قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فمنهم مَن كفر بالله ومنهم مَن آمن به، عاشوا الحياة صراعاً فيما بينهم، لأنَّ لكلٍّ منهم خطاً فكريَّاً وموقعاً للحكم وللسياسة وللحياة مختلفاً يدور القتال حوله، كما أنَّ لكلٍّ منهم قياداتٍ وأتباعاً وأوضاعاً، وتبقى الحياة ويبقى هذان الخصمان على صراعهما ليحكما الحياة منذ البداية إلى النهاية، ولكن ماذا بعد الحياة عندما يقوم الناس لرب العالمين(1).
أقول: إنَّ القرآن الكريم كان وما زال وسيبقى ما بقيت الدنيا حيَّاً، وأبداً لا يموت القرآنُ بموت مَن تنزل الآيةُ فيه أو فيهم، أو بموت مَن تكون الآيةُ مرتبطةً به لمناسبة معيَّنة، لذا لم تكن ثمة حاجة تدعو لمعرفة سبب النزول إلا فيما اشتملت الآية على وصف، أو تضمَّنت مدحاً له مساسٌ بالعقيدة، فاحتاج الأمرُ إلى معرفة سبب النزول.
وقد يحتاج تحقيقُ الحق في ثبوت بعض الأحكام على معرفة ذلك، ولسنا بصدد تفصيل الكلام في هذا.
ولا يُفهم من كلامنا أنه ليس لمعرفة سبب النزول دخالةٌ، بل له في كثيرٍ من الموارد دخالةٌ، ومما يُساعد على فهم المعنى الذي تريد الآيةُ تركيزَه أو إثباتَه.
هذا من ناحية ومن ناحية ثانية، فإنه إذا ما ثبت ومن خلال ثبوت موردِ النزول، أنَّ هذه الآيةَ نزلت في فلان وتلك فيه أيضاً، وثالثة حيث ناجى ربه، ورابعة حيث اختصم مع قوم كافرين، وهكذا، فإنَّ هذا وحده يكشف عن مدى اهتمام المولى سبحانه بهذا الرجل، ويُنبِىء عن كونه ذا محلٍ رفيعٍ، وشأنٍ عظيم عند مولاه.
فقد تصدَّقَ عليٌّ (عليه السلام) بأربعة دراهم فنزلت آية {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً}، وتصدَّقَ راكعاً على مسكين فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ}، وبات على فراش النبي (صلى الله عليه وآله) ليلةَ الهجرة فنزلت {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاةِ اللهِ} ولا مجال لإحصاء جميع ذلك في هذه العجالة.
والذي نرمي إلى التنبيه عليه، أنَّ ثمة أموراً تثبت من خلال ثبوت نزول آيةٍ تضمَّنت مدحاً وتبجيلاً في حقِّ مَن نزلت فيه، وإذا ما كان الخصمُ أو بعضُ المعاندين منهم يحاولون التشكيكَ في ذلك في هذا الموقع أو ذاك، فإنَّ الهِمَّةَ يجب أن تنصرف أولاً إلى إثبات سبب النزول، وأنَّ الآيةَ نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً، وهكذا الحال في مثيلاتها من الآيات حيث يستطيعُ الباحثُ أن يُكِّونَ الفكرةَ الجليَّةَ عن مقامِ ومحلِّ وشأنِ أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام).
وفي المقابل إذا ما أهمل فلانٌ أو فلانٌ التذكيرَ بارتباط الآية بأهل البيت (عليهم السلام)تارة، أو أعرض عن بيان ذلك الأمر بما يُشعِرُ بعدم الاهتمام منه بهذه الأمور، فإنَّ من شأن هذا وحده أن يُضعِّفَ عقيدةَ المؤمنين بسادتهم من جهة، ويُوجِبَ ضياعَ الحقِّ من جهة ثانية، فضلاً عن أنَّ مثلَ هذا الأسلوبَ لا يتناسب مع ما هو الواجب من إحياءِ ذكر آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ونشرِ مناقبهم، وتعريفِ الناس فضائلهم.
ولو أنه قُدِّر في كلِّ عصر أن يكون أمثال صاحب كتاب من وحي القرآن، فإنَّ غالبَ الظن أن يكون مآلُ كثيرٍ من مناقب أهل البيت (عليهم السلام) ومثالب أعدائهم إلى يباب وضياع، لبداهة أنَّ كلَّ أثرٍ إنما يكون حظُّه في البقاء والاستمرار مرهوناً بكمِّ وكيفِ التحديث والتذكير به.
ولو أنه كان لفلان من الناس تحفُّظٌ على ما ذكرناه من منهج المفسِّر المعاصر، أو على بعض ما أشرنا إليه، غير أنه لا مجالَ لإنكارِ إيجابِ إهمال التعرُّض لخفاء أكثر الأثار والأخبار الواردة في مناقب العترة الطاهرة (عليهم السلام).
ثم دع عنك هذا كلَّه، إلا أنه بالله تعالى عليك، كيف لي أن أهتدي وقد بعُدت الشقَّة ومرت السنون على أنَّ هذه الفضيلةَ أو تلك ثابتةٌ لفلانٍ أو لفلان، إذا ما كان لكلٍّ عذرُه ـ بحسب ما يُدَّعى ـ في تركِ وإهمال البيان والتعرض هنا وهناك؟!
وإذا لم يكن همِّي ربطَ الناس بأهل البيت (عليهم السلام) وتركيزَ عقيدتهم الصافية بهم من خلال نشر فضائلهم والتدليل على مناقبهم، فأنَّى لي أن يذكرني أئمةُ الهدى بالولاء لهم؟!
وما لم أكن وفي كلِّ موقعٍ تسنح لي الفرصةُ ذاكراً ومتعرضاً لبيان مثالب أعدائهم ـ وكلُّ أعدائهم مثالبٌ وليس في أعدائهم إلا المثالب ـ فأنَّى لي أن يكتبني آلُ محمد (صلى الله عليه وآله) في ديوان المتبرِّئين من أعدائهم قولاً وعملاً؟! إنَّ هذا مما يُريب.
ولا يكاد ينقضي تعجبي من السيد محمد حسين فضل الله، فإنه ومع ثبوت نزول الآية التي نبحث فيها في أمير المؤمنين (عليه السلام)وصاحبيه، ومع وجود كلام باطل لبعض أئمة أبناء السنة من إنكاره لهذا المعنى، فكيف لم نرَ منه أيَّ دفاع عن الحق، ولم نظفر له بكلمة في دحضِ الباطل؟!
وكيف لا تراني أعجب، وأنا أرى أنَّ الناصبيَّينِ الخبيثَينِ الذهبي وابن كثير، يذكران خبرَ نزول الآية في أميرالمؤمنين (عليه السلام) وصاحبَيه، ولا نرى من السيد محمد حسين أية إشارة من قريب ولا من بعيد؟!
أما الناصبي الأول، فقد أخرج الحديث في تذكرة الحفاظ بإسناده عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يُقسِم قسماً إنَّ هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في الذين برزوا يوم بدر.
وقال الناصبي الثاني في المجلد الثالث من البداية والنهاية، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في حمزة وصاحبه، وعتبة وصاحبه يوم برزوا في بدر.
أقول: ولعل في الطبع تصحيفاً، وأنَّ الصحيح «وصاحبيه»كما ذكره في تفسيره.
إلا أنه وفي المجلد السابع لم تطاوعه نفسُه على الجري على عادته من إظهار بُغضه لأمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: وأما قوله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فثبت في الصحيح أنه نزل في عليٍّ وحمزة وعبيدة من المؤمنين، وفي عتبة وشيبة والوليد بن عتبة من الكافرين.
أقول: ولعله لم يتعمَّد ذِكْرَ عليٍّ (عليه السلام) وإنما جرى قلمُ الحق، ونُرجِّحُ جداً هذا المعنى، فإنَّ مثلَ ابن كثير ممنوعٌ ـ لخبث سريرته، ودنائة نفسه، وردائة معدنه ـ عن التفوُّهِ بذكر فضيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام).
ولكن يا تُرى ما هو السبب الذي حمل السيد محمد حسين فضل الله على عدم ذكر سبب النزول، مع أنَّ في الآية إشاراتٍ لطيفةً على رفيع محل مَن نزلت الآيةُ فيهم؟!! ولولا ضيق المجال لأشبعنا المقام فيما نبلغ من ذلك ونستطيع، في بيان عظمة هذه الفضيلة.
ومهما يكن فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وأحمد بن حنبل في فضائل الصحابة، والبخاري ومسلم في صحيحيهما، وابن ماجة في سننه، والنسائي والبيهقي في السنن الكبرى، والحاكم النيسابوري في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير، وإبن جرير الطبري في تفسيره، والواحدي في أسباب النزول، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ـ وجميع هؤلاء من أبناء السنة ـ بإسنادهم عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يُقسِم قسماً لقد أُنزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في عليٍّ وحمزة وعبيدة بن الحارث....الحديث.
أقول: وأخرجه أيضاً الحسكاني بإسناده عن أبي سعيد الخدري.
وأخرج البخاري أيضاً، والنسائي، والحاكم النيسابوري، والواحدي، والحاكم الحسكاني، بإسنادهم عن قيس بن عباد قال: قال عليٌّ (عليه السلام): فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}.
وأخرج النحاس وابن المغازلي في المناقب، وابن مردويه، والحاكم الحسكاني، بإسنادهم عن ابن عباس قال: سورة الحج نزلت بمكة سوى ثلاث آيات منها فإنهن نزلن بالمدينة في ستة نفر من قريش ثلاثة منهم مؤمنون وثلاثة كافرون فأما المؤمنون فهم حمزة بن عبد المطلب،وعليٌّ (عليه السلام) بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث.
وقال السيوطي في الدر المنثور: وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن أبي العالية، وعبد بن حميد عن لاحق بن حميد.
أقول: وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره عن هلال بن يساف، وعن عطاء، وفرات الكوفي في تفسيره عن محمد بن سيرين، وعن السدي.
وورد الكثير والكثير وبطرق كثيرة، واكتفينا بما رواه أبناء السنة، وحسبك أنَّ أئمةَ الضلال وأهلَ الباطل، أجمعوا على إخراجه وروايته وتصحيحه، فراجع(2).
---------------------------
(1) من وحي القرآن ج 16 ص 41.
(2) من مصادر أبناء السُّنة: المصنف لابن أبي شيبة ج 8 ص 473 ـ 474 وص 480 ؛ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ص 30 ؛ صحيح البخارى ج 5 ص 6 ـ 7 و242 ؛ صحيح مسلم ج 8 ص 245 ـ 246 ؛ سنن ابن ماجة ج 2 ص 946 ؛ المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 385 ـ 386 السنن الكبري للبيهقي ج 3 ص 276 وج 9 ص 130 ؛ السنن الكبري للنسائي ج 5 ص 57 ـ 58 و194ـ 196 ؛ المعجم الكبير للطبراني ج 3 ص 149 ـ 150 ؛ علل الدارقطني ج 4 ص 99 ـ 101 وج 6 ص 262 ـ 263 ؛ تفسير جامع البيان ج 17 ص 172 ؛ معاني القرآن للنحاس ج 4 ص 369 إلى371 ؛ أسباب نزول الآيات ص 207 ـ 208؛ تفسير الثعالبي ج 4 ص 113؛ تفسير القرطبي ج 12 ص 24 ـ 26؛ شواهد التنزيل ج 1 ص 503 إلى512 و516 ؛ تفسير ابن كثير ج 3 ص 222 ؛ الدر المنثور ج 4 ص 348 ـ 349 ؛ لباب النقول ص 134 ؛ كنز العمال ج 2 ص 472 ؛ تاريخ مدينة دمشق ج 38 ص 257 إلى260 ؛ تذكرة الحفاظ ج 4 ص 1454 ؛ البداية والنهاية ج 7 ص و ج 3 ص 333 ؛ ذخائر العقبىص 88 ـ 89 ؛ جواهر المطالب ج 1ص 47 إلى49 و221
ومن كتب أبناء الفرقة الناجية: تفسير فرات ص 269 إلى272 ؛ تفسير التبيان ج 7 ص 302 ؛ تفسير مجمع البيان ج 7 ص 139 ؛ تفسير الميزان ج14 ص 363 ـ 364 ؛ تأويل الآيات ج1 ص 334 ؛ العمدة ص 310 ـ 311 ؛ سعد السعود ص 102 ـ 104 ؛ مناقب آل أبي طالب ج2 ص 310 ؛ بحار الأنوار ج19 ص 288 و296ـ 297 و313 ـ 314 و335 وج36 ص22 و128 و41 ص 78
|