قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فهو ـ الله تعالى ـ الذي يعلم صدق ما أقول مما ألهمني إياه، وأوحى إليَّ به، فارجعوا إلى وجدانكم الصافي بعيداً عن كل تعقيدات الهوي والأنانية والبغضاء. {وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} الذي أنزله الله على موسى وعيسى، مما يشهد بصدق رسالته، لأنَّ الكتاب جاء مبشِّراً به ومصدِّقاً لرسالته. وقد يستوحي الإنسان من هذه الفقرة قوةَ التحدي وثبات الموقف، عندما يضع أهل الكتاب الذين تخصَّصوا في معرفته وجهاً لوجه أمام هذه الحقيقة، ليُخرجِوا الكتاب أمام الناس، ليكون الحُجَّةَ الدامغةَ في صدق دعواه وصحة رسالته(1).
قال سبحانه في محكم كتابه {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النِّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً}(2).
أقول: والتكذيبُ على أنحاء كثيرة، ومنها أن يتعمَّد الإنسانُ الردَّ على مَن جعلهم اللهُ تعالى ولاةَ الأمر وهداةَ الأمة، فإنَّ عدمَ الجريان عمليَّاً على وفق ما ثبت عنهم، يُعدُّ تكذيباً له تعالى.
وهذا المعنى من التكذيب أيضاً على أنحاء كثيرة، ومنها أن يختار الإنسانُ أمراً مغايراً لما ثبت وروده عنهم (عليهم السلام).
وقد ثبت ومن طرق الفريقين ـ السُّنة والشيعة ـ أنَّ أهلَ بيت سيدنا محمد (عليهما السلام)، هم سفينةُ النجاة، وعِدلُ الكتاب، وأَحَدُ الثقلين.
وهذا يعني أنَّ النجاةَ لا تُطلَب إلا من حيث يسلك الإنسانُ طريقَهم، وأنَّ الهدي لن يكون إلا من حيث ما يهدون إليه ويدلُّون عليه.
فهم سفينةُ نوح من جهةِ أنَّ التابِعَ لهم ينجو، كما كان حال مَن ركب مع نوح، وأنَّ المتخلِّفَ عن السفينة يغرق في الضلال، وفي اتِّباع الهوي والباطل.
فكلُّ تخلُّفٍ عنهم هو اقترابٌ من الباطل، بل هو الباطلُ بقدر ما يتخلَّف الإنسان، فلا نحتاج في مقام إثباتِ ضلالِ شخص عن الحق إلى إقامة الأدلة والبراهين والحجج، بل يكفي أن يثبت عنه التزامه بخلاف ما ورد عن أئمة العترة الطاهرة (عليهم السلام).
اللهم إلا في المورد الذي يُحتمَلُ فيه خفاؤه وعدمُ وضوحه عنده، أو ورودُ شبهةٍ عليه.
وإذا ما كان السندُ موثوقاً به، والمضمونُ مروياً من طرق الثقات ومقبولاً عند العلماء، وكانت الأخبارُ واضحةَ الدلالة، لا خفاءَ فيها ولا تعقيد، فإنَّ الشبهةَ عندئذ غيرُ محتملَةٍ في حقِّ الشخص المخالِف، اللهم إلا فيما إذا كان شخصاً سقطَ عنه التكليفُ لجنون ونحوه.
نعم يبقى أن يكون منشأ المخالَفةِ اعتقاد الشخص أنَّ الأخبار مخالِفة للكتاب الكريم، ولكنْ ليست مخالفةً ظاهرة، وإلا لما قَبِلَ العلماء تلك الأخبار، وإنما تتمثَّل المخالفة بحسب ما يمكن أن يُدَّعى أنها مخالفة للسياق القرآني.
ولكنْ لو سلَّمنا بوجود هذا المعنى، وأنَّ السياق القرآني يُمثِّلُ قرينةً، إلا أنه لا بُدَّ من رفع اليد عنه، بعد ورود عشرات الأخبار على أنَّ مَن عنده علم الكتاب هو عليٌّ أمير المؤمنين (عليه السلام).
ذلك، أولاً: أنَّ نهوضَ السياق بترجيح معنى ما، يتوقف أولاً على كون المعنى مما يُحتمَل أن يكون مراداً، وبعد دوران الأمر بين إرادةِ هذا المعنى أو ذاك، فقد يقال حينئذ بأنه بقرينة السياق يترجَّح ذاك المعنى مثلاً.
وثانياً: كونُ السياق معيِّناً لأحد المعنيين المحتمَلْين، متوقِّفٌ على اعتماد الشارع عليه في مقام تفهيم المعنى والمراد، أعني أنه متوقِّفٌ على أن يكون المولى سبحانه قد اعتمد على ما يفيدُه السياقُ في كل الموارد، وأنه أحدُ القرائن التي اعتمدها في مقام التفهُّم والتفهيم، وإلا فلا يكون التمسكُ بما يفيده السياق إلا تمسُّكاً بأمر ظني، وهو غير جائز، وفي مثل هذه الموارد فالترجيحُ بين إرادة أحد المعنيين، يرجع إلى اتِّباع قواعد لا تخفى على ذوي الفضل، ولا مجال للتفصيل.
وثالثاً: إنَّ هذا المعنى مبنيٌّ على حُجيَّةِ ما دلَّ على كلٍّ من المعنيين في نفسه، كما لو دلَّ دليلٌ موثوق به على هذا المعنى، ودلَّ دليلٌ آخر على ذاك المعنى، وأما مع عدم وجود إلا دليلٍ واحد على إرادة أحد المعنيين، فإنَّ المتعيِّنَ الالتزامُ بكونه وحدَه المراد.
نعم فيما لم يكنْ هناك دليلٌ من خارج الآية مثلاً على تعيين المراد، فإنه بقرينة السياق قد يقوي في النفس المعنى المنسجِم مع السياق دون غيره.
ورابعاً: إنَّ التمسكَ بما يفيدُه السياقُ متوقِّفٌ أيضاً على عدم كون المعنى الذي يُدَّعى نهوض السياق بإفادته، مما لا يمكن الالتزامُ به مهما كان السبب في عدم إمكان الالتزام.
وفي مورد البحث، فبالنسبة إلى النقطة الرابعة، لا مجال للالتزام إلا بإرادة معنى واحد، لقيام القرينة الخارجية على عدم صحة إرادة ما قد يقال بإرادته، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
وأما النقطة الثالثة، فإنه لم يقم الدليلُ الموثوق به إلا على إرادة معنى واحد، وأما المعنى الآخر فمضافاً إلى عدم وجود دليل موثوق به على إرادته، فقد قام الدليلُ على كونه أمراً باطلاً.
وأما النقطة الثانية، فمضافاً إلى عدم قيام دليل على أنَّ السياق القرآني يُمثِّل قرينةً عامة وفي جميع الموارد، فقد ثبت عن أئمة الهدي، أنَّ الآية القرآنية يكون أولُها في شيء وآخرُها في شيء آخر، وهذا يعني أن لا مجال لأحد في أن يعتمد على السياق كقاعدة عامة، والجواب عن النقطة الأولى يأتي إن شاء الله تعالى.
نعم، يبقى الكلام في فلسفة المعنى الذي يقوم الدليل على إرادته، فيما إذا كان لا ينسجم مع أجواء الآية من جهة، أو كان مما لا يترتَّبُ عليه غرضٌ معتبر بنظر الجاهل.
وفي مثل هذه الحالة، لا مجال للإعراض عما دلَّ الدليلُ عليه، بحُجَّة أنه لا نفهم فلسفته ولا يُحقِّق غرضاً.
وتفصيل ما أشرنا إليه أن يقال: قد روي أبناءُ الفرقة الناجية عن سادتنا (عليهم السلام)، بل وروي كثير من أبناء السُّنة ومن طرقهم عن رسول الله (عليهما السلام) وعن غير واحد من أصحابه، أنَّ مَن عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين عليٌّ(عليه السلام).
وذهب جمع من أئمة أبناء السُّنة إلى أنَّ المراد ممَن عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام، ومنهم مَن اختار غير ذلك، قال ابن الجوزي ـ من نواصب أبناء الضلال ـ في زاد المسير: فيه سبعة أقوال، أحدها: أنهم علماء اليهود والنصاري رواه العوفي عن ابن عباس، والثاني: أنه عبد الله بن سلام قاله الحسن ومجاهد وعكرمة وابن زيد وابن السائب ومقاتل، والثالث: أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق منهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري قاله قتادة(3).
وسواء كان منا الاهتداءُ إلى تزييفِ ما زعموه وإبطالِ مقالتهم أم لم يكن، فإنَّ كلَّ إماميٍّ إثني عشري لا بُدَّ وأن يعتقد ويؤمن بأنَّ ما ورد عن أئمة الهدي (عليهم السلام) وحده الحق، وأنَّ سواه هو الباطلُ.
وكلُّ مَن يزعم أنه موالٍ لآل محمد (عليهم السلام)، ونري منه ترجيحه لغير ما ورد عنهم، أو نري منه استقرابه لمعنى مغاير لما ثبت عنهم، فإننا على يقين بأنه لا يكون من المُوالِيين لآل محمد (عليهما السلام)، بل كيف يكون موالياً وهو رادٌّ عليهم؟!! اللهم إلا فيما إذا كان جاهلاً، والجاهل يتعلم.
نعم فيما إذا ورد عنهم (عليهم السلام) في بعض الأخبار معنى من المعاني، وورد في بعضها الآخر معنى آخر، فإنَّ ترجيح المعنى غير المشهور مثلاً على المعنى المشهور لا يُوجِب القدحَ الكبير، ولكنْ يبقى أن نناقش في ما استدل به ذاك الذي اختار المعنى غير المشهور، وهذا أمر آخر.
وفي الآية المبحوث عنها لم يرد عن سادتنا (عليهم السلام)، إلا أنَّ أمير المؤمنين هو مَن عنده علم الكتاب، وورد تكذيب عبد الله بن سلام فيما يدَّعيه لنفسه من أنه هو مَن عنده علم الكتاب، وليس ما ورد عن الأئمة (عليهم السلام) مخالِفاً لكتاب الله أصلاً، وقد التزم جميعُ الشيعة الإمامية به.
وليس هناك أيُّ خللٍ أو ضعفٍ فيما ثبت بنحو قطعي من أنَّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) هو المرادُ من الآية، ومعه فعدمُ الالتزام بذلك من أبرز مصاديق الردِّ على الله تعالى وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) وعلى أئمة الهدي (عليهم السلام)، وفي الخبر أنَّ الردَّ على أئمة الهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، هو على حدِّ الشرك بالله تعالى.
وأما ما قد يقال: من أنه لا معنى لأن يكون أميرُ المؤمنين هو المراد لأنه كان مع رسول الله (عليهما السلام)، فهذا ليس إلا وجهاً استحسانياً، ولا يجوزُ بحال ردُّ ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) لأجل ذلك.
نعم، للخبير في شيء، أن يردَّ قولَ غيره ما لم يقتنع، وما لم يظفر بدليل يقودُهُ إلى الاقتناع بما يتبنَّاه غيرُه.
ولكن هذا يصحُّ فيما إذا كان الغيرُ غيرَ معصومٍ، لأنه لا مُلزِمَ له في أن يأخذ بقوله إن كان على خلاف مذاقه.
وأما المعصوم، فإنَّ الواجبَ الأخذُ والإيمانُ والتسليمُ بكلِّ ما يثبت أنه قاله، اللهم إلا فيما يكون قاله لأجل التقيَّة والتعمية على أَتباع الظلمة، وهذا بحث آخر.
إذن يجبُ الأخذُ والإيمانُ والتسليمُ بكلِّ ما يثبت أنه عن المعصوم (عليه السلام)، وإن كان على خلاف مذاق فلان أو فلان، بل وإن كان لا يوافِقُ عليه جميعُ أهل الأرض، وإلا فما معنى أنَّ الإمامَ المعصوم حُجَّةُ الله تعالى في أرضه، وخليفتُه في عباده؟!
هل معنى ذلك، أن لا نأخذ منه إلا إذا اقتنعنا بما ورد عنه، ومع عدم الاقتناع فلا نأخذ والعياذ بالله تعالى؟!!
نعم مما ينبغي التنبيه عليه، أنه لا مجال أولاً: لحمل الأخبار الواردة في الآية المبحوث عنها على التقية، فإنَّ التقيةَ من أهل الضلال هي في أن يقول الإمامُ (عليه السلام) كلاماً يوافقهم في آرائهم.
فلو ورد عن الأئمة (عليهم السلام) أنَّ عبد الله بن سلام هو مَن عنده علم الكتاب، فإنَّ هذا ما يجبُ حملُه على التقية، والأمرُ واضح جداً.
ولا مجال ثانياً: لدعوي أنَّ الأخبارَ مخالِفةٌ لكتاب الله بأيِّ نحو من أنحاء المخالَفة التي قد يدَّعيها قاصرٌ هنا، أو معانِدٌ هناك، لأنَّ الأخبارَ متواترةٌ، ومعنى أنها متواترة، أننا نعلم بنحو اليقين، بأنَّ الأئمةَ قالوا بأنَّ مَن عنده علم الكتاب هو عليٌّ (عليه السلام)، فكيف نحتمل بهم أنهم (عليهم السلام) يقولون ما يخالِفُ الكتابَ الكريم!!!
هذا وبما أننا قد التزمنا في هذا الكتاب نزولاً عند رغبة الكثيرين من إخواني في أن نسلك فيه مسلك البعيد عن تعقيد العبارة وجعلها سهلة، ليعمَّ النفع إن شاء الله تعالى، فلذلك ترى منا هنا بعضَ التوضيح، وهناك بعضَ التكرار.
وتوضيح ما أشرنا إليه آنفاً، أنَّ الخبرَ والذي يمكن أن ندَّعي أنه خبرٌ مخالِفٌ للكتاب، هو الخبر الذي يرويه ثقةٌ أو جماعةٌ من الثقات، على أن لا يحتفَّ بالقرائن المفيدة للعلمِ والقطعِ بالصدور عن المعصوم (عليه السلام).
ووجه ذلك أنَّ الثقةَ قد يغفل، وقد يسهو وينسى، وقد يفهم ما لا يكون مقصوداً، ولكنْ هذه الاحتمالاتُ لا تضر ما دام الخبر الذي يرويه الثقةُ غيرَ مخالِف للكتاب أو لسنةٍ قطعيَّة، أو لبديهةٍ عقلية، إذ الواجب أن نأخذ بخبره وإن كنا نحتمل في المُخبِر الخطأ، وإلا ـ إذا كنا لا نأخذ بخبر الثقة مع احتمال خطائه ـ فلا مجال للأخذ بأيِّ خبر من اخبار الثقات، لأنَّ كل خبر يُحتمَل فيه أن يكون المخبِر قد أخطأ، بغضِّ النظر عن قيام دليل خاص على الأخذ بخبر بخصوصه، فإنَّ كلامنا في عموم أخبار الثقات.
نعم هذا الاحتمالُ الوارد ـ وهو احتمال خطائه ـ على إخبار كلِّ الثقات نأخذ به في المورد الذي لا يمكن الالتزامُ بمضمون ما يرويه الثقةُ، كما لو ورد في بعض الأخبار ما يفيد تحريف القرآن مثلاً، فإنه ومن دون أدنى تردد نرفض الخبر، وإن كان الناقل للخبر من أعاظم الثقات، وكما لو ورد خبر يفيد مضمونه جواز المعصية على الأنبياء قبل البعثة، وأمثلة هذا كثيرة.
وعلى الرغم من رفضنا لما يرويه ذاك الثقةُ ـ كزرارة مثلاً ـ لأحد الأسباب والتي ذكرنا منها مثلين، إلا أننا مُلزمِين أبداً بأن نأخذ بخبر زرارة إذا ما خلا عن علةٍ وسببٍ مانع عن الأخذ، وذلك بأن نحمل ذاك الخبرَ والذي لم نأخذ به في الموردين الذَيْن أشرنا إليهما، على محمَل من المحامل التي لا تنافي بقاء ثبوت وثاقته.
بينما في الخبر المتواتر، فإنَّ الأمرَ مختلِفٌ جداً، لأنَّ احتمالَ الغفلةِ أو النسيانِ أو السهوِ أو الجهلِ غيرُ واردٍ على الراوي، لأننا على يقين بصدور الخبر عن الإمام (عليه السلام)، فالقدح في الراوي لا منشأ له ولا مجال، ومضمون الخبر مما ثبت بنحو قطعي صدوره عن المعصوم، فأن كان هناك خللٌ، فهذا يعني أنه من جهة الإمام (عليه السلام).
ولكنَّ الإمامَ (عليه السلام) معصومٌ عن السهو والغفلة والنسيان، فلا يبقى إلا أن نلتزم بأنه تكلَّم بما يخالِفُ القرآنَ.
فهو (عليه السلام)، إما تكلَّم بخلاف القرآن جهلاً منه بما في القرآن أو بما يفيده القرآن، وإما أنه ومع علمه بما في القرآن، فقد تعمَّد مخالَفةَ كتاب الله تعالى، والعياذ بالله تعالى.
فإنَّ الأئمة (عليهم السلام) منزَّهون عن ذلك، بل المؤمنُ الملتزِمُ منزَّهٌ عن تعمُّد مخالَفةِ القرآن، فكيف بالمعصوم (عليه السلام)؟
ولا نحتمل أنه (عليه السلام) غفل أو نسي أو سها، إذ قد عرفت أنه معصوم عن ذلك، ولهذا فإنَّ الخبرَ القطعيَّ والمتواتِرَ لا يمكن أن يكون مخالِفاً لكتاب الله تعالى، أو مخالفاً لسُّنةٍ قطعيَّةٍ أو لبديهةٍ عقليَّة.
وفي الآية المبحوث عنها، فإنَّ الأخبارَ المتواترةَ المعلوم صدورها لا تخالِف الكتابَ الكريم، ولا تخالِفُ أيَّةَ بديهيةٍ عقلية، ولا أيةَ سُنَّةٍ قطعية، بل ولا تخالِف حديثاً ورد عن معصوم أصلاً.
فإنَّ ما ورد من أنَّ عبد الله بن سلام هو مَن عنده علم الكتاب، إنما ورد عن أئمة أهل الضلال، ولم يَرْوِه أحدٌ من أبناء السُّنة عن رسول الله (عليهما السلام) أو عن أحد أئمتنا (عليهم السلام)، نعم رووه عن ابن عباس.
ولكنَّا نقول:
أولاً: إنَّ ابن عباس لا يصدر منه مثل هذا الافتراء والكذب.
وثانياً: إنه ليس معصوماً، ولم يدل دليل على وجوب اتِّباعه.
وثالثاً: لو سلَّمنا بأنه يجبُ اتِّباعُ قوله، إلا أنَّ قوله هنا لا يجوز اتِّباعُه، لأنه مخالِفٌ لما ثبت بالتواتر عن أئمة الهدي (عليهم السلام).
فلم يبقَ لأيِّ شيعيٍّ، أيُّ عذر في عدم التسليم لما ورد عنهم (عليهم السلام).
نعم دعوي أنَّ ما ورد عن أئمة الهدي (عليهم السلام) لا يساعدُ عليه السياقُ القرآني، لهي دعوي باطلة، وسلعة زايفة، وبضاعة كاسدة.
فإنَّ تلك الدعوي والتي لا تصدر إلا من جاهلٍ أو معانِدٍ، تفيد بأنَّ الأئمة (عليهم السلام)، إما يجهلون بالسياق القرآني، أو غافلون عن ذلك، أو أنهم تعمَّدوا المخالفة.
ولكنَّ السياقَ ليس حُجَّةً بنفسه، وبقرينة ثبوت ما ثبت عن أئمتنا (عليهم السلام)، فإنَّ المتعيِّنَ رفضُ وطرحُ هذه الفكرة.
بأن يقال: إنَّ الآيةَ وإن كانت ظاهرة ـ مثلاً ـ بكون المقصود منها أحد أهل كتاب الإنجيل أو التوارة، ولكن بما أنه ثبت عن المعصوم أنَّ المقصود عليٌّ أمير المؤمنين(عليه السلام)، فإنَّ هذا الذي استظهرناه لا بُدَّ وأن نرفع اليد عنه.
على أنَّ الأئمة ليسوا رواةً أو مجتهدين، وإنما هم عِدلُ الكتاب، وخلفاءُ ربِّ الأرباب.
هم وحدهم العالِمون بالتنزيل والتأويل، عندهم وحدهم الحق، وليس يخرجُ الحقُّ إلا من عندهم، وليس الباطلُ إلا ما كان على خلافهم.
أَوَ ليس هذا هو معتقدنا نحن الإماميين في أهل بيت سيدنا محمد(عليهما السلام)؟!
وبهذا نكون قد انتهينا عن معالجة الشبهة من ناحية الأخبار، بنحو مختصر يتناسب مع مقامنا في هذا الكتاب.
ولنرجع إلى كلام صاحب تفسير من وحي القرآن، حيث اعتبر أنَّ المقصود من الكتاب «هو الإنجيل والتوارة» ليخرج بنتيجة حاصلها: أنَّ المراد ممَن عنده علم الكتاب هم بعضُ علماء النصاري أو اليهود، عندما يضع أهل الكتاب الذين تخصَّصوا في معرفته وجهاً لوجه أمام هذه الحقيقة بحسب تعبيره.
فنقول: لو سلَّمنا بأنَّ المقصود من الكتاب هو ذلك، إلا أنَّ الحُجَّةَ الدامغة على صدق دعوي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا تتوقف على أن يكون المقصود من العالِم بكتاب الإنجيل والتوراة هو بعضُ مَن ينتسب إلى أهل تلك الملل، بل الحُجَّةُ حاصلةٌ عندما يأتي عليٌّ (عليه السلام) وهو العالِم بالإنجيل وبالتوراة، ويُحاجِجُ علماءهم بما في كتبهم، وهو الأمر الذي حصل مع الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في محاججته ومناظرته مع أهل الملل السالفة في زمن المأمون العباسي عليه اللعنة.
بل كون المقصود ممَن عنده علم الكتاب هو أحد المسلمين، أمرٌ لا ينبغي الشكُّ فيه، لأنَّ في زمن نزول الآية لم يكنْ قد آمن بعدُ أحدٌ من علماء اليهود والنصاري، أو أحدٌ من أهل الملل السالفة، وهذا أمرٌ لا يجهله التاريخ بجميع انتماءاته، فكيف يعتقد السيد محمد حسين بأنَّ المرادَ ممَن عنده علم الكتاب بعض أهل الكتاب؟!!!
مع أنَّ علياً (عليه السلام) عالِمٌ بتلك الكتب وفي زمن نزول الآية، فلماذا إبعادُ الأمر عن علي (عليه السلام)، وكلُّ الاعتبارات ناهضةٌ بإفادة تعيُّنه؟!
وبعبارة أخري: إنَّ الآيةَ الكريمة تفرض وجودَ شخصٍ عالِم بالكتاب ـ وهو الإنجيل والتوراة بحسب ما يزعم السيد محمد حسين ـ في زمن نزول الآية، وهو مؤمنٌ برسول الله (عليهما السلام)، وليس في تاريخ الإسلام في تلك الحقبة مَن هو كذلك سوي علي (عليه السلام)، فإنَّ أحداً من المسلمين وقت نزول الآية لم يكن أعلم من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو ربيب رسول الله (عليهما السلام) ومن اليوم الأول.
ثم إننا نأتي إلى نفس الآية المباركة، لنري أنها في مقام إظهارِ وإعلانِ الإعراض عن الذين كفروا في تكذيبهم، وليست الآيةُ في مقام الإرشاد إلى مَن عنده علم الكتاب، ليدفع ذلك الذين كفروا إلى سؤاله.
بل حاصلُ الآية: يا أيها الكافرون المكذِّبون لا يضرني تكذيبُكم، فإنَّ حسبي فيمَن يشهد لي وهو الله تعالى ومَن عنده علم الكتاب.
وهذا يعني أنَّ مَن عنده علم الكتاب، هو مَن يتلو الرسول الأكرم (عليهما السلام)، وهل هو غير أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)؟؟
هذا وقد كنا أشرنا في بعض كتاباتنا، إلى أنَّ القرآنَ الكريم قد حسَمَ أسَّ النزاع في تعيين المراد ممَن عنده علم الكتاب ـ ولا نزاع بين الشيعةـ حيث إنَّ بعضَ تأملٍ في الآيات الواردة في سورة النمل والتي من جملتها {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(4) يفيد بنحو اليقين، أنَّ الذي عنده علم الكتاب لهو أفضلُ وأعظمُ شأناً من ذاك.
وإذا ما كان وصيُّ سليمان يعلم شيئاً من الكتاب، فإنَّ المتعيِّن أن يكون مَن عنده علم الكتاب أفضلَ من وصي سليمان، وليس في زمن نزول الآية التي نبحث فيها مَن هو أفضل من وصي سليمان إلا عليٌّ (عليه السلام).
ومهما يكن من أمر وأياً تكن الشبهات التي طرحها أو يمكن أن يطرحها هنا وهناك بعضُ القاصرين، فإنه ومع ثبوت كون المراد من الآية خصوص أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين مِنْ بعده، وذلك بتوسُّطِ إخبار العشرات من الثقات، وفي العشرات من المصادر المختلفة ومن خلال طرق كثيرة جداً، فإننا نتَّبعُ أئمةَ العترة الطاهرة (عليهم السلام)، ونترك الشبهات لأصحاب الأهواء والأغراض والاستحياء وغيرهم من الذين في قلوبهم مرض وزيغ.
وقد أشرنا مراراً إلى أننا لم نعقد الكلام في هذا الكتاب للبحث مفصَّلاً في الآية التي نتعرض لها ومن جميع الجهات، بل إذا ما تعرضنا فإننا نتعرض لشيء من البيان نُقدِّمه قبل نقل الأخبار كتمهيد وتوطئة ليس إلا، ولا مجال لدينا للتفصيل في كل مورد، بل ولو في بعض الموارد، فإنَّ ذلك يحتاج في أكثر الآيات إلى بحث مستقل لا يساعد عليه ما نحن فيه، لذا فمن يريد التفصيل فإنَّ بمقدوره أن يرجع إلى الكتب التي استوفى الباحثون فيها ـ جزاهم الله خيراً ـ دراسةَ موضوع بحثهم.
ثم إنك قد عرفت، أنَّ هناك مِنْ أبناء العامة مَن يقول بأنَّ المراد من الآية هم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم، وفضلاً عن أنَّ هذا لم يثبت عن معصوم، فقد ثبت عن المعصومين (عليهم السلام) تكذيب هذا المعنى، بل أنكر جملةٌ من أعاظم علمائهم هذا القول، بل أنكره مَن يعتقد بهم أبناء السُّنة، أنهم أهل الحل العقد عندهم في مثل هذه الأمور.
فقد أخرج ابن جرير الطبري ـ من أبناء السُّنة ـ في تفسيره، بإسناده عن أبي بشر قال: قلت لسعيد بن جبير: {وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أهو عبد الله بن سلام؟ قال: هذه السورة مكيَّة، فكيف يكون عبد الله بن سلام؟!!
وعن النحاس ـ من أبناء السُّنة ـ في معاني القرآن: وأنكر هذا القول ـ بأنَّ المقصود هو ابن سلام ـ الشعبي وعكرمة.
وعن السيوطي في الدر المنثور: أنه أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه. وقال أيضاً: وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن.
وعن القرطبي في تفسيره: أنَّ سعيد بن جبير والحسن البصري ومجاهد والضحاك كانوا يُنكِرون على مَن يقول: هو عبد الله بن سلام وسلمان، لأنهم يرون أنَّ السورةَ مكيَّة، وهؤلاء أسلموا بالمدينة(5).
هذا وقد أخرج الحاكم الحسكاني في الشواهد، والشيخ الصدوق في الأمالي، بإسنادهما عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله)عن قول الله تعالى {وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}قال: ذاك أخي عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وأخرج الحاكم بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى {وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال: هو عليُّ بن علي طالب (عليه السلام).
وأخرج الحسكاني بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله عزَّ وجل {وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال: رجل من قريش: هو عليٌّ (عليه السلام)، ولكنَّا لا نُسمِّيه.
وأخرج الحسكاني أيضاً بإسناده عن الأعمش عن أبي صالح في قوله تعالى {وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال: علي بن أبي طالب، قال أبو صالح: سمعت ابن عباس مرة يقول: هو عبد الله بن سلام وسمعته في آخر عمره يقول: لا واللهِ ما هو إلا عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وأخرج ابن سليمان الكوفي، وأبو نعيم والثعلبي في تفسيره، والحاكم الحسكاني في الشواهد، بإسنادهم عن أبي عمر زادان عن ابن الحنفية في قوله تعالى {وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال: هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وأخرج ابن المغازلي في مناقبه، والعياشي وفرات الكوفي والثعلبي في تفاسيرهم، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ـ وأورده الكثيرون، منهم: القرطبي في تفسيره، والقندوزي في ينابيع المودة ـ عن عبد الله بن عطاء قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) جالسا إذ مرَّ عليه ابن عبد الله بن سلام، قلت: جعلني الله فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا، ولكنه صاحبكم عليُّ بن ابي طالب (عليه السلام).
وأخرج الصفار في البصائر، والعياشي وعلي بن إبراهيم القمي في تفسيريهما، والكليني في الكافي، بإسنادهم عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال: إيانا عنى، وعليٌّ أولنا، وعليٌّ أفضلنا وخيرنا بعد النبي (عليهما السلام).
وأخرج الصفار بإسناده عن أبي مريم قلت: لأبي جعفر (عليه السلام) هذا ابن عبد الله بن سلام يزعم أنَّ أباه الذي يقول اللهُ {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال: كذب، ذاك عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وبإسناده عن حماد بن عثمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزَّ وجل {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قلت: هو عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ قال: فمَن عسى أن يكون غيره؟!!
وورد بالإسناد عن سلمان الفارسي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وعن جابر وعن يحيى الحلبي، وعن محمد بن مسلم، وعن فضالة بن أيوب، وعن أبي حمزة الثمالي، وعن فضيل بن يسار جميعاً عن أبي جعفر (عليه السلام)، وعن عبد الله بن بكير، وعن سدير، وعن أيوب بن حر، عن أبي بصير، وعن الحسين بن علوان، وعن عمر بن حنظلة، وعن عبد الله بن عجلان، وعن غيرهم فلاحظ على سبيل المثال(6).
-------------------------
(1) من وحي القرآن ج13 ص 71
(2) سورة المزمل الآية 11.
(3) زاد المسير ج 4 ص 251.
(4) سورة النمل الآية 40.
(5) من مصادر أبناء السُّنة: تفسير جامع البيان ج 13 ص 232، معاني القرآن ج 3 ص 507، الدر المنثور ج 4 ص 69، تفسير القرطبي ج 9 ص 336، تفسير ابن كثير ج 2 ص 540، أسد الغابة ج 3 ص 176.
(6) بحار الأنوار ج 14 ص 245 وج23 ص191 وج26 ص 160 و170 ـ 172 و195 و197 و199 وج33 ص175 وج35 ص199 و391 و429 إلى 435، بصائر الدرجات ص 232 إلى 236 و249 إلى 251، الكافي ج 1 ص 229 و257، عيون أخبار الرضا ج 1 ص 155، الأمالي للصدوق ص 659، عيون المعجزات ص 31، مناقب آل ابي طالب ج 1 ص 309 ـ 310 وج 2 ص 283 وج 3 ص 507، روضة الواعظين ص 105و111، خصائص الوحي المبين ص80 ـ 83 و141 ـ 142و213 ـ 215، والعمدة ص 124 و290 ـ 291، مختصر بصائر الدرجات ص 40 و108 ـ 109 الطرائف ص 49 و99، الخرائج والجرائح ج 2 ص 795-799، تفسير العياشي ج 2ص 220 ـ 221 تفسير القمي ج 1ص 367، تفسير فرات ص 123 ـ 124، تفسير التبيان ج 6 ص 268، تفسير مجمع البيان ج 6 ص53، تأويل الآيات ج1ص 238- 239، مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان ج 1ص 191
من مصادر أبناء السُّنة: شواهد التنزيل ج1ص 399إلى405، نظم درر السمطين ص20، تاريخ مدينة دمشق ج41 ص 184ـ 185، ينابيع المودة ج 1ص 304 إلى 307
|