قال المعاصر: في هذه الآية حديث عن الأمة المسلمة بأنها «وسط» في ما جعله الله للمسلمين من موقع قيادي في الحياة وأنها شاهدة على الناس.
ثم إنه بعد بضع صفحات قال تحت عنوان اعتراض وجواب:
وقد أثار المفسرون اعتراضاً في هذا المجال، وخلاصته أن الشهادة تفرض الموقع المتميز للشاهد على المشهود عليه، ونحن نعلم أنَّ الأمة تضمُّ في جماعتها المطيع والعاصي والجاهل والعالم، فكيف يمكن أن يكون الجميع شهوداً في موقع الشهادة؟
والجواب: أنَّ الأسلوب القرآني قد جرى على الحديث عن البعض بصفة الكل، باعتبار اشتمال الكل عليه، تماماً كما قد حدثنا عن بني إسرائيل، مع أن الصفات التي ذكرها كانت صفات البعض. وعلى هذا، فإنَّ كون الأمة شاهدةً يتحرك في نطاق وجود العناصر الكثيرة في داخلها ممَن يصلحون لمثل هذا الموقع الكبير، وهم الطليعة الواعية المؤمنة التقية المنضبطة التي تفهم الإسلام حق الفهم، وتعيه حق الوعي، وتمارسه حق الممارسة، وتحمله بروح رسولية رائدة. إنها النخبة الواعية الموجودة في كل زمان ومكان، التي يقف في طليعتها الأئمة الطاهرون والعلماء الواعون والأولياء الطيبون والمجاهدون العاملون الذين يحملون هذه الشهادة إلى الله لأنهم يعيشون روح الرسالة، ويعيشون من خلالها الوعي لكل حياة الناس، كما هو الرسول في رسالته وفي وعيه لأمته(1).
أقول: لا مجال لدينا لمناقشته في فهمه لمعنى الشهادة، وأنها لا يمكن أن تنطبق إلا على المعصوم (عليه السلام)، وتكون هذه الآية من الشواهد القطعيَّة على صحة عقيدة المذهب الحق، فإنهم وحدهم مَن يدينون الله تعالى بالتولِّي لأئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ووحدهم مَن يعتقدون بوجود الحُجَّةِ الإلهيَّةِ المعصومِ المطهَّرِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ووحدهم مَن يعتقدون بعدم خلوِّ الأرض مِن حُجَّةٍ لله تعالى.
ولكن أئمة الضلال من جهة جحودهم لِمَا استيقنته أنفسُهُم مِن وضوحِ الأدلة، وثبوتِ الحُجَّةِ، وقيامِ البرهان القاطع على الأئمة الأطهار من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فقد أشكل عليهم الأمر في الآية التي نبحث فيها، فعمدوا إلى إعمال عقولهم القاصرة، وأفكارهم الفاترة في مقام التفصِّي عن ما يَرَوْنَه إشكالاً عويصاً.
ونحن أبناءَ الفرقة الناجية، لا يُعهد منَّا، ولا يُبتلى أحدنا بما يُسمِّيه الجُهَّال إشكالاً، فإنَّ التزامَنَا بما ورد عن أئمة العترة الطاهرة (عليهم السلام)، وحِرْصَنَا على التمسكِ بهم والرجوعِ إليهم، قد سدَّ على الشيطانِ وأوليائِه سُبُلَ إغوائنا.
على أنه يكفي لنا في مقام الردِّ على شبهة وضلال أبناء السُّنة وتابعيهم، أن نتمسك بما رواه أئمتُهُم في صحاحهم من أنَّ معنى «وسطاً» أي عدلاً(2).
إذ إذا ما كان المقصود من «وسطاً» هو ما ذكره أبناء السُّنة في صحاحهم، فأين هو العدل الثابت لغير المعصوم (عليه السلام) في جميع شؤونه وتقلباته، والعجب أنهم لا يلتزمون بعصمة الشهداء على الأمة!!
هذا وقد أخرج الصفار في البصائر، والكليني في الكافي، بسند صحيح عن بريد العجلي قال سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} قال: نحن أمةُ الوسط، ونحن شهداءُ الله على خلقه، وحُجَّتُهُ في أرضه.
وأيضاً وأخرج الصفار والكليني، بسند صحيح ـ وأخرجه العياشي في تفسيره ـ عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} قال: نحن الأمةُ الوسط، ونحن شهداءُ الله على خلقه، وحُجَّتُهُ في أرضه.
وأخرج الصفار والكليني، بسند صحيح ـ وأخرجه أيضاً الحاكم الحسكاني في شواهد التنـزيل ـ عن سُليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إنَّ الله طهَّرنا وعصمنا وجعلنا شهداءَ على خلقه، وحُجَّتَه في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعلَ القرآنَ معنا، لا نفارقُهُ ولا يفارقُنا.
وأخرج الصفار بسند صحيح ـ وأخرجه العياشي في تفسيره ـ عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} قال: نحن الأمةُ الوسط، ونحن شهداؤُهُ على خلقه، وحُجَّتُهُ في أرضه.
وأخرج أيضاً بسند آخر عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} قال: نحن الشهداءُ على الناس بما عندهم من الحلال والحرام وما ضيَّعوا منه.
وأخرج الصفار بإسناده عن عمر بن حنظلة ـ وأخرجه العياشي في تفسيره ـ قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} قال: هم الأئمةُ (عليهم السلام).
وأخرج الصفار بإسناده عن ميمون البان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}قال: عدلاً ليكونوا شهداء على الناس، قال: الأئمة (عليهم السلام)، ويكون الرسولُ (صلى الله عليه وآله) شهيداً عليكم، قال: على الأئمة (عليهم السلام).
وأخرج فرات في تفسيره بإسناده عن محمد بن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: نحن أمةُ الوسط، ونحن شهداءُ الله على خلقه.
وأخرج فرات أيضاً بإسناده عن ميمون البان مولى بني هشام عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} قال أبو جعفر: منا شهيدٌ على كلِّ زمانٍ، عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) في زمانه، والحسنُ (عليه السلام) في زمانه، والحسينُ (عليه السلام) في زمانه، وكلُّ مَن يدعو منا إلى أمر الله تعالى(3).
أقول: ولست أدري مِن أين جاء هذا المعاصر ببدعة شمول لفظ الشهداء الوارد في الآية للعلماء الواعين وللمجاهدين الطيبين، وهذه الأخبار الصحيحة السند الواضحة الدلالة نصٌّ في أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) هم وحدهم الشهداء، وأنهم خصوص المعنيين والمقصودين، فضلاً عن أنَّ الآية لا يمكن بحال أن تنطبق بمدلولها على غير المعصوم.
وأيضاً فهل أنَّ المعاصر فَهِمَ من قولهم (عليهم السلام) في تفسيرهم الآية التي نبحث فيها «نحن الشهداءُ على الناس» و «نحن الأمةُ الوسط» و «هم الأئمة (عليهم السلام)» فَهِمَ أنَّ الأئمة (عليهم السلام) من جملة المصاديق، وأُوحيَ إليه بأن العلماء الواعين والمجاهدين الطيبين هم أيضاً من جملة الشهداء؟!!
---------------------------
(1) من وحي القرآن ج 3 ص 73 - 80.
(2) من مصادر أبناء السُّنة: مسند احمد بن حنبل ج 3 ص 9 ؛ صحيح البخارى ج 5 ص 151 وج 8 ص 156 ؛ سنن الترمذى ج 4 ص 275 ؛ المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 268 ؛ مجمع الزوائد ج 6 ص 316.
(3) بصائر الدرجات ص 83 و102 ـ 103 ؛ الكافي ج 1 ص 190 ـ 191 ؛ دعائم الاسلام ج 1 ص 21 ؛ كتاب سليم بن قيس ص 407 و464 ؛ مختصر بصائر الدرجات ص 65 ؛ شرح الأخبار ج 2 ص 345 ؛ مناقب آل ابي طالب ج 2 ص 283 وج 3 ص 313 -314 و522 ؛ بحار الأنوار ج 16 ص 357 وج22 ص441 وج 23 ص 334 و336 ـ 337 و342 ـ 343 و349 ـ 351 وج 24 ص 157 وج 35 ص 389 ؛ تفسير العياشي ج1 ص 62 ـ 63 ؛ تفسير القمي ج 1 ص 63 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 61 - 62 ؛ تفسير التبيان ج2 ص 8 ؛ تفسير مجمع البيان ج 1ص 417 ؛ التفسير الصافي ج1 ص 196- 197 ؛ التفسير الأصفى ج1 ص 70 ؛ تفسير نور الثقلين ج1 ص 133 ـ 135 ؛ تفسير كنز الدقائق ج1 ص 361 ـ 362 ؛ تفسير الميزان ج 1 ص 332 ؛ شواهد التنزيل ج 1 ص 119؛ بشارة المصطفى ص 298 ؛ تأويل الآيات ج 1 ص 81.
|