية هي: وقاية النفس من اللائمة والعقوية، وهي بهذا المعنى من الدين، جائزة في كلِّ شيء» (5).

____________

=

وأما لو كان الاكراه غير ملجيء وهو ما كان التهديد فيه بما دون القتل فللمكرَه أن يتقي في المثال أيضاً بشرط الضمان.

اُنظر: شرح المجلة | سليم رشيد الباز: 560 المادة 1007 ط دار إحياء التراث العربي: بيروت.

1) البحر الزخار 6: 100.

2) الاَشباه والنظائر | السيوطي: 207 ـ 208.

3) راجع في ذلك بدائع الصنائع 7: 175 ـ 191. والمحلّى 8: 331 ـ 335 مسألة: 1406 وغيرهما مما ذكرناه من مصادر الفقه العامي.

4) أحكام القرآن | ابن العربي 3: 1177 | 1182.

5) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة | موسى جارالله: 72، ط1، مطبعة الشرق، مصر | 1355 هـ.


الصفحة 158
وقال أيضاً: «التقية في سبيل حفظ حياته، وشرفه، وحفظ ماله، وفي حمايته، حق من حقوقه واجبة على كلِّ أحد إماماً كان أو غيره» (1).

وبهذا وغيره مما مرّ في فصول هذا البحث يتضح أنّه لا مجال لاَحد في النقاش بمشروعية التقية في الاِسلام، ولا مجال لانكارها بحال من الاَحوال، وان انكارها مرض طبعت عليه قلوب المنافقين، والحمد لله ربِّ العالمين.