قال المفسِّرُ المعاصر: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} الذين عاشوا الصدقَ في عمق كيانهم، وفي امتداد حياتهم، وفي رحابة آفاقهم، فكانوا الصادقين مع الله في إيمانهم به وطاعتهم له، ومع أنفسهم فكانوا المنفتحين في أعماقها على الخير والحقِّ والإيمان، ومع الناس فكانوا السائرين معهم على أساس الوفاء بالعهدِ، والرعايةِ للأمانة، والإخلاصِ للصداقة والأخوة(1).
أقول: أَوَ تظنُّ أنَّ القرآنَ الكريم نَزَل به الأمينُ من عند الحكيم حتى يتولَّى قاصرٌ تفسيره، أو يعمَد منافِقٌ إلى سَطرِ كلماتٍ يُخيَّلُ للساذجِ الناظرِ فيها أنها نسيجُ حكمةٍ، فما للقاصر الجاهل أو للجاحِد المفتري ولِخَوضِ غمار توضيح مقصود المولى سبحانه أو بيان ما يريد، ومع وجود أئمة الهدى ومعدن العلم والتقى (عليهم السلام)، فهل لمثل القاصر يدٌ؟!!
وعلى أيٍّ، فالصِّدِّيقُ مبالغة في الصدق، والصادقُ مع المولى سبحانه هو الصادق قولاً وعملاً في جميع الأمور وسائر الأحوال، فلا يعرفُ باطلاً في قولٍ، أو انحرافاً في سلوكٍ.
والآيةُ لا تتحدثُ عمَّن عرف الصدقَ إلا في جميع تقلباته، لا معرفةً علميَّةً فحسب، وإنما تقصدُ المعرفةَ العلميَّةَ والعمليَّةَ.
والصدقُ من جانب العمل والاعتقاد، متوقِّفٌ على معرفة الحقِّ في كلِّ عملٍ وفي كلِّ اعتقادٍ.
والصدقُ مع الله تعالى في ذلك، يعني أنه صدقٌ لا يشوبه أيُّ نحوٍ من أنحاء الشرك والظلم، وظاهرٌ جداً أنَّ ذلك لن يكون ميسوراً لغيرِ أصحاب النفوس القدسيَّةِ، والأرواحِ الملكوتيَّة.
وأنتَ تعرفُ بأنَّ التعبيرَ بـ «أولئك من الصدِّيقين»، ليس كالتعبير بمثل «أولئك هُمُ الصديقون»، فإنَّ التعبير الثاني يُفيد التخصيصَ والتعيينَ وحصرَ العنوان فيهم، وقَصرَه عليهم.
ومن الواضح جداً، بأنَّ اختصاص عنوانِ الصدِّيق بثُلَّةٍ، يعني أنهم تميَّزوا وفَضَلوا غيرَهم ممَّن صَدَقَ وصدَّقَ، ولا يمكن الالتزام بأنَّ كلَّ مَن صَدَقَ عليه عنوانُ المؤمن بالله تعالى لهو صدِّيقٌ، فإنَّ أحداً لا يجهل بوجود الكذب مع الله تعالى ـ والعياذ بالله ـ من جُلِّ المؤمنين، وتفاوتُهُ بالكثرة والقلة لا يجدي، أي أنهم وإن كانوا متفاوتين في ذلك، إلا أنَّ ذلك لا ينفي وجود الكذب في واحدٍ منهم.
وكما أشرنا مراراً، أنَّ القرآنَ الكريم وهو الكتابُ الهادي إلى الحقِّ بالحقِّ من عند الحقِّ، قد تعلَّقَ غرضُهُ أولاً وأخيراً بالدلالة على أهل الصدقِ والعلمِ والصراط السويِّ، ليتمكنَ الناسُ من دَركِ السعادة باتِّباعهم، وليتمكنوا من الفوزِ والنجاةِ بالانقياد لهم.
فاحتاج الأمرُ إذن، إلى استنطاق آيةٍ هنا وما ورد في شأن نزولها هناك، وهكذا في كثير من الآيات لتتُمَّ الحُجَّةُ لأهلِ الحقِّ وعلى أهلِ الضلال.
وإذا كان القرآنُ الكريم قد أجملَ المرادَ تارةً وأهملَ تفصيلَه أخرى، فإنما كان ذلك بعد أن أوكلَ الأمرَ في توضيح المُبهَمِ وتبيينِ المُجمَلِ إلى أهلِ الذكر، العالمين بالتأويل، الواقفين على تفصيل ما في التنـزيل.
وإذا كان ثمة غموضٌ في المراد من هذه الآية، فإنَّ وضوحَه من خلال ارتباطه بآية ثانية، أوبالرجوع إلى الراسخين في العلم يحلُّ المُعضِلة، حيث قد تكفَّلت العترةُ الطاهرةُ من آل محمد (صلى الله عليه وآله) بذلك، وقد أَمَرَنا الله تعالى بالتمسك بهم.
وغنيٌّ عن البيان، أنَّ الحقَّ واحدٌ من عند الواحد، وبما أنَّ أهلَ البيت (عليهم السلام)، هُمُ الحقُّ، فليس بعد الحق وليس غيرهم إلا الضلال والباطل.
وقد أشرنا مراراً أيضاً، إلى أنَّ ذلك لا يعني سدَّ باب التفكُّرِ والتأمُّل في معاني الكتاب الكريم، وإنما المقصود أنه في مقام الجزم بالمرادِ والمقصودِ للمولى سبحانه فيما لا تكون الآيةُ نصاً في المراد، لا بُدَّ من الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام)، وكلُّ كلامٍ يُقالُ ولا يكون عليه شاهدٌ من عندهم، فضلاً عما لو كان مخالِفاً لما ورد عنهم، لهو باطلٌ ظاهراً وباطناً.
هذا وقد أَمَرَ سبحانه بالكونِ مع الصادقين، ولا يخفى بأنَّ امتثالَ الأمر بذلك متوقِّفٌ على معرفتهم، فرجعنا إلى السُّنة المباركة لنرى إلى ماذا أرشدت، وعلى مَن دلَّت.
ولعلَّ هناك ـ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ـ مَن لا يكتفي بما ورد في ذلك، فمَثُلَت أمامنا {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}(2)، فتمَّت الحُجَّةُ بما ورد في شأن نزولها، ولكنه سبحانه أراد لطفاً وتلطَّفَ تكرُّماً، بأن أوضح ذلك أيضاً في مقام آخر، فكانت هذه الآية التي نبحث فيها.
فإن ثبت أنَّ المرادَ من الصدِّيق في هذه الأمة شخصٌ معيَّنٌ وقد ثبت، فإنه لن يبقى أيُّ شكٍّ ـ ولا شكَّ عندنا ـ في أنه هو المراد بمَن صدَّق بالصدق وبمَن جاء به، ويَخلُصُ الحالُ إلى تماميَّة ما جاء في تعيين الصادقين في {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
نعم قلنا ونُكرِّرُ، بأنَّ بعضَ ما يرد هنا أو ورد هناك من أخبار، قد يكون من باب بيان أفضلِ المصاديق وأشرفِ الأفراد، وعلى هذا فإن ورد في بعض الأخبار في البحوث التي تقدَّمت أو تأتي، ما يُفيد مشاركةَ بعض الجماعات لأهل البيت (عليهم السلام) في وصف هنا أو هناك، فلا يعني ذلك أنَّ بين الأخبار منافاةً أو تعارضاً، نعم نلتزم بأنَّ الوصف ثابت لأهل البيت (عليهم السلام) على النحو الأتمِّ والأكمل، وأنه ثابت لمَن دلَّت الأخبار على أنهم أحد الأفراد والمصاديق، ولكن لا على أن يكون الوصف ثابتاً لهم، كما هو ثابت لأهل البيت (عليهم السلام).
نعم المؤمن بالولاية لآل محمد (صلى الله عليه وآله)، وحده مَن آمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) حقَّ الإيمان، فإننا لا نعتقد بربٍّ لم يُنصِّب أميرَ المؤمنين (عليه السلام) وليَّاً وخليفةً بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، بل لا وجودَ لربٍّ مثلِهِ.
والرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد جاء من عند الحقِّ بالحقِّ في ذلك، فمَن لم يؤمن به، لا يكون مؤمناً بجميع ما جاء به الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله).
ومن هنا تعرف الوجهَ في اختصاصِ شيعةِ أمير المؤمنين (عليه السلام)، بالصدِّيقين دون غيرهم، وأما كونُ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الصدِّيقُ بقولٍ مطلقٍ، وأنه هو الفردُ الأكملُ والمصداقُ الأشرفُ، بل الكاملُ الشريفُ التامُّ فقد أشرنا إلى الوجه في ذلك.
هذا وقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده، والثعلبي في تفسيره، وأبو نعيم الحافظ في معرفة الصحابة ـ وهؤلاء من أبناء السُّنة ـ بإسنادهم عن عباد بن عبد الله قال: سمعت علياً (عليه السلام)، يقول: أنا عبد الله، وأخو رسوله(صلى الله عليه وآله)، وأنا الصِّدِّيقُ الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كذابٌ مفتري.
وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو نعيم الحافظ في معرفة الصحابة، وابن المغازلي في مناقبه، والحاكم الحسكاني في شواهده، وأبو داود، وابن عساكر، والديلمي، والخوارزمي ـ وجميعهم من أبناء السُّنة ـ بإسنادهم عن أبي ليلى داود بن بلال بن أحيحة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصِّدِّيقون ثلاثةٌ: حبيب بن موسى النجار وهو مؤمن آل يس، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) الثالثُ، وهو أفضلهم.
أقول: وأخرجه من أبناء الفرقة الناجية فرات الكوفي ومحمد بن العباس في تفسيريهما.
أقول: وأخرجه البخاري ـ من أبناء السُّنة ـ في تاريخه عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأخرجه أيضاً ابن شيرويه الديلمي في كتاب الفردوس ـ كما عن ابن البطريق في خصائص الوحي المبين ـ عن داود بن سلمان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3).
أقول: وأخرجه من أبناء الإماميَّة أيدهم الله تعالى فرات في تفسيره عن أبي أيوب الأنصارى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأخرج محمد بن سليمان الكوفي في مناقبه، بإسناده عن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وآله) ومن «الصِّدِّيقين» فعليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وقال ابن طاووس في اليقين وفي الطرائف: روى الحافظ محمد بن مؤمن في كتابه باسناده عن قتاده عن ابن عباس في قوله تعالى {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): صدِّيقُ هذه الأمة أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو الصِّدِّيق الأكبر، والفاروق الأعظم.
وذكر ابن الجوزي والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك، أنَّ الآية نزلت في ثمانية نفر، وعدَّ منهم أمير المؤمنين (عليه السلام)(4).
أقول: ونحنُ نستشهد بما يذكرونه في حقِّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي حقِّ مَن نعتقد بصحة النسبة لهم دون غيرهم، كغاصبي الخلافة ظالمي الصِّدِّيقة الشهيدة السيدة فاطمة الزاهراء، صلواتُ اللهِ ربي وملائكتِهِ وأنبيائِه ورسلِهِ وجميعِ الصالحين وسلامُهم عليها وعلى السرِّ المستودَع فيها.
هذا وقد وأخرج البرقي في المحاسن بإسناده عن زيد بن أرقم عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: ما من شيعتنا إلا صدِّيقٌ شهيدٌ، قال: قلتُ: جُعلت فداك أنَّى يكون ذلك وعامَّتُهم يموتون على فراشهم؟ فقال: أما تتلو كتاب الله في سورة الحديد {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: فقلتُ: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله عزَّ وجل قطُّ، قال: لو كان الشهداء ليس إلا كما تقول، لكان الشهداء قليلاً.
وأخرج البرقي أيضاً بإسناده عن منهال القصاب قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): أدعُ الله لي بالشهادة، فقال: المؤمنُ لشهيدٌ حيث مات، أَوَ ما سمعت قول الله في كتابه {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}(5).
أقول: وقد تقدَّمت الإشارة إلى أنَّ مشاركة شيعة عليٍّ (عليه السلام) في وصف الصِّدِّيق محمول على أنهم من أفراد الصدِّيقين، ولكن من دون أدنى مقايسة مع سيدهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، ووجهُ صدق الوصف عليهم أنهم خصوص مَن صدَّق بولاية أمير المؤمنين وبنيه الميامين من آله (عليهم السلام).
أقول: والمعنى الذي أخرجه البرقي قد رواه أبناء السُّنة عن البراء بن عازب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو: كلُّ مؤمنٍ صدِّيقٌ شهيدٌ، وهو قول عبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وزيد بن أسلم، ومجاهد، وهذيل بن شرحبيل(6).
أقول: ونحن هنا أيضاً نستشهد بمضمون ما ذكره أبناء السُّنة بأنَّ كلَّ مؤمنٍ صدِّيقٌ شهيدٌ، والمؤمنُ عنوانٌ غيرُ صادقٍ في أصول مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إلا على الشيعة الإماميَّة أيدهم الله تعالى، فإنهم وحدهم المؤمنون حقاً، وقد قال سبحانه في محكم كتابه في خطاب بني إسرئيل ومن خلالهم أبناء الضلال من هذه الأمة، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}(7)، وأبناء الفرقة الناجية وحدهم المؤمنون بكلِّ ما جاء به القرآن من ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبما صدع به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في حقِّ وشأن عليٍّ (عليه السلام) من أمر الولاية والخلافة.
--------------------
(1) من وحي القرآن ج22 ص 34.
(2) سورة الزمر الآية 33.
(3) من مصادر أبناء السُّنة: الدر المنثور ج 5 ص 262 وج6 ص 176 ؛ تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 43 ؛ الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 115 ؛ شواهد التنزيل ج 2 ص 303 إلى 307 ؛ المناقب للخوارزمي ص 310 ؛ جواهر المطالب ج 1ص 29 ؛ شرح نهج البلاغة ج 9 ص 172 ؛ ذخائر العقبى ص 56
(4) من مصادر أبناء السُّنة: تفسير القرطبي ج 17 ص 253 ؛ زاد المسير ج 7 ص 306.
(5) بحار الأنوار ج35 ص 410 إلى413 وج38 ص 213 إلى215 وج64 ص 53 ؛ المحاسن ج 1 ص 163 ـ 164 ؛ بصائر الدرجات ص 51 ؛ الكافي ج 8 ص 35 ؛ عيون أخبار الرضا ج 1ص 9 الأمالي للشيخ الصَّدوق ص 563 ؛ العمدة ص 220 إلى222 ؛ الطرائف ص 69 ـ 70 و405 ؛ اليقين ص 413 ؛ نهج الإيمان ص 513 ـ 515 ؛ مشكاة الأنوار ص 168 ؛ الصراط المستقيم ج 1 ص 281 ـ 282 ؛ التعجب ص 34 ؛ ذخائر العقبى ص 56 ؛ تفسير العياشي ج 1 ص 256 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 113 ـ 114 و354 ؛ خصائص الوحي المبين ص 197 إلى 199 ؛ بشارة المصطفى ص 323 ؛ كشف اليقين ص 167 إلى169 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 663 ـ 664 ؛ مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي ج 1 ص 152
(6) من مصادر أبناء السُّنة: المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 111 ؛ المصنف للصنعاني ج 5 ص 269 و301 ؛ أحكام القرآن ج 3 ص 556 ؛ زاد المسير ج 7 ص 306 ؛ تفسير القرطبي ج 17 ص 253.
(7) سورة البقرة الآية 85.
|