قال المفسِّر المعاصر: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ} وذلك لِمَا أنزله الله في سورة مريم وفي غيرها من السور التي تحدثت عن عيسى (عليه السلام)، فقد كان ذلك مثارَ جدلٍ متشنِّج من قِبَل قريش بسبب المضمون الغيبي الذي يختزنه لجهة خلقه من دون أب، ولجهة النظرة إليه في عقيدة النصارى، ولجهة ما أولاه القرآن من تعظيم لشخصيته الرساليَّة التي تلتقي بشخصية الرسول، بما يُؤكد الصفة الرسالية للنبي (صلى الله عليه وآله) باعتباره الحلقة الأخيرة من سلسلة النبوة(1).
أقول: إنَّ هذا المعاصر لا يدَّعي العلمَ بالغيب لنفسه، بل إنه ينفيه حتى ـ إلا بحدود ـ عن جميع الأنبياء، ونحن بدورنا نجزم بأنه جاهلٌ بالغيب، لا لادِّعاءه الجهلَ، بل لأسباب كثيرة جداً.
وإذا ما كان الأمرُ كذلك، فمَن أَطَلعَ السيد محمد حسين على أنَّ الآية نزلت للمناسبة التي ذكرها، أطَّلعَ الغيب، أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟!!
أَوَ تظن أيها القارئ بأنَّ السيد محمد حسين لم يطَّلِع على الأخبار التي سنورد بعضاً منها؟!
بلى قد اطَّلع ولكن، «وللهِ في خَلْقِهِ غِيَرُ»
ونحن نكتفي بذكر بعض ما رد من الآثار والأخبار، ومدَّعي العلم من غير طريق أهل البيت (عليهم السلام) مكذَّبٌ، فكيف بمَن يلتزم بخلاف ما ثبت عنهم؟!!
فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري في تاريخه، والنسائي في السنن الكبرى وفي خصائص أمير المؤمنين، وأبو يعلى في مسنده، والبزار في كشف الأستار، والبلاذري في أنساب الأشراف، وأبو نعيم في فضائل الصحابة، والحاكم النيسابوري في المستدرك، وابن المغازلي في مناقبه، وابن أبي عاصم وابن شاهين في السنة، وابن الأعرابي في معجم الشيوخ والحاكم الحسكاني في شواهده وابن عساكر في تاريخه، وجميعهم من أبناء السُّنة، وفرات الكوفي في تفسيره والشيخ الطوسي في أماليه بإسنادهم عن ربيعة بن ناجد عن عليٍّ (عليه السلام) ـ والكلام للحاكم النيسابوري ـ قال دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا عليُّ، إنَّ فيك من عيسى (عليه السلام) مثلاً، أبغضته اليهودُ حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليس بها.... قال الحاكم النيسابوري: صحيح الإسناد.
أقول: وفي كتاب الحسكاني وفرات زيادة: فقال المنافقون عند ذلك: أما يرضى أن يرفع ابن عمه، حتى جعله مِثْلَ عيسى بن مريم، فأنزل الله تعالى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ}.
أقول: ومن اليقين والمعلوم به، أنَّ حزب الشيطان عَمَدوا إلى حذف الزيادة التي ذكرها الحسكاني وفرات الكوفي.
وأخرج محمد بن سليمان في مناقبه بإسناده عن الشعبي قال: قال علقمة تدري ما مثل عليٍّ (عليه السلام) في هذه الأمة؟ قلت لا، قال: مثله مثل عيسى بن مريم، أحبَّه قومٌ حتى هلكوا في حبِّهِ، وأبغضه قومٌ حتى هلكوا في بُغضِهِ.
أقول:وما في هذين الخبرين يُمثِّل قرينةً واضحةً عند كلِّ غيرِ مُذبذَبِ العقيدة، على صحة ما سننقله لك من أخبار، وهي صحيحة قطعاً، بل دعوى تواترها إجمالاً قريبةً، بل دعوى القطع واليقين بصدورها دعوى حق، لا سيما مع ملاحظتك ما واجَهَتْهُ مثلُ هذه الفضائل من تحريفٍ وتزييفٍ وتضييعٍ وحرقٍ، فضلاً عما عاناه الحُفَّاظُ لها من ظلمٍ وقتلٍ واضطهادٍ، فلا تغفل.
هذا وقد أخرج أبو نعيم، والحاكم الحسكاني، وفرات الكوفي بإسنادهم عن ربيعة بن ناجذ قال: سمعت أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام)يقول: فيَّ نزلت هذه الآية {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ}.
وأخرج الحاكم الحسكاني بإسناده عن عبد الرحمان بن أبي نعم قال: قال لي عليٌّ (عليه السلام): فيَّ نزلت {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ}.
وأخرج أبو السعادات في فضائل العشرة: أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يا عليُّ مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم، أحبه قوم فأفرطوا فيه، وأبغضه قوم فأفرطوا فيه قال: فنزل الوحي {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ}.
وأخرج علي بن إبراهيم القمي في تفسيره بإسناده عن أبي الأعز عن سلمان الفارسي قال: بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس في أصحابه، إذ قال: إنه يدخل عليكم الساعة شبيهُ عيسى بن مريم، فخرج بعضُ مَن كان جالساً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليكون هو الداخل، فدخل عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال الرجل لبعض أصحابه، أما يرضى محمدٌ (صلى الله عليه وآله) أن فَضَّلَ عليَّاً (عليه السلام) علينا، حتى يُشبِّهُهُ بعيسى بن مريم، والله لآلهتُنا التي كنا نعبدها في الجاهلية أفضل منه، فأنزل الله في ذلك المجلس {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ}.
أقول: ومثله أخرج الحاكم الحسكاني بإسناده عن عمر بن علي بن أبي طالب عن عليٍّ (عليه السلام)، وأيضاً بإسناده عن عباية بن ربعي عن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وبإسناده عن الحارث عن عليٍّ (عليه السلام)، وبإسناده عن الأصبغ عن عليٍّ (عليه السلام)، وبإسناده عن أبي رافع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبإسناده هو والخوارزمي في المناقب عن الأصبغ بن نباتة عن عليٍّ (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأيضاً مثله أخرج فرات الكوفي بإسناده عن ابن عمير عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأيضاً عن القاسم بن جندب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأيضاً مثله أخرج محمد بن العباس بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله).
وأخرج الصَّدوق في الخصال بإسناده عن عامر بن وائلة عن عليٍّ (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عليُّ.... إنَّ فيك سنةً من أخي عيسى، فخرج عمر وهو يقول: ضَرَبَه لابن مريم مثلاً، فأنزل الله عزَّ وجل {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ}(2).
--------------------------
(1) من وحي القرآن ج 20 ص 254.
(2) من مصادر أبناء السُّنة: مسند احمد بن حنبل ج1 ص160 ؛ التاريخ الكبير للبخاري ج3 ص281 ـ 282 ؛ المستدرك على الصحيحين ج 3 ص123 ؛ مناقب ابن المغازلى ص71 ؛ خصائص أمير المؤمنين ص 105ـ 106 ؛ السنن الكبري للنسائي ج5 ص137 ؛ مسند أبي يعلى ج1 ص 407 ؛ شرح نهج البلاغة ج 4 ص 105 وج 8 ص 119 ؛ نظم درر السمطين ص92 و104 ؛ كنز العمال ج2 ص500 ـ 501 وج 11 ص 623 وج13 ص 125ـ 126 ؛ الدر المنثور ج2 ص 238 تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 294 ـ 295 ؛ انساب الاشراف ص 120 ـ 121 ؛ سبل الهدى والرشاد ج 11 ص 298 ؛ شواهد التنزيل ج 2 ص 226 إلى 236 ؛ معجم الشيوخ لابن الاعرابي ج 2 ص 19؛ مناقب أمير المؤمنين للخوارزمي ص 324 - 325 ؛ كتاب المجروحين ج 2 ص 122 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 392 ـ 394 ؛ مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي الزيدى المذهب ج 2 ص 478.
من كتب أبناء الفرقة الناجية: الكافي ج 8 ص 57 ؛ الخصال ص 553 ـ 557 ؛ الأمالي للشيخ الطوسي ص 256 ؛ العمدة ص 213 ؛ الطرائف ص 68 ؛ الخرائج والجرائح ج 2 ص 907 ؛ مناقب آل ابي طالب ج1 ص 227 وج 2 ص 74 وج 3 ص 53 ؛ بحار الأنوار ج9 ص 151 ـ 152 و236 وج 71 ص 252 وج 52 ص 284 وج30 217 ـ 218 وج 31 ص 320 وج 35 ص 315 ـ 317 تفسير العياشي ج 1ص 279 ـ 280 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 285 ـ 286 ؛ تفسير فرات ص 402 ـ 407 ؛ تفسير التبيان ج9 ص 209 ؛ مجمع البيان ج 9 ص 89 ؛ خصائص الوحى المبين ص 183ـ 184 ؛ التفسير الصافي ج 2 ص 298 - 300 وج 4 ص 397 ـ 398 ؛ تفسير نور الثقلين ج1 ص 561 ـ 563 وج 2 ص 530 ـ 531 وج 4 ص 609 ـ 611 ؛ تفسير كنز الدقائق ج 2 ص 654؛ تفسير الميزان ج 18 ص 116 ـ 117 ؛ كشف اليقين ص 387؛ تأويل الآيات ج 2 ص 567 - 569.
|