قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فهم يعرفون روعته وعمقه، ويحفظونه من الضياع، وذلك فيما يفهمونه منه، ويبلُغُونه من معانيه، وبذلك لا يقتصر حفظه على الكتابة، بل يمكن أن يحفظه هؤلاء الذين يحملونه في صدورهم، كعلم يختزنونه فيبلغونه للآخرين(1).
أقول: هذا كلام السيد محمد حسين، وهو كما تراه فيه ـ من إغفال التعرض لبيان مَن همُ الحفظة للكتاب ـ ما فيه، مع أنَّ الآية لا تحتاج إلى توضيح ما ترمي إلى إثباته.
قوله «ويبلُغُونه من معانيه»، قول غير صحيح.
فإنَّ آلَ محمد (صلى الله عليه وآله) هم مَن أُوتوا العلم، وآلُ محمد صلوات الله ربي وسلامه عليهم أجمعين، يبلُغُون جميعَ وكلَّ وتمامَ معاني الكتاب الكريم، لا أنهم (عليهم السلام) يبلُغُون بعضاً من معانيه، كما يُفيدُه قول السيد محمد حسين حيث أتى بلفظ «من» وهو يدل على التبعيض.
ولو أنه كنا نقول ـ ولا نقول ـ بأنَّ هناك أشخاصاً أُوتوا العلم، وأنَّ آلَ محمد (صلى الله عليه وآله) مِن جملتهم، فأيضاً لا يصح أن يأتي بلفظ «من»، بل لا بُدَّ وأن نخصَّ لفظ «من» بأولئك الأشخاص فحسب.
هذا مع أننا لا نعلم أحداً في أمة سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) قد أُوتيَ العلم إلا آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولأجل ذلك وجب على الأمة قاطبة أن ترجع إليهم، وأن تأخذ عنهم.
ولو أنه كان في هذه الأمة مَن أُوتيَ العلمَ غير أهل البيت (عليهم السلام)، لما صحَّ أن يُؤمر جميع الناس بالتمسك بالقرآن والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، بل كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يأمر مَن لم يُؤتَ العلم بالتمسك بأهل البيت وبغيرهم ممَّن أُوتوا العلم.
فإذا ما كان السيد محمد حسين يعتقد بوجوب رجوع كلِّ الأمة إلى أهل البيت (عليهم السلام)، أَليس من الأجدر به على الأقل أن يُشير إلى هويَّة أولئك الأشخاص الذين أُوتوا العلم، والذين كان الكتابُ محفوظاً في صدورهم الشريفة، والذين كانت آياتُ الكتاب الكريم آياتٍ بيِّنةً مبيَّنةً عندهم؟
وعلى أيٍّ، فإنَّ الآيةَ تنصُّ على أمرين، الأول: أنَّ الذين أُوتوا العلمَ، هم مَن كانوا حفظةً للكتاب، والثاني: أنَّ حفظةَ الكتاب هم مَن أُوتوا العلم، فكلٌّ من الأمرين يدلُّ على الآخر ويهدي إليه.
فكأنَّ الآيةَ في مقام بيان الأمرين المشار إليهما بدلالة أحدهما على الآخر، فمَن يريدُ أن يعرِفَ مَن هم الذين أُوتوا العلم، يكفيه أن يعرف مَن هم الذين كان القرآنُ آياتٍ بيناتٍ في صدورهم، وكذا العكس.
وفي مقام التعرُّفِ على مَن هم أولئك الأشخاص، يكفي لنا أن نهتديَ إلى مَن عندهم خصائصُ مَن أُوتيَ الكتابَ الكريم.
ومَن أُوتيَ الكتابَ، لا بُدَّ وأن يكون العالِمَ بكلِّ شيءٍ، بعد أن كان الكتابُ تبياناً لكلِّ شيءٍ، وقد قال سبحانه{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(2).
إذن مَن أُوتيَ العلم بالكتاب، هو الغنيُّ عن غيره فيما يحتاجه الغيرُ من علمٍ ومعرفةٍ، وهو مَن كان الغيرُ جميعاً مفتقِرِين إليه، مذعِنين بالقصور عن الإحاطة بما عنده، مطَّلِعين وبحقٍّ على أنَّ عنده العلم بكلِّ ما يُسأل عنه.
فمَن أُوتيَ العلمَ بقولٍ مطلق، لا يعرف الجهلَ بقول مطلق، والآيةُ تتحدث عن قوم أُوتوا العلمَ ومن دون تخصيصٍ بأيِّ شيء، فيلزم عنه أن يكونوا العالِمين بكلِّ شيءٍ ومن دون تخصيصٍ بشيءٍ.
وإطلاقُ لفظ العالِم في كلامه تعالى على أحدٍ، ليس كإطلاقه في كلامنا، وعليه فهُمُ العالِمون الحقيقيون، ومعنى ذلك أنَّ الحدسَ والاجتهادَ والتظنِّي لا يكون وارداً في حقهم، وما لم يكونوا مُؤيَّدين من الحقِّ العليم المطلق تعالى، فإنه لن يكون لهم شأنُ الإحاطةِ بالعلوم والمعارف عن حقٍّ.
وإذا ما كان العلمُ نوراً يقذفه الله تعالى في قلب وصدر مَن يشاء، فهذا يعني أنَّ مَن أُوتيَ العلمَ ممَن يُحبُّهم الله تعالى، فإنه لا يمكن أن يشاء المولى بأن يكون مرجع الناس إلى غير القريب منه.
وما لم يكن إناؤهم وظرفُهم طاهراً، فلن يتأتَّى لهم إدراكُ النور الإلهيِّ بصفاء، وما لم تكن نفوسُهم زاكيَّةً مطهَّرةً، فإنَّ الكدارةَ لا محالةَ ستحجِبُهم وتمنعهم عن نيل العلم الحق.
فإنه أبداً النور والفيض الإلهي لا انقطاع له ولا نفاد، غايته لمَّا أن كان نيلُ ذلك محتاجاً إلى التوجُّه إليه أولاً، وإلى طلبِه بصدقٍّ ثانياً، فإنَّ الإنشغالَ عنه والتوجُّهَ إلى غيره، يلزم عنه وينتج منه الحرمان.
والقلبُ الطاهر وحده مَن خلى عن الباطل، فيقع منه طلَبُ الحقِّ والتوجُّهُ بصدقٍّ إليه، وحيث إنه نقيٌّ عن الباطل فلا شيءَ يمنعُهُ عن إدراك الحق.
فاحتاج الأمرُ إلى المحلِّ النقيِّ المنزَّه عن أيِّ نحو من أنحاء التوجُّهِ إلى الباطل، وكلما صفا القلبُ وزكت النفسُ، كلما وجَدَ النورُ الإلهيُّ المكانَ المناسب لأن يستقِرَّ فيه.
لا أقول أنَّ القلبَ الذي لم (يصفُو) بالتمام والكمال، لا يدرك حظاً من الحقِّ والعلم، وإنما أقصد أنَّ القلبَ النقيَّ عمَّن سواه تعالى وحده مَن عنده القابليَّة لنيل ما لا يشوبُهُ الباطلُ مطلقاً.
وبعبارة أخرى: إنَّ المحلَّ إذا ما كان فيه شيءٌ من الباطل، فإنه لا محالةَ سيترك أثراً من جهة، وسيَحرِم صاحبَه من الحقِّ بمقدار ما كان في قلبه من الباطل من جهة ثانية.
وكمثالٍ، فالقلبُ الذي يمكن أن يستوعب مأةَ صنف من الحق، لا يمكن أن يستوعب ذلك فيما إذا كان فيه عشرةُ أصناف من الباطل، بل لا يقبل إلا استيعاب تسعين صنفاً من الحق، هذا إذا لم يكن لِمَا في قلبه من أصناف الباطل من تأثير سلبي، مع أنَّ تأثيرَه السلبيَّ أمرٌ لا نقاش فيه، وأنحاءُ الباطل تختلفُ، وآثارُهُ تتفاوت.
وفي المقابل، إذا ما التفتنا إلى أنَّ الحديث في الآية يدور عن القرآن الكريم المطهَّر عن كلِّ دَنَسٍ وعيب، فهل ترى أنه سبحانه يجعله آياتٍ بيناتٍ في صدر مَن للباطل فيه حظٌّ؟!!
وهل ترى أنه سبحانه كان ليحفظ كتابه الكريم، إلا في صدور أهل الحقِّ المطهَّرين، وهو عز وجلَّ القائل وقوله الحق {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَ الْمُطَهَّرُونَ}(3)؟!
ثم إنَّ مَن كان الكتابُ آياتٍ بيِّناتٍ في صدره، فلا بُدَّ وأن يكون سلوكُهُ على مقتضى ما استوعبه قلبُهُ وصدرُهُ، وما لم يكن على صراط مستقيم ظاهراً وباطناً، فكيف نتعقَّلُ أن يكون الكتابُ آياتٍ بينات في صدره؟!
لذا وفي مقام التعرُّف على أصحاب الكتاب الكريم، لا بُدَّ أولاً من معرفة الصراط المستقيم وما يُمثِّلُهُ من حق، ولا نهتدي إلى ذلك إلا من خلال وحي السماء، فإنَّ البشرَ قاصرون عن إدراك ما تُخفِيه الصدور.
ولكنك تعرف، أنَّ مَن ليس فيه للباطل أيُّ مطمَعٍ، فلا بُدَّ وأن يكون كلُّهُ حقَّاً، وفي جميع تقلباته لا ترى منه إلا حقاً، ومَن كان كذلك فهو المعصومُ وهو المطهَّرُ.
إذن فالمعصومُ وحده مَن يمكن أن يكون الكتابُ الحقُّ آياتٍ بيِّناتٍ في صدره، وإذا ما كان المحلُّ قابِلاً، ولا يُوجد أيُّ مانعٍ، فإنه مأمونٌ عن كلِّ باطل، فلا محالةَ سيكون فعلاً مَن أُوتيَ العلمَ، لأنه تعالى الكريم الجواد، وهل يبخل عن الإعطاءِ وعن التفضُّلِ على المستحِقِّ؟!!
ورجعنا إلى التأريخ، فلم نرَ إلا آلَ محمد صلوات الله ربي وسلامه عليه وآله وعليهم أجمعين، مَن افتقر الخلق أزلاً إليهم، ومَن يفتقرُ الخلقُ أبداً إليهم، وهم الأغنياءُ وفي كلِّ شيءٍ عن غيرهم.
لم نرَ إلا هم باب مدينة علم المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ولم يعرف الناس مَن اجتمعت الكلمةُ عليهم فضلاً وعلماً ومعرفةً سواهم، فكانوا صراطَ الله المستقيم، وسبيلَه القويم، ما زاغ عن الحقِّ مُتَّبِعُهم، وما ضلَّ مَن تمسَّك بهم، وما يغرق مَن ركب ويركب سفينتهم.
فكانت الإشاراتُ المولويَّةُ والتصريحاتُ القدسيَّةُ والنصوصُ المحمديَّةُ على الصادع بها وآله آلاف الثناء والسلام والتحية، كانت جميعاً تهدي إليهم وتدلُّ عليهم، وما هذه الآيةُ الكريمة إلا واحدةٌ من تلك الآيات الربانيَّة، أُريدَ بها ومنها ولها أن تقطع عذرَ كلِّ معتذِرٍ عن تَرْكِه الاقتداء بأئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله).
وإنه يكفي لكلِّ متأمِّلٍ في مضمونها إذا ما عطف نظره إلى الواقع الخارجي، أن يهتدي وبيقينٍ إلى الهداة الذين نَصَبَهم المولى سبحانه أعلاماً لدينه، وجعلهم أركاناً لتوحيده.
صحيح بأنَّ القرآنَ الكريم لم يُصرِّح بأسمائهم (عليهم السلام)، غير أنه قلَّما تخلو سورةٌ من السور المباركة، إلا وفيها أكثرُ من آية تُفيد ما يُفيدُهُ التصريحُ بالاسم والتنصيصُ عليه، وإذا ما استعان طالبُ الحقِّ بما ثبت عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومن طريق أبناء السُّنة فقط، فإنه يهتدي يقيناً وقطعاً إلى الأئمة الهداة الميامين من آل طه وياسين صلوات الله ربي وسلامه عليهم أجمعين.
هذا وإنَّ بعضاً قليلاً مما تقدم منَّا في هذا الكتاب ليكفي لمعرفة مَن يمكن أن يكونوا أولئك الذين أُوتوا العلمَ، ولكن لمزيد التثبُّت نذكر بعض الأخبار.
فقد أخرج الصفار في البصائر، والكليني في الكافي، ومحمد بن العباس في تفسيره بإسنادهم عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تلى هذه الآية {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: أنتم هم؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): مَن عسى أن يكونوا.
وبإسنادهم عن عبد العزيز العبدي قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: نحن وإيانا عنى.
وأخرج الصفار والكليني بإسنادهما عن هارون بن حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: هم الأئمة خاصةً.
وأخرج الصفار ومحمد بن العباس بإسنادهما عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: إيانا عنى.
وأخرج الصفار والكليني بإسنادهما عن ابن الفضيل قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: هم الأئمة (عليهم السلام) خاصة.
وأخرج الصفار بإسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: نحن وإيانا عنى.
وأخرج الصفار يإسناده عن ابن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عزَّ وجل {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال: إيانا عنى.
أقول: وورد بالإسناد عن خيثمة وعن أسباط، وعن حمران، وعن عبد الله بن عجلان، وعن عبد الرحمن، وعن الحسن الصيقل، وعن سدير، وعن عمر بن أذينه، وعن علي بن أسباط، وعن غيرهم فراجع (4).
------------------------
(1) من وحي القرآن ج18 ص 67.
(2) سورة النحل الاية 89.
(3) سورة الواقعة الآية 79.
(4) بصائر الدرجات ص 224 إلى 227 ؛ الكافي ج 1 ص 213 ـ 214 ؛ دعائم الاسلام ج 1 ص 22و36 و79 ؛ شرح الأخبار ج 2 ص 216 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 3 ص 403 و485 و522 ؛ بحار الأنوار ج 23 ص 189 إلى 204 وج 24 ص 122؛ تفسير القمي ج 2 ص 151 تفسير فرات الكوفي ص 319 ؛ تفسير مجمع البيان ج 8 ص 33 ؛ تأويل الآيات ج 1 ص 432؛ التفسير الصافي ج 1 ص 20 وج 4 ص 120 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 948 ؛ تفسير نور الثقلين ج 4 ص 161 ـ 165.
|