الآية الثالثة والستون قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} سورة الحديد الآية 28
وقوله تعالى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أنزَلْنَا} سورة التغابن الآية 8
قال المفسِّر المعاصر: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} في الدنيا في ما يتمثَّلُ به الوعيُ الإيماني في طريق الهدى الذي يُضيء للناس طريقهم، فلا تشتبه عليهم المواقف، ولا تنحرف بهم المواقع، كما يُضيء لهم آفاق الفكر في ما يواجهونه من شبهات وإشكالات في الآخرة، حيث يتحرك النور بين أيديهم وعن أيمانهم، ليسيروا به في طريقهم إلى الجنة.
وقال أيضاً: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أنزَلْنَا} لأنَّ طبيعة المعطيات التي بين أيديكم من البيِّنات الواضحة تفرض عليكم هذا الإيمان، وتُؤكِّد لكم طبيعة هذا الإشراق الداخلي للحقيقة الإيمانية في العقيدة والشريعة ومنهج الحياة، في هذا القرآن الذي أنزلناه ليكون النور الروحي الذي يُشرِق في عقولكم، ويمتدُّ في قلوبكم(1).
أقول: لا شبهة بأنَّ أيَّ شخصٍ لن يتأتَّى ولن يتيسَّر له أن يتحرك وأن يسير في أيِّ موقع إلا بنور، فإنَّ السائر في الظلمة سيضلُّ الطريق لا محالة.
وقد تحقق في مذهب أبناء الفرقة الناجية، أنَّ طريقَ السعادة الأُخرويَّة وبلوغَ الأمن يوم العرض على المولى سبحانه، لا يكون إلا من خلال الالتزام بتعاليمه سبحانه، ومن الواضح جداً أنَّ تعاليمه تعالى ليس لها من سبيل، إلا سبيل آل محمد (صلى الله عليه وآله).
فالنورُ في ذاك السبيل يتمثَّلُ بالحق ليس إلا، وليس إلا آلُ محمد (صلى الله عليه وآله) أركانَ الهدى ومنارَ التقى، فهُمُ الأدلاء على الله تعالى، والحافظون لحدوده، والمبيِّنون لشرعه، والهادون إلى سبيلِهِ سبيلِ الحق.
وقد تحقَّق في مذهب أبناء الطائفة المرحومة أيدهم الله تعالى وخذل المنافقين والمُذبذَبِين أنَّ آلَ محمد (صلى الله عليه وآله) وحدهم يُمثِّلون النورَ في ظلام غياهب الفتن، وأنهم وحدهم النورُ بكلِّ ما تعنيه الكلمة وفي جميع السبل والميادين، وأنَّ مَن سلك مسلكهم واهتدى بهديهم له النجاة يوم العرض على الله تعالى، وأنَّ كلَّ مَن سلك غير سبيلهم، فإنَّ النار موعده وبئس المهاد.
فهم الهدى وغيرهم ليس إلا الضلال، وهم النور وليس الظلام إلا في سواهم، وهم الحق وليس الضلال إلا سبل غيرهم سبل الشيطان وسبل مَن يُوحي إليهم من أوليائه.
وقد كثرت المذاهب ومن اليوم الأول، وتشعبت فرق وضلت أمم، والصراع بين الحق والباطل كان وما زال، والمولى اللطيف بعباده أرشدهم إلى أهلِ الحقِّ ورُوَّادِهِ، وأمرهم بالتمسكِ بهم، وركوبِ سفينتهم، والرجوعِ إليهم.
على أنَّ ما يفيد بأنَّ آل محمد (صلى الله عليه وآله) وحدهم هم النور، أكثر من أن يُحصى شيءٌ منه في هذه العجالة، لذا لا يحتاج أبناءُ الفرقة الناجية في مقام الاعتقاد بأنَّ المقصود من النور في هذه الآية هم أهل بيت سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله)، لا يحتاجون إلى ورود نصٍّ خاص مفسِّرٍ للآية بذلك، لنهوض مئات الأحاديث الموثوقة بإفادة هذا المعنى.
فهل أن هذا المفسِّر المعاصر لا يعي هذا؟ ولكنَّ اللهَ سبحانه يعلم بأنَّ هذا المعنى يعرفه ويعيه جيداً عوامُ شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله).
على أنه قد وردت النصوص الخاصة أيضاً في هذا، فلماذا لم يتكلَّف مَن يدَّعي الولاء لآل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو الإشارة إلى هذا المعنى؟!!
فقد أخرج الحاكم الحسكاني ـ من أبناء السُّنة ـ في الشواهد، ومحمد بن العباس في تفسيره، بإسنادهما عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله) في قول الله تعالى {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} قال: عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وبإسنادهما عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} قال: إمام عدل تأتمون به علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وأخرج الحسكاني أيضاً بإسناده عن سعد بن طريف عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى{وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} قال: مَن تمسك بولاية عليٍّ (عليه السلام) فله نور.
وأخرج الحسكاني في الشواهد، وفرات الكوفي في تفسيره، بإسنادهما عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله تبارك وتعالى {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} قال: أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وأخرج الكليني في الكافي، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} قال: يعني إماماً تأتمُّون به.
وأخرج القمي في تفسيره، والكليني في الكافي، بإسنادهما عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} قال: إمام تأتمُّون به.
قال المعاصر ـ كما سبق نقله ـ: إنَّ النور هو القرآن، وقال أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله) أنهم (عليهم السلام) هم النور.
فقد أخرج القمي في تفسيره، والكليني في الكافي، والحلي في مختصر البصائر بإسنادهم عن أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزَّ وجل {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أنزَلْنَا} فقال: يا أبا خالد، النورُ واللهِ الأئمةُ من آل محمد (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة، وهم واللهِ نورُ الله الذي أنزل، وهم واللهِ نورُ الله في السماوات وفي الأرض، والله يا أبا خالد، لنورُ الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار.... الحديث(2).
أقول: ولا تظن اننا نُنكِر بأنَّ القرآن نور، ولكنا معاشرَ الإماميَّة نلتزم بانه نور من خلال تبيين أهل البيت (عليهم السلام) وبتوسط التمسك بهم والرجوع إليهم. وقد مرَّ في هذا الكتاب إشارات كثيرة في مقام البرهنةعلى هذا المعنى.
نعم، نحن وإن نلتزم بما أشرنا إليه، غير أنَّ ذلك لا يمنع عن أن يُوصف القرآن بالنور في كلامه تعالى، ولا مجال لنا للتفصيل.
---------------
(1) من وحي القرآن ج22 ص 52 وص 259.
(2) الكافي ج 1 ص 194 ـ 195و430 ؛ مختصر بصائر الدرجات ص 96 ؛ الاحتجاج ج 1ص 77؛ مناقب آل ابي طالب ج 2 ص 278 وج 3 ص 36 و153 ؛ الصراط المستقيم ج 1ص 296 و303؛ بحار الأنوار ج 9 ص 242 ـ 243 وج 23 ص 315 -319 وج 24 ص 336 و340 وج 37 ص 132و211وج 43 ص 279 و307 وج 51 ص 60 وج 64 ص 54 -55 وج 90 ص 21؛ تفسير القمي ج 2 ص 352 ـ 353 و371 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 467 ـ 468 ؛ تفسير غريب القرآن ص 282؛ التفسير الصافي ج 2 ص 61 وج 5 ص 140 ـ 141 وج 5 ص 170و183 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 1271 و1311 ؛ تفسير نور الثقلين ج 5 ص 252 ـ 253 و316 ـ 318 و 341 ؛ تفسير الميزان ج 5 ص 244 وج 91 ص 302 ؛ شواهد التنزيل ج 2 ص 308 إلى310؛ تأويل الآيات ج 2ص 668 ـ670و686 ـ 688و696 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 353 ؛ مجمع البحرين ج 4 ص 389
|