قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: وقد اختلف المفسِّرون في تطبيق الآية على الواقع التاريخي أو المستقبلي، وفي تحديد المقصودين بالذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين وعدهم الله بالاستخلاف.
فهناك مَن قال: إنَّ المراد بهم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) الذين كانوا يعيشون الخوف والضغط والاضطهاد.
وهناك مَن قال: إنها تعمُّ الأمةَ كلَّها في ما أفاء الله عليها من انتصارات وفتوحات، جعلتها في مدة طويلة تُهيمِن على الأمر كله.
وهناك مَن قال: إنَّ المرادَ بها الخلفاءُ الراشدون، ومنهم مَن قال: إنَّ المرادَ بها المهديُّ المنتظر.
وإننا نعتقد أنَّ الآيةَ جاءت من أجل أن تُثير في نفوس المسلمين الثقةَ الكبيرة بالله وبأنفسهم.... ولم تكن لتقتصر على مرحلة من المراحل أو جيل من الأجيال، لأنها تُؤكِّد الموقفَ على أساس الإيحاء برعاية الله للإسلام والمسلمين على امتداد مسيرتهم في خط الحياة، ولذلك فمن الممكن تطبيقُها على كلِّ مرحلة استطاع الإسلام فيها أن يحكمَ ويمتدَّ ويُهيمِن(1).
أقول: إننا في هذه العجالة لا نستطيع أن نُوضِّح مفهوم الاستخلاف وما هي حقيقتُه وشرائطُه، ولكن نكتفي بالإشارة إلى بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن قضية استخلافه تعالى لبعض خلقه في الأرض، ومع وضوح ما هي مميزاتُ وخصائصُ أولئك الذين استخلفهم الله تعالى، فإنه تعلم مَن هم الذين تنطبِقُ عليهم الآيةُ.
ولكن قبل استعراض ذلك لا بُدَّ من أن ننظر في ما جاء في بعض كلامات المفسِّر المعاصر.
قولُه: «ولذلك فمن الممكن تطبيقُها على كلِّ مرحلة استطاع الإسلام فيها أن يحكمَ ويمتدَّ ويُهيمِن»، قولٌ لا يُمكن أن نلتزم به قطعاً، بل هو قولٌ مخالِفٌ لإجماع محققي أبناء الفرقة الناجية.
ذلك، أنَّ في زمن أبي بكر وعمر بن الخطاب قد استطاع الإسلام أن يحكم ويمتدَّ ويُهيمِن، فإن في زمن الشيخين قد حصل ما يدَّعيه السيد محمد حسين من حكمٍ وامتدادٍ وهيمنةٍ، من خلال الفتوحات الإسلامية التي وقعت في تلك المرحلة، ولكنك لا تجهل بأنَّ الآيةَ لا يمكن أن تنطبِقَ على تلك الثُّلة الظالمة الغاصبة للخلافة، وغصبهم للخلافة من أبرز أو أبرز ظلمٍ اقترفوه وأتَوه.
وكيف يدَّعي المفسِّرُ المعاصر هذا المعنى، وهو لا يجهل بأنَّ أبا بكر ابتدأ حياته ومن ورائه عمر بظلم السيدة الزهراء (عليها السلام)، ثم ما أعقب ذلك من ظلم للمؤمنين مما لا نملك الوقت فعلاً لتسليط الضوء عليه بل للتذكير به.
فقولُ السيد محمد حسين: أنَّ من الممكن تطبيقها على كلِّ... إلخ، معناه أنه يرى تطبيقَ الآية على مرحلة أبي بكر وعمر، وهذا يعني أنه ممَّن يُصحِّح خلافتَهما، مع أنَّ خلافتهما باطلة قطعاً في مذهب الشيعة وبلا خلاف من أحدٍ.
ومهما يكن، فقد قال سبحانه {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً}(2)، وقال سبحانه {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى}(3).
ومن هاتين الآيتين نستطيعُ أن نتعرَّف على مَن يُمكن أن يكون خليفةَ الله، ومَن هو الذي يُمكن أن يستخلفه تعالى.
إنَّ الآيةَ الكريمة تتحدثُ عن استخلافه تعالى لبعض خلقه المأمورين بالحكم بالحقِّ وعدمِ اتباع الهوى، وما لم يكن الإنسانُ عالماً بالحقِّ وبمواقعه، فإنه لا محالةَ لا يتأتَّى منه الحكمُ بالحق، وما لم يكن مأموناً عن تأثير الهوى، فطبيعة الأمر سيبُتلى باتباعه البتة.
والأمرُ في الآية بالحكم بالحقِّ، ليس في طول الاستخلاف، أي ليس هناك أمرٌ متعلِّقٌ بالاستخلاف، وأمر ثانٍ متعلِّقٌ باتباع الحقِّ والحكمِ على وفقه، وإنما المرادُ من الآية أنَّ الله تعالى جعل داودَ خليفةً في الأرض يحكمُ بالحقِّ، ولا يكون متَّبِعاً للهوى.
وبعبارة أخرى: إنَّ داودَ الخليفةَ خليفةٌ من حيث إنه يحكمُ بالعدلِ والحقِّ ولا يتبع الهوى، لا أنه من بعد أن جعله الله خليفةً هو مأمورٌ بالحكم بالعدل، والذي يعني أنه قد يتحقَّقُ منه ذلك، وقد لا يتحقَّق.
نعم حيث إنه معصومٌ، ويعلم المولى سبحانه بأنَّ داود سيختارُ الحقَّ باختياره وإرادته، فهو مأمورٌ بالحكم بالعدل والحقِّ، ولولا أنه تعالى عَصَمَه من خلال اختيارِ داود للعصمة وسعيِه بإرادته نحو تحصيلها، فإنه لا يكون ممَّن تعلقت إرادتُهُ تعالى بِجعلِه خليفةً.
فالمولى سبحانه جَعَلَ المعصومَ خليفةً، ذلك أنه هو خصوصُ مَن يُؤمر بالحكم بالحقِّ وبالعدل على أساس أن يتحقَّقَ ذلك منه فعلاً، والناسُ جميعاً وإن كانوا مأمورين بالحكم بالحق، لكنه لمكان عدم تحصيلهم لملكة العصمة، فلا محالة سيقعُ منهم الحكمُ بغير الحقِّ، لا أقل من إمكان وقوع ذلك منهم، ومثلُ هؤلاء لا نحتمِل أن يكونوا خلفاءَ الله تعالى.
وبتعبير ثالث: إنه سبحانه جَعَل في الأرض خليفةً، ليحكمَ بالحق ولا يكون مُتَّبِعاً للهوى، ومَن هذا وصفُهُ، لا بُدَّ وأن يكون معصوماً، لأنَّ نفسَ الغرضِ الداعي لِجَعْلِه خليفةً، لا يتمُّ إلا من حيث يكونُ الخليفةُ معصوماً.
على أنَّ نفسَ الأمر بالحكم بالحقِّ، يستلزمُ أن يكون المأمور بالحكم عالماً بالحقِّ حقاً وفي نفس الأمر والواقع، وغيرُ المعصوم لا يتأتَّى له ذلك، لبداهة أنه يجهل بكثير من مواقع الحق.
والخليفةُ ليس مأموراً بأن يحكم بما يراه حقاً، بل هو مأمورٌ بالحكم بما هو حقٌّ، وما لم يكن المولى سبحانه متكفِّلاً برعايةِ وتسديدِ وتعليمِ وإطلاعِ مَن يجعلُه خليفةً على ما هو حقٌّ وما هو الحقُّ، فكما أشرنا ونتيجةً لجهله أو غفلته لا يتمكن من الحكم بالحقِّ في كلِّ شيء، مع أنَّ الغرضَ مِن جَعلِه هو تحقيقُ الحقِّ في كل المواقع، والأمرُ الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن تشويش، غير أنَّ المقصودَ واضحٌ إن شاء الله تعالى.
ثم إنه وبقطع النظر عن هذا كلِّه، فإنَّ آية {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ} تتحدث عن أنه تعالى سيستخلِفُ بعضَ خلقه كما استخلف بعضاً فيما سبق، وأنه ليُمَكِّننَّ لهم دينه الذي ارتضى، فيعبدونه تعالى ولا يشركون به شيئاً.
والدينُ الذي ارتضاه الله تعالى لهذه الأمَّة هو دينُ الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، والذي من جملته بل ومن أركانه ولايةُ أمير المؤمنين عليٍّ وأبنائه الميامين (عليهم السلام)، بل ثبت بنحو لا مجالَ للتشكيك فيه، أنَّ المولى سبحانه إنما ارتضى ما ارتضى لنا من دينٍ يوم نَصَبَ النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) إماماً وولياً ووصياً، وأنَّ آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(4)، إنما نزلت بعد التنصيب المذكور، وقد استفدنا من ذلك بل كانت الآيةُ نصَّاً في أنَّ الإسلامَ بلا ولاية عليٍّ (عليه السلام)، إسلامٌ لا يرضى الله تعالى به ديناً.
وعليه فقوله تعالى في الآية التي نبحث فيها {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} لا مجال لإنطباقه إلا على القوم الذين يُؤمنون بالولاية لآل محمد (صلى الله عليه وآله)، وأنَّ مَن يستخلِفهم تعالى لا بُدَّ وأن يكونوا من جملة الدعاة إلى ولاية عليٍّ (عليه السلام).
وعليه، فكلُّ مرحلة كانت السيطرةُ والهيمنةُ فيها للإسلام المحمدىِّ العلوىِّ، هي مرحلةٌ لا شبهة في انطباق الآية عليها، وأنت تعرف أنه لم يتحقق ذلك بعد.
ثم إنَّ آية {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} فيها تصريحٌ بأنَّ العبادةَ ستكون لله تعالى، وأنه لن يكون في تلك المرحلة أيُّ نحو من أنحاء الشرك به سبحانه.
وإذا ماتنبَّهتَ إلى أنَّ جميعَ الذنوب لا يخلو واحدٌ منها عن كونه شركاً بالله تعالى، فإنَّ عليه يكون قوله تعالى في الآية التي نبحث فيها {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} دالاً بوضوح ـ فإنَّ لا النافية في الآية قد دخلت على النكرة وهي كلمة شيئاً ـ على أنَّ تلك المرحلةَ مرحلةُ العدلِ المطلق، فلا ظلمَ ولا طغيانَ، هي مرحلةُ الحقِّ الذي لا يخالِطُه باطلٌ، مرحلةٌ تصفو العبادةُ وتخلصُ لله تعالى، فلا شركَ ولا نفاقَ، وهذه المرحلةُ لم تتحقَّق بعدُ.
هذا وقد قال المفسِّرُ المعاصر قوله ذاك البعيد عن الصواب، «ولذلك فمن الممكن تطبيقُها على كلِّ مرحلة استطاع الإسلام فيها أن يحكمَ ويمتدَّ ويُهيمِن».
وقال الشيخ الطوسي في تفسير التبيان: وقال أهلُ البيت (عليهم السلام) إنَّ المرادَ بذلك المهدى (عجل الله فرجه).
وأخرج الحافظ أبو نعيم والحاكم الحسكاني ـ من أبناء السُّنة ـ بإسنادهما عن حنش أنَّ عليا (عليه السلام) قال: مَن أراد أن يسأل عن أمرِنا وأمرِ القوم.... وإني أقسمُ بالذي فلق الحبة وبرئ النسمة، وأنزل الكتاب على محمد (صلى الله عليه وآله) صدقاً وعدلاً، لتعطِفَنَّ عليكم هذه الآية {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
وأخرج الحاكم الحسكاني وفرات الكوفي بإسنادهما عن ابن عباس في قول الله تعالى {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ} قال: نزلت في آل محمد (صلى الله عليه وآله).
وبإسنادهما عن القاسم بن عوف قال: سمعت عبد الله بن محمد يقول {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا...}قال: هي لنا أهل البيت (عليهم السلام).
وأخرج القمي في تفسيره والكليني في الكافي بإسنادهما عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله جلَّ جلاله {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} قال: هم الأئمة.
وأخرج محمد بن العباس في تفسيره بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزَّ وجل {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} قال: نزلت في عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام)، {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} قال: عنى به ظهور القائم (عجل الله فرجه).
وأخرج الخزاز القمي في كفاية الأثر بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: دخل جندب ابن جنادة اليهودي من خيبر على رسول الله (صلى الله عليه وآله)... فقال: يا جندب أوصيائي من بعدي بعدد نقباء بني اسرائيل... قال جندب: يا رسول الله قد وجدنا ذكرهم في التوراة، وقد بشَّرَنَا موسى بن عمران بك وبالأوصياء بعدك من ذريتك، ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
أقول: وورد غير ذلك مما لا مجال لاستقصائه، فراجع(5).
--------------------
(1) من وحي القرآن ج16 ص 354
(2) سورة البقرة الآية 30.
(3) سورة ص الآية 26.
(4) سورة المائدة الآية 3.
(5) بحار الأنوارج24 ص 166 وج35 ص73 و36 ص 96 و306 وج51 ص54 و58 و64 و66 الكافي ج 1 ص 193 ـ 194و250 ؛ عيون أخبار الرضا ج 2 ص 55 ؛ الخصال ص 474 ـ 475؛ الغيبة للشيخ الطوسي ص110 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 1 ص 258 ؛ كفاية الأثر ص 56 إلى 59؛ تفسير القمي ج 1 ص 25 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 287 ـ 289 ؛ تفسير التبيان ج 7 ص 457؛ تفسير مجمع البيان ج 7 ص267؛ تفسير جوامع الجامع ج 2 ص 630 ؛ خصائص الوحي المبين ص 184 ـ 185 ؛ تأويل الآيات ج 1 ص 368 ؛ التفسير الصافي ج 3 ص 443 ؛ تفسير نور الثقلين ج 3 ص 616 ؛ تفسير الميزان ج15 ص 158 ـ 159 ؛ تأويل الآيات ج1 ص 369 ؛ شواهد التنزيل ج 1 ص 536 ـ 537 ؛ ينابيع المودة لذوي القربى ج 3 ص245
|