قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الذين لم يكتفوا بالتزام أوامر الله ونواهيه بطريقة عاديَّة، بل تطلَّعوا إلى الحصول على رضاه، وعملوا على السبق إلى طاعته حتى في ما لم يُلزِمهم به، مما عرفوا فيه عمقَ محبته له لقيمته الروحية الكبيرة، التي يريد للحياة أن تلتزمها كخطٍّ للسلوك الإنساني في حركة الإيمان(1).
أقول: إنَّ السبقَ إلى أصل الإيمان بالله تعالى متقدِّمٌ على السبق إلى طاعته بالعمل بالواجبات والمستحبات، وإن كان من ضمن طاعته تعالى هو الإيمان به سبحانه على بعض الوجوه.
وعليه، فالأحرى بالآية الكريمة أن يكون الحديثُ فيها عن السبقِ إلى أصلِ الإيمان والطاعةِ وتلبيةِ النداء الإلهيِّ أولاً، ومِن ثَمَّ تشمل مَن سبق إلى العمل بالواجبات والمستحبات، وانتهى عن المحرمات والمكروهات.
وأقول: أولاً، لستُ أدري مَن الذي أوحى إلى هذا المفسِّر المعاصر من أنَّ المولى سبحانه يقصد من السبق المعنى الذي فسَّره به، مع أنَّ الأخبارَ الواردة عن أئمة العترة الطاهرة(عليهم السلام)، قد فسَّرت السبق بغير ما فسَّره به هو.
وثانياً: إنَّ ما التزم به السيد محمد حسين من تفسيرٍ يقضي بتضييع منقبةٍ عظيمة لأمير المؤمنين (عليه السلام).
وثالثاً: على جميع التقادير، فإنَّ الآيةَ تشمل كلَّ سبْقٍ إلى الحقِّ، والسبقُ إلى أصلِ الإيمان سبقٌ إلى الحقِّ، بل هو أولُ وأفضلُ مراتب السبْقِ.
ثم إننا قرأنا الآيةَ التي بعدها، فوجدنا أنه سبحانه قضى وحكم بتقريب السابق، وأنه هو المقرَّبُ عنده ولديه تعالى، فقال سبحانه {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}، فحصلَ لدينا اليقينُ بأنه تعالى ما كان ليرضى بتقريب المتأخِّر في السبْقِ على المتقدِّم، فتمتْ لنا الحُجَّةُ على كلِّ مَن قدَّم غيرَ أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه، فإنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، هو أولُ السابقين بإجماع المسلمين.
نعم كونُ السابقين مقرَّبين في جنات النعيم كما أفادت الآية، لا يعني أنهم فقط هناك هم المقرَّبون، فإنَّ المولى سبحانه في مقام بيان منقبةِ الحائز على السبْق عنده، ومن الطبيعي أنَّ مَن يكون المقرَّبُ منه تعالى في الآخرة، لا بُدَّ وأن يكون هو المقرَّب عنده في الدنيا، بل الأمرُ في هذا أوضحُ من أن نتكفَّل بيانَ الدليل على ذلك.
فإنَّ القربَ منه تعالى في تلك الدار الآخرة، متوقِفٌ على نيلِ رضاه سبحانه وسلوكِ الحقِّ من خلال الالتزام بالحقِّ في دارِ الدنيا دارِ التكليف، ليكونَ جائزةَ وجزاءَ ذلك الحصولُ على القرب منه سبحانه.
على أنه هل يصحُّ في عقلٍ أن يتقدَّم المتأخِّرُ ويتأخَّر المتقدِّم؟!
ثم إنَّ السَّبق في الآية كما أشرنا صادقٌ في كثير من مواقع الحقِّ، غايته أنَّ السَّبق في كلِّ مواقع الحقِّ يُحقِّقُ عنوان السَّبق لمَن سَبَق بنحو أتمّ، أي يكون عنوانُ السابق صادقاً على مَن سَبَق بشكلٍ مميَّزٍ، ومن البديهي أن يكون مثلُهُ له الأولويَّة الحتميَّة في جميع ميادين الحقِّ، ومنها منصبُ الاستخلاف في الأرض.
ذلك أنَّ السابق إلى الخير في أمر ما يتقدَّمُ بحكم العقل والشرع على المتأخِّر عنه، والسابقُ في أعظمِ الأمور وأهمِّها لا يساويه السابقُ له في صغائر الأمور فيما لو تحقَّقَ ذلك، وأما السابقُ في الإيمان والتصديق بما جاء به رسولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه لا يُمكن أن نحتمل من المولى سبحانه أنه يرضى بتأخُّرِه، فكيف إذا ما كان مضافاً إلى ذلك هو السابقُ أيضاً في العلم والشجاعة، وقد قال سبحانه في محكم كتابه {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}(2)، والواو في قوله تعالى «وزاده» ليست للعطف، وإنما هي لبيان الوجه في اصطفائه تعالى.
وإذا ما ثبت من خلال الأخبار الموثوق بها، أنَّ مصداقَ السابق هو أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام)، فإنه لا محالة يتعيَّنُ أن يكون هو المقدَّمُ عقلاً وشرعاً بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
هذا ولا يظنُّ ظانٌّ بأنَّ الآية لا تنطبق إلا على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنها تنطبق أولاً على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقد قال تعالى {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(3)، فإنه (صلى الله عليه وآله) أولُ مَن أقرَّ بالربوبية واعترف بالحق سبحانه، وبإزاء هذه الجهة كان أولَ السابقين كما جاء عنه (صلى الله عليه وآله)، ولكننا حيث نتكلم عن مصاديق الآية من أمته (صلى الله عليه وآله)، فلهذا بدأنا بذكر أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام).
وتنطبق الآية أيضاً على كلِّ مَن سَبَق للاعتراف بالحقِّ والتصديق بما جاء به الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، غير أنه حيث كان أميرُ المؤمنين (عليه السلام) أولَ القوم إسلاماً، وأسبقَهم إلى الانقياد بجميع ما جاءت به الشريعةُ الغراءُ، فكان لا محالةَ سيكون أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أولُ مصداقٍ للآية وأفضلُ الأفراد.
وإذا ما انضم إلى هذا ما ثبت فيما تقدَّم، بأنه المصدِّقُ قولاً وعملاً بجميع ما جاء به الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فإنه تعرف الوجهَ في تخصيص أمير المؤمنين بالذكر، وإنه المعنيُّ من الآية التي نبحث فيها.
فقد أخرج الضحاك في الآحاد والمثاني، والطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في فضائل الصحابة، وابن أبي حاتم، والثعلبي، وابن المغازلي في مناقبه، وابن مردويه، والحاكم الحسكاني في الشواهد، والخوارزمي في المناقب ـ وجميع هؤلاء من أبناء السُّنة ـ بإسنادهم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: سَبَقَ يوشعُ بن نون إلى موسى، وسَبَقَ صاحبُ يس إلى عيسى، وسَبَقَ عليٌّ (عليه السلام) إلى محمد (صلى الله عليه وآله).
أقول: وأخرجه الديلمي عن عائشة، وأخرجه الحسكاني أيضاً بإسناده عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، وأخرجه محمد بن العباس في تفسيره بإسناده عن عامر عن ابن عباس، وأيضاً بإسناده عن طاووس عن ابن عباس.
ومن العجيب أنَّ ابن كثير لم يمنعه ما اشتهر به من نصبه العداء لأمير المؤمنين عن الاعتراف بهذه المنقبة، فإنه بعد أن نقل هذا القولَ ـ أي قول ابن عباس ـ من جملة ما نقله من أقوال في تفسيره قال: وهذه الأقوال كلها صحيحة.
فيا ترى ما هو الذي منع المفسِّرُ المعاصر عن التلميح إلى هذه الفضيلة؟!!
وأخرج أبو نعيم، والحاكم الحسكاني، وفرات الكوفي، بإسنادهم عن ابن عباس في قوله تعالى جلَّ ذكره {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: سابق هذه الأمة أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وأخرج الحسكاني بإسناده عن السدي في قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: نزلت في عليٍّ (عليه السلام).
وأخرج الثعلبي في تفسير الآية بإسناده عن عباد بن عبد الله قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله (صلى الله عليه وآله)، وأنا الصِّدِّيقُ الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذَّابٌ مفتري.
أقول: ولا يقصد أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله «لا يقولها بعدي» أي لا يقولها مَن يأتي بعده (عليه السلام)، وإنما يقصد أنه لا يقولها غيري، وإلا فإنه (عليه السلام) ليس قبله من صدِّيق قطعاً.
وأخرج ابن مردويه، والحاكم الحسكاني، وابن عساكر ـ وهم من أبناء السُّنة ـ ومحمد بن سليمان الكوفي، بإسنادهم عن عبد الرحمان بن عوف في قوله {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ} قال: عليٌّ (عليه السلام) أوَّلهم.
ومثله أيضاً أخرج الحاكم بإسناده عن الإمام الحسن المجتبى، وبإسناده عن الضحاك عن ابن عباس، وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس.
وأخرج الصَّدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} فيَّ نزلت.
وأخرج الحاكم الحسكاني في الشواهد، والشيخ الطوسي في الأمالي، ومحمد بن علي الطبري في بشارة المصطفى، بإسنادهم عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: سألتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن قول الله عزَّ وجل {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} فقال: قال لي جبرئيل: ذاك عليٌّ (عليه السلام) وشيعته.
أقول: وهذا الحديثُ قرينةٌ على ما ذكرناه من أنَّ أميرَ المؤمنين هو المصداقُ الكاملُ التامُّ (4).
-----------------
(1) من وحي القرآن ج 21 ص 328.
(2) سورة البقرة الآية 247.
(3) سورة الأنعام الآية 163.
(4) بصائر الدرجات ص 466 ؛ الكافي ج 1 ص 271 ؛ عيون أخبار الرضا ج 1 ص 70 ـ 71 ؛ الأمالي للشيخ الصَّدوق ص 729 ؛ كمال الدين وتمام النعمة ص 276؛ مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي ج1 ص 127 و165 و406 ؛ المسترشد ص 643 ؛ الأمالي الشيخ للطوسي ص 72 و549 و563 ؛ الاحتجاج ج 1 ص 213 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 1 ص 289 و ج 3 ص 403 العمدة ص 42 و62 ـ 65و221 و410 ؛ الطرائف ص 17ـ20 و69؛ حلية الأبرار ج 2 ص 49 ؛ بحار الأنوار ج 16 ص 120 وص 315 وج 22 ص 302 و42 ص 4 وج 35 ص 24 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 346 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 463 إلى465 ؛ تفسير مجمع البيان ج 9 ص 230 و358 ؛ خصائص الوحي المبين ص 147إلى152 ؛ بشارة المصطفى ص 25و145 ؛ كشف اليقين ص 36 - 39 و166ـ 168 و394 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 606 و641 إلى643 ؛ الغدير ج2 ص306
من مصادر أبناء السنة: الآحاد والمثاني ج 1 ص 150 ؛ المعجم الكبير ج 3 ص 57 وج 11 ص 77 وج 12 ص 81 ؛ الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 66 ؛ ذخائر العقبى ص 58 ؛ مناقب الخوارزمي ص 55 ؛ شواهد التنزيل ج 1 ص 333 إلى337 وج 2 ص 48 وص 291 إلى297 ؛ تفسير القرطبي ج 8 ص 236 ؛ تفسير ابن كثير ج 4 ص 304 ؛ الدر المنثور ج 5 ص 199 وج 6 ص 154 ؛ فتح القدير ج 4 ص 280 وج 5 ص 151 ؛ تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 43 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 59 و192 و343 و346 وج 3 ص 366
|