قال المفسِّر المعاصر: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} والمراد بهم الذين يملكون رسوخاً في العلم بالمستوي الذي يستطيعون به، أن يفهموا كتابَ الله ودينَه وشريعتَه وحقائقَ الحياة الدالة على وجوده وتوحيده وحركة الحكمة في تجربتهم العملية في الحياة.
وإذا كانت بعضُ الأحاديث قد تحدثت عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، فإنَّ ذلك واردٌ على سبيل أنهم أفضل المصاديق(1).
أقول: قبل محاكمة كلام المفسِّر المعاصر في ما حَمَل عليه النصوص الواردة بأنها لبيان أفضل المصاديق والأفراد، لا بُدَّ من بيان مقدمة ومن خلالها نتعرَّفُ على القاعدة الأصل في حَمْلِ النصِّ الوارد على أنه من باب بيان المصداق أو من باب التفسير.
فاعلم بأنَّ الروايات والأحاديث الواردة في باب التفسير على قسمين، قسمٌ يُصطَلَح على الأخبار فيه أنها أخبارٌ وأحاديثُ تفسيريَّةٌ، وقسمٌ آخر يُصطلح على الأخبار فيه أنها نصوصٌ تطبيقيَّةٌ ومن باب بيان المصادق، وهو ما قد يُعبَّر عنه بالجري، وقد أُخذ هذا المعنى مما ورد في بعض الأخبار.
فقد أخرج العياشي وفرات في تفسيريهما عن أبي جعفر (عليه السلام): يا خيثمة إنَّ القرآن نزل أثلاثاً، فثلثٌ فينا، وثلثٌ في عدونا، وثلث فرائض وأحكام، ولو أنَّ آية نزلت في قوم ثم ماتوا أولئك ماتت الآية، إذاً ما بقيَ من القرآن شيءٌ، إنَّ القرآنَ يجري من أوله إلى آخره وآخره إلى أوله، ما قامت السماوات والأرض.
وروي الكليني بإسناده عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أن يُوصَلَ}(2)، قال: نزلت في رحم آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وقد تكون في قرابتك، ثم قال: فلا تكونن ممَن يقول للشيء: إنه في شيءٍ واحدٍ(3).
وما يرد من الأخبار من باب التفسير، فإنه لا محالة يتعيَّنُ ـ مضافاً إلى وجوب الالتزام بمضمونها ـ عدمُ الخروج عن المضمون توسعةً وتضييقاً.
وأما ما ورد من أخبار الجري والتطبيق، فواضحٌ جداً أنَّ الخروجَ عن المضمون في مقام التطبيق ممكنٌ، بل وقد يكون متعيِّناً.
ولكنَّ أخبارَ الجري يختلفُ الحالُ في أمر تطبيقها باختلافِ نحوِ الجري أولاً، وباختلاف نحوِ المعنى المراد والمقصود من الآية ثانياً.
فليست جميعُ الآيات يُمكن أن نتوسَّع في تطبيقها على المصاديق بحُجَّة أنَّ ما ورد من الأخبار كانت من باب بيان أفضل المصاديق، نعم قد يتعيَّنُ الالتزام بجريان الآية على المصاديق المكافأة والمساوية للمصداق المُبَيَّن في الخبر.
إذن أخبارُ الجري على نحوين، الأول: نحوٌ لا يُمكن أن نلتزم في التوسعة والتطبيق فيه كيفما كان، بل يتعيَّنُ التوسعةُ ضمنَ ضابطةِ مكافأةِ ومساواة المصداق الآخر للمصداق المُبَيَّن في الخبر.
الثاني: نحوٌ نلتزمُ فيه بالتوسعة مع مراعاةِ ضابطةِ انحفاظ المعنى للآية من جهة، ومناسبتِهِ ولو باعتبارٍ معقولٍ مع ما ورد من أخبار متعلِّقة بالآية.
وتوضيحُ ذلك: أنَّ المعنى المبيَّن في الآية، قد يكون مما لا ينطبِقُ إلا على المعصوم (عليه السلام)، وعليه فما يرد من خبرٍ ظاهره أنَّ المرادَ شخصُ أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً، فإننا نلتزم فيه بأنَّ الخبرَ في مقام بيان أفضل المصاديق مثلاً أو ما شاكل، كما ورد في مثل تفسير قوله تعالى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}(4)، ومثل قوله تعالى {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}(5)، وقوله تعالى {وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(6)وغيرها كثير، حيث ورد في بعض الأخبار ما ظاهره الاختصاص بأمير المؤمنين (عليه السلام)، فإننا في مثل هذه نلتزم بأنَّ تلك الأخبار من باب بيان المصداق في زمن نزول الآية مثلاً، ونلتزم بالجري، ولكن لا بالجري على أيِّ مصداق، وإنما على خصوص الأئمة المعصومين من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فلا تموت الآيةُ بموت أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنها جاريَّةٌ في العترة الطاهرة من آله (عليهم السلام).
وقد يكون المعنى المبيَّنُ في الآية لا يأبى عن صدقه ولو بنحوٍ ضعيف على غير المعصوم، فإننا في مثل هذه الحالة نلتزم بالجري، وأنَّ الآية تنطبِقُ أيضاً على غير المعصوم، ولكن لا بمثل النحو الذي تنطبِقُ به علىالمعصوم(عليه السلام).
وغالباً ما يكون الخبرُ الواردُ في بيان المصداق ظاهراً في عدم الاختصاص، كما في قوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}(7)، فإنَّ ما ورد من أنَّ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) هو الصِّدِّيقُ، لا يمنع عن التطبيقِ وجري العنوان ـ عنوان الصدِّيق ـ على كثير من المؤمنين، ونقول في مثله أنَّ ما ورد من أنَّ المراد هو أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، واردٌ في مقام بيان أشرف وأفضل المصاديق والأفراد.
والذي يُهوِّن الخطبَ، أنَّ أخبارَ الجري غالباً ما تكتنِفُ بالقرينة على التوسعة في مقام التطبيق، فضلاً عن أنَّ الآيةَ نفسَها في جميع آيات القرآن الكريم مما يُساعد مضمونُها جداً على ذلك تارة، وتارةً أخرى يكون المعنى المبيَّنُ في الآية مما لا يُمكن الالتزام فيه بالتوسعةِ والجري على غير المعصوم (عليه السلام).
فتلخَّص أنَّ القولَ بأنَّ الخبرَ واردٌ في هذا المورد أو ذاك لبيان أفضل أو أحد المصاديق، قولٌ لا يصح على إطلاقه، بل لا بُدَّ من الأخذ بعين الاعتبار ما ألمحنا إليه.
والآن نأتي إلى الآية المبحوث فيها، فإنها لا يُمكن أن تنطبِق إلا على سيدنا محمد وآله الأطهار صلوات الله ربي وسلامه عليهم أجمعين، ذلك أنَّ الآية لا تتحدث عن العلمِ ببعض تأويل القرآن الكريم، وإنما تتحدث عن العلم بتأويل القرآنِ كلِّه، ومن البديهي عند كلِّ أحدٍ بأنَّ أحداً لا يعلم بتأويل الكتابِ الكريمِ كلِّه إلا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، فإنهم خصوصُ مَن كان الكتابُ آياتٍ بيِّناتٍ في صدورهم الشريفة، وقد قال الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) ـ وورد عن غيرهما من الأئمة (عليهم السلام) وفي أخبار كثيرة وقد تقدم ذلك فراجع ـ في تفسير قوله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(8)، قالا: إيانا عنى.
وهل تعرف أحداً من أصحاب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان غنيَّاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنهم أجمعون كانوا الفقراء لأمير المؤمنين وفي كلِّ شيء، فكيف يكون عند أحدٍ منهم تأويلُ الكتاب والذي هو تبيانُ كل شيء؟! فكيف بغير أصحاب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)؟!!
وسواء جاءت أخبارٌ خاصةٌ تُفيد أنهم (عليهم السلام) وحدهم الراسخون في العلم أم لم يأتِ أيُّ خبر، فإنَّ مئات الأخبار تُفيد هذا المعنى.
ثم إننا جئنا إلى الأخبار الخاصة الواردة في تفسير الآية التي نبحث فيها، فلم نرَ خبراً يُشير إلى أنهم (عليهم السلام) من مصاديق الراسخين في العلم العالِمين بالتأويل، بل وجدنا الأخبارَ ناطقةً بأنهم وحدهم العالِمون بالتأويل.
أقول: فكيف يجوز من السيد محمد حسين فضل الله أن يقول «وإذا كانت بعضُ الأحاديث قد تحدثت عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، فإنَّ ذلك واردٌ على سبيل أنهم أفضل المصاديق؟!!
أَوَ لا يُفرِّقُ السيد محمد حسين بين التعبير المفيد للاختصاص وبين التعبير الذي لا يفيد ذلك؟!!
فإنه لم يرد خبرٌ عنهم (عليهم السلام) مضمونه أنهم من الراسخين أو أنهم بعضُ الراسخين، وإنما ورد نحن الراسخون في العلم، وهل مع تقديم ضمير الرفع «نحن» وتعريف «الراسخون» بالألف واللام يفهم أحدٌ من أهل العربية إلا معنى التخصيص والاختصاص؟!
نعم لو أنه كان ورد في الأخبار مثلاً «نحن راسخون» فإنه لا يمنع عن وجود غيرهم متَّصِفٍ بكونه راسخاً، وكذا لو كان ورد مثل «نحن من الراسخين».
هذا وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يُستعطى الهدى ويُستجلى العمى»(9).
فبالله تعالى عليك، هل تفهم من قوله (عليه السلام) هذا إلا أنهم (عليهم السلام) هم خصوص الراسخين وأنهم وحدهم؟!!
ولا نقصد أنهم وحدهم الراسخون (عليهم السلام)، بمعنى أنه لا يتصِّفُ غيرُهم بكونه راسخاً في العلم بأيِّ نحو من الأنحاء، فإنَّ في كلِّ فنٍّ من الفنون وعلمٍ من العلوم، يُوجد الكثيرُ من الراسخين في كثيرٍ من موارده، ولكننا نقصد أنه لا يُوجد غيرُ أهل البيت (عليهم السلام) مَن هو راسخٌ في العلم بنحوٍ مطلقٍ، وهذا المعنى هو ما يقصدُهُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، بدليل قوله «بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى» فإنَّ أحداً من أمة سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) لا يُستجلى به العمى، ولا يُستعطى به الهدى سوى آل محمد (صلى الله عليه وآله).
ثم إذا كان هناك غير أهل البيت (عليهم السلام) مَن هو راسخٌ في العلم، ومَن هوعالِمٌ بالتأويل، فهذا يعني أنه لا يحتاجُ إليهم، وأنه لا يجبُ عليه الرجوعُ إليهم والتمسكُ بهم، مع أنهم (عليهم السلام) وحدهم سفينةُ نجاةِ هذه الأمة، ووحدهم هم هداةُ الأمة جميعها للحقِّ.
وهل هناك غيرهم أيضاً سادة الورى، وأئمة الهدى، وأعلام التقى، وخزَّان العلم؟!
وهل هناك غيرهم مَن يجبُ الرجوعُ إليه والتمسكُ به؟!
وكيف يكون غيرهم أيضاً عالِماً بتأويل الكتاب كلِّه، ولم يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا بالتمسك بآل محمد (صلى الله عليه وآله)، وإلا بالأخذ عنهم؟!
وكيف يكون غيرهم أيضاً عالِماً بالتأويل، وقد ثبت أنهم وحدهم (عليهم السلام) أهلُ الذكر؟!
ومهما يكن، فقد أخرج الصفار في البصائر، والكليني في الكافي، والعياشي في تفسيره، بإسنادهم عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا الصباح، نحن قومٌ فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ}(10).
وأخرج العياشي وعلي بن إبراهيم القمي في تفسيريهما، والصفار في البصائر، والكليني في الكافي، بإسنادهم عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: والراسخون في العلم هم آلُ محمد (صلى الله عليه وآله).
وأخرج الكليني في الكافي بإسناده عن ابن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الراسخون في العلم، أميرُ المؤمنين والأئمةُ من بعده (عليهم السلام).
وأخرج علي بن إبراهيم القمي في تفسيره، والكليني في الكافي بإسنادهما عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزَّ وجل {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ} قال: فقال: يا أبا عبيدة إنَّ لهذا تأويلاً لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم من آل محمد (صلى الله عليه وآله).
أقول: وهذا الخبرُ نصٌّ في أنَّ هناك ما هو مِن التأويل ما لا يعلمُهُ إلا آلُ محمد (صلى الله عليه وآله)، فكيف يقول المفسِّرُ المعاصر بأنَّ ما تحدَّثت به بعضُ الأحاديث واردٌ على سبيل أنهم أفضل المصاديق؟!
وأخرج سُليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في جوابه لمعاوية: وإني سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ليس من القرآن آيةٌ إلا ولها ظهرٌ وبطنٌ، وما منه حرف إلا وأنَّ له تأويلٌ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الراسخون: نحن آلُ محمد (صلى الله عليه وآله).
وأخرج إبانة أبي العباس الفلكي عن أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) قال: ألا إنَّ الذكرَ رسولُ الله ونحن أهلُه، ونحن الراسخون في العلم، ونحن منارُ الهدى وأعلامُ التقى، ولنا ضُرِبت الأمثال.
أقول: وما ورد في هذا المعنى كثير جداً، وما ورد مما يفيد فائدته أكثر فراجع على سبيل المثال(11).
---------------
(1) من وحي لقرآن ج5 ص 240.
(2) سورة الرعد الآية 21.
(3) تفسير العياشي ج 1 ص10 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 138 ـ 139 ؛ الكافي ج 2 ص 156.
(4) سورة الزمر الآية 33.
(5) سورة الحاقة الآية 12.
(6) سورة الرعد الآية 43.
(7) سورة الحديد الآية 19.
(8) سورة العنكبوت الآية 49.
(9) نهج البلاغة ج 2 ص 27 القسم الأول المختار رقم 141.
(10) سورة النساء الآية 54.
(11) بصائر الدرجات ص 216و222 إلى224 ؛ الكافي ج 1 ص 186و213 و245 و414 ـ 415 وج 8 ص 269 ؛ دعائم الاسلام ج1ص 22 ؛ مختصر بصائر الدرجات ص 225 ـ 226 ؛ كتاب سليم بن قيس ص 306 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 1 ص 245 وج 2 ص 293 وج 3 ص 343 ؛ بحار الأنوار ج 17 ص 130 وج 32 ص 184 وص 189 و 194 ـ 199 و204 وص 291 وج 25 ص 76 تفسير العياشي ج 1ص 11و162 ـ 164 و247 ؛ تفسير القمي ج 1 ص 20 و96 ـ 97 وج 2 ص 152 و451 ؛ تفسير مجمع البيان ج 2 ص241 ؛ تفسير مجمع البيان ج 3 ص 109 ؛ التفسير الصافي ج 1 ص 318 ـ 319 ؛ التفسير الأصفى ج 1 ص 139 ؛ تفسير نور الثقلين ج 1 ص 313 ـ 318 ؛ تفسير كنز الدقائق ج1 ص 6 وج 2 ص 17 ـ 20 ؛ تأويل الآيات ج 1 ص 100 ـ 101 و431 ؛ ينابيع المودة ج1 ص 207 وج 3 ص 204 و236.
|