قال المعاصر: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} بما يشتمل عليه من أفكار تفتح العقل والقلب والروح على ذكر الله، الذي يتحول إلى عنصر إيجابي فعَّال في إغناء شخصيتك الرساليَّة التي يزيدُها ذكرُ الله قوةً وحركيَّةً في اتجاه الدعوة والعمل في سبيله، وفي إغناء شخصية قومك في التزامهم بالخط المستقيم الذي يقودهم إلى الخير، ويُركِّز أقدامهم على قاعدة الحق(1).
أقول: فضلاً عن أنَّ هذا المعاصر تفوَّه بالباطل في ما يخصُّ الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ويزيد الأمرُ قبحاً أنَّ القرآن نزل نجوماً نجوماً، وهذا يعني على التفسير الذي ذكره، أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد تحوَّل إلى شخص آخر مع نزول آخر آية من القرآن الكريم، فقد كان ينقصُهُ القوةُ والحركيَّةُ، وكان يقوي ذلك عنده ويزيد تبعاً لتفتُّحِ عقله وقلبه وروحه مع كلِّ آية تنزل، ولو كان يسمح المجال، لدللناك على أنَّ هذا الالتزام من الاعتقاد في حقِّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، مما يُخرج صاحبه عن المذهب الحق قطعاً.
وأما قوله: «في إغناء شخصيتك الرسالية» فصريح في أنَّ له (صلى الله عليه وآله) شخصيتين، شخصيته الرسالية، والثانية شخصيته الذاتية.
وقد التزم هذا المعاصر في كثير من كلماته وأقواله في حق الأنبياء بما لا يتوافق مع ما هو المحقَّقُ والمتسالَمُ عليه في مذهب أبناء الفرقة الناجية، وكان مرجع ذلك منه إلى التزامه بأنَّ نفيَ ما التزم به محققو أبناء الطائفة المرحومة يتنافى عنده مع بشريَّة الأنبياء والمعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، وها هو هنا يُصرِّح بأنَّ القرآن يُغني الشخصيَّةَ الرساليةَ للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولكن في المقابل تبقى شخصيتُهُ الذاتيَّة على حالها!!!
ولولا أننا التزمنا بالإعراض عن مناقشته والاقتصار على نقل بعض الأخبار لضيق المجال، لعرضنا أمام القارئ الكريم ما ينطوي عليه قولُهُ من مفاسد، وما يتضمنه من باطل، وقد اكتفينا بالإشارة الإجمالية، ولعلها تكفي فيما إذا تأمل القارئ شيئاً قليلاً وأمعن النظر.
أقول: فضلاً عن هذا كله، فإنَّ المعاصر لم يُشِر أولاً إلى مَن هم القوم المعنيُّون في الآية، بل وأكثر من ذلك فقد فسَّر الآية بمعنى يُستفاد منه أنَّ القوم هم جميعُ أمة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، مع أنَّ الأخبار الواردة عن أئمة العترة الطاهرة (عليهم السلام) في أنهم هم المعنيُّون والمخصوصون كثيرة جداً.
فقد أخرج أبو نعيم في مسند أبي حنيفة ـ وهما من أبناء السُّنة ـ بإسناده عن أبي حنيفة عن عطاء عن ابن عباس في قوله {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} قال: هذا القرآنُ شرفٌ لك، ولقومك، ولبني هاشم(2).
أقول: قوله «ولبني هاشم» إما غلط من النساخ أو تحريف من المُكذِّبين، بل الصحيح هو «ولقومك بني هاشم» من دون أداة العطف.
وقال السيوطي ـ من ابناء السُّنة ـ في الدر المنثور: وأخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي ـ وجميعهم من أبناء السُّنة ـ عن مجاهد في قوله {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} قال: يقال ممَّن هذا الرجل؟ فيقال: مِن العرب، فيقال: مِن أيِّ العرب؟ فيقال: مِن قريش، فيقال: مِن أيِّ قريش؟ فيقال: مِن بني هاشم.
وأخرج الخطيب البغدادي ـ من أبناء السُّنة ـ في تاريخه بإسناده عن محمد بن زكريا قال: حضرت مجلساً فيه عبيد الله بن محمد بن عائشة التيمي، وفيه جعفر بن القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي، فقال لابن عائشة: ها هنا آية نزلت في بني هاشم خصوصاً، قال: وما هي؟ قال: قوله {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}، فقال ابن عائشة: قومه قريش وهي لنا معكم، قال: بل هي لنا خصوصاً(3).
وأخرج الصفار في البصائر، والكليني في الكافي، بإسنادهما عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة ولد الزنا تجوز؟ قال: لا، فقلت: إنَّ الحَكَم بن عتيبة يزعم أنها تجوز، فقال: اللهم لا تغفر له ذنبه، ما قال الله للحكم {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} فليذهب الحَكَم يميناً وشمالاً فواللهِ لا يُوجدُ العلمُ إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل.
وأخرج الصفار، ومحمد بن العباس في تفسيره، بإسنادهما عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قول الله تعالى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال: نحن هم.
وأخرج الصفار والكليني بإسنادهما عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(4) قال: رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) الذكر، والأئمةُ (عليهم السلام) هم أهل الذكر، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال: نحن قومُه، ونحن المسؤولون.
وأخرج القمي في تفسيره والكليني في الكافي بإسنادهما عبد الرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال: إيانا عنى.
وأخرج الصفار بإسناده عن معاوية قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال: إنما عنانا بها.
وأخرج الكليني بإسناده عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجل{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال أبو جعفر (عليه السلام): نحن قومه ونحن المسؤولون.
وأخرج محمد بن العباس في تفسيره، بإسناده عن سُليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) في قوله عزَّ وجل {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال: فنحن قومه ونحن المسؤولون.
وبإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قوله عزَّ وجل {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال: إيانا عنى(5).
أقول: فهل أنَّ المعاصر لم يكن ممَّن رأى هذه الأخبار التي نقلناها؟!
أو أنه رآها، ولكنه فهم من قول الأئمة (عليهم السلام) «إيانا عنى» أنهم (عليهم السلام) يقصدون بـ «إيانا» جميع الأمة؟!!
------------
(1) من وحي القرآن ج 20 ص 244.
(2) مسند أبي حنيفة ص 137.
(3) من مصادر أبناء السُّنة: تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني ج 3 ص 199 ؛ الدر المنثور ج 6 ص 18 ؛ تاريخ بغداد ج 10 ص 316 ؛ تهذيب الكمال ج 19 ص 151.
(4) سورة النحل الآية 43
(5) بصائر الدرجات ص 29 ـ 30 وص 57 إلى61 ؛ الكافي ج 1 ص 210 ـ 211 و400 وج 7 ص 395 ؛ دعائم الاسلام ج 1 ص 22 ؛ بحار الأنوار ج 2 ص 91 ـ 92 وج 16 ص 359 وج 18 ص 165 وج 23 ص 173 إلى175 و180 و186 ـ 187 وج 29ص 456 وج 32 ص 291 وج 36 ص 24 و154 وج 37 ص 183 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 286 ؛ التفسير الصافي ج 4 ص 393 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 1143 ؛ تفسير نور الثقلين ج 3 ص 56 وج 4 ص 604 ـ 605 ؛ بشارة المصطفى ص 299 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 561 ـ 562 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 294و357.
|