قال المعاصر ـ بعد أن أورد رواية ابن عباس والتي أخرجها الزمخشري في تفسير الكشاف، وبعد أن نقل رواية القمي عن الصادق (عليه السلام): وفي مطلق الأحوال، إذا كانت هذه الآيات قد نزلت بهذه المناسبة، فإنها في الوقت الذي تدل فيه على فضل أهل البيت (عليهم السلام) في تكريم الله لهم، فإنها لا تختص بهم في الإيحاء الأخلاقي العام للشخصية المسلمة التي تقدم النموذج القدوة، بل تنطلق لتتحرك في الخط الأخلاقي في كل زمان ومكان(1).
أقول: لن نسمح لأيِّ جاهل متعنِّت، أن يعمد إلى التكلُّم بصياغة تشكيكيِّةٍ لِمَا تواتر وثبت بنحو قطعي.
ولا أظن أنَّ أحداً يستفيد من كلام هذا المعاصر إلا أنه مُشكِّك بثبوت نزول آيات سورة هل أتى في أهل البيت (عليهم السلام)، وإلا فلو لم يكن مشكِّكاً فكيف يقول: «إذا كانت هذه الآيات...... »؟!!
فهل يصح ممَن يعتقد بشيءٍ أو يجزم بثبوته، أن يقول إذا كان الشيءُ الكذائيُّ ثابتاً؟!!!
على أنه مضافاً إلى تشكيكه، نراه قد عمد إلى الجزم بعدم اختصاص الآيات بأهل البيت (عليهم السلام).
وقبل استعراض بعض الأخبار وبعض ما ورد في هذا المجال، يعجبني أن أنقلَ كلاماً للعلامة المجلسي ذكره في البحار في معرض الردِّ على بعض المنكِرين لنـزول آيات سورة الدهر في أهل البيت (عليهم السلام).
قال قدس الله سره الشريف: وأما ما ذكره معانِدٌ آخر خذله الله، بأنه هل يجوز أن يُبالِغ الإنسان في الصدقة إلى هذا الحدِّ، ويُجوِّع نفسه وأهله حتى يُشرف على الهلاك؟! فقد بالغ في النصب والعناد وفضح نفسه وسيفضحه الله على رؤوس الأشهاد، ألم يقرأ قوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(2)؟! أَوَ لم تكفِ هذه الأخبار المتواترة في نزول هذه السورة الكريمة، دليلاً على كون ما صدر عنهم فضيلة لا يساويها فضل(3).
أقول: فإذا ما كانت الأخبارُ متواترةً، فهذا يعني أنها معلوم صدورها، وبما أنَّ نقاش العلامة المجلسي مع أحد أبناء السُّنة، فهذا يعني أنَّ الأخبار معلوم صدورها عند السُّنة فضلاً عن أنها كذلك عند أبناء الفرقة الناجية، وإلا فلو لم تكن الأخبار متواترة حتى عند أبناء السُّنة، فلا يصح من مثل المجلسي إلزام خصمه بما لا يرى الخصم ثبوته.
وأما ما جزم به المفسِّر المعاصر بأنَّ الآيات غيرُ مختصَّة بأهل بيت محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيكفي لردِّه قول المجلسي أخيراً: «على كون ما صدر عنهم فضيلة لا يساويها فضل».
أَوَ هل يرى شيعيٌّ أنَّ أحداً يداني أهل البيت (عليهم السلام)، حتى يعمد هذا المعاصر إلى نفي اختصاص الآيات بآل محمد (صلى الله عليه وآله)؟!!
ومهما يكن فإجمال مناسبة وقصة النزول ـ التي شكَّك المعاصر بثبوتها ـ على ما أخرجه الحاكم الحسكاني وفرات الكوفي بإسنادهما عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لما مرض الحسن والحسين (عليهما السلام)، عادهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لي: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك لله نذراً، أرجو أن ينفعهما الله به، فقلت: عليَّ لله نذر لئن بَرِء حبيبايَ مِن مرضهما لأُصومنَّ ثلاثة أيام، فقالت فاطمة: وعليَّ لله نذر لئن برء ولدايَ مِن مرضهما لأُصومنَّ ثلاثة أيام، وقالت جاريتهم فضة: وعليَّ لله نذر لئن برء سيدايَ مِن مرضهما لأُصومنَّ ثلاثة أيام. فألبس الله الغلامين العافية فأصبحوا وليس عند آل محمد (صلى الله عليه وآله) قليل ولا كثير، فصاموا يومهم وخرج عليٌّ (عليه السلام) إلى السوق فإذا شمعون اليهودي في السوق وكان له صديقاً، فقال له: يا شمعون، أعطني ثلاثة أصوع شعيراً وجزةَ صوف تغزله فاطمة (عليها السلام)، فأعطاه شمعون ما أراد، فأخذ الشعير في ردائه والصوف تحت حضنه، ودخل منزله فأفرغ الشعير وألقى الصوف، فقامت فاطمة (عليها السلام) إلى صاع من الشعير، فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص، وصلَّى عليٌّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المغرب ودخل منزله ليفطر، فقدَّمت إليه فاطمة (عليها السلام) خبز شعير وملحاً جريشاً وماءً قراحاً، فلما دنوا ليأكلوا وقف مسكين بالباب فقال: السلام عليكم أهلَ بيت محمد (صلى الله عليه وآله)، مسكين من أولاد المسلمين، أطعمونا أطعمكم الله من موائد الجنة، فقال علي:
فاطمُ ذاتَ الرشد واليقيـن ****يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين****جاء إلينا جائعاً حزيـن
قد قام بالباب له حنيـن ****يشكو إلى الله ويستكيـن
كل أمرء بكسبه رهين
فأجابته فاطمة (عليها السلام) وهي تقول:
أمرك عندى يا ابن عم طاعة **** ما بي لؤم لا ولا ضراعـة
فإعطـه ولا تدعـه ساعـة **** نرجو له الغياث في المجاعة
ونلحق الأخيار والجماعـة ****وندخل الجنة بالشفاعــة
فدفعوا إليه أقراصهم وباتوا ليلتهم لم يذوقوا إلا الماء القراح، فلما أصبحوا عمدت فاطمة (عليها السلام) إلى الصاع الآخر فطحنته وعجنته وخبزت خمسة أقراص وصاموا يومهم، وصلَّى عليٌّ (عليه السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المغرب، ودخل منزله ليفطر فقدمت إليه فاطمة (عليها السلام) خبز شعير وملحاً جريشاً وماءً قراحاً، فلما دنوا ليأكلوا وقف يتيم بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله)، أنا يتيم من أولاد المسلمين، أستشهد والدي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم أُحُد، أطعمونا أطعمكم الله على موائد الجنة، فدفعوا إليه أقراصهم وباتوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الثالث عمدت فاطمة (عليها السلام) إلى الصاع الثالث وطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص، وصاموا يومهم وصلَّى عليٌّ (عليه السلام) مع النبي (صلى الله عليه وآله) المغرب ثم دخل منزله ليفطر، فقدمت فاطمة (عليها السلام) إليه خبز شعير وملحاً جريشاً وماءاً قراحاً، فلما دنوا ليأكلوا وقف أسير بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة أطعمونا أطعمكم الله، فأطعموه أقراصهم فباتوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا إلا الماء القراح، فلما كان اليوم الرابع عمد عليٌّ (عليه السلام) ـ والحسن والحسين (صلى الله عليه وآله) يرعشان كما يرعش الفرخ ـ وفاطمة (عليها السلام) وفضة معهم فلم يقدروا على المشي من الضعف، فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال (صلى الله عليه وآله): إلهي هؤلاء أهل بيتي يموتون جوعاً، فارحمهم يا رب واغفر لهم، إلهي هؤلاء أهل بيتي فاحفظهم ولا تنسهم، فهبط جبرئيل وقال: يا محمد (صلى الله عليه وآله)، إنَّ الله يقرأ عليك السلام ويقول: قد استجابَ دعاءك فيهم، وشكرتُ لهم، ورضيتُ عنهم، واقرأ {إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} إلى قوله تعالى {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً}.
وأخرجه الصَّدوق في الأمالي بإسناده عن سلمة بن خالد عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام).
أقول: وأخرجه الحاكم الحسكاني بإسناده عن روح بن عبد الله عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وأخرجه الثعلبي في تفسيره،والحاكم الحسكاني في الشواهد، والخوارزمي في المناقب، وابن الأثير ـ وجميعهم من أبناء السُّنة ـ في أسد الغابة، ومحمد بن سليمان في المناقب، بإسنادهم عن مجاهد عن ابن عباس، وأيضاً أخرجه محمد بن سليمان بإسناده عن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس، وأخرجه القمي في تفسيره بإسناده عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وأخرجه فرات في تفسيره بإسناده عن أبي رافع، وأخرجه هو والحاكم الحسكاني ومحمد بن سليمان بإسنادهم عن زيد بن أرقم، وأيضاً بإسنادهما هما والثعلبي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس، وأخرجه الحاكم الحسكاني بإسناده عن عطاء عن ابن عباس، وأيضاً بإسناده عن الأصبغ بن نباتة وعن سعيد بن لمجر عن ابن عباس، وأخرجه الخوارزمي في المناقب بإسناده عن الضحاك عن ابن عباس، وأخرجه محمد بن العباس في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيدي عن ابن العباس.
وفي مناقب ابن شهرآشوب: ورواه أبو صالح، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وعطاء، وقتادة، ومقاتل، والليث، وابن عباس، وابن مسعود، وابن جبير، وعمرو بن شعيب، والحسن بن مهران، والنقاش، والقشيري، والثعلبي، والواحدي في تفاسيرهم، وصاحب أسباب النزول، والخطيب المكي في الأربعين، وأبو بكر الشيرازي في نزول القرآن في أمير المؤمنين، والأشنهي في اعتقاد أهل السنة، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الفضل النحوي في العروس في الزهد.
أقول: وجميع مَن ذكرهم ابن شهرآشوب ـ باستثناء الصحابِيَّيْن ابن عباس وابن مسعود ـ هم من أئمة أبناء السُّنة.
وقال القرطبي ـ من أبناء السُّنة ـ في تفسيره: قال أهل التفسير: نزلت في عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام) وجارية لهما اسمها فضة.
وقال السيوطي ـ من أبناء السُّنة ـ في الدر المنثور: وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}(4) قال: نزلت هذه الآية في عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي روضة الواعظين: وقد رُويَ هذه الأبيات لخزيمة بن ثابت ـ الصحابي المشهور ـ ذو الشهادتين:
أنا مولى لفتى أنزل فيه هل أتى إلى متى أكتمه أكتمه إلى متى
أقول: وورد بطرق كثيرة وفي ما لا يُحصى من الكتب والمصادر فراجع على سبيل المثال(5).
------------------
(1) من وحي القرآن ج23 ص 272.
(2) سورة الحشر الآية 9.
(3) بحار الأنوار ج 35 ص 257.
(4) سورة الإنسان الآية 8.
(5) الأمالي للشيخ الصَّدوق ص 329 ـ 333 ؛ عيون أخبار الرضا ج 1 ص 205 ؛ كمال الدين وتمام النعمة ص 95 ؛ كفاية الأثر ص 210 ؛ روضة الواعظين ص 95 و131 و163؛ المسترشد ص 406؛ شرح الأخبار ج 2 ص 352 - 353 ؛ الاختصاص ص 97 و150 –151 ؛ الاحتجاج ج 1 ص 164ـ 165 و202؛ مشكاة الأنوار ص 173 ؛ بحار الأنوار ج 31 ص 336 وج 35 ص240 إلى 257 وج 39 ص 223 ـ 224 وج 40 ص 105 ـ 106 ؛ الغدير ج 3 ص 106 إلى 116 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 398 ـ 399 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 519 إلى 529 ؛ تفسير التبيان ج 10 ص 211؛ تفسير مجمع البيان ج 10 ص 209 ـ 210 ؛ تفسير جوامع الجامع ج 2 ص 731 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 1385 ؛ تفسير نور الثقلين ج 5 ص 469 ـ 477 و526؛ تفسير الميزان ج 20 ص 132 إلى 135 ؛ مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي ج 1 ص162 إلى 185 ؛ مسار الشيعة ص 42 ؛ الافصاح ص 160 ـ 161 ؛ الارشاد ج 2 ص 29 - 30 ؛ الخرائج والجرائح ج 2 ص 539 -540 و890 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 2 ص 211 وج 3 ص 30 و106 و146 إلى 152 ؛ العمدة ص 345 ـ 349 ؛ المزار لابن المشهدى ص 558 ؛ التحصين ص 584 ؛ سعد السعود ص 141 ـ 142 و291 ـ 292 ؛ اليقين ص 353 ؛ الطرائف ص 107 إلى110 و416 ؛ الصراط المستقيم ج 1 ص 162 و182 ـ 184 ؛ كتاب الأربعين ص 508 و518 ؛ مناقب أهل البيت للشيرواني ص 79 ـ80 ؛ خصائص الوحي المبين ص 175 - 180 ؛ الاستغاثة ج 2 ص 32 – 33 و57
من مصادر أبناء السُّنة: شواهد التنزيل ج 2 ص 392 إلى 413 ؛ زاد المسير ج 8 ص 145 ؛ تفسير القرطبي ج 91 ص 130 ـ 135 ؛ الدر المنثور ج 6 ص 299 ؛ المناقب للخوارزمي ص 267 إلى 275 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 748 إلى752 ؛ أسد الغابة ج 5 ص 530 ـ 531 ؛ لسان الميزان ج 1 ص 164 ؛ الإصابة ج 8 ص 281 ؛ البداية والنهاية ج 5 ص 351 ؛ السيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 649 -650 ؛ جواهر المطالب ج 2 ص 308 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 278 - 279 وج 3 ص 207 و 354.
|