قال المفسِّر المعاصر: {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِْ} الحقَّة في ما تُخطِّطُ له شريعةُ الله من التشريعات التي تُحدِّدُ للناس حقوقَهم وواجباتهم فلا يطغى أحدٌ في حقوقه، ولا يضيع في واجباته، وفي ما تُثيِرُه العقيدةُ في أسلوبها التربوي الإيحائي من اختلاف وروحيَّاتٍ وأفكار، تجعل من الإنسانِ المسؤولَ عن الحياة، فلا يحاول أن يُسيء إليها أو يُفسِد فيها، أو يبتعِدَ عن الخطِّ الذي أراد الله لها أن تسير فيه(1).
أقول: إنَّ مشكلة أهلِّ الحقِّ مع أصحاب البدع والأهواء، يكمُنُ في سلوك أهلِ الباطل مسلَكاً مغايراً ومخالِفاً للمسلك الذي يسير عليه أهلُ الحق.
وهذا، إما يرجعُ إلى عدم تشخيصهم ما هو الحقُّ فيقعوا في الفساد، وإما إلى تعمُّدهم اختيار الباطل لخُبْثِ سريرتهم، وسوءِ نيَّاتهم.
وإذا ما كان الحقُّ واضحاً بيِّناً، فإنَّ سلوكَ الآخر للمسلك الباطل يكشف عن أنه مُبدِعٌ متَّبِعٌ للهوى، بخلاف ما لو كان يكتنِفُ الحالَ بعضُ الغموض الناشئِ من أسباب كثيرة والتي منها: تقصير مَن يدَّعون الانتسابَ إلى الحقِّ، في توضيح المطلبِ، وإقامةِ الحُجَّة والبرهان.
ومن هنا، وجبَ على كلِّ مُتَّبِعٍ للحقِّ معتقِدٍ فيه، أن يُقِيم الحُجَّة على المنكِر بحسب ما يملِكُهُ من علم ومعرفة، فإنَّ النزاعَ قائمٌ ومن اليوم الأول وباقٍ ما بقيت الدنيا، فلا هدنةَ ولا صلح.
وكان من البديهي بمكان، أنَّ إقامةَ الحُجَّة على الآخرين والتصدي لهدايتهم، لا يكفيه التكلُّمُ بالمجْمَلات والمطلَقات كما هي طريقة السيد محمد حسين في ما لاحظناه وإياك أيها القارئ الكريم، بل الغرضُ لا يحصل وفي أغلب المواقع، إلا بالتصدِّي إلى التشخيص في الواقع الخارجي.
وحيث إنه تعالى إنما خلقَ الإنس والجن ليعبدوه، فكان من الضروري أن يُبيِّنَ سبحانه ما يُحبُّه ويرضاه ويرغب فيه، وما يُبغِضُهُ ويُسخِطُهُ، حتى يتمكنَ المخلوقُ من تحقيق الغرض الإلهيِّ الباعث على الخلق.
ذلك أنَّ عبادته تعالى لا تكون إلا من خلال التزامِ أوامره ونواهيه، والأوامر والنواهي ليست معلومةً إلا بتوسُّط الوحيِ الإلهيِّ، وقد وجب اتباع الأنبياء والانقياد للأولياء الواقفين على حدود الله تعالى فيما يُحبُّهُ ويُسخِطُهُ.
لهذا ولغيره، احتاج الأمرُ إلى قائدٍ للمسيرة يُبيِّنُ اللهُ تعالى للناس من خلالِه تعاليمَه، ويكونُ اتِّباعهُ والرجوعُ إليه علامةَ رضاه سبحانه، وهذا ما قد أشرنا إليه عند البحث في آية الصراط المستقيم ولا حاجة للإعادة.
ثم إنَّ المجتمع الذي يُطبِّقُ أحكامُ الله تعالى، هو المجتمع الذي خلا عن كلِّ ظلمٍ، وتحلَّى بكلِّ حقٍّ، ومثلُ ذاك المجتمع لا يُتصورُ فيه إلا الخيرُ المحضُ، إن فيما يخصُّ الشخصَ نفسَه، أو فيما يعني الأمةَ كأمةٍ.
وقد علمنا أنَّ هذا لا يتحقَّقُ إلا بوجود قَيِّمٍ مبسوطِ اليد، صادقِ مخلِصٍ مخلَص، عالِمٍ بالحقِّ في جميع مواقعه، عادلٍ في حكمه ومع ربِّه ونفسه، مرتبطٍ بالحقِّ تعالى وهو يُسدِّدُهُ، بعيدٍ عن الباطل في كلِّ شؤونه، آمنٍ من تسويلاته وخِدَعِهِ ومكرِهِ.
ومتى لم يكن الرئيسُ عادلاً، فلا نتوقَّعُ من مجتمعه عدلاً، وما لم يكن الرئيسُ حقاً، فلا يبغي الحقَّ من مجتمعه إلا الأحمقُ.
وإذا ما كان الحقُّ تعالى ليس عنده إلا الحقُّ، وهو الخيرُ كلُّهُ، ومِن عندِه الخيرُ كلُّهُ، فلا بُدَّ وأن يكون في المخلوق مانِعٌ عن دَرْكِ الخير والسعادة، وهو يتمحضُ في وجود الظلم فيه وفي مجتمعه وعلى أرضه.
ومتى ما خلا الواقعُ عن الظلم والطغيان، فلا يكون من الجوادِ الحقِّ الكريمِ سبحانه، إلا وأن يجود على أهل مملكته وهو الجواد، وأن يرحمهم وهو الرحيم، حيث لا وجودَ للمانع عن قبول الخير الإلهيِّ في كلِّ أنحائه ومظاهره.
وعلى خلاف ذلك، فكلما كان الطغيانُ سائداً والظلمُ حاكماً، فإنَّ الناسَ سيعيشون حالةَ الاضطرابِ والذُّعرِ، وسَيَشْكُون في المقابل من سوءِ المآلِ وتقلُّبِ الحال.
ولا تظنُّ أنك تستطيعُ أن تُبطِلَ مقولاتِنا بما يتراءى لك من وجود عيشٍ صالح من الوجهة الماديَّة في بعض المجتمعات المليئة بالطغيان والفساد، إذ إننا نُنكِر أولاً وجودَ عيشٍ مستقِرٍّ لأبنائه، ولإن وُجد في زاوية ضيِّقةٍ فيه، فإنك ترى في زواياه الأخرى العكسَ من ذلك.
وثانياً: هناك آثارٌ تكوينيَّة لما يسلِكُهُ مجتمعٌ هنا في صدقِ معاملةٍ، أو إحسانٍ لمسكينٍ، وما شاكل مما ينعكسُ ذلك بآثاره على المجتمع كلِّه، فترى فيه شيئاً من العيش الهنيء من منظورهم.
وثالثاً: إننا نتحدث عن المجتمع الذي لا ظلمَ فيه ولا طغيانَ، ليس من الإنسان فقط، بل من جميع ما يُحيطُ به، وما تلك الأعاصيرُ والبراكينُ والزلازلُ إلا بعضاً من آثار طغيان الطبيعة المسبَّب عن طغيان الإنسان.
إننا نتحدث عن مجتمع يسوُدُه الحقُّ والخير، وأيُّ مجتمع في هذه الدنيا فيه حقٌّ مطلق وعام، أو خير شامل؟
إننا نتحدث عن مجتمع آمانٍ مطمئنٍ، متحابٍّ متعاون، تقوم العلاقاتُ فيما بين أبنائه على قواعد الشرع الحنيف، فإنَّ الحقَّ لا يُعلَمُ إلا من جهته.
ومهما يكن فلسنا في مقام إقامة الحُجَّة على غير المتديِّن بدين الإسلام والمعترِف بالقرآن الكريم، على أنَّا إن شاء الله تعالى بمقدورنا ـ طبعاً ليس فعلاً فإننا نفتقر للمصادر ـ أن نُقِيم الحُجَّةَ عليهم بما توصَّلوا إليه من خلال البحوث والتجارب العلميَّة.
وحيث إنَّ القرآن يُصرِّح بارتباط السعادة في هذه الدنيا بسلوك الطريقة الحقَّة، فإننا ومن هذه الآية تتمُّ لنا الحُجَّةُ على كلِّ مخالِفينا في العقيدة.
فإنَّ الاستقامةَ على الطريقة لا يحصل مع عدم وجود مَن يدلُّ عليها ويهدي إليها ويذبُّ عنها وفي كلِّ زمن، وما لم يكن القَيِّمُ والقائمُ هو نفسه على الطريقة الحقَّة، فلن يُفلِح في إنجاح سُؤلِه ومأمولِه، بل كيف تكون غايته إقامة الحق وتشييد أركانه، وهو يجهل الحقَّ في بعض مواقعه تارة، ولا يسلكه في بعضها الآخر؟!
وما لم يكن القائمُ والقيِّمُ معصوماً مسدَّداً مؤيَّداً من المولى سبحانه، فأيَّةُ استقامةٍ يرتجيها عاقلٌ من مجتمعه، وفي قومه وأهل بلده؟!
فإنَّ الطريقةَ المشار إليها في الآية، ليست إلا تعبيراً آخر عن الصراط المستقيم، وقد عرفت فيما مضى أنَّ الصراطَ المستقيم، ليس عبارة عن خطٍّ وهميٍّ، وإنما هو سلوكٌ ودينٌ، ومنهَجٌ وعقيدة، يُمثِّلُها أصحابُ الصراط، وبهم تتِّمُ الحُجَّةُ، وتقوم البيِّنة.
ولا نحتمل من المولى تعالى، أن يأمر الناس بسلوك الطريق المستقيم ولمَّا يُوضِّح لهم حقيقتَه، أو يُبيِّن لهم معالِمَه وحدودَه.
وليست معالِمُهُ أسطراً على ورق أو كلمات في كتب، وإنما هو نهج ينتهِجُهُ أهلُهُ وروَّادُهُ، فيُؤمَر الناسُ باتِّباعهم والانقياد إليهم، لِيُوضِّحوا لهم ويُقِيموا حقاً هنا، ويُبطِلوا ويدحضوا باطلاً هناك.
ولن نظنَّ به سبحانه أن يحثَّ الناس على الاستقامة على الطريقة، ولا يكون في الناس مَن يكون مستقيماً بصدقٍ، عالِماً بحقٍّ، لِيرجِعَ إليه طلابُ الحقِّ، ويسلكوا مسلَكَه.
وأرى أن نختصر الطريق لنعودَ إلى واقع المسلمين بعيد رحيل سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى، فبالله عليك عن أيَّةِ طريقةٍ يتحدث القرآنُ الكريم؟
هل تراه يتحدث عن القرآن نفسه، ولا يسع الإنسانُ الأوحديُّ أن يتعرَّف على مواقع الحقِّ من خلاله؟! حيث إنه سبحانه لم يشأ أن يُعرِّف الناسَ الحقَّ في جميع تفاصيله من خلال القرآن للناس كلِّهم، بل جَعَلَ ذلك بتوسُّط الرجوع إلى أهلِ الذكر الراسخين في العلم.
أَوَ هل ترى القرآن يتحدث عن اتِّباع الصحابة وفيهم المنافق بنصِّ القرآن الكريم {وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاق}(2)، وفيهم الجاهلُ بإقرارهم أنفسهم، وفيهم الوضيعُ والرفيعُ، ومتى اتفقت كلمتُهم، ومتى توحَّدت مشارِبُهم؟!
أَوَ تراه يتحدث عن اتِّباع آحادهم، ومن دون أن يُعيِّن الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أعيانَهم، فيؤول الأمرُ إلى هرجٍ ومرجٍ؟!
أَوَ تراه يتحدث عن الشورى الباطلة، ومتى كان أهلُ الحجى مسموعَةً كلمتُهُم، مرجوعاً إليهم؟!
وهب أنهم تشاوروا، فهل إنَّ الحقَّ يُعرف بالإنتخاب والتصويت من جانب الكثرة وقد قال سبحانه {وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(3)، وهل تَوَحُّدُ جهودِ الجاهلين تُنتِجُ علماً، وهل اجتماع مَن يمكن أن يقعوا في الباطل تُولِّدُ حقاً؟!!
بل المولى سبحانه أرحمُ وألطفُ، فقد دلَّهم على الطريقة، وهداهم إليها، ونَصَبَ لهم أعلاماً عليها، لكنهم تبَّاً لهم ارتدُّوا القهقرى، منعوا أهلَ الحقِّ من قيادة الأمة، فعاثوا في الأرض فساداً، والعاقبة للمتقين.
ومما تقدم تعرف، كيف أنَّ الأخبار وردت عن أئمة العترة الطاهرة (عليه السلام) مفسِّرةً للطريقة في الآية التي نبحث فيها بالولاية لأمير المؤمنين والأئمة من آله (عليهم السلام)، فإنه ما لم يعتقد الإنسانُ بإمامتِهم ولزومِ اتِّباعهم، لهو عن الهدى زائِغٌ، وبالباطل واقِعٌ.
وإنَّ جميع ما مر عند البحث في آية الصراط المستقيم بل وكثير من الآيات السابقة، يشهد لما نحن فيه، ويزيد عليه هنا ما أخرجه محمد بن العباس في تفسيره، بإسناده عن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في قول الله عزَّ وجل {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} قال: يعني استقاموا على الولاية.
وأخرج علي بن إبراهيم القمي ومحمد بن العباس وفرات الكوفي في تفاسيرهم، عن جابر قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في هذه الآية {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} على الطريقة يعني على الولاية.
وفي مناقب ابن شهرآشوب: عبد العظيم الحسني بإسناده إلى جعفرالصادق (عليه السلام) في قوله تعالى {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} والطريقة هي ولاية عليِّ بن أبي طالب والأوصياء (عليهم السلام).
وأخرج الكليني في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} قال: يعني لو استقاموا على ولاية عليِّ بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأخرج فرات في تفسيره عن علي بن محمد بن علي بن عمر الزهري معنعناً عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} قال: لو استقاموا على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأخرج محمد بن العباس في تفسيره بإسناده عن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزَّ وجل {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}؟ قال: يعني على الولاية(4).
-------------------
(1) من وحي القرآن ج 23 ص 159.
(2) سورة براءة الآية 101.
(3) سورة سبأ الآية 13.
(4) مسائل علي بن جعفر الصادق × ص 330 ؛ الكافي ج 1 ص 220 و419 ؛ مختصر بصائر الدرجات ص 168 و174 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 3 ص 443؛ بحار الأنوار ج2 ص151 وج 5 ص 234 وج 24 ص 26 إلى29و101 و110 وج 25 ص 24 وج 36 ص 89 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 389 و391 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 509 إلى512 ؛ تفسير مجمع البيان ج 01 ص 151 ؛ التفسير الصافي ج 5 ص 236؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 1363 ؛ تفسير نور الثقلين ج 5 ص 438 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 727 ـ 728 ؛ الصراط المستقيم ج1 ص 289.
|