قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {وَقُلِ اعْمَلُوا} فقد جعل الله العمل أمانةً في عنق الإنسان، لأنه هو الذي يُؤكد صدقَ الإيمان وجدِّيته، وهو الذي يُحقِّق للحياة نموَّها ومصداقيتها وتقدمها، وهو الذي يجعلها تتحرك في اتجاه التغيير، {فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ} بسبب ما يطلع عليه من خفايا عباده وظواهرهم، {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} من خلال ما يتابعون به المسيرة من رعاية وعناية وتقييم(1).
أقول: قد ألمحنا من ذي قبل إلى أنَّ الخطابَ القرآني خطابٌ إلهيٌّ حكيم، وإذا ما نطق القرآن بحقيقة أو تحدث عن شيء ما، فإنه لا يحمل في واقع خطابه أدنى نحو من أنحاء المجاز وغير الحقيقة، إلا إذا كان التعبيرُ تعبيراً عن معنى مجازي، وهذا لا شغل لنا به.
وقد جري بناءُ العقلاء في محاوراتهم على الحمل على إرادة المعنى الظاهر، وما يُفهَم من اللفظ ولو بمعونة القرائن فيما يكون الخطابُ محتفَّاً بالقرائن أو معتمِداً على قرائن خارجية، فلا مجال للاعتذار ـ عن عدم ترتيب الأثر وعلى عدم الجريان على مقتضى ما يُستظهَر من اللفظ، أو يكون اللفظُ ظاهراً فيه ـ بدعوي احتمال إرادة غير الظاهر.
فقول المولى لعبده جئني بأسد، يُفهَم منه تعلُّقُ إرداته بإتيانه بالحيوان المفترس المسمى بالأسد، وإذا ما جاءه بالرجل الشجاع معتذِراً بأنه ظنَّ أنه يريده، فلا يكون العبدُ معذوراً أبداً، وهكذا الحال في أمثال هذا، وأمثلتُه يعرفُها كلُّ الناس.
وفي المقابل أيضاً لو أنَّ العبد جاء بالحيوان المفترس، فإنه يُعَدُّ عند العقلاء ممتثِلاً أمر مولاه، ولا يصح عند العقلاء أن يبادر مولى العبد إلى الطعن على عبده، بادعائه أنه لم يمتثِل أمره لأنه لا يريدُ إلا الرجلَ الشجاع، لأنَّ العقلاء يجيبون: بأنَّ المفهوم من لفظ الأسد هو ما جاء به العبد، فلو أنك تريدُ الرجلَ الشجاع، لكان عليك أن تُبرِز القرينةَ على ذلك.
والمولى سبحانه وتعالى لم يخترع طريقةً أخري مغايرةً لما هو المعوَّل عليه لدي أبناء العرف العام، بل جري على وفق تلك الطريقة المعهودة، لذا كان كلُّ ما يظهر من الخطاب القرآني حُجةً علينا ولنا.
نعم، هذه القاعدة ـ وهي أنَّ كلَّ ظاهرٍ قرآني حُجَّةٌ ـ قد يتعيَّنُ الخروجُ عن مقتضاها، بمعنى أنه في بعض الموارد يكون المرادُ والمقصودُ للمولى سبحانه على خلاف ما يُفهَم من ظاهر الخطاب، وتختلف الموارد ونشير إلى بعضها.
فمن الموارد: أنَّ كلَّ خطاب قرآني يُفهَمُ منه معنى مخالِفٌ لقاعدة عقليَّة قطعيَّة، فإنَّ المتعيِّنَ تأويلُ وصرفُ الخطاب عن إرادة ظاهره، وأمثلتُه كثيرةٌ.
فما دلَّ على مجيء الله سبحانه يوم القيامة {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وعلى أنه سبحانه يُنظَر إليه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وأنَّ له حواساً كالمعهود عندنا بمقتضى كثير من الآيات التي نصَّت على أنه سبحانه يرى ويسمع، فإنَّ هذا ونحوه مما يجب تأويلُه وحملُه على غير المعنى الظاهر.
ومن الموارد: كلُّ ما يلزم من إبقائه على ظاهره وقوعُ التناقضِ والتهافتِ في الكتاب الكريم، ومن أمثلته ما دلَّ على أنه سبحانه هو الذي يتوفَّى الأنفس {اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، مع وجود مثل {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}، ووجود مثل {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أنفُسِهِمْ}.
إذ لا يمكن الالتزام بما يُستفاد من ظواهر هذه الآيات، بل اللازم أن نأوِّلها بمعنى ينسجم مع جميعها، كأن نقول: بأنه تعالى من جهة كونه الآمر لملك الموت بقبض الأرواح، فيُنسب الفعلُ إليه تعالى، وبما أنَّ لملك الموت مَن يعمل بين يديه من الملائكة في هذه المهمة وأنه هو الآمر لهم، فيصح أيضاً أن يُنسب الفعلُ إليهم حيث يمارسون قبض روح فلان أو فلانة، ويُنسب الفعل إلى ملك الموت من حيث أنه الآمر، فملك الموت قد يقبض روح فلان فعلاً وقد يأمر بعض أعوانه بذلك.
وليعلم بأنَّ هذا التفسير لآيات قبض الأرواح، قد ذكرناه عجالة واعتماداً على ما أظنُّ أنه موجود في بعض احتجاجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولسنا في مقام تحقيق المطلب، وإنما في مقام تقريب الفكرة فحسب.
ومن الموارد....... ولسنا بصدد إلا الإشارة.
نعم، ليس من الموارد ما كان الظاهرُ من القرآن أو من كلام سيدنا محمد وآله الأطهار (عليهم السلام) غيرَ منسجِم مع فهم بعض القاصرين، وليس من الموارد ما يجهله فلانٌ من الناس.
أما ما كان منها غيرَ واضح الوجه والمقصود لديه وعنده، فلا يصحُّ بأيِّ وجهٍ، أن يعتذر فلانٌ من الناس عن عدم الأخذ بالظاهر بادعاء أنه ممَن لا يفهم المعنى الظاهر، أو بادِّعاء أنَّ السياق لا يساعد عليه ـ بغضِّ النظر ما لو كان السياقُ يُشكِّل قرينةً عرفيَّةً ـ أو بدعاء أيِّ وجهٍ من وجوه الاستحسان والقياس الباطل.
وعليه فما لم يكن هناك أيُّ محذور عن الالتزام بظاهر الخطاب، فلا يجوزُ العدولُ عنه، بل اللازمُ الأخذُ به.
ولنرجع إلى الآية المبحوث فيها، فنقول: إنَّ ظاهرَ الآية بأنَّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين يَرَون أعمال الناس، ومعنى ذلك أنها تحت نظرهم وإحساسهم.
قد يُقال: بأنَّ المقصودَ من الرؤية هو العلم.
فنقول: إرادةُ خصوص معنى العلم من الرؤية، خلافُ الظاهر من الآية.
لا يقال: إنَّ معنى رؤية الله تعالى هو علمه سبحانه بها، وعليه فيجب أن يكون معنى رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين ذلك.
لأننا نقول: إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) وإن كان يعلم بالعمل، غير أنَّ علمه بذلك لا يعني أنه ناظرٌ فيه وشاهدٌ عليه، وفرق بين أن تعلم بشيء وهو غائب عن نظرك، وبين أن تعلم بشيء وأنت تنظر إليه وفيه بالنظر الحسي، هذا أولاً.
وثانياً: إننا التزمنا بأنَّ معنى رؤية الله تعالى هو علمُه به فحسب، لاستحالة ثبوت الرؤية الحسيَّة له سبحانه، وهذا المعنى غيرُ مستحيل بحقِّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين.
وعليه فمعنى الآية بحسب الظاهر، أنه (صلى الله عليه وآله) يرى أعمالَ الناس ويعلم بها.
وإذا ما رجعنا إلى الواقع، فنري أنَّ كثيراً من المؤمنين غيرُ مبصرين لأعمال كثيرٍ من الناس، ونري أنَّ كثيراً ممَن يرى من بعض الناس بعضَ أعمالهم، لا يراها على حقيقتها، مع أنَّ الله تعالى أخبر عن أنَّ المؤمنين يَرَوْن أعمالَ الناس جميعها.
فهل نلتزم بوقوع الإخبار على خلاف الواقع من المولى سبحانه والعياذ بالله؟!!
كلا، بل هذا يُمثِّلُ قرينةً قطعيَّة على أنه لم يقصد المولى سبحانه جميعَ المؤمنين.
وبعبارة أخري: إنَّ أداة العطف «الواو» تفيد المشاركة، فقوله تعالى «ورسوله والمؤمنون» المعطوف على قوله «فسيرى الله»، يفيد بأنَّ المعطوف عليهم يشاركون المولى سبحانه وتعالى في الرؤية والعلم.
لأنه لا معنى لأن يقال: علم أحمدٌ وعليٌّ وحسنٌ، ويكون المقصود أنَّ الذي علِم هو خصوص أحمد وحده، إذ لا معنى لوجود أداة العطف إلا إفادةُ المشاركة في الحكم.
وبما أنه لا مجال لأن نفترض بأنَّ الله يرى بعضَ الأعمال دون بعضها الآخر، بل هو سبحانه يرى جميعَ الأعمال، فكذلك ينبغي الحكمُ على المعطوف عليهم، إلا إذا قامت القرينةُ على إرادة أنهم يَرَوْن خصوص بعض الأعمال، وبما أنه لا وجود للقرينة، فالمتعيِّنُ الحملُ على الاستغراق والشمول.
ولما أن كانت هذه الصفةُ ـ الرؤية لجميع أعمال العباد ـ غيرَ ثابتةٍ قطعاً لأكثر البشر، فاللازمُ صرفُ ظهورِ الجمع المحلَّى بالألف واللام «المؤمنون» المفيد للعموم، والحملُ على إرادة بعض المؤمنين.
قد يقال: لِمَ لا يكون جهلُ أكثر المؤمنين بأعمال الناس قرينةً على عدم إرادة ما ذكرتم من معنى الرؤية.
فإنه يقال: عدمُ الحمل على المعنى الظاهر من الرؤية في حقِّ جميع المؤمنين، يقضي بالتصرف بالعموم المستفاد من الجمع المحلَّى بالألف واللام، لأنَّ المحذورَ لم يكن في إمكان هذا المعنى في حقِّ الله تعالى وحقِّ رسوله (عليهما السلام) وحق بعض المؤمنين، بل المحذورُ جاء من جهة عدم إمكان الالتزام بذلك في حقِّ جميع المؤمنين.
وبما أنه لا يستحيل على الله تعالى أن يهب تلك الكرامةَ لبعض المؤمنين، وكانت من الأمور الممكنة، فيبقى أن يدلَّ الدليلُ على ثبوتها ووجودها في شخص معيَّن من الناس، وحينئذ نلتزم ونعتقد بأنه ممَن يرى جميع أعمال العباد.
وإن شئت قلت: المحذورُ ليس في أن نُبقيَ على ما هو الظاهر من معنى الرؤية، وإنما المحذورُ جاء من جهة عدم إمكان الالتزام بأنَّ الرؤيةَ حاصلةٌ لجميع المؤمنين، وعليه فنتصرف في العموم، بأن يكون المرادُ بعضَ المؤمنين، ويبقى معنى الرؤية على حاله.
وأخيراً فإنه سبحانه قد أخبر بأنَّ الرسول الأكرم (عليهما السلام) يرى أعمال الخلائق، ثم عطف على ذلك بأنَّ الأمرَ حاصلٌ للمؤمنين، وبما أنه غيرُ حاصل فعلاً لجميع المؤمنين، فيتعيَّنُ رفعُ اليد عن إرادة المعنى الظاهر من لفظ العموم «والمؤمنون» والتصرفُ فيه، وليس ذلك إلا بأن يُراد بعضُ المؤمنين.
نعم لنا لإثبات هذا المعنى طريق آخر غير الطريق الذي سلكناه، مضافاً لوفاء الدليل العقلي بالنهوض على إثباته، ولعلنا نوفَّق لبيان ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
هذا وقد تواترت الأخبار عن أئمة العترة الطاهرة على أنَّ أعمالَ العباد تُعرَض على الرسول الأكرم (عليهما السلام) وعلى الأئمة الأطهار من آله (عليهم السلام)، بنحو تُورث اليقين بثبوت هذا المعنى، على أنَّ هذا المعنى مما تحقَّق عليه إجماعُ المحصِّلين من أبناء الفرقة الناجية.
فقد أخرج الصفار في البصائر بإسناده عن زيد الشحام قال: سألته عن أعمال هذه الأمة؟ قال: ما من صباح يمضي إلا وهي تُعرَض على نبيِّ الله (صلى الله عليه وآله) أعمالُ هذه الأمة.
وأخرج الصفار في البصائر بإسناده عن حفص بن البختري عنه (عليه السلام) قال: تُعرَض الأعمال يوم الخميس على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى الأئمة (عليهم السلام).
وأخرج الصفار بإسناده عن أحمد بن عمير عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سُئل عن قول الله عزَّ وجل {وَقُلِ اعْملُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} قال: إنَّ أعمال العباد تُعرَض على رسول الله (عليهما السلام) كلَّ صباح أبرارها و فجارها فاحذروا.
وأخرج بإسناده عن بريد العجلي قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فسألته عن قوله تعالى {فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، قال: إيانا عنى.
وأخرج الصفار بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليها السلام) قال: الأعمال تُعرَض كل خميس على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أمير المؤمنين(عليه السلام).
وأخرج الصفار والكليني في الكافي بإسنادهما عن يعقوب بن شعيب الميثمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى {فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، قال: هم الأئمة (عليهم السلام).
وأخرج الصفار والكليني بإسنادهما عن عبد الله بن أبان الزيات قال: قلت للرضا (عليه السلام): ادع الله لي ولأهل بيتي، قال: أَوَ لستُ أفعل، واللهِ إنَّ أعمالكم لتُعرَض عليَّ في كل يوم وليلة، فاستعظمتُ ذلك، فقال: أَو تقرأ كتاب الله{فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.
وورد الكثير جداً، فورد بالإسناد عن الوشا وعن ابن خالد وعن عبد الله بن سنان وعن ابن خنيس وعن الحلبي وعن ابن كثير وعن الحسين بن بشار وعن يونس وعن الرقي وعن ابن بكير وعن محمد بن مسلم وعن زرارة وعن سماعة وعن ابن مساور وعن ابن أذينة وعن غيرهم، فراجع(2).
---------------------
(1) من وحي القرآن ج11 ص203.
(2) بصائر الدرجات ص 444 إلى 451، الكافي للشيخ الكليني ج 1 ص 219 ـ 220، معاني الأخبار ص 392، الأمالي للشيخ الطوسي ص 409، مناقب آل ابي طالب ج 3 ص 504، سعد السعود ص 98، بشارة المصطفى ص 298، بحار الأنوار ج 5 ص 329 وج 6 ص 183 وج 7 ص331 وج17 ص131 و144 و149 وج23 ص 337 إلى 355، تفسير العياشي ج2 ص 108 ـ 110 تفسير القمي ج 1ص 304، تفسير مجمع البيان ج 5 ص 119، تفسير جوامع الجامع ج 2 ص 93، تأويل الآيات ج 1ص 207، التفسير الصافي ج 2ص 373، التفسير الأصفى ج 1 ص 489، تفسير نور الثقلين ج 2ص 262، تفسير الميزان ج9 ص 385.
|