قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {وَمِنهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وهم الذين عاشوا الكتاب في كلِّ ملامح شخصيتهم فذابوا فيه، وانطلقوا مع مفاهيمه كرسالةٍ للحياة، ومنطلَقٍ للسمو، والتفاتةٍ للإبداع، وحركةٍ للخير في ساحة السباق التي تتنافسُ فيها خيولُ الخير في ساحة الإنسان والحياة، ليندفعوا بكلِّ ما عندهم من حبٍّ لله واندفاعٍ روحيٍّ في الحصول على رضاه، ليكونوا السابقين في كلِّ مواقع الخير، فلا يسمحون لأحدٍّ بالتقدم عليهم، ليعطوا الشهادةَ الحيَّة على أنَّ الرسالة إذا عاشت في الكيانِ الإنسانيِّ فكراً وروحاً وحركةً، تحولت إلى قوةٍ هائلة في كلِّ الساحات(1).
أقول: هذا كلام المفسِّر المعاصر، وهو في نفسه كلامٌ لا بأس به، ولكننا لا نراه قد أشار إلى مَن هم الصفوة الذين أورثهم الله تعالى كتابه فكانوا السابقين بالخيرات، وبعد أن تواترت الأخبارُ عن أئمة العترة الطاهرة (عليهم السلام)، بأنَّ السابق بالخيرات هو الإمام (عليه السلام)، فإنَّ كلام هذا المعاصر كما جرت عليه عادتُهُ، كلامٌ مجمَلٌ من جهة، ويحمِلُ أكثرَ من تفسيرٍ من جهة أخرى.
وإذا ما كان يقصد بما سطره الإشارة الخفية والدلالة المبهمة على أئمة الهدى (عليهم السلام)، فإنَّ كلامَه هذا لا يفي بالمطلوب من جهة، فضلاً عن أنَّ أئمتنا (عليهم السلام) لا يُعبَّر عنهم بمثل تعبيره هذا.
ونحن لا نُنكِر عليه ما يريد أن يُعبِّرَ به عما يختلِجُهُ صدرُهُ من معنى لآية هنا أو لآية هناك، ولكننا نُنكِرُ عليه إغفالَه الإشارة إلى ما ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية أو تلك تارة، ونُنكِر عليه أيضاً إهمالَه بيان ارتباط الآية بأهل البيت (عليهم السلام) أخرى، ونُنكِر عليه إجمالَه المعنى وعدمَ توضيح المقصود بما يتوافقُ مع ما ورد وثبت عن آل محمد (صلى الله عليه وآله) ثالثةً، ونُنكر عليه أنه اختار في موارد كثيرة ما ثبت بنحو موثوق به تارة وقطعيٍّ تارة أخرى عن أئمة الهدى (عليهم السلام) خلافه رابعةً.
ومهما يكن، فقد أخرج ابن مردويه ـ من أبناء السُّنة ـ عن عليٍّ (عليه السلام) في قوله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا} إنه قال: نحن أولئك.
وأخرج الصفار والكليني بإسنادهما عن سليمان بن خالد قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قال: الإمام (عليه السلام).
وبإسنادهما عن سالم الأشل قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزَّ وجل {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قال: السابقُ بالخيرات: الإمام (عليه السلام).
وبإسنادهما عن عبد الحميد عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) ـ في حديث ـ قال: فنحن الذين اصطفانا الله، فقد ورثنا علمَ هذا القرآن الذي فيه تبيان كلِّ شيء.
وأخرج الصفار ومحمد بن العباس بإسنادهما عن سورة بن كليب قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ} قال: السابقُ بالخيرات: الإمام (عليه السلام).
وأخرج محمد بن العباس بإسناده عن أبي إسحاق السبيعي قال: خرجت حاجَّاً فلقيتُ محمد بن علي (عليهما السلام)، فسألته عن هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا} فقال: ما يقول فيها قومُك ـ يعني أهل الكوفة ـ يا أبا إسحاق؟ قال: قلتُ: يقولون: إنها لهم، قال: فما يُخوِّفُهم إذا كانوا من أهل الجنة؟ قلتُ: فما تقول أنت جُعلت فداك؟ قال: هي لنا خاصةً يا أبا إسحاق، أما السابق بالخيرات فعليٌّ والحسنُ والحسينُ والإمامُ (عليهم السلام).
وأخرج الصفار في البصائر بإسناده عن فضيل وبريد وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا...} قال: السابق الإمام (عليه السلام).
وأخرج الصفار بإسناده عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا...} قال: هم آلُ محمد (صلى الله عليه وآله)، والسابق بالخيرات هو الإمام (عليه السلام).
أقول: وورد بالإسناد عن أبي حمزة الثمالي، وعن جابر بن يزيد الجعفي، وعن ميسر، وعن بكير بن أعين، وعن هشام، وعن صفوان بن مهران، وعن أبي الجارود، وعن عبد الأعلى بن أعين، وعن محمد بن فضيل، وعن مسعدة بن صدقة، وعن عبد الرحمن بن كثير، وعن الحسين بن عمر، وعن يونس، وعن الريان بن الصلت، وعن الحسن بن راشد، وعن أبي هاشم، وما ورد مما يفيد هذا المعنى كثير جداً، فلاحظ(2).
--------------------
(1) من وحي القرآن ج19 ص 110.
(2) كتاب سليم بن قيس ص 369 ؛ الإمامة والتبصرة ص 149 ؛ بصائر الدرجات ص64 إلى 68 و134 ـ 135 ؛ الكافي ج 1 ص 214 ـ 215 وص 226 ؛ دعائم الاسلام ج 1 ص 23؛ عيون أخبار الرضا ج 2 ص 207 ؛ الأمالي للشيخ الصَّدوق ص 615 ؛ معاني الأخبار ص 104 ـ 105؛ روضة الواعظين ص 298 ؛ المسترشد ص 598 ؛ شرح الأخبار ج 2 ص 505 وج 3 ص 472 ؛ الاحتجاج ج 2 ص 138 ؛ الثاقب في المناقب ص 566 ؛ الخرائج والجرائح ج 1 ص 281 وج 2 ص 687 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 2 ص 18 وج 3 ص 274 ؛ سعد السعود ص 79 ـ 80 و107؛ تفسير العياشي ج 2 ص 315 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 209 ؛ تفسير فرات الكوفي 348 ـ 349 ؛ تفسير مجمع البيان ج 8 ص 245 ؛ التفسير الصافي ج 3 ص 213 وج 4 ص 238 ؛ تفسير نور الثقلين ج 4 ص 83 و361 ؛ بشارة المصطفى ص 299 و349 ؛ كشف اليقين ص 372 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 481 ـ 491 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 80 و217 ؛ بحار الأنوار ج23 ص214 إلى219 وج41 ص16 وج46 ص185 وج50 ص 259
|