قال المفسِّر المعاصر: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} ونتوفينك {فَإِنَّا مِنهُمْ مُنْتَقِمُونَ} بعد ذلك، فيما كفروا وساروا في طريق الضلال من دون حُجَّةٍ {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} قبل أن نتوفاك {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} فلن يعجزنا أمرهم على أي حال، فسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون(1).
أقول: وعلى ما وعدنا به أخيراً من أننا سنقتصر على ما ورد من آثار وأخبار موثوق بها، ولكن قبل أن ننقلها لك، نسأل: هل أنَّ المفسِّر المعاصر يرى بأنه سبحانه سينـزل إلى الأرض ويقاتل المرتدِّين والكافرين؟!
أَوَ يجهل بأنه تعالى ما كان إلا بأن يُوكِل الأمرَ بذلك إلى أوليائه؟!
أَوَ يجهل بأنَّ الآية تتحدث عما سيكون من شأنِ وحالِ بعضِ أصحاب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، وأنَّ الآية تُبشِّرُ بإنه سبحانه سينتقم منهم؟!
وهل يجهل بأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وقد سبق التعرض لهذا ـ هو من بشَّر الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمتَه به، وأنه سيتولَّى قتالَ المارقين والناكثين والقاسطين؟!
فهل أنَّ المعاصر أَبْهَمَ المرادَ لأنه يرى انطباقَ الآية على أبي بكر ـ كما هو صريح ما احتمله في آية {وعد الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات} ـ على ما يزعم أبناء السُّنَّة من أنَّ أبا بكر قد تولَّى قتالَ المرتدين مانعي الزكاة على ما افتروه؟!!!
ومهما يكن قال المفسِّرُ المعاصر قولَه، وقال الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقال أئمةُ الهدى من آله (صلى الله عليه وآله) خلافَ قوله، فهل نتحيَّرُ ونتردَّدُ فيما يجب الأخذُ به؟!
فقد أخرج ابن عدي في الكامل، والحاكم النيسابوري في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير، والغطريفي في الجزء الأول من حديثه، وابن عساكر في تاريخه، والحاكم الحسكاني في شواهده، وهؤلاء من أبناء السُّنَّة، بإسنادهم عن مجاهد عن ابن عباس ـ والكلام للنيسابوري ـ أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال في خطبة خطبها في حجة الوداع: لأُقتلنَّ العمالقةَ في كتيبة، فقال له جبريل (عليه السلام): أو عليٌّ قال: أو عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)(2).
وأخرج ابن المغازلي في مناقبه، والحاكم الحسكاني في شواهده، والشيخ الطوسي في أماليه بإسنادهم عن الإمام الباقر عن جابر بن عبد الله الأنصاري ـ والكلام لابن المغازلي ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وإني لأدناهم في حجة الوداع بمنى حين قال ـ: لا أَلفينَّكم ترجعون بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعضٍ، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفني في الكتيبة التي تضاربكم، ثم التفتَ إلى خلفه فقال: أو عليٌّ أو عليٌّ (عليه السلام) ثلاثاً، فرأينا أنَّ جبرئيل (عليه السلام) غمزه، وأنزل الله سبحانه وتعالى على أثر ذلك {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنهُمْ مُنْتَقِمُونَ} بعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}.
أقول: وأخرجه الحسن بن صالح، والحاكم الحسكاني، وفرات الكوفي، بإسنادهم عن أبي صالح عن جابر الأنصاري.
وأيضاً أخرجه الحسكاني وفرات الكوفي، بإسنادهما عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومثله أو قريب منه أخرج محمد بن العباس في تفسيره، بإسناده عن عدي بن ثابت عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
أقول: ولكن في شواهد الحسكاني في خبر أبي صالح عن جابر الأنصاري زيادة: قال جابر: أخبر جبرئيل (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله): إنَّ أمتك سيختلفون من بعدك، فأوحى الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله) {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ}(3) قال: هم أصحاب الجمل، فقال ذلك النبي (صلى الله عليه وآله)، فأنزل الله {وَإِنَّا عَلَى أن نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}(4)... قال جابر:.... فأنزل الله عليه {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} قال: وقعة الجمل.
وأخرج محمد بن العباس في تفسيره، بإسناده عن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجل {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنهُمْ مُنْتَقِمُونَ} قال: قال الله أنتقمُ بعليٍّ (عليه السلام) يوم البصرة، وهو الذي وعد الله رسوله (صلى الله عليه وآله).
أقول: ولحديث جابر الأنصاري شاهدٌ صحيحٌ قطعيُّ الصدور عند أبناء السُّنة، وأيدي العابثين المكذِّبين لم يُجدِهم نفعاً ما جهدوا في إخفائه من ذي قبل.
ذلك أنَّ كونه (صلى الله عليه وآله) قال في حجة الوداع: «لا ألفينكم ترجعون بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض»، قد رواه وأخرجه جميعُ أصحاب الصِحاح وعن كثير من الصحابة، غايته أنَّ بعض مَن أُوتيَ الإنصاف في هذا المقام، قد أورد الحديث بتمامه، ولكنَّ الكثيرين منهم بتروه، ظناً منهم أنهم قادرون على إطفاء نور الله تعالى.
فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري ومسلم في صحيحيهما، وابن ماجة وأبي داود في سننهما، والبيهقي في السنن الكبرى وغيرهم كثير بإسنادهم عن عبد الله بن عمر ـ والكلام لابن حنبل ـ عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في حجة الوداع: ويحكم أو قال: ويلكم لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعضٍ(5).
وأنت إذا ما جمعت بين هذا الخبر وبين خبر جابر المتقدم، وبين ما تقدم منا عند البحث في آية «من يرتد منكم عن دينه»، فإنَّ النتيجة التي تخرج بها، أنَّ ما أخرجه الكثير من أبناء العامة العمياء من حديث ابن عمر المتقدم ومن حديث غيره مما أشرنا إلى مصادره في الهامش، أنهم حذفوا بقيةَ ما قاله (صلى الله عليه وآله)، هذا مضافاً إلى أنَّ ما قدمناه من حديث مجاهد عن ابن عباس برواية النيسابوري والطبراني وغيرهم شاهد أيضاً.
على أنَّ لحديث العمالقة شاهداً، وإن لم تكن شهادته قويَّةً، فلاحظ ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن الجعد في مسنده(6).
وأخرج أبو نعيم الحافظ، ومحمد بن العباس في تفسيره، بإسنادهما عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله تعالى {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنهُمْ مُنْتَقِمُونَ} قال بعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).
أقول: وأخرجه ابن المغازلي بإسناده عن عمر بن عيسى عن جابر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأخرجه الحاكم الحسكاني بإسناده عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله، وأيضاً بإسناده عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، وأيضاً بإسناده عن أبي مالك عن ابن عباس، وأيضاً بإسناده عن الحكم بن ظهير عن السدي مثله.
وأخرج محمد بن العباس في تفسيره، بإسناده عن محمد بن الربيع قال: قرأتُ على يوسف الأزرق حتى انتهيتُ في الزخرف إلى قوله تعالى {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنهُمْ مُنْتَقِمُونَ} قال: يا محمد أمسكْ فأمسكتُ، فقال يوسف: قرأتُ على الأعمش، فلما انتهيتُ إلى هذه الآية، قال: يا يوسف أتدرى فيمَن نزلت؟ قلت: ألله أعلم، قال: نزلت في عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).وأخرج القمي في تفسيره بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بكَ} يا محمد (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة فإنا رادُّوك إليها، ومنتقمون منهم بعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).
ومثله أخرج محمد بن العباس بإسناده عن حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن عمه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأيضاً بإسناده عن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: ورُوىَ ما يفيد هذا المعنى، فقد أخرج ابن مردويه بإسناده عن عبد الرحمان بن مسعود العبدي قال: قرأ عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) هذه الاية{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنهُمْ مُنْتَقِمُونَ} قال: قد ذهب نبيه (صلى الله عليه وآله)، وبقيت أنا نقمتُهُ في عدوِّه(7).
وأختم سائلاً المفسِّر المعاصر، أَوَ تستحي في نَقْلِ مثل هذه المناقب الثابتة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وبشكل لا مجال للتشكيك فيه، حتى من أبناء السُّنَّة؟!!
أو أنَّ وراء الأكمة ما وراءها؟
------------
(1) من وحي القرآن ج20 ص 244.
(2) من مصادر أبناء السُّنة: الكامل ج 7 ص 197 ؛ المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 126 ؛ المعجم الكبير ج 11 ص 62 ؛ تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص451 ؛ شواهد التنزيل ج1 ص 527.
(3) (4) سورة المؤمنون الآية 93 و95.
(5) من مصادر أبناء السُّنة: مسند احمد بن حنبل ج 2 ص 85 و104 وج1ص230 وج 4 ص 358 و366 ؛ صحيح البخارى ج 1 ص 38 وج 5 ص 125ـ 126 ؛ صحيح مسلم ج 1 ص 58 وج 5 ص 107ـ 108 ؛ سنن ابن ماجة ج 2 ص 1300 ؛ سنن أبي داود ج 2 ص 409 ؛ سنن الترمذى ج 3 ص 329؛ سنن النسائي للنسائي ج 7 ص 126 ـ 128 ؛ السنن الكبري للبيهقي ج 6 ص 92ـ 97 ؛ سنن الدارمي ج2 ص67.
(6) المصنف لابن أبي شيببة ج 6 ص 196ـ 197 ؛ مسند ابن الجعد ص 123.
(7) الإفصاح ص 136 ؛ الأمالي للشيخ الطوسي ص 363 ؛ الاحتجاج ج 1 ص 290 ـ 291 ؛ العمدة ص 353 ـ 354 و448 ؛ الطرائف ص 142ـ 144 ؛ بحار الأنوار ج 29 ص 423 ـ 424 و ج 32 ص 193 و290 ـ 291 و312 ـ 313 و317 وج36 ص23 ـ 24 وج37 ص183 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 284 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 279 ـ 280 ؛ التبيان ج 9 ص 202 ؛ تفسير مجمع البيان ج 9 ص 83؛ خصائص الوحى المبين ص 168 ـ 170 ؛ التفسير الصافي ج 4 ص 392 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 1142ـ 1143 ؛ شواهد التنزيل ج 1 ص 526 إلى 529 وج 2 ص 215 إلى 221؛ كشف اليقين ص 399 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 557 إلى560 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 293 ـ 294.
|