قال السيد محمد حسين في تفسيره: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} مما لا يتقبله الكافرون، ولا ينسجم مع أفكارهم وأهوائهم، ولا يتوافق مع مصالحهم وأجوائهم، لتضمن بذلك رضاهم عنك، أو لتوفِّر على نفسك موقف الرفض الذي يوحي به التحدي الصادر منهم، ليستريحوا إلى دعوتك في القضايا الأخرى التي لا تثير لديهم مشاكل كثيرة.
{وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} في ما يثيره داخل نفسك من حالات الحرج الشديد والمشقة الكبيرة، تحت ضغط الصراع الداخلي بين ما تريد أن تقوله، وبين ما لا تريد أن تقوله، مما يوحي بالأزمة النفسية التي يضيق بها الصدور، وتضعف معها الروح، إلى أن قال بعد صفحتين: وبذلك يمكن أن تكون الآية عاملاً وقائياً يريد الله به حماية النبي (عليهما السلام) من الوقوع في مثل هذه التجربة، أو الخضوع لهذا الانفعال(1).
أقول: قد ورد في كثير من الأخبار في شأن نزول الآية التي نبحث فيها على ما ستطلع على بعضها إن شاء الله تعالى، مما يدلُّ بوضوح على أنَّ الآيةَ غيرُ مرتبطة بتكذيب ومعاندة الكافرين، فلماذا نجد السيد محمد حسين فضل الله لم يُكلِّف نفسَه حتى ولو بإشارة ضعيفة إلى ذلك؟!!
ولست أدري كيف اهتدى السيد محمد حسين إلى أنَّ الآيةَ مرتبطةٌ بالكافرين، هل هو وحي السماء، أو أنَّ القرآنَ أوحى له بذلك؟!!
ولكن ألا يرى المفسِّر المعاصر بأنَّ ما نصَّ عليه أئمةُ العترة الطاهرة (عليهم السلام)، مما يستحقُّ بأن يذكره، ولو على أنه أحدُ الاحتمالات على أقل تقدير؟!
ومهما يكن، فإنَّ كلام المعاصر، يدل بوضوح على أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يعاني إلا من معاندة الكافرين وتكذيب المشركين، مع أنَّ معاناته (صلى الله عليه وآله) من المنافقين وممَّن انتحلوا الإسلام ظاهراً لا تكاد تخفى على أحد، بل إنَّ تلك المعاناة كانت في القِّمة ممَّا كان يواجهه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
ذلك أنَّ المسلمين البسطاء ما كانت لِتَضرَّهم معاندةُ الكفار وقد استبان لهم ضلالُهم، أضف إلى أنهم كانوا في كثير من الأحيان في مأمنٍ عن وساوسهم وتسويلاتهم.
لكنما المنافقون والذين يعيشون بينهم، كانوا يحاولون تشكيكَ الضعفاء في كل موقع تسمحُ لهم الظروفُ بذلك، فتارة بإشاعة إظهار ضعف المسلمين عن قهر أعدائهم ومحاربتهم، فكان من النبي (صلى الله عليه وآله) أن يعمد إلى مشورتهم لِيُظِهروا ما في أنفسهم فيطَّلِعَ أصحابُهُ على خبث معادنهم، وهذا من أهم الأسباب التي دعت الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لمشورة أصحابه في الحرب، وإلا فإنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن ليتصرف على وفق ما يُرجِّحُهُ فلان أو فلان، فإنه مرتبِطٌ بوحيٍ إلهيٍّ، ومسدَّدٌ من الربِّ العزيز الحكيم.
وتارةً كان يستغل المنافقون بعض المدائح التي تصدر منه (صلى الله عليه وآله) في حقِّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، بادِّعائهم أنه (صلى الله عليه وآله) ممَّن يُقرِّب ويُدني ابنَ عمه وصهرَه، وهذا ممَّا مِن شأنه أن يُقلِّل ويُضعِّف من مصداقيَّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بنظر بعض ضفعاء المسلمين.
وهذا ما رأيناه متجسِّداً بأجلى ما يمكن أن يتجسَّد به أيُّ اعتقادٍ يوم سقيفة بني ساعدة، فرأينا كيف أنَّ المسلمين تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولمَّا يُغسَّل، أجل تركوه واجتمع ثلةٌ في تلك السقيفة المشؤومة، واتفقوا على تنصيب أبي بكر.
فهل أنهم كانوا بعيدي العهد بيوم الغدير، أم أنهم نسوا ذاك التصريح من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مقام تنصيبه لعليٍّ (عليه السلام) ولياً ووصياً وخليفةً من بعده؟!!
فلا بُدَّ وأنَّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان على يقين من أمر تكذيبهم في قرارة أنفسهم، وكان على يقين ممَّا يحاولون أن ينفذوا به إلى قلوب ضعفاء الإيمان، فكان منه تعالى أن أنزل قرآناً بذلك، إقامةً للحُجَّة عليهم بنحو أقوي وأوضح.
نعم نحن لا نُنكِر أنَّ المشركين وجماعةَ الكافرين، كانوا يقفون بالمرصاد في مقابل دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن في المقابل لم يكونوا وحدهم، بل كما أشرنا فإنَّ هناك جملةً ممَّن أسلم ظاهراً كانوا كذلك.
وأما ما احتمله السيد محمد حسين من أنَّ المولى سبحانه أنزل هذه الآيةَ لتكون عاملاً وقائيَّاً بداعي حماية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من الوقوع في مثل التجربة التي زعمها افترءاً على ساحة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، المعصوم عن الخطأ في التبليغ والوهم فيه فضلاً عن إخفائه لأصل الوحي بالأدلة العقلية والقرآنية، والمجمع عليها عند جميع المسلمين، فإنَّ هذا الاحتمال الذي زعمه يناسب كلَّ متردِّدٍ في قداسةِ وكمالِ وعصمةِ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
أَلَم يظفر أبناءُ العقلاء جميعاً وما يزالون، وتعرَّفوا على أناس امتلكوا من أمر الصلابة في عقيدتهم حظاً منعهم عن الركون إلى مَن يخالفونهم في الرأي، بل لم يمنعهم معاندةُ مّن عاند مهما كانوا وأنَّى وكيف يكونون، عن إجهارهم بما يعتقدون به؟
فلماذا يحتمل السيد محمد حسين في حقِّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أنَّ مثله (صلى الله عليه وآله) كان يمكن أن يخضع لمثل الانفعال الذي زعمه وافتراه؟!!
ونحن نعتذر عن عدم وجود الفرصة لنا لنُوضِّح ونُبيِّن زيف وبطلان هذا الرأي الباطل، وفي المقابل إننا لنأسف أن يعتبر بعضُ الناس كلامنا هذا جرأةً على مثل صاحب كتاب من وحي القرآن، وفي المقابل يعتبرون كلامه والذي فيه من التعدي على مقام سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) ما فيه، يعتبرونه فتحاً عظيماً.
فصدق الرسولُ الخاتم (صلى الله عليه وآله) حيث قال: فكيف بكم إذا رأيتم المعروفَ منكَراً، والمنكَرَ معروفاً.
وعلى أيٍّ، فإننا وكما أَمَرَنا الله تعالى ورسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام)، والذين هم وحدهم العالِمون بالقرآن ـ تنزيله وتأويله ـ فقد رجعنا إلى أهل الذكر، ووجدنا أنَّ الآية ترتبط بولاية أميرالمؤمنين(عليه السلام).
فهل أنَّ السببَ الذي دعى صاحب تفسير من وحي القرآن إلى إغفالِ وإهمالِ بيان شأن نزول الآية، هو أنَّ ما ورد عن أئمة العترة الطاهرة (عليهم السلام) من جملة دسائس اليهود والنصارى؟!!
فقد أخرج الحسكاني ـ من أبناء السنة ـ بإسناده عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سألت ربي خلاصَ قلبِ عليٍّ ومؤازرته ومرافقته فأُعطيت ذلك، فقال رجل من قريش: لو سأل محمدٌ (صلى الله عليه وآله) ربه شنَّاً فيه صاعٌ من تمر كان خيراً له مما سأله، فبلغ ذلك النبي فشقَّ عليه فأنزل الله تعالى {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}.
وأخرج الكليني في الكافي بإسناده عن ابن سويد ـ ورواه الشيخ المفيد في الأمالي بإسناده عن عمر بن يزيد، والطوسي في الأمالي بإسناده عن عمار بن يزيد ـ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمَّا نزل قُدَيد قال لعليٍّ (عليه السلام): يا علي إني سألت ربي أن يُوالي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يواخي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل، فقال رجلان من قريش: واللهِ لصاعٌ من تمر في شنٍّ بالٍ أحبُّ إلينا مما سأل محمدٌ (صلى الله عليه وآله) ربَّه، فهلَّا سأل ربَّه مُلكاً يعضدُه على عدوِّه، أو كنزاً يستغني به عن فاقته، والله ما دعاه إلى حق ولا باطل إلا أجابه إليه، فأنزل الله سبحانه وتعالى{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}.
وأخرج الحاكم الحسكاني وفرات الكوفي بإسنادهما عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سألتُ ربي مؤاخاةَ عليٍّ وموازرتَه وإخلاصَ قلبه ونصيحتَه فأعطاني، قال: فقال: رجل من أصحابه يا عجباً لِمحمد (صلى الله عليه وآله)، يقول: سألتُ ربي مؤاخاةَ عليٍّ ومؤازرتَه وإخلاص قلبه فأعطاني، ما كان بالذي يدعو ابن عمه إلى شيء إلا أجابه إليه، واللهِ لشنَّةٌ باليةٌ فيها صاعٌ من تمر أحبُّ إليَّ مما سأل محمدٌ (صلى الله عليه وآله) ربَّه، ألا سأل محمدٌ (صلى الله عليه وآله) ربَّه ملكاً يعينه أو كنزاً يتقوى به على عدوِّه، قال: فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فضاق من ذلك صدره، فأنزل الله {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}.
وأخرج الحاكم الحسكاني والشيخ الصَّدوق في الأمالي بإسنادهما عن عبد الله بن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) وساق حديث المعراج إلى أن قال: وإني لم أبعث نبياً إلا جعلتُ له وزيراً، وإنك رسولُ الله وإنَّ علياً وزيرُك، قال ابن عباس: فهبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكَرِه أن يُحدِّث الناسَ بشيء منها إذ كانوا حديثي عهد بالجاهلية، حتى مضى من ذلك ستة أيام، فأنزل الله تعالى {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}.
وأخرج الحاكم الحسكاني هو والعياشي في تفسيره بالإسناد عن زيد بن أرقم قال: إنَّ جبرئيل الروح الأمين نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بولاية عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) عشيةَ عرفة، فضاق بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) مخافةَ تكذيب أهل الإفك والنِّفاق، فدعا قوماً أنا فيهم، فاستشارهم في ذلك ليقوم به في الموسم، فلم ندرِ ما نقول له، فبكى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال له جبرئيل: يا محمد أَجزِعت من أمر الله؟ فقال: كلا يا جبرئيل، ولكن قد علم ربي ما لقيت من قريش، إذ لم يُقِرُّوا لي بالرسالة حتى أمرني بجهادهم، وأهبط إليَّ جنوداً من السماء فنصروني، فكيف يُقِرُّون لعليٍّ من بعدى، فانصرف عنه جبرئيل، فنزل عليه {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}(2).
أقول: ومما ينبغي التنبه أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يريد من إظهار ما أظهره من حاله فيما يخصُّ شأن عليٍّ (عليه السلام)، إلا إقامة الحُجَّة على أصحابه وأمَّته من جهة، ولِيُعلِمَ المنافقين بأنَّ أمرَ تنصيب عليٍّ (عليه السلام) إنما هو أمر إلهيٌّ بحت، فليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أو لغيره أيُّ شأنٍ فيه.
وما صدر من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليس جزعاً والعياذ بالله تعالى، ولا أنه اعتراض على أمره سبحانه، وليس هو كارهاً لهذا الأمر، فإنه (صلى الله عليه وآله) نفسُ عليٍّ (عليه السلام)، كما أنِّ علياً هو نفس سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله).
وكيف يجزع (صلى الله عليه وآله) من أمر تنصيب الله تعالى لعليٍّ (عليه السلام)، وهو حبيبه وصفيه وخليله!!
نعم، هو (صلى الله عليه وآله) في مقام إظهار تأذِّيه من تكذيب قومه ومن تكذيب كثيرٍ مِن أصحابه له (صلى الله عليه وآله)، وفي مقام السؤال من ربِّه أن يلطف بأمته وهو (صلى الله عليه وآله) الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، فكأنه يسأل ربَّه أن يهديَ قومه إلى تصديقه فيما يقوله في عليٍّ (عليه السلام).
نعم يمكن أن نقول: بأنه (صلى الله عليه وآله) كان مُبتلىً بالتعامل مع أكثر مَن يقال فيهم أنهم من أكابر الصحابة، مُبتلى بما نُطلِق عليه اسم التقية، لا خوفاً منهم، فإنه (صلى الله عليه وآله) أشجع الخلق، وإنما رعايةً لشأن الدين، ولما يراه (صلى الله عليه وآله) من لزوم مراعاة بعض النفوس الظالمة لكثيرٍ من أكابرهم، ومن لزوم مراعاة النفوس الضعيفة لأكثر صغارهم.
ومهما يكن من أمر، فإنَّ كلَّ تفسير ينسجم مع المسلَّمات للمذهب الحق، لهو تفسير مقبول.
ومن المسلَّمات في المذهب، أنه (صلى الله عليه وآله) معصوم عن كلِّ ما هو في الواقع وفي علم الله تعالى باطل، ومن المسلَّمات أنَّ الأنبياء مرتبطون بوحي السماء، فلا يقومون بأمر إلا عن أمره تعالى، فكيف بسيدهم (صلى الله عليه وآله).
-------------------
(1) من وحي القرآن ج12 ص 29 ـ 31.
(2) الكافي ج 8 ص 378 ؛ الأمالي للشيخ الصَّدوق ص 435 – 436 ؛ الأمالي للشيخ المفيد ص 279 ؛ الأمالي للشيخ الطوسي ص 107- 108 ؛ بشارة المصطفى ص 363 ؛ بحار الأنوار ج 9 ص 104 وج 53 ص 353 - 354 و ج 63 ص 80 - 81 و100 و140 و147 وج 73 ص 109 - 110 وج 73 ص 151 - 152 وج 04 ص 72؛ تفسير العياشي ج 2 ص 97 و141 – 142؛ تفسير القمي ج 1 ص 323 ؛ تفسير فرات ص 186- 187؛ تفسير مجمع البيان ج 5 ص 249؛ تأويل الآيات ج1 ص 157 - 158 و 223- 224 ؛ التفسير الصافي ج 2 ص 434 ؛ تفسير نور الثقلين ج 2 ص 342 ؛ شواهد التنزيل ج1ص 256- 257وص 355 – 358
|