الفصل السادس
في أجواء الروايات..
في الأجواء والمناخات:
إننا نلاحظ: أن ابن عمر، وابن عباس، وعمران بن الحصين، وغيرهم، يصرون على بقاء هذا التشريع واستمراره، ويحتجون لذلك بأن المتعة كانت حلالاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه مات ولم ينه عنها.
ويصرّح بعضهم: بأن الآية التي نزلت بهذا الشأن لم تنسخ، قال رجل برأيه ما شاء.
وذلك يؤكد على أن عمر، لم يدّع أن النسخ كان في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ من البعيد أن يدعي ذلك، ثم يكذبه كل هؤلاء حتى ابنه.
بل إنه: لو كان ينسب النهي والنسخ إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لما تجرأ أحد على تكذيبه، لأن في ذلك إحراجاً لهم وله..
كما أن من البعيد: أن لا يبلغ النبي (صلى الله عليه وآله) نسخ هذا التشريع إلا لعمر، دون سائر الصحابة، ولذلك نجد بعض الصحابة يواجهونه ـ كما في بعض الروايات ـ بأن هذا التشريع لم ينه عنه النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا أبو بكر، ولا في شطر من خلافة عمر نفسه.
ولأجل ذلك كله: ولأن الناس لم يقبلوا من عمر هذا الذي جاء به نجد: أن عمر ينهى، والناس يفعلون، والعدول يشهدون، وإلى تهديداته لا يلتفتون، وعن ممارسة هذا الزواج لا ينتهون.
الشامي يستمتع وعمر يعترض:
وبالنسبة للحديث المتقدم في الفصل السابق (برقم81): وفيه: أن شامياً استمتع، فعلم عمر بأمره، فاعترض عليه.. فأخبره الشامي: أن النبي (صلى الله عليه وآله)، وأبا بكر، وعمر في شطر من خلافته لم ينهوا عن المتعة.. وقول عمر له: لو تقدمت في نهي لرجمتك.
نعم إننا بالنسبة لهذه الرواية نقول:
قد تضمنت هذه الرواية:
أولاً:
شهادة الصحابي: أن المتعة لم تكن حراماً في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وشطر من خلافة عمر، إلى أن حرمها عمر.
ثانياً:
شهادة العدول على المتعة، وعدم نهيهم عنها، مما يدل على أنها كانت جائزة عندهم.
ثالثاً:
إن عمر لم يعترض على قول الشامي: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينه عن المتعة.
رابعاً:
إن عمر يعترف بأنه لم يتقدم بالنهي عن المتعة قبل هذه الحادثة..
لا يصح الاعتماد على قول عمر وحده:
تقدم أن الفخر الرازي يقول: إن الصحابة إن كانوا عالمين بحرمة المتعة وسكتوا فهو المطلوب.
وإن كانوا عالمين بإباحتها وسكتوا مداهنة فهو تكفير لهم.
وإن كانوا جاهلين بحرمتها وحليتها فهو لا يصح، لأنها إن كانت حلالاً تكون كالنكاح، وإحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منها عام في حق الكل، ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفياً بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك(1).
نقول:
أولاً:
إن نكاح المتعة مثل النكاح الدائم هو من الأمور التي تعم بها البلوى، فلا يصح القول بأن الصحابة قد جهلوا حكمه.. فكما أن حكم النكاح الدائم كان واضحاً لكل أحد.. كذلك لا بد وأن يكون نكاح المتعة من هذا القبيل.
____________
(1) التفسير الكبير ج 10 ص 50.
مع أن الاستدلال بذلك على ضد ذلك أولى، فإن عموم البلوى بهذا الزواج واستمرار الصحابة على ممارسته يكشف عن أنهم كانوا يرونه حلالاً..
والغريب في الأمر: أننا نجده بعد صفحات يذكر استدلال الشيعة بأن ناسخ المتعة، إما الخبر المتواتر، وهو غير موجود، وإما الخبر الواحد، وهو بالإضافة إلى أنه معارض بغيره لا يصح النسخ به.
ثم يجيب عنه بقوله: «قلنا: لعل بعضهم سمعه ثم نسيه، ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه، وعرفوا صدقه فيه، فسلموا الأمر له»(1).
فإن هذا الكلام: يستبطن حالة من التناقض بين الكلامين، فيما يظهر.
فهو تارة يقول: إن نكاح المتعة مما تعم به البلوى، فيجب
____________
(1) التفسير الكبير ج 10 ص 53.
وتارة يقول: لعل بعضهم نسيه، ثم تذكر حين أطلق عمر بالتحريم.
ثانياً: لو سلمنا ذلك فإننا نقول:
سيأتي عدم صحة قوله: إن سكوت الصحابة يستلزم الكفر.
ثالثاً:
من قال للرازي: إن عمر قد أعلن تحريمه في الجمع العظيم!!.
رابعاً:
إذا كان أمر المتعة لا بد أن يكون على حد أمر النكاح الدائم من حيث إنه لا بد أن يشتهر، وأن يكون الكل عالمين بأنه منسوخ، فكيف ينساه الناس، ولا يتذكرونه حتى يذكرهم به عمر..
خامساً:
إن دليله إنما يصح ـ لو كان الكل قد نسيه، ثم تذكروه بتذكير عمر، فلماذا اقتصر على البعض.
سادساً:
إن كانوا قد تذكروه فلماذا أصروا على العمل والفتوى به في حياة عمر وبعد وفاته.
تقلّبات ابن عمر:
وقد لاحظنا: أن الروايات قد اختلفت عن ابن عمر، فتارة تقول: إنه يعتبرها سفاحاً، وأخرى تقول: إنه يعتبرها مشروعة.
ونقول:
لعل هذا الرجل قد تقلب في رأيه، وتبدل فيه من فترة لأخرى.
وقد يشهد لذلك إستبعاده أن يكون ابن عباس يفتي بحلية المتعة، مما يشير إلى أن ذلك قد كان قبل شيوع هذه الفتوى عن ابن عباس، فلعلّه عاد فبدل رأيه، بعد أن كان في بادئ الأمر متأثراً برأي أبيه وبمنعه الصارم، ثم ظهر له الصواب في قول ابن عباس، فرجع إليه.
تهديدات ابن الزبير لابن عباس:
ونعلق: على رواية مسلم ـ وغيره ـ لما جرى بين ابن الزبير، وابن عباس، وقول ابن عباس له: لعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين.
وقول ابن الزبير: فجرب بنفسك، فوالله، لئن فعلتها
إن لنا هنا ملاحظات عديدة، نذكر منها:
1 ـ أنها تدل على أن ابن عباس قد ثبت على القول بحلية المتعة إلى عهد ابن الزبير، وأنه لم يرجع عنها حين أخبره علي (عليه السلام) بتحريمها، كما يحاول البعض أن يدعيه.
2 ـ إن المتعة كانت موجودة إلى عصر ابن الزبير، وإن نهي عمر وتهديداته لم تفلح في منع الناس من ممارسة هذا الزواج، وقد كان أهل مكة يستعملونها كثيراً، بل أفتى بحلية ذلك عشرات الفقهاء من التابعين ومن جاء بعدهم.
3 ـ إن ابن الزبير يهدد ابن عباس، ولا يحتج عليه لا بآية ولا رواية، رغم استدلال ابن عباس بأنها كانت تفعل في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
4 ـ إن هذه الرواية تنسف كل الروايات التي استدلوا بها للقول بالنسخ، ولا أقل من أن هذه الروايات لم تقبل من قبل كثير من أهل العلم والفقه، والفتوى.
5 ـ إن من الواضح: أن حكم من يتزوج متعة ليس هو
ودعوى القوي كدعوى السباع:
قد أوردنا في فصل النصوص والآثار: أن ما جرى بين ابن الزبير وابن عباس من نقاش حول المتعة، وتهديد ابن الزبير له بأنه إن فعلها ليرجمنه بأحجاره يدل دلالة واضحة على أن ابن عباس بقي مستمراً على القول بحليتها، حتى بعد موت عمر بحوالي أربعين سنة.
ولكن ابن الزبير: الذي كان ملكه قد زاده غروراً وغطرسة قد وجد في هذا الأمر متنفساً لحقده على بني هاشم، الذين هم بهم الهموم، وأراد بهم العظيم.
وقد كان دليل ابن عباس على ذلك: أنها كانت تفعل على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يستطع ابن الزبير ان يجيب على احتجاجه هذا بغير التهديد والوعيد، حتى اضطر ابن عباس إلى السكوت، بملاحظة: ان ابن الزبير كان حاكماً متسلطاً، وحاقداً على الهاشميين مبغضاً لهم، وقد حصرهم في
وبذلك يتضح: أنه لا دليل على ما زعمه البعض من أن شبهة ابن عباس كانت ضعيفة عند ابن الزبير توجب رفع الحد»(3).
ويذكرنا موقف ابن الزبير، وتهديداته هنا بقول الشاعر:
ودعوى القوي كدعوى السباع | من الناب والظفر برهانها |
ثم هو يذكرنا بقول ابن عمر حين ذكر له فتوى ابن عباس بالمتعة: فهلا ترمرم بها في زمن عمر»؟!.
كما أن تهديدات عمر القمعية لا تدع مجالاً للشك في أن السياسة كانت تتجه نحو فرض الرأي بالقوة، مهما كانت النتائج..
____________
(1) مروج الذهب ج3 ص 77.
(2) مروج الذهب ج3 ص 79 وقاموس الرجال ج 5 ص 449.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة ج 4 ص 93.
شدة التقية في عهد عمر:
تقدم في فصل النصوص والآثار الحديث الذي يقول: إن ابن عمر يصرّح بأن ابن عباس ما كان ليجرؤ في زمن عمر على أن يقول ما يقول حول حلية زواج المتعة، وعبارته قد جاءت كما يلي:
«فهلا ترمرم ـ تزمزم ـ بها في زمن عمر»؟.
وذلك يدل:
أولاً:
إن ابن عباس كان يرى تشريع هذا الزواج منذ ذلك الزمان، ولكنه بعد وفاة عمر جهر برأيه، وأعلنه، ولم يلتفت إلى تحريم الخليفة له.
ثانياً:
إن ابن عباس قد اتبع سبيل التقية في هذا الأمر، فلما مضى عمر إلى ربه.. وجد ـ كغيره من الصحابة ـ الفرصة لإظهار ما يعرفون، والجهر بما يعتقدون. الأمر الذي يلقي ظلالاً من الشك حول مدى حرية الرأي، والإعتقاد في زمن الخليفة الثاني، حتى بالنسبة لكبار الصحابة وعلمائهم..
بالإضافة إلى: الشك في سلامة، وصحة نسبة كثير من الأمور التي كانت تطرح في تلك الفترة، من قبل هؤلاء الحكام بالذات
ثالثاً:
إن هذا النص يشير إلى أن الشخص الذي كان مهتماً بالمنع من هذا الزواج هو خصوص الخليفة الثاني، حتى إذا مضى إلى ربه، وجد ابن عباس وغيره من الصحابة الفرصة لإظهار ما يعرفون، والجهر بما يعتقدون وإن كان ابن الزبير قد بذل محاولة لإعادة التأكيد على ما أراده عمر. فواجه الرد القوي والحاسم من ابن عباس.
نهي علي (عليه السلام) لابن عباس لا يصح:
ويقولون: إن علياً (عليه السلام) قد قال لابن عباس: إنك امرؤ
____________
(1) راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 1 ص55 ـ 70 ط بيروت وكذلك كتاب الغدير ج 6، بحث نوادر الأثر في علم عمر..
ونقول:
1 ـ إنهم يقولون: إن ابن عباس قد استمر على القول بحلية هذا الزواج إلى زمان ابن الزبير على الأقل.. فأي ذلك هو الصحيح؟!.
2 ـ ثم هم يقولون أيضاً: رغم اعترافهم بضعف سنده، وبأن متنه يوحي بضعفه: إن ابن عباس قد جمعهم قبل موته بأربعين يوماً، وأخبرهم برجوعه عن القول بالمتعة وبأن جميع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد رأوا تقويمه..
فأي ذلك هو الصحيح أيضاً؟!(1).
وهل من المعقول: أن يكون جميع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نقدوه في رخصته في المتعة؟ ولم نطلع على
____________
(1) راجع: نكاح المتعة للأهدل ص260 و261 عن تحريم نكاح المتعة لأبي الفتح المقدسي ص147/148.
وقد ذكرنا الرواية في مورد آخر من هذا الكتاب. وسند الرواية ضعيف ومتنها يوحي بوضعها، راجع: الأهدل في نكاح المتعة ص262.
3 ـ لنفترض أن ما تقدم صحيح، ومع علمنا بمعرفة ابن عباس بمقام علي (عليه السلام)، وأخذه عنه، واعتبار نفسه أحد تلامذته، ومعرفته بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه: إن الحق يدور معه كيفما دار، فلماذا لا يقبل منه ما أخبره به، واستمر على القول بالتحليل، حتى واجه ابن الزبير بما هو معروف، ثم لم يرجع عن قوله إلى أن مات، أو إلى ما قبل موته بأربعين يوماً كما يزعمون.
فإذا لم يقتد ابن عباس بعلي، فبمن يقتدي إذن؟!.
4 ـ إن اضطراب رواياتهم عن ابن عباس: أنه بقي على إباحتها، أو أنه رجع حين أخبره أمير المؤمنين بنسخها يوم خيبر.. أم أنه استمر على القول بحليتها للمضطر.
أو أنه استمر إلى ما قبل موته بأربعين يوماً.
إن هذا الاضطراب يسقط رواياتهم عن الاعتبار.
____________
(1) راجع: نكاح المتعة للأهدل ص262.
وإن كان ابن عباس: امرءاً تائهاً، كما تذكره تلك الرواية، فكيف يكون من النجوم التي بأيها اقتدينا اهتدينا..
مع أن لنا تحفظاً على صحة حديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ليس هنا موضع ذكره..
الخلط بين التحليل، والمتعة:
ومن الغريب قول بعضهم: «يدل على رجوعه عن إباحتها:
____________
(1) راجع ترجمة ابن عباس في أي كتاب شئت.. ونحن نشك كثيراً في صحة أمثال هذه الروايات، فإن ابن عباس كان حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) صبياً لا يتجاوز عمره عشر سنوات، وعلى أبعد الروايات كان عمره ثلاثة عشرسنة. كما أن لقب الحبر لقب يهودي.. يطلقه اليهود على علمائهم. وقد عبر به القرآن الكريم في سياق حديثه عن اليهود. فما معنى إطلاق هذا اللقب ـ بالخصوص ـ على ابن عباس؟!!
نعم لقائل أن يقول: إن ابن عباس يرى: أن على المتمتع بها العدة. أما كون المتمتع بها يأتيها الثلاثة والأربعة، بدون اعتداد بحيضة بين الأول والثاني، فهذا هو السفاح، فتحريمه لها إذن إنما هو لعدم استيفائها قواعدها»(2).
ونقول:
إنه ليس في هذه الرواية ما يدل على الاستمتاع بمعنى عقد نكاح المتعة، بل هي تتحدث عن تحليل الرجل جاريته لأصحابه ليستمتعوا منها، أي بالمعنى اللغوي لا بمعنى إجراء عقد زواج المتعة عليها.. وذلك سفاح بلا ريب.
____________
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص148.
(2) نكاح المتعة للأهدل ص262.
ابن عباس يحلل ويحرم برأيه:
ويلفت نظرنا: رواية أحمد بن عمر عن ليث بن عبد الله، عن الحكم بن عبدة، عن ابان بن أبي عياش، عن أبي الجوزاء: أن ابن عباس جمعهم قبل موته بأربعين يوماً، ثم قال: إني كنت أقول لكم في المتعة ما قد علمتم، وإن جميع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) رأوا تقويمي، وإني رأيت رأياً، وقد رجعت عن ذلك الرأي.
قال: نصر بن ابراهيم المقدسي: «هذا يدل على أنه رأي رآه، واجتهاد اجتهد فيه، والرأي يخطئ ويصيب، فلما تبين له الخطأ فيه رجع عنه، كما يفعل سائر المجتهدين، إذا تغير إجتهادهم بالنص المخالف له»(1).
ونقول:
1 ـ إن ابن عباس قد تلقى التحليل من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن الآية القرآنية: التي كان هو وأبي بن كعب، وغيرهما، يقرؤونها بإضافة كلمة: «إلى أجل» مما يعني أنهم قد
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 118.
2 ـ قوله: إن جميع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد رأوا تقويمه، ليس صحيحاً، فإن طائفة كبيرة من الصحابة لم يلتزموا بالتحريم، بل بقي الكثيرون منهم يفتون بالتحليل ولم يعرف عنهم العدول عنه إلى غيره، مثل جابر، وابن مسعود، وعمران بن الحصين، وغيرهم..
ما زنى إلا شقي دليل تحريم المتعة:
وبالنسبة إلى الحديث [رقم:63]، نقول: إن الأزهري اعتبر كلام ابن عباس دالاً على ذهاب ابن عباس إلى تحريم هذا الزواج، وإليك كلام الأزهري بتمامه: «قال الأزهري: وهذا حديث صحيح وهو الذي يبين أن ابن عباس صح له نهي النبي (صلى الله عليه وآله)، عن المتعة الشرطية، وأنه رجع عن إحلالها إلى تحريمها.
وقوله إلا شفى: أي إلا أن يشفي أي يشرف على الزنا ولا
وإنما بينت هذا البيان لئلا يغر بعض الرافضة غرّاً من المسلمين، فيحل له ما حرمه الله عز وجل على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله)، فإن النهي عن المتعة الشرطية صح من جهات، لو لم يكن فيه غير ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ونهيه ابن عباس عنها لكان كافياً.
وهي المتعة كانت ينتفع بها إلى أمد معلوم، وقد كان مباحاً في أول الإسلام ثم حرم، وهو الآن جائز عند الشيعة»(1).
ونقول:
1 ـ كيف يكون ابن عباس قد رجع عن إحلال المتعة في حديث عطاء، وهو يقول في نفس هذا الحديث: «ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها أمة محمد (صلى الله عليه وآله)» فهل أمة محمد هم خصوص أولئك الأفراد القلائل الذين أباحها لهم ثلاثة أيام
____________
(1) لسان العرب ج 8 ص 330.
ولماذا لم تنل هذه الرحمة سائر الناس من هذه الأمة؟!.
وهل إحلالها لفريق يصير رحمة لفريق آخر لم تزل محرمة عليه بزعمهم؟!.
وإذا كان تحليلها رحمة، فتحريمها لا بد أن يكون نقمة على الأمة.
2 ـ ثم يقول هو في نفس تلك الرواية: «لولا نهيه ما احتاج إلى الزنا أحد إلا شفى» فمن الذي قال: إن كلمة شفى بمعنى يشفي على الزنا أي يشرف عليه؟ فلعلها ـ وهذا هو الأظهر والأقرب ـ بمعنى قليل أي ما احتاج إلى الزنا إلا قليل.
بل من قال: إن كلمة شفى ليست تصحيف شقي.. كما ورد في نصوص أخرى عن ابن عباس نفسه، و عن علي (عليه السلام).
3 ـ لو تنزلنا عن ذلك، فمن الذي قال: ان الضمير في قوله: «لولا نهيه» يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، بل الظاهر الذي يكاد يكون قطعياً أنه يرجع إلى عمر بن الخطاب.
4 ـ على أن قوله: إلا شفى قد وقع بعد كلمة لولا التي هي حرف امتناع: أي فيصير المعنى أن احتياجهم إلى الزنا حين الإشراف على الزنا كان بسبب النهي عن المتعة. فهل يعقل: أن يكون الاحتياج إلى الزنا قد حصل بسبب نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن المتعة؟!. ولماذا لم يترك لهم المتعة حلالاً حتى لا يحتاجوا إلى الزنا؟.
5 ـ قوله: إنه قد صح: أن أمير المؤمنين قد نهى ابن عباس عن المتعة، قد عرفت أنه لا يصح، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يزل قائلاً بحليتها.
6 ـ لو أغمضنا النظر عن ذلك، فإنه لا يعدو أن يكون خبر واحد لا يصح أن تنسخ به الآية القرآنية، مع إعتراف الرواية نفسها، على لسان عطاء: بأن آية: فما استمتعتم به منهن إلى كذا وكذا من الأجل الخ.. ناظرة إلى هذا الزواج بالذات..
شيوع المتعة في مكة:
ومن الأمور المثيرة للعجب أن نجد أهل مكة يتعلقون بزواج المتعة، ويصرّون عليه. وذلك على خلاف رغبة وسياسة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وتمرداً منهم على ما أصدره من أحكام، وما اتخذه من مواقف.
مع أن من الثابت: أن أهل مكة كانوا مشهورين بالولاء لعمر معروفين بحبه.
بل كانوا معروفين بالانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام)، وقد روي عن الإمام السجاد (عليه السلام) قوله: «ما بمكة والمدينة ثلاثون رجلاً يحبنا»(1).
وعن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، أنه قال لدعاته: «وأما مكة والمدينة فغلب عليهما أبو بكر وعمر»(2).
____________
(1) البحار ج 46 ص 143 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 4 ص 104.
(2) البلدان للهمداني ص 315، وأحسن التقاسيم ص 293 و 294، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج 1 ص 204 وراجع: السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص 93.
اجتهاد ابن حزم في مراد عمر:
ويلفت نظرنا ما قاله ابن حزم الظاهري: من أن عمر بن الخطاب إنما حرم المتعة إذا كانت بغير إشهاد، أما مع الإشهاد فلا يراها حراماً(2).
وقد نجد بعض الشواهد لهذا القول: في الروايات التي قدمناها في فصل النصوص والآثار، مثل رواية تمتع الشامي بإحدى نساء المدينة حسبما تقدم بيانه.
وهذا يعني: أن عمر بن الخطاب دخل في جملة المجوزين لنكاح المتعة، غير أن كلامه في تحريم المتعتين، وكذلك ظاهر كلام عمران بن الحصين، وجابر، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وغيرهم لا يساعد على هذا الرأي، الأمر
____________
(1) روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار ص 67، والعقد الفريد ج 6 ص 248 ط دار الكتاب العربي.
(2) راجع: المحلى ج 9 ص 519.
الأمة عابت عمر في تحريمه للمتعة:
ويلفت نظرنا: الرواية التي وردت في فصل النصوص والآثار [برقم83]، حيث قال عمران بن سوادة لعمر بن الخطاب: «عابتك أمتك أربعاً..» فذكر له من جملتها: أنه حرم متعة النساء..
وقد اعتذر عمر عن ذلك: بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما أحلها في زمان ضرورة، وقد عاد الناس إلى السعة..
فإن هذه الرواية: صريحة في أن الأمة الإسلامية بأسرها قد اخذت على عمر تحريمه لهذا الزواج وعابته عليه..
وذلك يشير إلى: إجماع الأمة على خلافه.. ويدل على أن عدم جهرهم له بهذا الأمر، قد كان بسبب الخوف، أو لغير ذلك من أسباب.
أثمرت نواهي عمر بعد غلبة التقليد:
ومهما يكن من أمر: فإن ملاحظة ما تقدم من نصوص أوردناها في الفصل السابق، وفي غيره من الفصول تعطينا:
أنه رغم الإصرار الشديد والقوي والحازم من الخليفة عمر بن الخطاب على تحريم هذا الزواج، فإنه لم يستطع أن يمنع الناس، حتى في عصره من ممارسته، بعد أن ثبتت لهم حليته من القرآن الكريم، وعلى لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله).. ولذا فقد تعددت الوقائع التي واجه فيها الخليفة الثاني مخالفة الناس لنواهيه الصارمة، وزواجره القاطعة والحازمة..
ولعل من السهل جداً ملاحظة: كيف أن نهي الخليفة عن متعة النساء، قد اقترن بالإصرار الشديد، والتهديد والوعيد أكثر من مرة.
ولذا نلاحظ: أن نهيه عن متعة النساء، قد كان أبعد أثراً، من نهيه عن متعة الحج، الذي لم يترك إلا أثراً محدوداً جداً، انتهى وتلاشى بعد برهة من الزمان، على الرغم من أنه قد قرن النهي عنهما في كلام واحد في بعض الموارد، كما رأينا.
لكن الأثر الأكبر لنواهي عمر عن المتعة رغم شدتها، واقترانها بالتهديد، والوعيد، قد جاء بعد عشرات بل مئات من
وربما كان للعامل السياسي، الذي حرص.. ابتداء من زمن معاوية على الرغبة عن مذهب علي (عليه السلام) وآرائه ـ لربما كان له ـ أثر كبير في ترسيخ قواعد هذا النهي، واتخاذه شعاراً، في مقابل ما عرف عن علي وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وشيعته.. وإن كان أصل النهي عن المتعة لم يكن منطلقاً من هذا المبدأ، وإنما من اعتبارات سنشير إليها إن شاء الله تعالى..
خاتمة هذا الفصل:
ونختم هذا الفصل: بإيراد نماذج من الروايات قد فسروا المراد منها بطريقة تبرعية ليس لها ما يؤيدها.. بل ربما نجد ما يؤيد الاحتمالات الأخرى فيها، فنقول:
تفسيرات تبرعية من قبل الرواة:
ويلاحظ: أن الرواة يجتهدون من عند أنفسهم في بيان المراد من بعض الروايات، رغم وجود قرائن ظاهرة الدلالة على خلاف اجتهاداتهم تلك.
وكشاهد على ذلك نذكر الأمثلة التالية:
1 ـ روى أحمد، عن أبي شيخ الهنائي قصة مناشدة معاوية لملأ من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حول نهي النبي عن جلود النمور أن يركب عليها، وعن لبس الذهب، والفضة، وعن الشرب في آنية الفضة والذهب، فأقروا في الجميع بقولهم اللهم نعم.
فلما قال لهم: «وتعلمون أنه نهى عن المتعة ـ يعني متعة الحج ـ قالوا: اللهم لا».
ثم ناقش ابن كثير الراوي: بأن المقصود هو متعة النساء، إذ لم يكن عند الصحابة نهي عن متعة الحج(1).
____________
(1) راجع: البداية والنهاية ج 5 ص 141.
ونقول:
إنه ليس ثمة ما يدل على إرادة متعة الحج، بل إن مشهورية تحليل ابن عباس لمتعة النساء، ثم ما ينسبونه إليه من تخصيصه للحلية بصورة الاضطرار؛ ليخرجوه عن دائرة القائلين بالحلية ـ نعم، إن ذلك ـ يقرّب لنا القول بأنه إنما يتحدث عن متعة النساء، لا عن متعة الحج.
3 ـ عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن عياش العامري، عن ابراهيم التيمي، عن أبي ذر: قال: «كانت لنا خاصة، يعني: متعة الحج»(2).
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 66، وفي هامشه قال: أخرجه الحازمي من طريق الخطابي في الاعتبار ص 179.
(2) المصنف لابن أبي شيبة ج 4 ص 311 وصحيح مسلم ج 4 ص 46.
ونقول:
قد تقدم عن صحيح مسلم: أن أبا ذر قد تحدث عن متعتي النساء والحج معاً، فلا يقبل هذا التفسير من الراوي، ولا سيما مع إطلاق كلمة المتعة في كلامه.
4 ـ وعن محمد بن علي بن الحسن بن شفيق، عن أبيه، عن أبي حمزة، عن مطرف، عن سلمة بن كهيل، عن طاووس، عن ابن عباس قال: «سمعت عمر يقول: والله إني لأنهاكم عن المتعة، وإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله. يعني: العمرة في الحج»(1).
وتفسير المتعة بأنها العمرة في الحج محض اجتهاد من الراوي، ولعل ظاهر إطلاق كلمة «المتعة» من دون تقييد، يؤيد كون المراد متعة النساء.
على أن الأمر الذي كان يحتاج عمر إلى مواصلة التذكير بالمنع عنه هو متعة النساء، لأنها هي التي كان يواجه استمرار الإصرار عليها والعمل بها.
____________
(1) سنن النسائي ج 5 ص 153.
قد فهم البعض: أن المراد هو متعة النساء، فأورده في كتابه في أبواب الحج، على هذا الأساس وهذا ليس هو الراجح كما سيتضح من التعليق الآتي.
6 ـ حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قال ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة، قال عبد الله شقيق:
____________
(1) وراجع: حياة أمير المؤمنين، للسيد محمد صادق الصدر ط سنة 1391 هـ ق. ص 344 عن كتاب: نظام الأسرة والتكافل الاجتماعي ص 45 للدكتور ابراهيم عبد الحميد، الأستاذ بجامعة الأزهر، وراجع: حياة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ ابن عساكر ج 3 ص 66، وراجع: معرفة علوم الحديث ص 123 ط المدينة المنورة، وشرح النهج للمعتزلي ج 20 ص 28 لكنه ذكر عمر، بدل عثمان..
فقال: أجل، ولكن كنا خائفين.
وحدثنيه يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد، يعني ابن الحارث، أخبرنا شعبة بهذا الإسناد مثله»(1).
عبد الله، حدثني أبي، حدثنا روح، حدثنا شعبة الخ.. وفيه: قال شعبة: «فقلت لقتادة: ما كان خوفهم؟ قال: لا أدري»(2).
ونقول:
قد أورد مسلم وغيره: هذه الرواية في أبواب حج التمتع، وحملها على ذلك مجرد اجتهاد منهم وهي إلى متعة النساء أقرب منها إلى متعة الحج، لأن تعليل عثمان للنهي عن المتعة بقوله: «ولكن كنا خائفين»، ليس له ما يبرره لأنهم لم يحجوا
____________
(1) صحيح مسلم ج 4 ص 46.
(2) مسند أحمد ج 1 ص 61.
وربما يرجح ذلك: أنهم يزعمون أن متعة النساء إنما أحلت للمضطر، أي أن تحليلها كان بسبب الحرب التي يواجهها المسلمون، ولا يقدرون على النساء في تلك الحال.
ولكننا قد ذكرنا وسنذكر إن شاء الله: أن المتعة كانت حلالاً مطلقاً، للمضطر ولغيره. فلا مجال للتمسك بأمر كهذا.
وأما الروايات الأخرى: التي قالوا إنها تتحدث عن متعة الحج فما هي إلا اجتهادات من بعض رواة الحديث، أو من الذين تداولوه.
7 ـ عن ابن عباس: «إن آية المتعة ليست بمنسوخة»(1).
يحتمل أن يكون هذا الحديث ناظراً إلى آية: (فما استمتعتم
____________
(1) الكشاف ج 1 ص 519 وتفسير الخازن ج 1 ص 343، وتفسير البغوي مطبوع بهامش الخازن ج 1 ص 423، والغدير ج 6 ص 230، وأصل الشيعة وأصولها ص 97 ط الأعلمي بيروت ـ لبنان.
ويحتمل أن يكون المقصود بها آية فمن تمتع بالعمرة إلى الحج. والاحتمال الأول هو الأقرب، وذلك لما ذكرناه..