قال المفسِّر المعاصر: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} في عملية انتماء ودعوة {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في حركةِ ممارسةٍ ومعاملةٍ، لأنهم ينطلقون من قاعدة الإيمان العميق، والوعي المنفتح، والإرادة القوية، والعقلية الجادة(1).
أقول: إنَّ القارئ الكريم بمقدوره جداً ـ مهما كان مستواه الثقافي ووعيه الفكرى ـ أن يتعرف بنفسه على مواقع الخلل في كلام هذا المعاصر، وإنَّ ما مر في طيَّات المباحث المتقدمة كافٍ وافٍ إن شاء الله تعالى.
قال السيوطي في الدر المنثور والشوكاني في فتح القدير: أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ـ من أبناء السُّنة ـ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إفترقت بنو إسرائيل بعد موسى أحد وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا فرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا فرقة، وتفترق هذه الأمةُ على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا فرقة، فأما اليهود فإنَّ الله يقول {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(2)، وأما النصارى فإن الله يقول {مِنهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}(3)، فهذه التي تنجو، وأما نحن فيقول {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فهذه التي تنجو من هذه الأمة.
وأخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده ـ وأخرجه العياشي في تفسيره عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك ـ بإسناده عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك قال: ذكر رجلٌ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) له نكاية في العدو واجتهاد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):... فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وتعلوا أمتي على الفرقتين جميعاً بملة، اثنتين وسبعين في النار وواحدة في الجنة، قالوا: مَن هم يا رسول الله؟ قال الجماعات. قال يعقوب بن زيد: وكان عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، إذا حدَّث بهذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تلا فيه قرآناً، {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ثم ذكر أمة عيسى فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} إلى قوله {سَاء مَا يَعْمَلُونَ}(4)، ثم ذكر أمتنا {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(5).
أقول: بل ورد عن أبناء السُّنَّة ما فيه إدانتهم بشكل صريح جداً
قال السيوطي في الدر المنثور: وأخرج البخاري ومسلم وابن ماجة عن معاوية بن أبي سفيان: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر الله لا يضرُّهم مَن خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله...
وقال أيضاً: وأخرج الحاكم وصحَّحه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحقِّ حتى تقوم الساعة.
وقال القرطبي في تفسير الآية: في الخبر أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: هم هذه الأمة، إلى أن قال: فدلَّت الآية على أنَّ الله عزَّ وجل لا يُخلي الدنيا في وقتٍ من الأوقات من داعٍ يدعو إلى الحق(6).
أقول: والعجيب أنَّ القرطبي قال قوله، وهو لا يجهل بأنَّ الداعي إلى الحقِّ لا يكون داعياً إلى الحق حقاً ما لم يكن على الحقِّ، وهل إلا المعصوم مَن يكون داعياً إلى الحق؟!
وهل يخلو شخصٌ عن باطل وعن الدعوة إلى الباطل؟!
وهل هناك مَن يعلم بكل مواقع الحق إلا المعصوم؟!
وإذا ما كان غير المعصوم يجهل ببعض مواقع الحق، فكيف يمكن أن يدعو إلى الحق؟!
وإذا ما كان الأمر كذلك، أفلا ينبغي أن نتعرَّف على مَن هم أصحابُ الفرقة الناجية، وحديثُ افتراق الأمة على بضع وسبعين فرقة، مما اتفق على روايته الشيعة والسنة؟
فكيف نرى المفسِّر المعاصر لم يعطِ لِمَا تُوحيه الآية ـ بحسب ما يزعمه لنفسه من مذهب الاستيحاء ـ أيَّ اهتمام، أَوَ لا تُوحي الآية عنده بشيء؟! حتى مع ملاحظته لما نقلناه من أخبار؟!!!
ولقد كفاه أبناء السُّنة وما ورد من طرقهم مؤونةَ بيانِ أصحاب هذه الآية المباركة، مع أنَّ كل الأسباب تدعوهم إلى عدم ذكر مثل هذه الحُجَجِ، والتي فيها إدانةٌ واضحةٌ لهم.
فقد أخرج أبو معاوية الضرير، والحاكم الحسكاني ـ من أبناء السُّنة ـ بإسنادهما عن ابن عباس في قوله عزَّ وجل {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} قال: يعني من أمة محمدٍ أمةٌ يعني علي بن أبي طالب (عليه السلام) {يهدون بالحق} يعني يدعون بعدك يا محمد إلى الحق للخير.
وأخرج الحسكاني من كتاب فهم القرآن عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في معنى قوله {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال: هذه الآية لآل محمد (صلى الله عليه وآله).
وأخرج أبو نعيم، وابن مردويه في مناقب أمير المؤمنين، والخوارزمي في المناقب ـ وهؤلاء من أبناء السُّنة ـ بإسنادهما عن زاذان عن عليٍّ (عليه السلام) قال: تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهم الذين قال الله تعالى {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} وهم أنا وشيعتي.
وروى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج عن جندب بن عبد الله الأزدي قال: كنتُ جالساً بالمدينة حيث بُويِع عثمان، فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو.... قال المقداد: أما واللهِ لقد تركتُ رجلاً ـ يعني علياً (عليه السلام)ـ من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون.
واخرج الصفار في البصائر بإسناده عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال: هم الأئمة.
وأخرج الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة (عليهم السلام) و صفاتهم: إنَّ الله عزَّ وجل أوضحَ بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله) عن دينه...... يهدون بالحق وبه يعدلون.
وأخرج أيضاً بسند صحيح عن عبد الله بن سنان قال: سالت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزَّ وجل {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال: هم الأئمة.
وأخرج الكشي في رجاله بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) ناقلاً عن أبي ذر قوله.... ولقد أصبحتُ غنياً بولاية عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وعترته الهادين المهديين الراضين المرضيين (عليهم السلام)، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون فكذلك سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول.
وفي دعاء عرفة عن الصادق (عليه السلام) تقول: اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلهم أئمةً يهدون بالحق وبه يعدلون.
وأخرج الطبرسي في الاحتجاج ـ كما عن المجلسي في البحار ـ بإسناده عن علقمة بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام): أنه مما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع: معاشر الناس، أنا صراطُ الله المستقيم الذي أمركم الله باتباعه، ثم عليٌّ (عليه السلام) من بعدي، ثم ولدي (عليهم السلام) من صلبه أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
وفي تفسير العياشي عن ابن الصهبان البكري قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: والذي نفسي بيده لتفترقنَّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فهذه التي تنجو من هذه الأمة.
وفي تفسير العياشي أيضاً عن محمد بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام): نحن هم(7).
هذا، وَلْيُعلَم بأنَّ محققي أبناء الفرقة الناجية، قد أقاموا مئات الأدلة على أنَّ مذهبنا نحن أَتباعَ آل محمد (صلى الله عليه وآله) هو المذهب الحق، وهو الفرقة الناجية في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة.
-----------------------
(1) من وحي القرآن ج 10 ص 296.
(2) سورة الأعراف الآية 159.
(3) سورة المائدة الآية 66.
(4) سورة المائدة الاية 65 ـ 66.
(5) من مصادر أبناء السُّنة: المنثور ج 3 ص 136 و149 ؛ فتح القدير ج 2 ص 258 ؛ مسند أبي يعلى ج 6 ص 342 ؛ تفسير ابن كثير ج 2 ص 79.
(6) من مصادر أبناء السُّنة: مسند احمد بن حنبل ج 4 ص 99 و252 ؛ سنن الدارمي ج 2 ص 213 ؛ صحيح البخارى ج 8 ص 149 ؛ أمالي المحاملي ص 424 ؛ المعجم الكبير ج 19 ص 358 تفسير القرطبي ج 7 ص 329 ؛ تفسير ابن كثير ج 2 ص 280 ـ 281 ؛ الدر المنثور ج 1 ص 321.
(7) بصائر الدرجات ص 56 ؛ الكافي ج 1 ص 203 إلى414 ؛ روضة الواعظين ص 96 و284ـ 285 كتاب الغيبة للنعماني ص 224 ـ 225 ؛ المزار للمفيد ص 163 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 1ص 264 وج 2 ص270 و281 وج 3 ص 505 ؛ المزار لابن المشهدى ص 456 ؛ الصراط المستقيم ج1ص 295 – 296؛ بحار الأنوار ج 22 ص 398 وج 23 ص 5 وج 24 ص 144 و146 و151 وج 25 ص 150-151 وج 28 ص5 ـ 6 وج 35 ص 399 -400 وج 36 ص 186 -187وج 37 ص 212؛ الغدير ج 9 ص 115ـ 116 ؛ شرح نهج البلاغة ج 9 ص 56 - 57 ؛ تفسير العياشي ج 1 ص 331 وج 2 ص 42 ـ 43 ؛ تفسير القمي ج 1 ص 249 ؛ التبيان ج 5 ص 6 و40 ـ 41 ؛ تفسير مجمع البيان ج 4 ص 400 ؛ تفسير جوامع الجامع ج 1 ص 724 - 725 ؛ التفسير الصافي ج 2 ص 63 و ج 2 ص 171 وص 255 ـ 256 ؛ التفسير الأصفى ج 1 ص 415 ؛ تفسير نور الثقلين ج 1 ص 779 وج 2 ص 86 وج 2 ص 104ـ 105 ؛ تفسير الميزان ج 8 ص 367 – 368 ؛ كشف اليقين ص 389 تأويل الآيات ج 1 ص 189 ـ 190؛ شواهد التنزيل ج 1 ص 269 إلى270 وص280 ـ 281 ؛ المناقب للخوارزمي ص 331 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 327 – 328 وج 3 ص 361.
|