قال المفسِّر المعاصر: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} فلم يكن عهدهم كلمةً في اللسان، يمكن أن تنطلق من هنا لتتبخر في الهواء، فلا تثبت في موقع المعاناة، بل كان عهدهم التزاماً في العقل والعاطفة والسلوك مما يتطابق فيه القول والفعل، فلا مجال لأية ثغرة فيما بينهما، مما يمكن أن ينفذ إليه الباطل، {فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ} فمات في سبيل الله، فكانت نهايته في هذا الموقع دلالة على صدقه {وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ} الشهادة أو النصر في المعارك المقبلة التي ينتظرها المجاهدون ليشاركوا فيها وليؤكدوا عهدهم لله في مواقعها(1).
أقول: ولكن بعد أن ورد في كتب أبناء السُّنة وفي روايتهم أنَّ الآية نزلت في أنس بن النضر(2)ـ عم المنكِر لفضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) أنس بن مالك ـ فلا أدري ما هو الوجه الذي دعا هذا المعاصر إلى عدم التعرض لشأن نزول الآية في مَن يخصُّ سيدَ الخلق الرسولَ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، انتصاراً للحقِّ ولأهله.
فقد أخرج الحاكم الحسكاني ـ من أبناء السُّنة ـ في شواهد التنـزيل بإسناده عن أبي إسحاق عن عليٍّ (عليه السلام) قال: فينا نزلت {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ...}، فأنا واللهِ المنتظرُ وما بدَّلتُ تبديلاً.
وبإسناده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس في قول الله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} يعني علياً وحمزة وجعفراً (عليهم السلام) {فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ} يعني حمزة وجعفراً {وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ} يعني علياً (عليه السلام)، كان ينتظر أجله والوفاء لله بالعهد والشهادة في سبيل الله، فواللهِ لقد رُزِق الشهادة.
وقال القندوزي ـ من أبناء السُّنة ـ في ينابيع المودة: أخرج أبو نعيم الحافظ ـ من أبناء السُّنة ـ عن ابن عباس وعن جعفر الصادق (عليه السلام) قالا: قال عليٌّ (عليه السلام): كنا عاهدنا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، أنا وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث، على أمر وَفَيْنَا به لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله)، فتقدمني أصحابي وخلفت بعدهم، فأنزل الله سبحانه فينا {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ} حمزة وجعفر وعبيد {وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أنا المنتظرُ وما بدَّلتُ.
وقال القندوزي أيضاً: وفي الصواعق المحرقة لابن حجر ـ من أبناء السُّنة ـ أنَّ علياَ (عليه السلام) سُئِل وهو على منبر الكوفة عن قوله تعالى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} فقال: اللهم اغفر لي، هذه الآية نزلت فيَّ، وفي عمي حمزة، وفي ابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وأما حمزة قضى نحبه شهيداً يوم أُحُد، وأما أنا فأنتظرُ أشقى الأمة يخضب هذه من هذه ـ وأشار بيده الى لحيته ورأسه ـ وقال (عليه السلام): عهد عهده اليَّ حبيبي أبو القاسم (صلى الله عليه وآله).
وفي مناقب ابن شهرآشوب عن السدي ـ من أبناء السُّنة ـ قال: وقد ثبت أنَّ قوله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}، وقوله تعالى {وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ}(3) نزلتا في عليٍّ (عليه السلام).
وقال ابن جبر في نهج الإيمان: ذكر المفسِّرون العلماء أنَّ هذه الآية نزلت في حقِّ علي بن أبي طالب وحمزة (عليهما السلام).
وأخرج الصَّدوق في الخصال، والمفيد في الاختصاص، ومحمد بن العباس في تفسيره، بإسنادهم عن الحارث عن محمد بن الحنفية قال: أتى رأسُ اليهود عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) عند منصرفه عن وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين إني أُريد أن أسالك عن أشياء لا يعلمها إلا نبيٌّ أو وصيُّ نبي، قال (عليه السلام): سل عما بدا لك يا أخا اليهود.... إلى أن قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ولقد كنتُ عاهدتُ اللهَ عزَّ وجل ورسولَه (صلى الله عليه وآله) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وَفَيْنَا به لله عزَّ وجل ولرسوله (صلى الله عليه وآله)، فتقدمني أصحابي وتخلفتُ بعدهم لما أراد الله عزَّ وجل فأنزل الله فينا {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.
أقول: وأخرجه أيضاً الشيخ الصَّدوق في الخصال، والشيخ المفيد في الاختصاص بإسنادهما عن أبي جعفر (عليه السلام)(4).
--------------
(1) من وحي القرآن ج 18 ص 286.
(2) فضائل الصحابة ص56 ؛ صحيح البخارى ج2 ص205 ؛ صحيح مسلم ج6 ص46 ؛ أسباب نزول الآيات ص 237 ـ 238 ؛ تفسير القرطبي ج 14 ص 159.
(3) سورة الأعراف الآية 46
(4) دعائم الاسلام ج 2 ص 354 ؛ الخصال ص 376 ؛ شرح الأخبار ج 1 ص 353 ؛ الاختصاص ص 174 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 1 ص 304 وج 2 ص 288 ـ 289 و299 ؛ المزار لابن المشهدى ص 281 ؛ سعد السعود ص 122؛ المزار للشهيد الأول ص 87 ؛ الصراط المستقيم ج 1 ص 197 ـ 198 و256 و281 ؛ بحار الأنوار ج 20 ص232 وج 22ص 277 و24 ص30 و33 وج 31 ص 349 وج 33 ص 53 وج 35 ص 408 إلى410 و414 و417 - 419 وج 36 ص 103 و123 وج 38 ص 178 و219 ؛ تفسير القمي ج1ص 307 وج2 ص 188ـ 189 ؛ التبيان ج 5 ص 318 وج 8 ص 329 ؛ تفسير مجمع البيان ج 5 ص140 وج 8 ص 145 ؛ التفسير الصافي ج 4 ص 180 ـ 181 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 988 ؛ تفسير نور الثقلين ج 4 ص 258 - 260 ؛ تفسير الميزان ج 16 ص 304 ؛ نهج الايمان ص 182 و514 ـ 515 ؛ كشف اليقين ص 371؛ تأويل الآيات ج 1 ص 85 وج 2 ص 449 - 450 ؛ شواهد التنزيل ج 2 ص 5 - 6 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 285 وج 2 ص 421؛ المناقب للخوارزمي ص 200 و279.
|