قال المفسِّر المعاصر: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فهم يتنازلون ـ أي الأنصار على ما ذكره في أول كلامه ـ عن حاجاتهم الشخصيَّة لحساب حاجات المهاجرين، بحيث يعيشون الحرمانَ في سبيل إيجاد حالة من الاكتفاء لإخوانهم، وهذه هي القمة العليَّا في القيمة الروحيَّة في البذل والعطاء(1).
أقول: إنَّ السيد محمد حسين فضل الله يرى بأنَّ الآية نزلت في الأنصار. وأبناء الفرقة الناجية وتبعاً لأئمتهم (عليهم السلام)، يعتقدون بإنها نزلت بآل محمد (صلى الله عليه وآله).
بل الأمر تعدى أتباع الحق، فقد أيدهم في ذلك بعض أبناء الضلال، فقدأخرج الحاكم الحسكاني ـ من أبناء السُّنة ـ بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال: نزلت في عليٍّ وفاطمةَ والحسنِ والحسينِ (عليهم السلام).
وأخرج الحاكم الحسكاني في شواهده، وأبو يوسف يعقوب بن سفيان في تفسيره، وعلي بن حرب الطائي، ومجاهد ـ وهم من أبناء السُّنة ـ ومحمد بن العباس في تفسيره، والشيخ الطوسي في الأمالي بإسنادهم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فشكا إليه الجوعَ، فبعث رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن لهذا الرجل الليلة؟ فقال عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام): أنا له يا رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأتى فاطمة (عليها السلام) فقال: ما عندك يا ابنة رسول الله؟ فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، لكنَّا نُؤثِرُ ضيفنا، فقال عليٌّ (عليه السلام): يا ابنة محمد (صلى الله عليه وآله)، نومي الصبية، وأطفئي المصباح، فلما أصبح عليٌّ (عليه السلام)، غدا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره الخبر، فلم يبرح حتى أنزل الله عزَّ وجل{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ....}.
وقال الطبرسي في مجمع البيان ـ بعد أن روى حديث أبي هريرة عن بعض أبناء الضلال، وفيه فقال:رجل من الأنصار بدلاً من فقال: عليٌّ (عليه السلام)ـ: وأما الذي رويناه بإسناد صحيح عن أبي هريرة، أنَّ الذي أضافه ونوَّم الصبية وأطفأ السراج عليٌّ وفاطمة (عليهما السلام).
أقول: حديث أبي هريرة والذي فيه أنَّ الآية نزلت في رجل من الأنصار، قد رواه أبناءُ الضلال عن أبي هريرة من طريق فضيل بن غزوان(2) والذي قال فيه العجلي في كتابه معرفة الثقات وهو من أئمة أبناء السُّنة، وكان فضيل عثمانياً (3)، وأنت تعرف أنَّ كونه عثمانياً وحده يكفي للقطع ببطلان ما رواه ذاك الضال، وهل تحتمل في عثمانيٍّ أن يشهد بفضيلةٍ لأمير المؤمنين (عليه السلام)، نعم يروي فضيلةً فيه، فيما إذا لم يكن هناك مجالٌ له للكذب أو التدليس.
وفي الاحتجاج عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديث مناشدة أمير المؤمنين للقوم، قال: نشدتُكُم بالله هل فيكم أحدٌ أُنزلت فيه هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قالوا: لا.
وأخرج محمد بن العباس في تفسيره بسند صحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)ـ لعليٍّ (عليه السلام) ـ: أما إنَّ جبرئيل قد أنبأني بذلك، وقد أنزل اللهُ فيك كتاباً {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وأخرج ابن المشهدى في مزاره بسند صحيح عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عن أبيه (عليهم السلام) ـ في زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) المختصة بيوم الغدير ـ وفيها: وفيكَ أنزل الله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.(4)
أقول: ومع ثبوت نزول الآية في أمير المؤمنين (عليه السلام) بسند صحيح قطعاً، فما هو تعليقك على كلام هذا المفسِّر المعاصر والذي ادعى أنَّ المقصود هم الأنصار؟!
على أنَّ الحاكم الحسكاني، وأبا يوسف يعقوب بن سفيان، وعلي بن حرب الطائي، ومجاهد هم من أبناء السُّنة، وقد ذكروا بأنَّ الآية نزلت في أمير المؤمنين والسيدة الزهراء (عليهما السلام)!!
على أنه على أقل التقادير سوءً، فقد كان بإمكان المفسِّر المعاصر أن يُوهم عبارته، ولا يُصرح بنزول الآية بمَن ادَّعى نزولها فيهم كذباً وافتراءً.
والعجيب، أننا رأيناه في كثير من الآيات والتي ورد في تفسيرها عن أئمة العترة الطاهرة (عليهم السلام) أحاديث صحيحة وموثوقة وكثيرة جداً، رأيناه يلتزم بإدخال مَن أخرجه أهل البيت عن الآية، بينما هنا فإنه مضافاً وفي كثير مما مرَّ عليك، نراه يدخل الغريب ويُخرج أهل البيت (عليهم السلام)!!
وإني لأعجب من هذا المعاصر، كيف يُفسِّر الآية بما ثبت عن أئمة العترة الطاهرة (عليهم السلام) خلافه، وكيف يُخرج مَن خصَّهم الله تعالى بالفضل، وكيف يُدخل مَن أخرجهم الله تعالى حيث إنه لا فضل فيهم عنده تعالى!!
----------------------------------------
(1) من وحي القرآن ج22 ص 115.
(2) من مصادر أبناء السُّنة:المستدرك على الصحيحين ج4 ص 130 ؛ المعجم الأوسط للطبراني ج3 ص 317. أقول: وقال الطبراني عقيب إيراده لخبر أبي هريرة : لم يروِ هذا الحديث عن فضيل بن غزوان إلا محمد بن فضيل.
(3) معرفة الثقات ج2 ص 207
(4) شرح الأخبار ج 2 ص 404 ؛ الأمالي للشيخ الطوسي ص 185 ؛ الاحتجاج ج 1 ص 209؛ مناقب آل ابي طالب ج 1 ص 347 ؛ المزار لابن المشهدى ص 273 ؛ حلية الأبرار ج 1 ص 213 وج 2 ص 263 ـ 266 ؛ بحار الأنوار ج 13 ص 342 ـ 343 وج 36 ص 59 ـ 61 وج 14 ص 28 ـ 29 و34 و ج 47 ص 232 ؛ تفسير مجمع البيان ج 9 ص 430 ـ 431 ؛ التفسير الصافي ج 5 ص 157 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 1285ـ 1286 ؛ تفسير نور الثقلين ج 5 ص 285 ـ 286 ؛ شواهد التنزيل ج 2 ص 331 - 332 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 678 ـ 679.
|