قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: لأنَّ الفرح الحقيقي هو الفرح الذي ينطلق من قاعدة ممتدَّة في كيان الإنسان وحياته، من خلال امتدادها في قضية المصير، ولن يكون ذلك إلا بالالتقاء بالله في فضله، في ما يفيض على الناس من هدايته ورضوانه، وما يُمطرهم به من شآبيب رحمته، لأنَّ العيش مع الله يُمثِّل الخير الذي لا شرَّ معه، والأفق الواسع الذي لا يضيق عن شيء، ولا يتعثر في موقف. أما مال الدنيا وشهواتها وأطماعها وطموحاتها، فهي الأشياء التي يلتقي بها الإنسان في الطريق، فيمر بها مروراً عابراً، ثم يتركها لفقر طارئ أو مقيم، أو لألم شديد، أو حزن خانق، أو فشل مريع، أو خسارة فادحة.
ولكن فضل الله ورحمته يحفظان الإنسان ويحوطانه ويسلمانه إلى الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، فيشعر الإنسان معهما بالأمن والطمأنينة، وفي ذلك الفرح كل الفرح، حتى في أشد ساعات الحزن، وفي أقسى حالات الشدة(1).
أقول: قد تكررت الإشارةُ منا كثيراً إلى أنَّ الخلافَ بين المسلمين بل بين أهل الملل بل بين كافة العقلاء، واقعٌ في مقام تحديد ما هو الحق من الأفكار والمسالك والاعتقادات، فالكلُّ متفقون على أنَّ ما يُحقِّقُ السعادة في الدنيا لهو حق، وأهلُ الملل والأديان ـ ممن يؤمنون بالمعاد ـ متفقون على أنَّ ما يُوصِل إلى النجاة في الآخرة هو حق.
ولكن في المقابل، قد اختلفوا أشدَّ الاختلاف في تحديد ما يجب سلوكُه، وفيما يجب الاجتنابُ عنه من الأمور.
فالله تعالى وأنبياؤه ورسله وأولياؤه هم الحقُّ، وما عند الله تعالى وما يُحبُّه ويندب إليه هو الحق، وكلُّ ما عدا الله تعالى مما يقابله هو الباطل والضلال.
ونحن لا ولن نختلف مع غيرنا من أهل المذاهب والأديان الآخرين، في أنَّ فضلَ الله ورحمتَه خيرٌ مما يجمعه أهلُ الضلال والباطل، ولن نختلف في أنَّ الله تعالى هو الذي يفيض رحمته وهدايته، وأنَّ الالتقاءَ بالله تعالى في فضله هو النجاة.
ولكنْ هل رحمةُ الله تعالى في اتِّباع هذا المسلك أو ذاك؟
هل أننا نلتقي بالله في فضله باتِّباع آل محمد(عليهم السلام)، أو أننا نبلغ ذلك باتِّباع آل أمية وبني مروان؟
فإذا ما كان الرجوع إلى أيِّ واحد من أصحاب الرسول الأكرم (عليهما السلام) يُوصِل إلى النجاة، فهذا يعني بأنَّ كلَّ واحد من أصحابه (صلى الله عليه وآله) هو فضلُ الله ورحمته.
ولكننا علمنا بنحو اليقين، بأنَّ أصحابه (صلى الله عليه وآله) قد اختلفوا، فهل يمكن الالتزام بأنهم مع اختلافهم هم جميعاً فضلُ الله ورحمتُهُ؟!
فهل أنَّ علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) هو فضلُ الله، ومعاوية بن أبي سفيان هو رحمة الله؟!!
هل أنَّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) هو الحق، وعائشة وطلحة والزبير الخارجين على إمام زمانهم هم الحق أيضاً؟!!
إنَّ هذا لهو الضلالُ في الفكر، والشططُ في القول.
ثم إنه ومن جهة أخري، قد علمنا أنَّ باتِّباع أصحاب الصراط المستقيم يتحقَّقُ الفوزُ يوم العرض على الله تعالى، فيكون تعريفُ المولى سبحانه وتدليلُهُ على الصراطِ المستقيم وأصحابِهِ، مما تفضَّل به سبحانه على عباده، وطبيعي جداً أنه لولا أن عرَّفنا الله ودلَّنا، لما تمكن أحدٌ من الاهتداء إلى الحق، {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً}.
فالحقُ خيرٌ مما يجمعه الجامعون، وإن حصلت لأولئك الضالين الغلبةُ في بعض المواقع في هذه الحياة الدنيا.
ولكنَّ الحق ليس كلمةً موجودةً في قاموس اللغة والمعرفة، وإنما هو نهج وسلوك يؤدي ويأخذ بالإنسان إلى الحياة الحقيقية، وعند بلوغِ السعادة وتحقُّقِ النجاة يُدرِك الإنسانُ حقَّ الإدراك، بأنَّ ما اتَّبعه من الحق لهو خير له مما جمعه غيره، ويُدرِك بأنَّ الفضلَ كلَّ الفضل وأنَّ الرحمةَ كلَّ الرحمة في ذلك.
وفضلُ الله تعالى على الإنسان لا يكون بما يجمعُهُ الإنسانُ من أنواع المعارف والعلوم فيما إذا كانت مشتملةً على ما هو غير حق، وليست الرحمةُ الإلهيَّةُ متجسِّدةً في الموقع الذي يشعرُ الإنسانُ الضالُّ فيه بالطمأنينة، فإنه سرعان ما سوف ينكشفُ له الضلالُ عن الحق والبعد عن الصراط السوي.
بل فضلُ الله تعالى متجسِّدٌ في الموقع الذي يرضاه الله تعالى، وفي الموقف الذي يريده سبحانه، ورحمتُه حاصلةٌ في حال ارتباط الإنسان واتِّباعه لِمَن أمر الله تعالى باتِّباعه.
فرحمةُ الله تعالى هو الحقُّ، وفضلُ الله ورضوانُهُ هما الحقُّ، فمَن هو هذا الحقُّ الذي كان رحمةَ الله وفضلَه؟
هل بإسلام معاوية وإسلام آل أبي سفيان وآل زياد وآل مروان فليفرح الفرحون؟!
أو بالقرآن بالنحو الذي فهِمَه وفسَّره أنسُ بن مالك أو الحسنُ البصري أو قتادةُ فليفرح الفرحون؟
نعم الإسلامُ الحقيقي هو فضلُ الله تعالى، والقرآنُ بما يشمله تأويله الحق، بظاهره وباطنه هو رحمة الله تعالى، ولكن ما هو الإسلام الحقيقي، وما هو القرآن بما يشتمل عليه من جميع المعارف والاعتقادات الحقة؟
أقول: قد برهن علماؤنا ومحققونا وأقاموا الأدلةَ القطعيَّة، على أنَّ سيدنا محمد (عليهما السلام) هو الإسلامُ الحقيقي، وأنَّ أمير المؤمنين علياً وأبناءه المطهَّرين (عليهم السلام) هم القرآن الناطق وسفن نجاة الأمة، وبديهي على ما أسَّسوه وحقَّقوه أن يكون فضل الله هو الرسول الأكرم (عليهما السلام)، وأن يكون رحمة الله تعالى هو عليٌّ وبنوه الميامين (عليهم السلام).
نعم لا نقصد أنَّ الرحمةَ شيءٌّ، وأنَّ الفضلَ شيءٌّ آخر، بل هما شيء واحد، وإنما الاعتبارات متعددة، فسيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) هو فضل الله من حيث إنه رحمته، وعلي (عليه السلام) هو رحمة الله من حيث إنه فضله.
وأما أن نعمد إلى طرح مفاهيم عامة هنا وهناك، فإنَّ هذا لن يُجدِي نفعاً، ولن يُحقِّقَ لأحد هدايةً، بل المطلوب أن نعرِّف الناس مَن هم الحق لِيتَّبِعوه إن أرادوا ذلك، ولتتمَّ حُجَّةُ الله تعالى على الناس، فلا يكون لأحد عذرٌ في ضلاله وفي عدم سلوكه المسلك الحق.
فاللازم أولاً وأخيراً أن نُبيِّن للناس مَن هم أهل الحق في كل موقع ومكان، وأن نغتنمها فرصةً لهداية الناس إليهم، وغيرُ هذا هو الضلالُ في السلوك، والباطلُ في النهج، والبدعةُ في الطرح.
لا أقول بأنَّ على المفسِّر أن يقتصر على ذكر الأخبار وما ورد مما أُثِر عن سادتنا (عليهم السلام)، ولكن لازماً عليه أن يتعرض في كل مورد لِمَا يمكن أن يُفيدَ في مقام تحديد مَن هم أهلُ الحق، ولن يستطيع ذلك إلا من خلال إثبات أنَّ هذه الآية نزلت في حقِّ عليٍّ (عليه السلام) هنا، وأنَّ تلك الآية بما تحمل في مضمونها من معنى لا تنطبِقُ إلا على أهل البيت (عليهم السلام) بدليل كذا وكذا، وهكذا.
وأما أن يعمد المفسِّرُ إلى الإسباغ في خطِّ كلمات وتراكيب وتعابير، ويُسهِب في إبداء وجهة نظره وهو القاصر مهما كان ومَن كان، ظناً منه أنَّ ما يكتبه ويخطه فيه من الهداية ما يكفي، فإنَّ هذا من الغرور والاستبداد بالرأي، ولكن أن يكون في مقابل ما ورد عن أئمة الهدي، فإنَّ هذا هو الباطل، بل ليس الباطلُ إلا هذا.
هذا وقد أخرج العياشي في تفسيره عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قول الله {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} قال: فليفرح شيعتنا هو خير مما أُعطيَ عدونا من الذهب والفضة.
وأخرج أيضاً عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} فقال: الإقرار بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) والائتمام بأمير المؤمنين (عليه السلام)، هو خير مما يجمع هؤلاء في دنياهم.
وأخرج الكليني في الكافي بإسناده عن ابن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: قلت: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} قال: ولاية محمد وآل محمد (عليهم السلام) خير مما يجمع هؤلاء من دنياهم.
وقال في المسترشد: وروي إبراهيم بن يحيى الثوري عن مختار العبدي عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} قال: بفضل الله: النبي (صلى الله عليه وآله)، ورحمته: علي (عليه السلام).
وأخرج الحاكم الحسكاني في شواهده والخطيب البغدادي وابن عساكر وغيرهم بإسنادهم عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ} قال: بفضل الله: النبي (صلى الله عليه وآله)، وبرحمته: عليٌّ (عليه السلام)(2).
--------------------
(1) من وحي القرآن ج11 ص 329
(2) الكافي ج 1 ص 423، أمالي الصدوق ص 583، أمالي الطوسي ص 254، شرح الأخبار ج3 ص498، مناقب آل ابي طالب ج2 ص 294 وج 3 ص 315، بشارة المصطفى ص 276، المسترشد ص 606، روضة الواعظين ص 106، بحار الأنوار ج9 ص 194 وج24 ص 60 ← 62 وج35 ص 424 إلى 427، تفسير العياشي ج1 ص 260 إلى 261 وج 2 ص 124، تفسير القمي ج 1 ص145 و313، تفسير فرات ص 179 إلى 181، تفسير التبيان ج 5 ص 397، تفسير مجمع البيان ج 5 ص 201، تأويل الآيات ج 1ص 215، التفسير الصافي ج 2ص 407، تفسير نور الثقلين ج 2 ص 307 تفسير الميزان ج 10ص 96، مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الزيدى المذهب ج1 ص140
من مصادر أبناء السُّنة: شواهد التنزيل ج 1 ص 352، الدر المنثور ج 3 ص 308 ـ 309، تاريخ بغداد ج 5 ص 218، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 362
|