قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وعاشوا الإيمان في فكرهم وشعورهم وحياتهم، {اتَّقُوا اللهَ} في أقوالكم وأعمالكم ومواقفكم وكل علاقاتكم، {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} الذين يعيشون الحياة صدقاً في الفكر والعاطفة والحركة، بعيداً عن كل ازدواجية من المواقف، أو انحراف عن الفكر، أو إرباك في الخطوات، فلا مجال للانسجام مع الكاذبين الذين يُحوِّلون الحياة إلى ساحة للباطل في الشعارات والمواقف، ويلفُّون ويدورون ويلعبون على الحياة من موقع الشيطنة الباحثة أبداً عن الشر، المتحركة أبداً مع الضلال(1).
أقول: إن أدنى تأمُّل في الآية يفيد، بأنَّ الأمر من الله تعالى متعلِّقٌ بالاتِّباع المطلق للصادق، وهذا يعني أنَّ في البين تابعاً ومتبوعاً، هناك تابعٌ مأمورٌ من المولى سبحانه بلزوم الكونِ والاتِّباعِ في جميع الأحوال والتقلبات، لمتبوعٍ أطلق المولى سبحانه عليه اسمَ الصادق.
وكلُّ ذي لسان عربي مبين يعلم ويعي جيداً، أنَّ أمرَ الله تعالى ليس بالكون مع الصادقين فحسب، بل الأمرُ متعلِّقٌ بتقوي الله بالكون مع الصادقين، فالله تعالى كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بالكون مع الصادقين، لا أنه هناك أمرٌ بتقوي الله أولاً، وهناك أمرٌ ثانٍ بالكون مع الصادقين.
ذلك أنَّ الكونَ مع الصادقين هو ما به يحصل تقوي الله، ولا يمكن حصول تقوي الله من الإنسان فيما إذا لم يكنْ مع الصادقين.
وإذا ما كان الصادقُ اسماً يُطلَق على مَن يوافِق إخبارُه الواقعَ الذي يُخبِر عنه، فإنَّ هذا لا يكون بحالٍ ممَن يجب اتِّباعُهُ من جهة، ولا يُوجِب وجود تابع ومتبوع.
فإنَّ كثيراً من الكافرين وأصحابِ المذاهب الفاسدة، يحصلُ منهم الصدقُ في كثير من أفعالهم وحركاتهم، مع أنَّ الكافرين يجبُ التبرُّؤ منهم في جميع الأحوال.
وأيضاً فإنَّ كثيراً ممَن يتصفُّ بكونه صادقاً في هذا الموقف أو في تلك المقولة ـ فيما إذا لم يكونوا ممن يجب التبرُّؤ منهم ـ لا يجبُ الكونُ معهم بالبداهة القطعيَّة.
فسواء كان المقصودُ من الآية ما ذكرناه ـ من أنَّ معنى الآية هو تقوي الله بالكون مع الصادقين ـ، أم كان المستفادُ من الآية وجودَ أمرين ـ أمر بتقوي الله وأمر بالكون مع الصادقين ـ فإنه على كلا التقديرين لا يجبُ بقول مطلق الكونُ مع مطلق الصادقين.
ومفادُ الآية هو وجوبُ الكون معهم، إما لكون ذلك محقِّقاً لتقوي الله تعالى، وإما لأنه يوجد أمرٌ آخر متعلِّقٌ بالكون معهم، وهذا الوجوبُ لم يُقيَّد ولم يُخصَّص بحال من الأحوال، أو في زمن معين أو في موقع محدَّد.
والمولى سبحانه والذي يأمر بالعدل، وهو العدلُ الذي لا يجور، والحكيمُ العليم، لا يمكن أن نتصوَّر فيه أن يأمر بالكون إلا مع الحقِّ، لا نتصور منه إلا وأن يأمر بالاستقامةِ ولزومِ سلوك جادة الصواب، إلا وأن يأمر بسلوك السبيل القويم والصراط المستقيم.
فهل هذا يعني أنه يأمر بالكون مع الصادقِ، مهما كان الصادقُ وكائناً مَن كان، وأنَّى كان، وكيفما كان ويكون؟!!
نعم، هو يأمر باتِّباع الصادق مهما كان فيما يكون كلُّه صدقاً، ظاهراً وباطناً.
هو يأمر بالكون مع الصادق أنَّى يكون الصادق، فيما لا تتخلَّف حالتُه وفيما لا تتبدَّل أوضاعُه.
إذن، فمَن هو ذاك الصادقُ، والذي يأمر المولى سبحانه باتِّباعه في جميع الأمور؟
فهل يا تُري هو ممَن يكون فيه نحوٌ من أنحاء الباطل والجور؟!!
ومَن هو يا أيها العاقلُ ذاك الصادقُ، الذي يكون متصِفاً بالصدق في القول والعمل، في السر والعلن، في الظاهر والباطن؟!!
أَتري هل أنه سبحانه يأمر بالكون مع مَن كان صادقاً ظاهراً، ويكون ممَن عَشْعَشَ الباطلُ في سره؟!
هل تراه سبحانه أمر بالكون مع غير الصادق في نيته، المخلِص في عمله، الصافي جوهرُه ومعدنُه؟!
فكيف لنا بأن نتحقَّقَ أمره وشأنه وحاله في سره وباطنه، وكيف لنا أن نعرف أنَّ فلاناً من الناس ممَن هو صادقٌ ظاهراً وباطناً؟!!
جلَّ الربُ الحكيم في أمره بالكون مع الصادق في كلِّ شيء، جلَّ اللطيفُ في حكمه بوجوب اتِّباع الصادقين.
وإذا ما كان أمرُ الله سبحانه قد تعلَّق بالكون مع الصادقين، لغرض وبداعي تحصيل كمال أنفسنا، ولكيما ندرك السعادة الحقيقية، فأيُّ كمال في الكون مع غير المعصوم؟!
وغير المعصوم قد يتصِف بالصدق ظاهراً، وهو في الباطن عدو لدود للصدق ومحامده.
أم كيف يأمر المولى سبحانه بالكون مع مَن يعيشون الحياةَ صدقاً في الفكر والعاطفة والحركة، ونحن نعلم بأن كثيراً ممَن يعيش الصدق في الفكر والعاطفة والحركة، هم أعداءٌ لله تعالى شأنه؟!
أم كيف يأمر بالكون مع الصادقين، ونحن غيرُ مطلِعين على السرائر، ونحن ممَن يجهل بها؟!!
وكيف يدَّعي السيد محمد حسين فضل الله بأنَّ الله تعالى أمرنا بالكون مع مَن ذكر صفاتهم عند تفسيره للآية، وهو يعلم قطعاً بأنَّ الله سبحانه أمرنا بالتبرؤ من الكافرين؟!
أَوَ ليس يوجد من بين الكافرين مَن لا يعيش أيَّةَ ازدواجية من المواقف؟!
والسيد محمد حسين حين يقول: «أو انحراف عن الفكر»، هل يقصد أو انحراف عن الحق؟
إذا كان يقصد ذلك، فنسأل: مَن غير المعصوم يُمثِّل الحق، ومَن غير المعصوم لا يعيش أيَّ انحراف عن الحق؟!
وأنَّى للبشر أن يتعرَّفوا على مواقع الانحراف في الفكر، إلا من خلال انسجامِ ومطابقةِ الفكر مع تعاليم الشريعة الغراء ومع مَن يُمثِّلُها؟
أَوَ ليس كلُّ المفكرين مهما اختلفت أفكارُهم، يدَّعون ويزعمون أنهم يعيشون الاستقامةَ في الفكر فيما يرونه فكراً؟
أَوَ ليس كلُّ مذهبٍ من المذاهب الفكريَّة ـ أو خصوص الفكرية الدينية ـ يرى أَتباعُهُ أنَّ القيِّمَ على الفكر في مذهبهم، وأنَّ صاحبَ المذهب والإمام عندهم لا يعيش الانحراف عن الفكر الذي جاء به أو طرحه؟
وإذا كان الأمرُ من المولى سبحانه هو في أن يكون الإنسان مع غير المنحرِف في الفكر عن الشريعة الغراء، فلماذا يأمر بالكون معه، مع وجود الميزانِ، ومع وجود الفارق بين الحق والباطل؟!
أَوَ هل يوجد عاقلٌ في الدنيا يدَّعي، بأنه يجب على المؤمنين أن يكونوا وأن يتَّبعوا كلَّ صادق فيما يصدُق فيه، وإن لم يكن صادقاً من باقي الجهات؟!
هل هناك في الدنيا مَن يرى بأنه يجب اتِّباع مَن يتَّصِفُ بالصدق؟!
نعم، كلُّ العقلاء يرون أنه يحسُن تصديقُ الصادق فيما يصدُقُ فيه، وتصديق الصادق شيءٌ، ووجوب اتِّباعه شيءٌ آخر.
أيها المتأمِّلُ بالقرآنِ كتابِ الهداية إلى الحق، إن لم تنصِف نفسَك، فمَن ذا الذي ينصفك حقَّك!
أيها العاقل، تأمل في الآية الكريمة شيئاً قليلاً، ألا تراها تدلُّ ـ ومن دون أن يعتريك أدنى ريب أو شك ـ على وجوب الكون مع الصادقين أبداً ودائماً؟
ألا تراها تدل على أنَّ تقوي الله تعالى لا يُدرَك إلا بذلك؟
فيا تُري، مَن هم هؤلاء الصادقون، وقد أمر سبحانه عبادَه بوجوب الكون معهم، ولزوم مودتهم وولايتهم؟ فإنَّ معنى وجوب الكون مع شخص، أنه يجب اتِّباعُهُ ومودتُهُ وولايتُهُ، والإذعانُ له، والانقيادُ إليه.
يا تُري مَن هم هؤلاء الصادقون الذين لا يحصل رضى الله سبحانه إلا بالكون معهم، ومَن هم حتى أمرنا المولى باتِّباعِ نهجهم، وسلوكِ مسلكهم، وعدمِ مفارقتهم؟
هل هم جمعٌ من الناس ممَن يُحسِنون تركيب الجمل؟! هل هم أناسٌ يدَّعون الصدقَ مع الله تعالى في الموقف، ويُشهِدون الله على ما في قلوبهم وهم ألدُّ الخصام؟!
بلى، إنَّ الله تعالى لم يأمر إلا بالكون مع العدل والحق.
أيها الموالي لآل محمد (عليهم السلام)، إنَّ الصادقين الذين أمر اللهُ تعالى بالكون معهم، هم آل محمد الأطياب (عليهم السلام)، هم عترة المصطفى(صلى الله عليه وآله)، هم خيرة الله وصفوته، فعلامَ هذا التمويهُ وهذه التعميةُ، ولماذا لم يذكرهم السيد محمد حسين يا تُري؟!!!
فقد أخرج الصفار في البصائر بإسناده عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال: إيانا عنى.
وأخرج الصفار في البصائر والكليني في الكافي بسند صحيح عن ابن أبي نصر البزنطي قال سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال: الصادقون الأئمة الصدِّيقون بطاعتهم.
وأخرج الصدوق في كمال الدين بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي قال:... قال علي (عليه السلام): أُنشِدكم اللهَ أتعلمون أنَّ الله عزَّ وجل لما أنزل في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فقال سلمان: يا رسول الله عامة هذه أم خاصة؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أما المأمورون فعامة المؤمنين أُمرِوا بذلك، وأما الصادقون فخاصة لأخي عليٍّ وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: اللهم نعم.
وأخرج أبو نعيم والحاكم الحسكاني ـ وهما من أبناء السُّنة ـ بإسنادهما عن ابن عباس في قوله تعالى {اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال: هو عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وفي كتاب الحاكم: نزلت في عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة.
أقول: وأخرجاه أيضاً بإسنادهما عن الإمام الصادق (عليه السلام).
وأخرج الحاكم الحسكاني بإسناده عن عبد الله بن عمر {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال: يعني محمداً (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
وأخرج الحاكم الحسكاني وابن عساكر في تاريخ دمشق، بإسنادهما عن الإمام الباقر (عليه السلام) {اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} قال: مع علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وفي لفظ الحاكم: مع آل محمد (صلى الله عليه وآله).
وأخرج الحاكم الحسكاني بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} قال: مع عليٍّ (عليه السلام) وأصحاب عليٍّ.
وورد في هذا المعنى الشيء الكثير جداً، وقاله أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وابن عمر والسدي ومقاتل بن سليمان، ويكفي أن تلحظ ما أشرنا إليه من مصادر مع ما ذكره محققوها في هوامشها(2).
أقول: فهل أنَّ السيد محمد حسين فضل الله لم يطرق سمعه أحد هذه الأخبار، أو أنه لا يتفاعل مع أحاديث العترة الطاهرة (عليهم السلام) الواردة في بيان فضائلهم؟!!!
-----------------
(1) من وحي القرآن ج11 ص 235
(2) بصائر الدرجات ص51، الكافي ج 1 ص 208، الغيبة للنعماني ص56، كمال الدين وتمام النعمة ص 274، أمالي الطوسي ص255، روضة الواعظين ص104، الاحتجاج ج1 ص215وج2 ص143 إلى 147، الفضائل ص138، سعد السعود ص 122، شرح الأخبارج 2ص343 و506،بحار الأنوار ج24 ص31و33 وج27 ص58 وج30 ص66 وج31 ص414 وج33 ص149و284 وج35 ص46 و408 إلى 414 و417، مناقب أهل البيت للشيرواني ص98، المسترشد ص647،مناقب آل ابي طالب ج 2ص 288 وج 3 ص 314، الفضائل ص 138، تفسير العياشي ج2 ص117، تفسير القمي ج1 ص 307، تفسير فرات ص 172ـ 174، تفسير التبيان ج 5ص 317،تفسير مجمع البيان ج 5ص139،خصائص الوحي المبين ص232- 234،تأويل الآيات ج1ص211،التفسير الصافي ج2ص387،تفسير نور الثقلين ج 2ص280،تفسير الميزان ج 9 ص408.
من مصادر أبناء السُّنة: شواهد التنزيل ج1ص341 إلى345، الدر المنثور للسيوطي ج 3 ص290، فتح القدير ج 2ص 414، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص361، تهذيب الكمال ج 5ص 84، المناقب للخوارزمي ص280، نظم درر السمطين ص91، ينابيع المودة ج1ص 358.
|