الأنبياء عليهم السلام فوق الشبهات

( في تعرية كتاب مراجعات في عصمة الأنبياء )

 

الجزء الأول

محمد  محمود  مرتضــى العاملي

 

دار السيرة

بيروت ـ لبنان / قم ـ إيران

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

الطبعة الاولى : 5/5/1422 هجرية

 

مقــدمــة

 

بســم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين .

 

لماذا تثار المسألة مجدداً ؟

يبدو أن الاعتبارات التي أملت علينا القيام بالردّ على كثير من الأفكار والآراء التي طرحت من قبل بعض الذين يحسبون أنفسهم الطليعة التي تقود تيار التغيير والثورة على الموروث والقديم  ما تزال قائمة !

فقد كان يفترض أن تقف المجابهة عند حدودها الطبيعية ، لكن قيام هذا "البعض" بإطالة المشهد الجدالي زمنياً ، يبدو مثيراً للريبة، وباعثا على التفكير مليا بإعادة النظر في أصل المشكلة ، والبحث عن جذورها ، وعن الأسباب الكامنة وراء الحرص الشديد من قبل هؤلاء على عدم إقفال هذا الملف، وتحريكه من حين إلى آخر، وإذكاء ناره وتأجيجها ، لأن المتابع والمستقرىء لكل نتاج ذلك "البعض" والمؤيدين له ، يبدو له أن هناك مسلكا يتّسم بالإصرار على المضي قدما في هذا النهج والتمسك بخيوطه الخفي منها والمعلن!

إنحراف لا يمكن تجاهله

عندما يلاحظ المتتبع يرى أن الذي يُطرح ، إنما هو برنامج متكامل ، تجمع بين خطوطه مفاصل أساسية تبرز بوضوح حجم هذا المشروع الذي يراد تثبيته وترسيخه، وهو أمر يثير الارتياب والشك !

إقتحام المسلمات والمفارقات الحداثوية

 نجد أن هذا "البعض" وفي أول خطوة عملية له لإظهار ولائه للحداثة ، وإبراز صدقه في أنه في عداد "الحداثويين"، صرّح بأنه "يسعى لاقتحام المسلمات". حيث أن هذا الاقتحام يمثل "بطاقة" الدخول إلى عالم الحداثة والمجتمع الحداثوي المميز !!

ولكن ثمّة مفارقة واضحة في خطاب هؤلاء وسلوكهم العلمي  فإن هؤلاء الداعين إلى "تنقية التراث" من الشوائب ، وإعادة النظر في النصوص المقدسة وفق المناهج العلمية الحديثة ، والآليات الإجرائية المستحدثة ، مدّعين أن ما قدم من نصوص ليس نهائيا ولا يصح جعله كذلك ، فالمتقدمون رجال ونحن رجال على حدّ تعبيرهم ، ففي الوقت الذي يقولون فيه ذلك ، يعتبرون أن ما يحاولون إرساءه من قواعد ومبادىء عقلانية بزعمهم، هي قضايا راسخة ونهائية، لا يجوز المساس بها ، ولا تصح مناقشتها أو توهينها، لأن ذلك مساس بأصحابها ، ومحاولات للنيل من رموزها الذين هم بنظرهم رموز الدين والإسلام ، فيصبح التراث فجأة وسيلة لإضفاء نوع من القداسة عليهم ، وبطاقة حصانة لهم من أي نقد .

 

ذاتية بلباس الموضوعية

ولهذا وذاك، تصبح ممارساتهم التي تهدف إلى توهين المعتقد والركائز الاعتقادية للناس تمثل أقصى حالات الانفتاح الفكري، وأرقى مراتب الحوار العلمي، أما مناقشة أفكارهم وإظهار زيفها وبطلانها فيمثل "أبشع حالات العدوان" وأكثر المناهج "تخلفاً "، لأنها تريد النيل من "الرموز" بتصوّرهم، و"إسقاط الساحة" في ظلام "الفتن والتخلف"!!

وهنا تتلبس الذاتية بلباس الموضوعية، وترتدي "الأنا" رداء "النحن"، ويغدو التحجّر "انفتاحا"، والتخلف "حداثة"

صخب أجوف

ومن جهة أخرى فإن ذلك الذي يدعو إلى إعادة النظر بالموروث، مدعيا احتواء هذا الموروث على الكثير من الخرافات لا نجد له عملا واحدا تحقيقيا، ولا محاولة جدّية واحدة تدلل على عمله بما يدعو الناس إليه.

بل إننا لو تأملنا فيما يقدمه للناس من تشكيكات، وما يرسمه من علامات استفهام على أنه من إبداعاته الفكرية، لألفيناه قديما قد " أكل عليه الدهر وشرب " وأبطله علماؤنا منذ عشرات أو مئات السنين، وهو في الواقع، وبعد تصفيته من المفردات اللفظية الجديدة، وفصله عن الصخب الذي يثير في القارىء إحساسا بالرهبة والإحباط معا، ليس إلا شرابا معتقا قدم في قوارير جديدة وملمعة.

وتكون النتيجة هي: أن هؤلاء يرفضون ما عندهم ويسقطونه، ثم لا يقدمون أي شيء سواه مما يدّعونه أو يدعون الناس إليه، ورغم ذلك لا يتوقف ضجيجهم وصخبهم.

 

الشاذ المطلوب

والمتأمل في نصوص هؤلاء التي تحدثوا فيها عن التراث ، يجد أنهم قد أنزلوا أنفسهم المنزلة التي لا يستحقون، فتكلموا بما لا يعرفون ، وتطاولوا على البتّ فيما لا يفقهون مع إيجابهم على الناس قبول كلامهم فيه وترك ما يؤثر من خلافه .

ولا أدل على قلة اطلاع هذا " البعض" على معارف التراث ، وضعف استيعابهم لمقاصده من اتباعه للشاذ والغريب من الأقوال ، فكأنه مولع بكل ما يشذ ، ويستوحش من كل متسالم عليه مشهور !

محاولة استكشاف أصل المشكلة

إن جذور المشكلة عند هؤلاء ، وسبب انحرافهم عن جادة الصواب، وتنكرهم للتراث تكمن في مسلكهم المعرفي ، وكيفية تكوّن شخصيتهم الفكرية ز ومن سمات هذا المسلك :

الثقافة المنفردة

وما نتحدّث عنه هو قيام " البعض" بالعمل على تكوين بنية ثقافية عامة وواسعة بشكل منفرد ومنعزل، من خلال قراءة الكتب ومطالعتها على تنوّعها واختلافها وتشعبها .

إذ ثمة فرق كبير بين من هو كذلك، وبين آخر يعمل في دائرة علمية واسعة متشكلة من مجموعة كبيرة من رواد المعرفة، وتحت إشراف أساتذة كبار كفوئين تقوم بينهم روابط متينة من التواصل والتباحث ، وتدور فيما بينهم المناقشات والمطارحات حول المسائل ، الأمر الذي يؤثر في بلورة واستخراج المواهب الكامنة وصقلها ، كما تعمل على تحفيز القدرات الكامنة، مما يساعد على تكوين ذهنية علمية صحيحة على أسس منهجية صحيحة لا ينفرد الفرد فيها برأيه ، بمعزل عن الآخرين

فالثقافة الأحادية الجانب ، بالغاً ما بلغ شأنها تبقى محكومة للنظرة الضيقة والأبعاد المحدودة لهذا الشخص ، وبالتالي عدم النفاذ إلى أعماق المسائل وجواهرها .

ولعل من أخطر مساوىء هذا المسلك الأحادي الجانب، أن صاحبه يصبح عرضة لانحرافات خطيرة ، تشكل مع الوقت بنية ذهنية تعمل على تكوين خصائصها واتجاهاتها الفكرية الخاصة بها، لتصبح مع مرور الوقت معلما من معالم شخصيته التي تميزه عن الآخرين؛ ولعل الأخطر من ذلك، أن تتحوّل هذه البنية الفكرية المنحرفة عند أصحابها إلى ميزات يفتخرون بها .

إن الإنعزال عن البحوث العلمية الجادة ، والثقافة الفردية الآحادية، إذا أضيف اليه إنبهار بالغرب والحداثة ومنجزاتها .

الحوار القمعي

ثم بعد ذلك كله، يدعونك للولوج في أبواب الحوار التي يدّعون أنها مشرعة ! فإذا ما حاول أحدهم ولوجها ارتطم بجدران محصنة، وانكشفت له الحقيقة !

يتساءل بعضهم : هل فتح باب الحوار كما كان متوقعا؟ فجاءتهم الإجابة الصحيحة والصريحة لتقول: نعم لقد فتح باب الحوار لكنه من نوع آخر غير الذي كان يدعو إليه ذلك "البعض" إنه " الحوار القمعي" !

فالنقد بالدليل العلمي جزاؤه القمع والاتهام ، والسباب والشتائم !! فبعض المنتقدين صنفه ذلك "البعض" بأنه ينطلق من عقد نفسية ، وآخر تحركه مطامع مالية، وثالث يستحكم به جهله ، ورابع تحركه المخابرات الدولية

 وخامس خرج عن خط الحوار الصحيح ولا يعيده إليه، إلا " التأديب " بالضرب المبرح حتى يشرف على الموت !!

إنها مفردات "قاموس الحوار الحديث" التي تمسك بها هؤلاء، وأخذوا يطلقونها عشوائيا يمينا ويسارا على كل من تسوّل له نفسه حتى أن يفكر بتوجيه أي نقد ولو علمي محض ، إلى "الرمز" و "المرشد".

وهكذا استطاعوا أن يسكتوا الناصحين ويقمعوا المنتقدين  ولكن الى حين .

العلامة المحقق والدور غير العادي

 باتت المواجهة شبه مستحيلة لسيطرة أصحاب الحوار القمعي .

لقد أخمدت الأصوات التي كادت أن تهمس بالنقد لـ " الرمز " و" المرشد "، ويكاد الناس لا يعلمون بها أصلا .

ولا شك أن أي محاولة نقدية جديدة من هذا النوع سيتم إخمادها بسهولة عبر الأساليب الحديثة " للحوار". ولكن جاء ما لم يكن بالحسبان !

ففي يوم من الأيام، وفي مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد ( بيروت ) ، وفي محاضرة لمجموعة من الأخوات ، ودون أي سابق إنذار عمد ذلك "البعض" ابتداءا، إلى طرح ما يجول في خاطره، ما أطلق عليه هو أنه علامات استفهام، وهو في الحقيقة تشكيك يستبطن الإنكار لكل ما جرى على الزهراء (ع) من مهاجمة القوم لدارها، وإحراق بابه، وكسر ضلعها الشريف، وإسقاط جنينها بدعوى أن القوم الذين هجموا على الدار كانت قلوبهم مملوؤة بحب الزهراء (ع) فكيف نتصوّر أن يهجموا عليها ؟! وأضاف : على أن البيوت آنذاك لم يكن لها أبواب !!!

وفي مناسبة أخرى تحدث عن قول الخليفة الثاني لمن قال له عندما همّ بإحراق الباب إن فيها فاطمة فقال: وإن، وتجلت في حديثه هذا فنون رفيعة من الذوق اللغوي، والخبرة البالغة باللغة العربية الفصيحة والبليغة والتي ظهرت بأبهى حللها، وبأحسن صورها، حين أصبح معنى : " وإن "  في فقهه : "ما إلنا شغل بفاطمة إحنا جايين ناخذ علي" !!!

وهكذا فكما كان موقف الزهراء (ع) في حياتها من موضوع الخلافة وفدك، وموقفها الصارخ بعد وفاتها بوصية إخفاء قبرها، موقفا حاسما فتح الباب على مصراعيه لإثبات عدم صلاحية وأهلية من تصدّى لمقام الخلافة، بل وحفظ بذور التشيع، فقد كان لإنكار مظلوميتها وقهرها الدور الحاسم أيضا في ظهور الأمر وانكشاف الحقيقة .

الانحناء أمام العاصفة !

وذاع الخبر وانتشر حتى وصل إلى مدينة قم المقدسة ؛ من يصدّق : فلان يشكك بما جرى على الزهراء (ع) بعد وفاة أبيها (ص) ؟!!!

لقد كانت الظروف التي أشرنا إليها آنفا تجعل من الصعب تصديق ذلك، وراحت الأعذار تنطلق من هنا وهناك:  ربما يكون الناقل مخطئا ؟ ربما ثمة مؤامرة خلف ذلك ؟  ربما يوجد للكلام معنى آخر خاف ؟

لكن ردّ هذه الأعذار متيسر وسهل؛ حيث كان الشريط المسجل ( فيديو كاسيت ) حاضرا واستمع إليه القوم هناك ، وكانت المفاجأة .

ضجت الحوزة العلمية من هذه المقولة ، وتحرك المخلصون لتطويق ذيول القضية، ظنا منهم أنها تنحصر بما جرى على الزهراء (ع) .

 لقد كانت خلفية تحركهم مقنعة للغاية: ينبغي تطويق القضية، وخنقها في مهدها قبل أن تنتشر فتصبح ذريعة يتمسك بها المخالفون حيث سيقولون : لقد ظهرت براءة فلان وفلان مما نسب إليهم من هتك لحرمة الزهراء (ع) وذلك على لسان واحد من المعروفين منهم .

وقد بادر العلامة المحقق إلى إرسال رسالة إلى ذلك " البعض" يستوضح فيها عن حقيقة الأمر الذي نسب إليه، فأجاب الأخير بأن ذلك صحيح؛ لكنه كان مجرد طرح علامات استفهام ، وقد كان ذلك قبل الاطلاع على النصوص التاريخية، وبعد الاطلاع ، فقد وجد في كتاب: دلائل الإمامة للطبري ما يثبت الحادثة تاريخيا.

وقد حاول العلامة المحقق أن يستفيد من هذه الرسالة الجوابية في تلطيف الأجواء ، وأخذ يتصل بالمعاهد والحوزات العلمية ، حتى طبع منها المئات وعلّقت على لوحات الإعلان في المدارس وغيرها ، وأرسل عددا وفيرا منها إلى الشخصيات العلمية .

فقد بات واضحا لكل أحد ، أن فلانا قد تراجع ، وعليه ، فقد أقفل الملف ، وعادت الأمور إلى طبيعتها وارتاح القوم وتنفس الجميع الصعداء .

الزهراء عليها السلام تتدخل مجدداً

ولكن صاحب هذه المقولات لم يهدأ بل أخذ يثير الأمر من جديد .

وفجأة وبسبب ظروف خاصة تتعلق بالحياة العائلية للعلامة المحقق جعفر مرتضى العاملي، من حيث إصرار والده الذي كان مريضا آنذاك على أن يكون إلى جانبه، فاضطره ذلك إلى ترك قم والإقامة في لبنان ، حيث كانت تتم زيارات متبادلة بينه وبين ذلك " البعض" ولقاءات واتصالات حتى كان اليوم الموعود .

وتدخلت الزهراء عليها السلام من جديد ! فقد بدأ " البعض " بطرح مقولاته حول الزهراء عبر وسائل الإعلام المتوفرة لديه، بمناسبة وبغير مناسبة، حتى بلغ به الأمر حدا جعله يعلن أنه لم يتراجع عن تشكيكاته حول ما جرى على الزهراء (ع) ، وأن ما جرى في قم في هذا المجال، لا سيما رسالته الى قم التي تراجع فيها عن ذلك، قد كان بمثابة " الانحناء أمام العاصفة " ففجر بذلك قنبلة من العيار الثقيل .

لقد كان وقع هذا التصريح كالصاعقة على كل من عمل في ذلك الوقت على رأب الصدع، ولعلهم شعروا بالإهانة من تلك الطريقة الرخيصة التي استغلّ بها ذلك " البعض" علاقاتهم مع المعاهد والحوزات العلمية والثقة التي يولونها لهم وهذا أمر يمكن التغاضي عنه، لكن الأخطر من ذلك هو: كيف السبيل لإقفال هذا الملف؟

وعادت الوساطات إلى الواجهة ، ولم تنقطع اللقاءات والمحاورات بين العلامة المحقق وذلك " البعض" إلا في وقت متأخر .

وتوالت الأيام وأخذت الصورة تتّضح أكثر فأكثر : إن ذلك " البعض" ربما لم يترك مفردة من مفردات الدين الأساسية إلا وله رأي مختلف فيها، وتأخذ في معظمها طابع التشكيك في المعتقدات والشذوذ في الآراء .

 

الاتصالات تفشل 

وكتاب مأساة الزهراء عليها السلام يبصر النور

واستمرت الاتصالات لحل القضية ، والأدلة العلمية المحكمة لم تبق عذرا  لمعتذر . واستمر ذلك " البعض"  بالتشكيك المبني على غير أساس علمي صحيح وقويم .

وتوجهت الأنظار نحو العلامة المحقق نظراً لمركزه العلمي المتميز ، وقد بات غير قادر على السكوت لا سيما مع توالي الأسئلة عليه ، وانتظار موقف حاسم منه . وبعد تفكير مليّ ، وانتظار أشهر لعلّ الوساطات تفلح ، شرع العلامة المحقق بتأليف يضيء فيه بعض زوايا المشكلة ويزيل الغموض عن بعضها الآخر، ويجيب عن الأسئلة المطروحة بإلحاح حول ما جرى على الزهراء (ع) مما شكك به ذلك " البعض " .

وبحسب بعض الأشخاص الذين تابعوا الاتصالات، فقد كان الكتاب الذي يعده العلامة المحقق عبارة عن أسئلة وأجوبة تعالج بعض تلك المقولات، واستجابة لتدخلات بعضهم بحجة أن ذلك " البعض" قد يعتبره على هذه الطريقة إهانة يصعب معها الاستمرار في الوساطة فقد تم تعديل صيغة الكتاب.

وأثناء عمل العلامة المحقق على إنجاز كتابه، طلب من الأخوة الساعين في تلك الاتصالات الاستمرار في اتصالاتهم، وأعلن عن استعداده لوقف النشر حتى لو كان الكتاب قد أنجز ، إذا ما توصلوا إلى نتيجة إيجابية .

لكن ، كل تلك التحركات والوساطات باءت بالفشل، وأُعلن عن انتهائها برفض ذلك " البعض"  لعقد أي مجلس حوار منطقي متكافئ  فكان لابد لكتاب "مأساة الزهراء (ع)" أن يبصر النور، وكانت الزهراء (ع) كما هي دوما هي الشعلة التي تضيء الطريق .

ردود الفعل من مراجع النجف وقم

كانت الردود الأبرز هي تلك التي صدرت من الجهات العلمية، لا سيما مراجع الأمة ، وأساتذة الحوزة في قم المقدسة، والنجف الأشرف ، حيث أعلن هؤلاء تأييدهم لما جاء في هذا الكتاب ، وباركوا وأثنوا على مؤلفه عبر رسائل نشر بعضها ، كما أعلنوا في بيانات وتصريحات موقفهم السلبي من صاحب تلك المقولات نشرت أيضا في حينه ، وجمع بعضها في كتاب " الحوزة العلمية تدين الانحراف " الذي طبع أكثر من مرة .

ردود الفعل من " البعض "

أما " البعض" وأنصاره فقد تزعزعت أركانهم من هذا الكتاب ؟!! وزاغت أبصارهم ونشطوا في تخبط لايحسدون عليه !!

ولم تمر أشهر قليلة على صدور كتاب "مأساة الزهراء (ع) " حتى صدرت "باكورة " أعمال "البعض" الانتقامية فصدر أول كتابب اسم ( هوامش نقدية ) لمؤلفه محمد الحسيني ، وقد تكفلت شخصيا بالرد عليه، ونظرا لما كان يحويه فقد أسميته كتاب ( الفضيحة ). ولم يتوجه "الخبث" في ذلك الكتاب نحو العلامة المحقق، بقدر ما توجه الى المذهب وأعلامه، وعمل على تخريب آرائهم وتزييفها وتحريفها !

 ولم تمض أيام حتى أصدر متطفل ثالث كتاباً آخر ،  ارتكب فيه تحريفاً سافرا لا يخفى حتى على الأعمى ، وهو كتاب (مأساة كتاب المأساة ) للمدعو نجيب نور الدين ، وكالعادة ، فقد كانت الحجج ترتكز على أن "البعض" لا يقصد ما يُفهم من كلامه !

وقد قام فضيلة الشيخ القطيفي بالرد عليه في كتاب أسماه ( جاء الحق ).

كتاب خلفيات والمفاوضات

في هذا الوقت ، كان يعمل المحقق العاملي على مسوّدة كتاب يوضح فيه خلفيات إقدامه على كتابة " مأساة الزهراء (ع )" وقد جمع فيه مجموعة من المقولات "الجريئة" و"الخطيرة" التي تكشف عن حجم المشكلة التي يعاني منها "البعض" وبالتالي فإن القضية ليست قضية إنكار ما جرى على الزهراء (ع) وحسب، بل هي تتعدى ذلك إلى حد يطال الكثير من معالم المذهب وحقائقه التاريخية والعقيدية والفقهية.

وبشكل غير مسبوق ومفاجىء ، سرقت إحدى المسوّدات الأولية للكتاب بعد أن دفع ثمن سرقتها آلاف الدولارات كما يقال! وقد اعترف بعد مدة أحد المقربين جدا من "البعض"  بدفع المال للحصول على المسودة، إلا أنه أنكر أن يكون هو الممول، وذكر أن المال دفع من أحد المتبرعين !

 فكان ذلك سبباً لتجديد تأليف الكتاب وتوسيعه ، وكان المحقق العاملي أطلق عليه اسما أوليا هو "مئتان ويزيد ولدينا المزيد" ثم صدر فيما بعد بكتاب "خلفيات كتاب مأساة الزهراء "

وقبل نشر الكتاب تدخلت بعض الأوساط بمبادرة وساطة لتقريب وجهات النظر حول إمكانية إيجاد حل ما. وجاء وفد إلى العلامة المحقق وطلبوا منه تأخير إصدار الكتاب أسبوعين ، وطرحوا فكرة الانطلاق بالمبادرة، وزعموا أن ذلك "البعض" لم يرفضها وذلك على أساس الوعد الذي حملوه بتصحيح المسار ؛ فأعلن المحقق العاملي تأييده لكل عمل من شأنه أن ينزع هذا الفتيل ، ويقفل هذا الملف نهائيا ، وأعلن استعداده لمساعدة هذا "البعض" بكل صورة ممكنة لتحقيق هذا الغرض .

ثم عاد الوفد للتحرك ، وطلبوا من المحقق العاملي طالبا منه تأخير إصدار كتابه أسبوعين آخرين ، وأن تعطى المبادرة بعض الوقت،ثم عادوا وطلبوا تمديد المهلة ثالثة ، فلم يمانع العلامة المحقق حرصا على نجاح المبادرة رغم كون الأمل ضعيفا بأن يقبل الطرف الآخر  وهكذا توالت طلبات التمديد حتى وصلت إلى حوالي ثلاثة أشهر، حيث جاءت المفاجأة بصدور الرد على كتاب خلفيات قبل صدوره !!!

وقد بات الأمر واضحا، لقد كانت هناك خديعة مورست حتى على الوفد الوسيط ليصدر الرد على الكتاب المسروق قبل صدوره !!

كتاب مراجعات في عصمة الأنبياء (ع) من منظور قرآني

جاء شخص يحمل الى العلامة المحقق رسائل من " أبو مالك الموسوي" هي نقد كتاب خلفيات ، وقد تمنى فيها صاحبها أن تبقى طي الكتمان، كاشفا عن أنه بصدد إعداد رسالة أخرى في الموضوع أحال العلامة المحقق الرسالة إلي لتسجيل الملاحظات عليها، تأييدا أو تفنيدا.

ولم يمض سوى بضعة أسابيع حتى وصلت رسالة الثانية يتابع فيها كاتبها وقفاته " النقدية " على كتاب خلفيات   وبعد أشهر قليلة، كشف ذلك "البعض" صاحب المقولات المعروفة عن أن ثمة كتابا سيصدر قريبا من إيران للمدعو " أبو مالك الموسوي".

وذكر " الكاتب " في مقدمته إرساله رسالة الى المحقق العاملي وانتظاره للجواب عليها ، وأنه انتظر طويلا وصول الرد بناء على الوعد لكنه لم يستلم شيئاًً 

ولم يذكر الكاتب أنه كان ينوي بالفعل نشر كتابه وأن الأمر برمته مفتعل ومدبر .

السيد فضل الله يقوم بحملة دعاية للكتاب

وبعد بضعة أسابيع من الرسالة الثانية وقبل حوالي ثلاثة أشهر من صدور كتابه كشف "السيد" فضل الله عن وجود كتاب سيصدر قريبا في قم للمدعو " أبو مالك الموسوي" يناقش كتاب خلفيات ! وكان أول من كشف عن ذلك .

النصر الموهوم

تعاطى "البعض" مع ذلك الكتاب على أنه النصر الحاسم الذي سيغيِّر "المعادلة " لكن سيتبيّن أنه نصر موهوم.

وقد وضع " البعض " كل ثقله في هذا الكتاب، وقام بتوزيعه يمينا وشمالاً ، مختومة بختم هدية مكتب سماحة (آية الله العظمى السيد) محمد حسين فضل الله". على المعاهد والحوزات العلمية، وعلى العلماء والمثقفين، ولم يُستثن العوام من هذه الهبات والهدايا. وأرسلوا منه ألوف النسخ وزعوها في موسم الحج ! واهتم بتوزيعه في لندن  لندن، أميركا، كندا وغيرها من البلدان.

لكن لا ندري الى أي مدى سيذهب " البعض " في تبني هذا الكتاب بعد إفتضاح أمره بإصدار كتابنا هذا؟!

ربما سيكون نصيبه مثل الكتب الثلاثة التي كان تبناها ذلك " البعض "، وقام بتوزيعها وتسويقها عبر إذاعته وغيرها من الوسائل، وبعد إصدار الردود عليها وافتضاح أمرها وأمر " كتّابها "، وما مارسوه فيها من تحريف وتزييف، عمد ذلك "البعض" الى التنصل وإظهار البراءة منها !!.

    محمد محمود مرتضى /

بـيــروت 15 ربيع الثانــي 1422

*             *

 

 

 

 

مدخـل في ( منهج ) الكاتب

سمى " الكاتب " ملاحظاته " نقدية " لكن الاسم الحقيقي المنطبق على (منهجه) هو الأعمال الستة التالية :

1- التجاهل : حيث يتجاهل " الكاتب " نصوص المشكلة التي صرّح بها "البعض" ، وأشار إليها العلامة المحقق في كتاب "خلفيات" ويجر القارىء إلى بحوث أخرى تجعله ينسى النقاط الحساسة كلية . وقد ارتكب ذلك في أغلب فصول الكتاب، ومن نماذجه بعض ماجاء في فصل آدم(ع) وإبراهيم(ع) ونوح(ع)

2- التدليس : حيث قام "الكاتب" بعمليات تمويه في كلام "البعض" أخفى بها عيوب هذا كلامه وأظهره على غير حقيقته، ويمكن اعتبار بعض ما جاء في فصل آدم(ع) ويوسف (ع) وداود (ع) ونوح (ع) من مصاديق هذا التمويه والتدليس .

3-  الإنكار: ونعني به قيام "الكاتب" بإنكار نسبة بعض المقولات التي أطلقها "البعض" إليه، والادعاء بأنها افتراء عليه، وهو ما بيّنا بطلانه. ويمكن ملاحظة ذلك في فصل آدم (ع) ويونس (ع) ويوسف (ع).

4- تحريف مطابقة: ونقصد به قيام "الكاتب" بتحريف آراء العلماء والأعلام عن مقاصدها لتظهر وكأنها مطابقة لما ذكره "البعض" وموافقة له، ويمكن ملاحظة ذلك في أغلب الموارد التي نقل فيها تلك آراء هم .

5- تحريف انطباق: وإن عجز "الكاتب" في بعض الأحيان عن ممارسة تحريف مطابقة، عمد إلى ممارسة تحريف انطباق ، ونعني به قيامه بتحريف كلام " البعض " نفسه ليظهر مطابقا أو موافقا لما ذكره العلماء والأعلام . وأمثلة ذلك كثيرة كما سترى .

6 - التعمية: ونعني بذلك قيام "الكاتب" بذر الرماد في العيون، بهدف التعمية على موضع الإشكال، وأمثلة ذلك كثيرة أيضا كما سترى .

7- وختاماً  نذكِّر  بأن الكاتب تجاوز قاعدة ( عدم جواز تأخير البيان عن موضع الحاجة ) حيث ادعى في محاولاته لتصويب مقولات "البعض" أن هذا الرأي أو تلك المقولة قد ذكر صاحبها إيضاحات لها في كتاب آخر أو جزء آخر أو موضع آخر من كتابه، وذلك مخالف لما قرره العلماء الأعلام في محله، من "عدم جواز تأخير البيان عن موضع الحاجة".

وقد أشار العلامة المحقق إلى هذا الأمر في مقدمة كتاب "خلفيات ج1" حيث قال: "قد يقال: إن بعض الموارد التي يرد عليها الإشكال قد ذكرت لها في مواضع أخرى حدود وقيود تجعلها مقبولة ومعقولة

ونقول: إن من الواضح أن من يكتب شيئا في مقالة ما، فإنه لا يصح له أن يكتب ويطلب من الناس أن يقرأوا كل ما كتبه طول عمره، ليعرفوا ماذا يقصد بكلامه في مقالته تلك، وليس له أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فيفصل بين مراده وبين الشاهد والقرينة عليه؟!".

وأضاف (أعزه الله) قائلا: "وكيف يصح أن يقال: إنه من أجل معرفة المراد من آية قرآنية، لا بد من قراءة تفسير القرآن كله بجميع أجزائه؟!"( خلفيات : 1/35 – 40).

أضف إلى ذلك: إن ما يحيل عليه الكاتب ، قد صدر بعد سنوات أو قبل سنوات من صدور النص موضع الإشكال، فكيف يصح جعله توضيحا له؟! بل هو جدير بأن يكون تناقضا من "البعض" !

 

 

الفصل الأول

 

آدم عليه السلام

 

 

 

 

خلاصة الانتقادات

1 ـ ارتكب "الكاتب" أسلوب التمويه فأظهر للقارئ أن مورد الإشكال هو زواج أبناء آدم (ع)، والحقيقة أن الإشكال إنما هو في قول " البعض " : " لا طريق إلا تزويج الإخوة بالأخوات". وقوله : "لم يكن هناك بديل عن زواج الإخوة بالأخوات مع ما يستبطن هذا القول من تقييد لقدرة الله تعالى ونسبة العجز إليه ".

2 ـ تجاهل " الكاتب" وصف " البعض" لبيت آدم (ع) بأنه كان غير نظيف من الناحية الجنسية ولم يتعرض لهذا القول له أبداً !

3 ـ تجاهل "الكاتب" حديث "البعض" عن عدم وجود مناعة جنسية في بيت آدم حتى بين الأم والأب تجاه أولادهما ، ولم يتعرض لهذا القول !

4 ـ نسب "الكاتب" زوراً لأعلام الأمة وعلمائها ومراجعها كالطوسي والطبرسي والخوئي والطباطبائي قدس سرهم أنهم يقولون بما يقوله صاحبه !

5 ـ قام الكاتب بالتدليس في نص صاحبه عندما حذف عبارة توضح الإشكال في حديثه عن أن معصية آدم كمعصية إبليس !

6 ـ حاول "الكاتب" تضليل القارئ عندما أخذ يحشد نصوصاً لصاحبه إما من غير كتابه ( من وحي القرآن ) موضوع النقد ، أو من غير الجزء الذي ورد فيه الإشكال ، وقد ذكرنا أن ذلك مخالف للقاعدة الأصولية التي تنص على عدم جواز تأخير البيان عن موضع الحاجة .

7 ـ حرَّف "الكاتب " رأي العلامة الطباطبائي بأن آدم (ع) قد نسي تحذير الله لهما بالإقتراب من الشجرة ونسب اليه أنه يضعف هذا الرأي ، والحقيقة أن الطباطبائي قدس سره رفضه رفضاً قاطعاً وقال عنه إنه غير صحيح.

8 ـ قام "الكاتب" بحذف نص لصاحبه كان ذكره هو بنفسه في رسالته للعلامة المحقق، والإشكال فيه ظاهر وهو عن طلب آدم وزوجه للمغفرة والرحمة ، بأنه قد ينطلق من الشعور بالإساءة إلى مقام الله في ترك اتباع نصائحه !

9 ـ قام "الكاتب" بالعبث بكلام العلامة الطباطبائي المتعلق بمعنى نسيان آدم (ع) ليخرجه عن دلالته الحقيقية !

10 ـ نسب "الكاتب" زورا وبهتانا للشهيد الصدر وغيره أنهم يقولون بما يقول به صاحبه !

11 ـ افترى " الكاتب " على العلامة المحقق فأشار الى أن تعريف السذاجة بأنها "التطلع إلى الأمور بنظرة حائرة بلهاء" هو تعريف للعلامة المحقق ، بينما هو تعريف صاحبه !

12 ـ افترى "الكاتب" على العلامة الطباطبائي عندما اعتبر أنه قدس سره وصف آدم بالسذاجة.

13 ـ افترى "الكاتب" في عنوان بحثه على علماء الأمة عندما ادعى أن الحديث عن ضعف آدم (ع) أمام الحرمان، وأنه أقدم على ممارسة الرغبة المحرمة، قد صرح بهما الكثير من المفسرين دون أن يذكر نصاً واحدا لهم !

14 ـ افترى على العلامة المحقق عندما ألمح إلى أنه أعزه الله يعتبر أن آدم (ع) قد ضعف أمام إغراءات إبليس.

15 ـ تجاهل "الكاتب" حديث صاحبه عن إقبال آدم (ع) على ممارسة الرغبة المحرمة مع أنه جعلها في عنوان بحثه !

16 ـ اتهم "الكاتب" العلامة المحقق بأنه راح يستهزئ بمقولة الدورة التدريبية لآدم (ع) من خلال حديثه أيده الله عن الأوامر الإمتحانية والعسكرية . والحقيقة: أن هذا التعبير هو لصاحبه نفسه !

17ـ تجاهل "الكاتب" مقولات عديدة لصاحبه :

فقد تجاهل حديثه عن انحراف آدم عن خط المسؤولية في طاعة الله.  وتجاهل قوله أن ابليس أوصل آدم إلى مرحلة السقوط بسبب الغرور الذي أوقعه فيه . وقوله إن آدم وزوجه (ع) قد شعرا بالخزي والعار . وقوله : وتمثلت الجريمة لهما بمستوى الكارثة .  وقوله إن إبليس أسقط آدم (ع) من مكانته لئلا يبقى هو الساقط الوحيد في عملية التمرد على الله . وقوله :  فها هو إبليس يشعر بالزهو والرضا لأنه استطاع أن يهبط بقيمة هذا المخلوق الذي كرمه الله عليه إلى درك الخطيئة ليصبح منبوذا من الله . وقوله : ولكن آدم لم يتعمق في وعي المفهوم ولم يأخذه مأخذ الجدية والإهتمام ..!

إلى غيرذلك مما أتحفنا به "البعض" وتجاهله "الكاتب" !!

الآيات القرآنية في الموضوع

( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة ، وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . فأزلهما الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى  حين . فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) (18) .

 (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما . وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى . فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى . وإنك لا تظمأوا فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى . فأكلا منها فبدت لهما سؤاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى . ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (19).

(ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سؤاتهما، وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين . فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سؤاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما

عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (20) .

ما قاله " البعض "

14ـ معصية آدم كمعصية إبليس.

15ـ الفرق بين آدم وإبليس هو في الإصرار والتوبة.

16ـ آدم ينسى ربه، وينسى موقعه منه.

17ـ آدم استسلم لأحلامه الخيالية وطموحاته الذاتية.

18ـ آدم طيب وساذج، لا وعي لديه (أبله) !.

19ـ آدم يعيش الضعف البشري أمام الحرمان.

20ـ آدم يمارس الرغبة المحرمة.

21ـ الدورة التدريبية لآدم عليه السلام.

22ـ كان عاصيا ولم يكن مكلفا.

23ـ لا طريق إلا تزويج الإخوة بالأخوات.

24ـ لا مناعة جنسية حتى بين الأم وولدها.

25ـ بإمتداد النسل يحصل الجو النظيف جنسيا "(21).

نص أقواله

 "وغفر لهما وتاب عليهما، ولكنه أمره بالخروج من الجنة كما أمر إبليس بالخروج منها، لأنهما عصياه كما عصاه، وإن كان الفرق بينهما أنه ظل مصرا على المعصية ولم يتب، فلم يغفر له الله، بينما وقف آدم وزوجته في موقف التوبة إلى الله، فغفر لهما".

"فانطلقا إليها بكل شوق ولهفة، وأطبقت عليهما الغفلة عن مواقع أمر الله ونهيه، لأن الإنسان إذا استغرق في مشاعره، وطموحاته الذاتية، واستسلم لأحلامه الخيالية، نسي ربه ونسي موقعه منه".

"كيف نسيا تحذير الله لهما؟ وكيف أقبلا على ممارسة الرغبة المحرمة؟".

"كان يعيش الضعف البشري أمام الحرمان".

"فالله أراد أن يدخل آدم في دورة تدريبية، ولذلك لم يكن أمرا جديا ولكنه كان أمرا امتحانيا، إختباريا، تجريبيا، وكان أمرا تدريبيا، تماما كما يتم تدريب العسكري، ولذلك فالجنة لم تكن موضع تكليف، وما يذكر لا يرتبط بالعصمة أبدا، إن الأنبياء من البشر وهم يعيشون نقاط الضعف، ولكن نقاط الضعف التي لا تدفعهم إلى معصية الله، أما مسألة الجنة وقصة آدم في الجنة فهذا خارج عن نطاق التكليف، لقد أراد الله أن يدخله في دورة تدريبية حتى يستعد للصراع القادم عندما ينـزل هو وإبليس إلى الأرض ليكون بعضهم لبعض عدوا حتى يتحرك في مواجهة العداوة التاريخية".

"الله أراد لآدم أن يمر في دورة تدريبية في مواجهة إبليس لأن آدم طيب وساذج، ولم يدخل معترك الحياة".

"أول الخلق كان هذا الشيء حلال، لماذا؟ لأن هذا هو الذي يفسح المجال لإنطلاقة البشرية، ولا يوجد طريق غيره".

"فنظام العائلة مكون من أب وأم، وأخوة وأخوات، وهو إنّما يتوازن ويستقيم عندما تكون هناك مناعة عند الأب وعند الأم وعند الأخ وعند الأخت ضد أي إحساس جنسي تجاه الآخر، لأنه لو فرضنا أن الأحاسيس الجنسية كانت موجودة في حياة الأب والأم تجاه أولادهما، أو في حياة الأولاد تجاه بعضهما البعض، فلن تستقر حياة عائلية ولن تنسجم في خصوص الجو العائلي المغلق حيث يفسح المجال لهذه الأمور بشكل فوق العادة لذلك فإن الله سبحانه وتعالى بعد أن صار هناك أبناء عم أو أبناء خال وخالة، أي عندما امتد التناسل وأصبحت هناك علاقات طبيعية، حرّم الله ذلك ليستقيم نظام العائلة، ولتنمو العائلة في جو طاهر نظيف من الناحية الجنسية، وبعد ذلك تنطلق لينشئ كل واحد منهم عائلة " (22) .

توالد أبناء آدم عليه السلام

اعتبر الكاتب أن تزويج آدم للإخوة بالأخوات على حد زعمه مقولة جريئة !  ثم استعرض رأي السيد الطباطبائي (قده) والشيخ الطوسي (قده) والطبرسي (قده) وغيرهم ، محاولاً تحريفها للدفاع عن رأي "البعض" فيما سماه من وحي القرآن !

وترك عبارة " البعض " محل الإشكال والتي جاءت في مجلة الموسم وتكررت في نفس المجلة في مكان آخر منها فهي قوله: "في بداية الخليقة لم يكن هناك بديل عن زواج الإخوة بالأخوات" (2).

وقوله: "أول الخلق كان هذا الشيء حلال، لماذا؟ لأن هذا هو الذي يفسح المجال لإنطلاقة البشرية، ولا يوجد طريق غيره " (26) .

وبالعودة إلى العناوين التي تعّرض لها العلامة المحقق في كتاب خلفيات، فسنجدها ثلاثة وهي :

1ـ لا طريق إلا تزويج الإخوة بالأخوات .

2ـ لا مناعة جنسية حتى بين الأم وولدها .

3ـ بامتداد النسل يحصل الجو النظيف .

ولو تدبرنا وتأملنا فيها لعرفنا مورد الإشكال ، ولوجدنا العلامة المحقق قد تحدث في وقفتين قصيرتين: الأولى: عن الإشكال الثاني والثالث. والثانية: عن الإشكال الأول. ولوجدناه، قد أشكل على: "حصر الطريق" بتزويج الإخوة بالأخوات لا على نفس تزويج الإخوة بالأخوات.

وقد أشار إلى ذلك صراحة بقوله : "ويزعم أنه لم يكن ثمة طريق يمكن بواسطتها حل هذه المشكلة، وإنطلاقة البشرية من خلالها " (23) .

ولذا ذكر رواية الصدوق قدس سره عن الإمام الصادق (ع) التي يقول فيها: "ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال ؟! " (24) .

 إذن فمورد الإشكال كما ترى هو : في مصادرة كلام " البعض " لقدرة الله سبحانه وتعالى!  وعليه: يظهر الفرق واضحا جليا بين ما تقدم من كلام العلامة المحقق وبين ما حشّده "الكاتب" من أقوال العلماء التي استشهد بها على أمر لم يكن مورداً للبحث أصلاً .

وللمزيد من التوضيح نقول : لنفرض أننا سألنا العلامة الطباطبائي (قده): كيف امتد النسل من ولد آدم عليه السلام ؟ لأجاب: لقد تزوج الإخوة بالأخوات، ولا مانع حسب رأيه طبعا من ذلك لأن الله تعالى حلله ثم بعد ذلك حرمه، لا سيما أنه حكم تشريعي يعود لله وحده الحكم فيه وتشريعه أنى ومتى وكيفما شاء.

ولو سألناه: ألم يكن هناك طريق آخر لامتداد النسل ؟

لأجاب: إن الله قادر على كل شيء فالذي خلق آدم عليه السلام من تراب قادر على أن يخلق غيره منه ومن غيره بل من لا شيء ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) فالأمر لا يتعلق بالإمكان بل بما كان وبما وقع . 

إن قلت إنه لا يعقل أن ينكر "البعض" قدرة الله تعالى على الخلق ؟

قلنا: إننا ذكرنا في مقدمة الكتاب، أن العلامة المحقق أعزه الله قد صرّح وصرّح بأن ما أورده في كتاب خلفيات يتفاوت ويختلف الأمر فيه من حيث الأهمية، وبأن الإشكالات لا تنحصر بخطأ الرأي فيه، فقد يورده لفساد طريقة التعاطي معه، ولوجود خطأ أساسي في معالجته له حيث ينبغي على الكتّاب أن يختاروا كلماتهم وألفاظهم، وتعابيرهم بدقة لاسيما في مقام الحديث عن الله سبحانه وتعالى، والأنبياء، والأئمة عليهم السلام.

وعليه: فإن إشكال العلامة المحقق في هذا المورد إنما هو حول هذا الحصر وهذا النفي لوجود طرق أخرى للتوالد، وبدائل لإمتداد النسل، بغض النظر عن رأيه في هذه القضية، وإن كان قد صرّح بأنه يضعّف حصول التوالد عبر تزويج الإخوة بالأخوات لقوله: "وأما خبر الإحتجاج، وقرب الإسناد فيضعفه مطابقته في هذا الأمر لمذهب غير الشيعة " (28) .

  ومن الشواهد اللطيفة على هذا الأمر ما نقله العلامة الطباطبائي (قده) في تفسيره عن نهج البيان عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن الباقر (ع) قد قال له عندما سأله من أي شيء خلق الله حواء، وأن اليهود يقولون أنه تعالى خلقها من ضلع آدم. قال عليه السلام :كذبوا، أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه (30) .

  ترى إن كان القول: إن الله خلق حواء من ضلع آدم استلزم هذا الردّ من الإمام (ع) بأن في هذا القول إنتقاصاً من قدرة الله، فماذا كان سيقول عليه السلام لو سمع " البعض " ؟!!

سيغموند فرويد تلميذاً !

أما فيما يتعلق بالإشكالين الآخرين، فإن "البعض" نظر الى قضية التزاوج عبر المقدمة التالية: "إن نظام العائلة لا يتوازن إلا بوجود مناعة جنسية عند الأب والأم والأخ والأخت، وهذه المناعة لا تحصل في خصوص الجو العائلي المغلق حيث يفسح المجال لهذه الرغبات، ومع انعدام المناعة، أي مع وجود الأحاسيس الجنسية في حياة الأم والأب تجاه أودلاهما فلن يحصل ذلك التوازن، إلا أنه عندما صار هناك أبناء عم وأبناء خال وخالة أي بعد أن امتد النسل وأصبحت هناك علاقات طبيعية حرّم الله ذلك ليستقيم نظام العائلة، ولتنمو العلاقات في جو طاهر نظيف من الناحية الجنسية." (31)

  هذا التنظير الذي دخل فيه صاحب هذه المقولات حول عدم توازن نظام العائلة بسبب عدم وجود المناعة، أدى به إلى القول بأنه كان يوجد أحاسيس جنسية من الإخوة تجاه الأخوات الذي أدى إلى التزاوج وامتداد النسل كذلك كان يوجد أحاسيس جنسية بين الأب والأم، والأولاد بسبب ما أسماه: "خصوص الجو العائلي المغلق" وهذا ما تبناه بشكل صريح وواضح، وإلا لماذا لم يحصر عدم وجود المناعة بين الإخوة والأخوات وحسب ؟!

فهل يريد أن يمهد الطريق لبعض الأفكار الإسرائيلية للتوراة التي تتحدث أن بعض الأنبياء نزا على بناته ؟!!

ثم إذا كان هذا الزواج قد شرعه الله، فما معنى وصفه لنظام العائلة بعد التحريم "بالنظيف جنسياً" ؟ ألا يلزم من ذلك القول أن الجو العائلي قبل التحريم لم يكن نظيفا ؟!

ونتساءل :كيف عرف صاحب هذه المقولات أنه عندما صار هناك أبناء عم وأبناء خال أصبحت هناك علاقات طبيعية ليأتي التحريم بعد ذلك؟!. علما أن العلاقات الطبيعية لا ترتبط بوجودهم؛ لأن وجودهم لا يمنع تلك الأحاسيس من أن تعّبر عن نفسها بين الإخوة والأخوات وبين الوالد وابنته والأم وولدها ما دامت تشريعية .

وإذا غضضنا النظر عن القضية المتعلقة بالأب والأم وأحاسيسهما الجنسية تجاه أولادهما، كان ينبغي أن يقول: عندما صار هناك أبناء عم وأبناء خال وخالة، أصبح بالإمكان تحريم ذلك،  ليصبح هناك علاقات طبيعية. (المقصود بالطبيعية ما يقابل الإستثنائية فاقتضى التنويه منعا للإلتباس).

ولا نعتقد أن " البعض " قصد بالطبيعية هذا المعنى ، وإلا كان ينبغي عليه نصب قرينه تدل على ذلك . هذا مع أنه قد تحدث عن العلاقات الطبيعية قبل التحريم، حيث قال: إن التحريم جاء بعد ذلك . وهذا نص كلامه: "لذلك، فالله سبحانه وتعالى بعد أن صار هناك أبناء عم وأبناء خال وخالة، أي عندما امتد التناسل وأصبحت هناك علاقات طبيعية حرّم الله ذلك"32).

فيتضح أن الحديث عن العلاقات الطبيعية إن كان بعد التحريم، فيقصد به  ما يقابل العلاقات الإستثنائية قبله .

أما الحديث عن العلاقات الطبيعية عند امتداد النسل وقبل التحريم، فلا نرى فيه إلا حديثا عن العلاقات الطبيعية في مقابل العلاقات الشاذة غير الطبيعية، مما لا يتناسب وينسجم مع القول بتشريعية القضية، فلايصح نعتها ووصفها بتلك النعوت والأوصاف ما دامت كذلك!!

بعبارة أخرى : ينبغي جعل العلاقة الطبيعية نتيجة للتحريم، أي تأتي بعده، لا أن التحريم جاء بعدها؛ لأن القضية ما دامت تشريعية خاضعة للحكم الإلهي، فإن المناعة لا تحصل عبر تزويج الإخوة بالأخوات وبالتالي: فإن قبول هذا التزاوج والوجود المفترض لهذه الأحاسيس والميول، سيبقى مركوزا في أذهانهم ووجدانهم ومشاعرهم، ولن يروا ضيرا في استمراره والتعبير عنه ولن تكون هناك علاقات طبيعية إلا بعد التحريم.

طبعا، كل ذلك على فرض القبول بمقولة التزاوج المرفوضة .

أما دعوى تعارض الروايات المعارضة لمقولة التزواج (35) فغير دقيق إذ الجمع بينهما جمعا دلاليا أمر ممكن .

بعد مامرّ نسأل " الكاتب ": هل يتبنى العلامة الطباطبائي والشيخ الطوسي والطبرسي قدس سرهم ، وغيرهم من العلماء الأعلام ، هذه "النظرية" التي لم تخطر حتى على بال سيغموند فرويد نفسه ؟!

وهل هذا مما يكاد يجمع عليه المفسرون الشيعة ؟!

ولماذا قدم "الكاتب" نصوصا منتقاة ومختارة لصاحبه ليست محط النظر، في الوقت الذي تجاهل فيه النصوص المشكلة ؟!

ثم ما معنى كلمة الطاهرة أليست في مقابل القذرة ؟!

وما معنى المناعة الجنسية ،أليست في مقابل الإنفلات الجنسي!!

ولماذا لم تكن لديه الجرأة على عرض النص الكامل المشتمل على هذه الترّهات أمام القارئ علما أنه النص الأساسي، بل الوحيد الذي قدّمه العلامة المحقق ؟! ألا يعتبر ذلك تعمدا وإمعانا في التمويه والتعمية والتضليل ؟!

ولعمري فإن من وضع نفسه في مواضع التهمة هذه كيف له أن يلوم من أساء الظن به !

شاهد طريف

في معرض حشده لآراء العلماء الذين ذهبوا إلى تزويج الإخوة بالأخوات عرض "الكاتب "نصا يعبر عن رأي السيد الخوئي (قده) ننقله بحرفيته :

"سئل المرجع الراحل السيد الخوئي(قده): هل تزوج أبناء آدم من اخواتهم أم حورية، وجنّية؟ فأجاب: الأخبار الواردة في ذلك مختلفة ولا محذود فيما لو صدقت إن كان بالأخوات لإمكان أنها لم تكن محرمة في شرع آدم على الإخوة.

وقد وافقه على هذا الجواب تلميذه سماحة الشيخ جواد التبريزي حفظه الله [صراط النجاة  1/461] "(39) .

الطريف في هذا الشاهد هو : أن إجابة السيد الخوئي (قده)، ومتابعة الشيخ التبريزي حفظه الله له أمر طبيعي جدا،حيث إن الإجابة منزلة على سبيل الفرض ، وهو المقصود من قوله قدس سره : "فيما لو صدقت "أي فيما لو صدقت الأخبار والروايات، وهذا الرأي المشروط بهذا الفرض، لا يوافقه عليه الشيخ التبريزي (حفظه الله) وحسب، بل كل إنسان له عقل وإن كان يميل (من الناحية العلمية التحقيقية) إلى استبعاد مقولة تزويج الإخوة بالأخوات !

إذ مع الفرض المذكور لا بد من التسليم بأن هذا الأمر لا شك أنه لم يكن محرما في شرع آدم عليه السلام وإلا كان تكذيبا للمعصوم، وردا عليه، فضلا عن أنه اتهام للنبي (ص) بإشاعة الفحشاء والمنكر ونشر الفساد والإفساد، والعياذ بالله، ولا يقول ذلك إلا كافر، فاجر، مارق عن الدين خارج عن الإسلام. وعليه، فإن صح جعل هذا النوع من الإجابات الفرضية شاهدا فما أكثر الشواهد والشهود!!

قصة آدم عليه السلام والجنة

أخل "الكاتب" بالأصول العلمية والمنهجية، وافترى على العلماء الأعلام بتقويلهم ما لم يقولوه، وحرف كلماتهم لتظهر على غير ما أرادوه 

ليست معصية آدم عليه السلام كمعصية إبليس

ذكر "الكاتب" أن هاتين المقولتين قد تبدوان  : "غريبتين، وجريئيتين، بيد أن الرجوع إلى سياق الحديث والأحاديث الأخرى للسيد في نفس الكتاب (من وحي القرآن) يظهر المقصود بصورة جلية وواضحة"(40).  ونقول له :

أ ـ مما لا يخفى أن العودة إلى سياق الحديث ضرورية، هذا إذا كان هناك  قرائن وشواهد، ترفع الشبهة وتحل الإشكال إلا أن العودة إلى سياق الحديث تقتضي العودة إلى موضع الآيات موضع الشرح، لا العودة إلى الأحاديث الأخرى المشتتة في خمسة وعشرين مجلدا هي مجموع مجلدات كتاب "من وحي القرآن". على أن الارجاع مواضع بعيدة مخالف للقاعدة الأصولية الثابتة:"عدم جواز تأخير البيان عن موضع الحاجة" التي تقتضي بأنه لو خليّ النص لوحده بمعزل عن النصوص الأخرى المتباعدة زمانا ومكانا ، يكون فيه ما يرفع الشبهة ويدفع اللبس ؟

على أن دعوته للعودة إلى الأحاديث الأخرى الواردة في كتاب " من وحي القرآن " بمجلداته الخمس والعشرين ! مما لم يسبقه إليه ولم يخطر على بال أحد.!!  فهل سيطلب منا كلما وجد إشكال العودة إلى كل الكتاب  ؟!!

وماذا لو عدنا إليه ولم نجد ما يرفع الإشكال ؟!!

وماذا لو وجدنا ما يؤكد الإشكال ويثبته ؟!!

فهل سيطلب منا العودة إلى الكتب الأخرى ؟!!

وماذا عن الذين لا يملكون بعض أجزاء كتابه فضلا عمن لا يملكون كتبه الأخرى ، لا سيما تلك التي لم تكتمل حلقاتها بعد؟!! ألا يعني ذلك أنه علينا إنتظار صدور كتبه الأخرى التي ربما ستصدر لترفع الإشكال عما صدر ؟!!

وماذا لو أن عمر المؤلف لم يتسع ليصل إلى المورد الذي يرفع فيه الإشكال؟! ! !

فهل سيطلب منا العودة إلى المسودات وأشرطة التسجيل والفيديو وما شابه؟ ! !

وماذا لو لم يف عمر القارئ بمراجعة كتبه ونشراته وأشرطته ومحاضراته قبل أن يطلع على ما يرفع  الإشكال وهو مقتنع بما فيه من الضلال؟.

ومن يضمن أن حجم النصوص المشكلة لن يتضاعف ويتضاعف؟!!

وإن قرر "الكاتب" الشروع بهذه المهمة، فننصحه أن لا يهمل الإستماع إلى أشرطة "الكاسيت" ليقارن بين المسموع والمقروء إذ لعل وعسى يجد فيها ما يساعده على رفع الإشكالات

ومن الضروري اشهاد رجلين أو رجل وامرأتين على كل مقولة وردت في المحاضرات المسجلة ممن كانوا حاضرين عند إلقائها، وليحرص على أن تكون الأشرطة التي يقتنيها ممهورة ومختومة من قبل الجهات المختصة والمؤسسات المعنية لضمان سلامتها وعدم تعرضها للدبلجة من قبل أجهزة المخابرات العالمية والإقليمية والمحلية !!

وعليه أن يتوقع بعد ذلك كله أن يقال له : إن هذا الختم مزوّر، أو أن صاحب هذه المقولات لم يقصد ما يفهم منها، أو أنهم فهموا كلامه خطأ، أو أنه من سهو القلم أو أن الطباع دسها في كتابه، وما شابه ذلك من مبررات لا طائل تحتها مع أننا نقرأ له ونسمع منه ما يؤكد نسبتها إليه وتبنيه لها وإصراره عليها وعلى مضامينها ومعانيها ودلالاتها وملازماتها.

أضف إلى ذلك أنها موجوده في كتبه ومتداولة بين مريديه الذين يدافعون عنها صراحة ويتباهون بها جهارا بل ويضفون عليها هالة من القداسة، ويُرمى من يعترض عليها بشتى أنواع السباب وأقذعة، ويتهم بالتجرؤ على المقامات المقدسة، هذا إذا لم يتهم بتهديد الساحة الإسلامية باسرها !! فهل "كاتبنا" مستعد لمواجهة كل ذلك؟  وعلى قاعدة الإنفتاح على الآخرين على طاولة الحوار المزعوم ؟!!!

ب ـ لنفرض جدلا أن " البعض" لم يقصد من هذا النص ما يظهر و يفهم منه، وأنه أوضح مقصوده في أماكن أخرى، فليكن عندئذ هذا المورد من الموارد التي قال عنها العلامة المحقق أنها تحتاج إلى إيضاح لا إصلاح.

ج ـ أضف إلى ذلك كله أن النصوص مورد الإشكال لو لم يكن فيها ما فيها لما امتدت أيدي المدافعين عن صاحبها لحذف بعض عباراتها كما فعل "كاتبنا " حيث ذكر أن هاتين المقولتين: "هما في الحقيقة مقولة واحدة جاءت في سياق واحد حيث يقول السيد: "أنهما عصياه كما عصاه [أي كما عصاه إبليس] وإن كان الفرق بينهما أنه [أي إبليس] ظل مصرا على المعصية"(41).

ومن يراجع النص يجد ما فعلته يد هذا "الكاتب" السمحة الكريمة حيث حذف العبارة التي توضح المشكلة التي تقع قبل الكلام الذي نقله مباشرة وهي   قوله:  " ولكنه أمره [أي أمر آدم عليه السلام] بالخروج من الجنة كما أمر إبليس بالخروج منها ، لأنهما عصياه كما عصاه إلخ (42) . حيث إن المعصية التي ادعاها قد أثرت أثرا واحدا لكليهما، وهو خروجهما من الجنة على حد سواء.

د ـ وإذا كانت المعصية من إبليس لأمر مولوي قد استلزمت هذا العقاب وهو الخروج من الجنة، ألا يعني ذلك أن المعصية من آدم (ع) كانت لأمر مولوي أيضاً ؟! لأنها استلزمت نفس العقاب؟! وإلا فما معنى لام التعليل الواردة في عبارته:  " أمره بالخروج من الجنة كما أمر إبليس بالخروج منها (لـ) أنهما عصياه كما عصاه" ؟!

  ولتوضيح ذلك نقول: لنفترض أن أستاذا في مدرسة عاقب زيدا بطرده من الصف لأنه خالف النظام، ثم بعد ذلك طرد عمروا فلو قال قائل: لقد طرد عمروا كما طرد زيدا لأن الأول خالف النظام كما خالفه الثاني، فهل يبقى هناك شك بأن طرد عمرو كان عقابا وأن مخالفته كانت كمخالفة زيد؟!!

وهل يوجد فرق بين هذا المثال، وبين كلام صاحب هذه المقولة؟! لا سيما أن النص باللغة العربية الواضحة المعنى والدلالة  وبسبب شدة وضوحها عمد "الكاتب"  إلى حذف القرينة الدالة على الإشكال حينما عجز عن توجيه النص الوجهة التي يريد، فكان التمويه والتعمية والتحريف والتضليل أقصر الطرق وأيسر الوسائل!!!.

هـ ـ وإذا كان " البعض" قد صرّح في مواضع أخرى، بخلاف ما صرّح به في الجزء العاشر منه ، وأن عملية الهبوط لم تكن عقوبة لآدم فلا أقل من القول بأن ذلك من المتناقضات التي ينبغي رفع الفاسد منها من كتبه، الأمر الذي أشار إليه العلامة المحقق حيث قال:

 "إذا كانت أقوال "البعض" متناقضة فليدل على الصحيح منها ليؤخذ به، وليبين للناس الفاسد ليجتنب عنه كما أن من مسؤولياته أن لا يتكلم بالمتناقضات"(43).

و ـ وإذا كانت هذه العبارة أو تلك موهمة لا مشكلة ، وما دام الحديث عن أسباب خروج نبي الله آدم (ع) من الجنة وعلاقة ذلك بالمعصية، فإنه كان على صاحب هذه العبارة أن يبادر إلى التوضيح بأن الخروج من الجنة لم يكن عقابا لآدم (ع)، والتوضيح بأن معصيته ليست كمعصية إبليس، وأن الفرق إنما في طبيعة المعصية وحيثياتها ؛ حيث الأولى إرشادية والثانية مولوية !

فذلك أولى وأهم من التفريع في كلامه عن الفرق على أنه الإصرار والتوبة

وليعترف أن  "صاحب العبارة" أخطأ في ترك الأولى ، فإنه أولى من الأنبياء بهذا النوع من الأخطاء !

اللهم إلا إذا كان "الكاتب" يعتقد بعصمة صاحبه عن ترك الأولى دونهم (ع).

ز ـ وأما قطع "الكاتب" في تعليقه على النص بأن مقصود صاحبه: " ليس التشابه من جميع الجهات والوجوه بل من جهة واحدة فحسب"(44) فهو مما لا دليل عليه، ولا قرينة ترشد إليه، بل هو تمحل صرف لا سيما مع وجود القرينة التي أشرنا إليها.

وإذا كان ذلك هو مقصوده فليصلح عبارته بحيث تدل عليه دلالة صريحة وواضحة حتى لا يقع في محذور الطعن بالأنبياء والجرأة على مقامهم.

النسيان وعدم العزم

وتحت هذا العنوان يفاجئنا "الكاتب" بالمبادرة إلى القول: إن هاتين المقولتين:  " قد صرّح بهما القرآن الكريم [!!] وأن السيد الطباطبائي (قده) ذكرهما في تفسيره [!!](45). وذلك منه مصادرة واضحة لأن الإشكال إنما هو حول معنى النسيان والعزم المذكورين في القرآن الكريم !! وليس على نفس استعمال الكلمات . ولعل "الكاتب" قد رجع إلى "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" فوجد لفظة " نسي" ولفظة "عزم" فاعتبرهما تصريحا بالمقولة !!

أما قوله: إن العلامة الطباطبائي (قده) ذكرهما في تفسيره فسنناقشه فيه وسنبين أنه لم يتدبر كلامه، بل لم يفهمه وأنه يفتري عليه ويقوّله ما لم يقله وعلى أي حال، فإن من الواضح البيّن أن النسيان المنسوب لآدم (ع) قد جعله صاحب من وحي القرآن سيفا قاطعا سلطه على رأس آدم عليه السلام حيث يقول: "كيف نسيا تحذير الله لهما" ؟! (46). ويقول: "ونسي ربه"؟! (47). ويقول: "ونسي موقعه منه"؟!!(48).

فهلاّ أرشدنا "الكاتب" أين ذكر الله ذلك في القرآن الكريم؟ وهلاّ أرشدنا إلى ذلك الذي نسيه عليه السلام؟ فهل هو التحذير، أم ربّه، أم موقعه منه ؟

ثم ما معنى قوله:(49) "قد ينطلق من الشعور بالإساءة إلى مقام الله في ترك اتباع نصائحه"(50). فهل المعصية الإرشادية إساءة إلى مقام الله أم إلى النفس؟!. وهل عصيان نصيحة الطبيب إساءة إلى الطبيب وإلى مقامه أم إساءة من المريض إلى نفسه؟! وهل يعقل أصلا أن تكون معصية آدم (ع) إساءة إلى مقام الله تعالى ؟! وهل هناك من يقول بمثل هذه المقولة ؟!!

وحتى لوكان العلامة الطباطبائي (قده) يقول: "إن النسيان هو نسيان عهد الربوبية" فإنه قدس سره قد ذكر أن ذلك يعني "غفلة الإنسان عن ذكر مقام ربه" لا الإساءة إليه سبحانه وتعالى، فهناك فرق بين القولين

بل أن العلامة الطباطبائي قد صرّح بما لا يقبل الشك أن آدم (ع) قد أساء إلى نفسه، وفسّر قوله تعالى: "فتكونا من الظالمين" بالظالمين لأنفسهم، حيث قالا على ما حكاه الله عنهما: "ربنا ظلمنا أنفسنا". كما استدل رحمه الله على هذا المعنى بأنه تعالى: بدّل هذه الكلمة في سورة طه بقوله: "فتشقى" أي فتتعب، وأن وبال هذا الظلم هو التعب في الحياة الدنيا فعلى هذا يكون الظلم منهما ظلم لأنفسهما لا بمعنى المعصية المصطلحة(51).

بعد ما مرّ نسأل "الكاتب": هل أن ما ذكره " البعض" من أن آدم (ع) أساء إلى مقام الله سبحانه هو مما يكاد يجمع عليه العلماء ؟! وهل هو نفس ما ذكره العلامة الطباطبائي (قده) والشهيد الصدر (قده) وغيرهما ؟!

والعلامة الطباطبائي (قده) لم يضعفه كما ذكر الكاتب(52) بل رفضه رفضا قاطعا وقال: إنه غير صحيح (53) إذ كيف نسيا تحذير الله لهما وقد ذكره إبليس أمامهما كما في قوله تعالى: ( فوسوس لهما الشيطان وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين )

ولنفترض أن النسيان بمعنى الغفلة، فهل هذا يبرر كل هذا التهويل بتلك العبارات من مثل:"أطبقت عليهما الغفلة عن مواقع الله ونهيه"(54).وهل غفلا عن مواقع بالجملة!! أم عن موقع واحد بحسب الفرض؟!! و"استسلم لأحلامه الخيالية"(55).

فهل هذا من أدب الحديث عن أنبياء الله عليهم السلام ؟!!

أضف إلى ذلك أن النسيان لوكان يتعلق بالنهي، لاكتفي ابليس بإرشادهما إلى الشجرة ودعوتهما للأكل منها بدون ذكر النهي  لكنه ذكر النهي أمامهما وعمد لعنه الله إلى الإغواء  (الإغواء المقابل للرشد) بأن الأكل من الشجرة فيه منفعة كبيرة، وهو ما يتوافق مع كلام العلامة المحقق الذي قال: "إن عمل إبليس تركّز على إظهار أن الإلتزام بنهي الله وإن كان فيه منفعة كبيرة لأنه يدفع ضررا، إلا أن تحمّل هذا الضرر بالأكل يجلب منفعة أعظم"(56). وهو ما أشار إليه العلامة الطباطبائي (قده) في شرحه لمعنى الغيّ في قوله تعالى: "وعصى آدم ربه فغوى" حيث قال: "إن الغي خلاف الرشد الذي هو بمعنى إصابة الواقع وهو غير الضلال الذي هو خروج عن الطريق"(57). فالغيّ هو عدم إصابة الواقع، وهو ما يتلاءم مع كلام العلامة المحقق، لأن عمل آدم (ع) بكلام إبليس لم يصب به الواقع فلم يحصل فيه منفعة.

أما " البعض " فقد اعتبره " إنحرافا" بقوله: "لم تكن عملية الهبوط عقوبة لهذا الإنحراف عن أوامر الله"(58). والإنحراف هو خروج عن الطريق، أي هو الضلال كما أشار إليه العلامة الطباطبائي (قده).

وعليه فإن "البعض" في تفسيره لمعنى الغيّ بحسب رأي العلامة الطباطبائي  اعتبر الغيّ ضلالا. فكيف يصح ادعاء "الكاتب" بأنه لا فرق بين كلام العلامة الطباطبائي (قده) وكلام صاحبه .

ونسأل "الكاتب" ومعه صاحب المقولة: أي إرادة لله عصاها وتمرد عليها آدم عليه السلام ؟! هل هي الإرادة التكوينية أم الإرادة التشريعية ؟!

وعلى أي حال، فالفرق واضح بين ما ذكره " البعض"  وبين كلام العلامة الطباطبائي الذي اعتبر أن المعصية الإرشادية أي أن الأكل من الشجرة لم يكن نتيجة للنسيان، بل النسيان كان نتيجة للأكل، لأن النسيان يسببه عيش الإنسان في الدنيا وهي دار الغفلة، ولا يتم تجنبه إلا بالتوبة والتقرب إلى الله  قال رحمه الله : "ومن هنا تحدث إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في إقترابها تعب الحياة الدنيا وشقائها وهو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسيا لربه غافلا عن مقامه، وأن آدم (ع) كأنه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق، ووقع في تعب الحياة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة"(60).

ومعنى كلامه أن آدم (ع) أراد أن يجمع بين الميثاق والخلود الذي يسببه الأكل من الشجرة كما أقسم له عليه إبليس. لكن الأكل أدى إلى الهبوط إلى الدنيا وهي دار الغفلة التي تقتضي نسيان الميثاق، ما لم يتقرب الإنسان إلى الله وهذا الكلام صريح بأن النسيان كان بسبب الأكل من الشجرة الذي أدى إلى الخروج من الجنة إلى الأرض .

بعد هذا ألا يعتبر ما ذكره "الكاتب" حول رأي العلامة الطباطبائي (قده) كما قدّمه افتراء عليه، أو على الأقل قلة تدبر وتأمل منه في كلامه؛ لا سيما أنه شبّهه بكلام " البعض".

وصفه لأبينا آدم عليه السلام بالسذاجة

أما اتهام"الكاتب" للعلامة الطباطبائي (قده) بأنه وصف آدم (ع) بالسذاجة فمما يندى له الجبين ! والحق أن العلامة الطباطبائي (قده) إنما تحدث عن الإنسان الأول، ولم يتحدث عن الأنبياء، لأنهم (ع) كانوا حالة مميزة عن الإنسان الأول، وهذا التميز هو سبب الإصطفاء، وبالتالي: فلا يصح حمل كلامه (قده) على الأنبياء .

أضف إلى ذلك، أنه كيف يمكن وصف نبي الله آدم (ع) بالسذاجة!! (بمعنى سذاجة الفكر وبساطة الإدراك) كما عرفها "الكاتب" نفسه (61) والحال أن الله تعالى، كان قد علمه الأسماء كلها، بغض النظر عن ماهية تلك الأسماء، ومسمياتها، وذلك قبل إسكانه الجنة .

ثم إن "الكاتب" قد ذكر أن السذاجة تارة تعني البساطة في الإدراك، وامتلاك البديهيات، وقليل من النظريات، وأخرى تعني عدم الإطلاع على مكائد، وأساليب إبليس(62).

فهل هذه تساوي تلك؟! أي هل عدم الإطلاع على مكائد إبليس وأساليبه يساوي البساطة في الإدراك؟! أم أن ذلك من تبعات تلك ؟!

وهل حديث العلامة الطباطبائي (قده) عن الإنسان الأول وأنه كان يعيش على بساطة، وسذاجة في الفكر هو الدليل الذي يملكه على أن ذلك مما أجمع عليه علماء المذهب أو كادوا ؟!!

ويا ليته بيّن لنا كيف فهم ذلك من كلامه؟! وأين كلمات الشيخ الطوسي والطبرسي وغيرهما مما ذكره، فهل يقول هؤلاء بهذه المقولة؟! وهل يصفون نبي الله آدم (ع) بهذه الصفة (أي السذاجة) والسقوط إلى درك الخطيئة، وما شابه ؟! ومن أي معجم لغوي حصل على هذا التعريف أن السذاجة تعني: "عدم الإطلاع على مكائد إبليس" ؟!

وكيف تكون السذاجة التي تعني البساطة في الإدراك غير منافية لتعلمه الأسماء كلها ؟!

ثم من أين علم هذا " الكاتب " أن العلامة المحقق لم يطلع على ما

ذكره صاحب "لسان العرب "الذي يفسّر السذاجة بـ :"عدم إمتلاك البرهان القاطع " ؟ !

أليس في قول العلامة المحقق أيده الله: "وكيف يكون آدم (ع) ساذجا وقد خلقه الله تعالى بيده، وعلمه الأسماء كلها، وأثبت لهم أنه أوسع علما ومعرفة منهم" (63)

 ولعل "الكاتب" فهم من كلام العلامة المحقق أنه يذهب إلى أن السذاجة تعني : " التطلع إلى الأمور بنظرة حائرة بلهاء " ؟! (64) ولهذا قال إنه " لا ينبغي أن يتبادر إلى ذهن العلامة المحقق هذا المعنى على الإطلاق، لأن السذاجة لا تعني البلاهة وإن هذا التبادر خاطئ (65).

لكن قوله هذا إفك وتضليل ، فالعلامة المحقق إنما نقل كلام صاحبه الذي يدافع عنه، فإنه هو الذي عرّف السذاجة بهذا المعنى حيث يقول: "لأن توجيه الوجه لله لا يعني في مدلوله العميق هذا الموقف الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان نحو الأفق الممتد في السماء بنظرة حائرة بلهاء"(66).

على أن " البعض" وصف نبي الله إبراهيم الخليل (ع) بالسذاجة أيضا ! حيث قال وهو يتحدث عنه (ع): "لأن الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال: هذا ربي) في صرخة الإنسان الطيب الساذج". وقال: "ولعل هذا هو الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به الآية". وقال: "فتكبر الصرخة في طفولة بارزة: هذا ربي وهذا أكبر لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة "       (67) .

ففي أربعة موارد كرر " البعض" هذا الوصف لشيخ الأنبياء إبراهيم الخليل (ع) في أربع صفحات متتالية من كتابه منهما مرتان في صفحة واحدة !!!

ورغم ذلك فقد تجاهل "الكاتب" هذا الأمر ولم يتعرض له في حديثه عن إبراهيم (ع)؟!(68).

ولعله يريد أن يوحي بأن ذلك يتوافق مع تفسير الآيات، بأن ذلك كان في زمن طفولة إبراهيم (ع)، وأن هذا التفسير هو الإتجاه الثاني الذي تحدث عنه " البعض". ولكن هذه المحاولة منه للإفلات لن تنجح لأنه أكد وأكد بأن "البعض " يعتبر الإتجاه الأول هو الأقرب !

وكيف يمكن التأليف والتوفيق بين ما نقله " الكاتب " عن "البعض" بأن اسلوب إبراهيم (ع): "أسلوب رائع من أساليب الحوار"(72) وبين هذه الأوصاف ؟! فهل من يمارس هذا الأسلوب الرائع يوصف بالسذاجة والبساطة في الإدراك وفق تعريف "الكاتب نفسه"؟!!.

ولو فرضنا أن "الكاتب" رجح الإتجاه الثاني، فإن مشكلته ستبقى ، وسيوقعه ذلك بما هو أمرّ وأدهى وهو أن إبراهيم (ع) قد عاش مع الكوكب في حالة من التصوّف والعبادة لهذا الرب النوراني، وأنه اكتشف الحقيقة الصارخة، وأنه أقبل عليه (أي على الكوكب) في خشوع العابد وفي لهفة المسحور وغير ذلك من صور وأشكال حلّق بها "البعض " في وحيه تائهاً !

أضف إلى ذلك أن المعصوم لا يحتمل في حقه أنه قد عبد الكوكب ! ووجود الإحتمال لا يجتمع مع الإعتقاد لأن الإعتقاد معناه اليقين .

فكلمة " رجح " تفيد أن الإحتمال المرجوح باقٍ فكيف يقول: أنه يعتقد بعصمته عن الشرك وعبادة الكواكب ؟!

فالواقع أن الإتجاهين الأول والثاني لاينسجمان مع ما استعمله "البعض" من ألفاظ وتعابير وأوصاف بحق نبي الله إبراهيم (ع) الأمر الذي كان محط نظر العلامة المحقق ومحل إشكالاته، حيث إن تبني أو ترجيح الإتجاه الأول لا ينسجم مع وصف النبي، الذي قدم أسلوبا رائعا في الحوار، بالسذاجة.

والحقيقة أن "الكاتب" كان غاية في التقليد والترديد لمقولات "البعض" المتهافتة والمتناقضة بحيث أنه لم يأت بشيء جديد .

 وإن أبى إلا الإصرار على استعمالها فيمكنه الإشارة في الهامش إلى أن المقصود من "السذاجة " مثلا هو هذا المعنى لا المعنى المتبادر !

لكن تقدم أن " البعض " قد حدد معنى بأنه التطلع للأمور بنظرة حائرة بلهاء!

الضعف البشري والرغبة المحرمة

قال "الكاتب" إنه قد صرح بهاتين المقولتين الكثير من المفسرين !

وقد عجزنا في العثور على قول مفاده: أن نبي الله آدم (ع) كان يعيش الضعف البشري أمام الحرمان أو أنه قد مارس الرغبة المحرمة !

بل لم نعثر على ما يشير من حيث الشكل أو المضمون لهاتين المقولتين لا سيما عند الطباطبائي (قده) والطوسي (قده) والطبرسي (قده) !

فكيف تكون هاتان المقولتان مما يكاد يجمع عليهما علماء التفسير منذ عصر الشيخ الطوسي(قده). حتى عصرنا الحاضر؟!.

على أن ما ذكره "الكاتب" عن قول العلامة المحقق في "الصحيح في سيرة النبي الأعظم" حول قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) وبالحرف الواحد: "إن هذه الآية تدل على أنه لو كان لآدم (ع) طاقة وتحمل لما أقدم على ما أقدم عليه، مما يعني أن النسيان ناشئ عن عدم القدرة على التحمل"(77). فهو تشبيه غريب لكلام العلامة المحقق وكلام " البعض " وحديثه عن الضعف البشري أمام الحرمان.

إذ أن ما استظهره العلامة المحقق من الآية هو: إنها تربط بين النسيان والعزم (فنسي ولم نجد له عزما) أي لم يجد له عزما بسبب نسيانه وهذا هو المعنى اللغوي لكلمة لم نجد له عزما فقد ذكره ولم يوضح حقيقته، ولا أشار إلى أسبابه، بل أراد مجرد الإشارة إلى الربط بين النسيان وبين العزم. بغض النظر عن معنى النسيان .

ولم يقل كما قال " البعض " إن آدم كان يعيش الضعف البشري أمام الحرمان وإغراءات إبليس ، والحال أن آدم (ع) لم يقدم على ما أقدم عليه بسببه بل بسبب  قسم إبليس أنه له لمن الناصحين .

أما تجاهل "الكاتب" لمقولة "البعض"  حول إقبال آدم (ع) على ممارسة الرغبة المحرمة(78) فهو أمر اعتدناه منه في الكثير من الموارد المحرجة، والفاضحة، التي يمثل عرضها إدانة لمطلقها فكيف بتبنيها والدفاع عنها وكيف يمكن أن يكون إقدام نبي الله آدم (ع) على الأكل من الشجرة ممارسة للرغبة المحرمة ؟!وهل يمكن أن تكون هذه المقولة حقا ؟!

الاستهزاء بالدورة التدريبية للمعصومين عليهم السلام

أما عن هذه المقولة وإدعاء "الكاتب" أن العلامة المحقق راح يستهزئ بها !79 ).

فإننا بدورنا سنعرض كلامه الذي نقل "الكاتب" بعضه لنرى مدى الإفتراء والتجني عليه  . يقول العلامة المحقق: "

أما الدورة التدريبية التي تحدث عنها بالنسبة لآدم ولغيره من الأنبياء فنحن نخشى أن يكون ثمة رغبة في الحديث عن دورات مماثلة لعيسى والإمامين الجواد والهادي، والمهدي عليهم السلام !! حيث أن تصدّيهم للمقامات الإلهية لم تسبقه دورة تدريبية فيها أوامر إمتحانية وعسكرية إلا أن يقال: إن إمامتهم لم تبدأ في ذلك السن، وبقي مقام النبوة والإمامة شاغراً إلى أن انتهت دوراتهم التدريبية .

ولعل ما يعزز هذا الإحتمال ما قالوه من أن "غيبة الإمام المهدي عليه السلام إنما هي ليكتسب خبرة قيادية" فلما أوردنا عليهم الإشكال قالوا: "إن الشهيد الصدر هو الذي قال ذلك" فراجعنا كلام الشهيد الصدر فوجدناه يقول: "وعلى هذا الأساس نقطع النظر مؤقتا عن الخصائص التي نؤمن بتوفرها في هؤلاء الأئمة المعصومين أي من أجل تقريب الفكرة لمن يعتقد بما نعتقده كذا وكذا"(80).

فنسأل هذا "الكاتب" من أين علم أن العلامة المحقق راح يستهزئ ؟! فلعله قرأ قوله : " فيها أوامر امتحانية وعسكرية" فاستنبط منه أن في ذلك إستهزاءا، وهو لا يدري أن ذلك كلام " البعض" الذي يقول: "ولكنه كان أمرا إمتحانيا، إختباريا، تجريبيا، وكان أمرا تدريبيا، تماما كما يتم تدريب العسكري"(81). فإذا كان في هذا الكلام استهزاء فهو كلام " البعض" .

أما العلامة المحقق فلم يلتفت إلى ما التفت إليه هذا "الكاتب" من استهزاء في هذا الكلام ولم يحمل على هذه المقولة بالذات، إنما أراد أن يعبر عن خشيته من أن يكون الحديث عن دورة تدريبية لآدم (ع) تمهيدا للحديث عن دورات تدريبية لعيسى (ع) ولبعض الأئمة (ع) كالإمام الجواد (ع) والهادي والإمام المهدي عليهم السلام، فيكون بذلك قد ألفت الى إمكانية دعاوى من هذا النوع ! وهذه الخشية لم تأت من فراغ بل لها علامات تبرّرها كمقولة تعليل غيبة القائم (عج) بأن الغاية منها هي اكتساب الخبرة القيادية، هذه المقولة التي ينشؤون عليها الأجيال في إحدى الجمعيات الإسلامية للتعليم الديني ! رغم ما تثيره هذه المقولة من علامات استفهام  توحي بأن القائم عجل الله فرجه يحتاج لإقامة الحكومة الإسلامية لبضع سنين ـ كما تشير إلى ذلك الروايات ـ إلى دورة تدريبية لاكتساب خبرة قيادية تستمر أكثر من ألف عام، ومن يدري فقد تحتاج إلى آلاف الأعوام حيث لا زالت هذه الدورة مستمرة ؟!

وتوحي أيضا أن عدم نجاح الأئمة عليهم السلام في إقامة الحكومة الإلهية يعود لعدم اكتسابهم لمثل هذه الخبرة ولعدم قيامهم بمثل هذه الدورة؟!!

ولما كان الإمام الحجة (عج) آخر الأئمة (ع) كان لا بد من غيبته هذه لاكتساب هذه الخبرة القيادية إحترازا من الفشل، وبالتالي ضمان النجاح؟!!.

ولعمري إنها لأطول دورة تدريبية عرفها التاريخ وأغربها وأعجبها ولعلها تستحق أن تدرج في ( موسوعة غينيس ) للأرقام القياسية

ولعمري إنها مقولة فيها استهزاء بالدين والعقيدة ، فضلا عن كونها تجرؤا على مقامات الأنبياء والأئمة عليهم السلام !!

وهناك علامات أخرى تبرّر للعلامة المحقق خشيته، فإن ثمة مقولات شفهية وإن لم تصل بعد إلى حد المقولات المكتوبة تحامل فيها "مستوحيها" على إعتقاد الشيعة بإمامة الجواد عليه السلام وهو في سن السادسة من العمر بقوله خلال أحد اللقاءات التي جرت بينه وبين العلامة المحقق قبيل إصدار كتاب مأساة الزهراء ما مضمونه: إنه كيف يقنع الناس بأن إمامهم صبي عمره ست سنوات، لذا هو يستبعد ذلك ويحاول أن يثبت أن عمره الشريف كان آنذاك أكثر من ذلك بكثير ، وهو ما ذهب إليه السيد هاشم معروف الحسني في كتابه "سيرة الأئمة الإثنى عشر" رغم عدم وجود أي نص يشير إلى ذلك ورغم وجود نصوص صريحة تؤكد صغر سنه بإعتراف الحسني نفسه(82) الأمر الذي ينتهي بشكل أو بآخر إلى إنكار إمامة الجواد عليه السلام بناء على هذه المقولة التي ترتكز على استبعاد قيام الإمام عليه السلام بشؤون الإمامة وهو غلام صغير !!

ولا يتوقف الأمر على إمامة الإمام الجواد (ع) كما أشرنا بل يستلزم ذلك أيضا إنكار إمامة الهادي (ع) والإمام المهدي وكذلك إنكار نبوة عيسى في المهد حيث صرّح نفس صاحب هذه المقولة في معرض الحديث عن قوله تعالى (آتاني الكتاب وجعلني نبيا .) أنه حديث عن المستقبل وقد جاء بصيغة الماضي للتأكيد على حصوله أي أن الله سيأتيه الكتاب وسيجعله نبيا في المستقبل!!(83). وعليه، فمن حق العلامة المحقق أن يعبر عن خشيته وعن مخاوفه، بل من واجبه ذلك ومن حقنا أن نتساءل وأن نثير علامات الإستفهام والإستهجان حول هذه المقولات الجريئة غير البريئة !

هذا في الوقت الذي يدعي فيه صاحبها أنه قد تصدّى لكتابة المقالات الأدبية، بل ولإصدار مجلة، وإستكتاب بعض الشخصيات وهو بسن العاشرة أو الحادية عشر!!(84) وكأن الله اجتباه واختصّه بما لم يختص به أولياءه وأغناه عن الحاجة إلى دورة تدريبية بما لم يغنهم عنه ! فتبارك الله أحسن الخالقين!!

وخلاصة القول:

إن " البعض" يستبعد أن يتصدّى المعصوم لشؤون الإمامة صغيرا في الوقت الذي يدرس فيه العلماء ظاهرة النبوغ المبكر لدى الأطفال، حيث بتنا نسمع ونرى بين الحين والآخر آيات عبارة عن أطفال يتميزون بطاقات وقوى يعجز العلم والعقل عن تفسيرها . حتى أن بعض هؤلاء قد نال شهادة الدكتوراه في العلوم الرياضية عالج في رسالته أعقد مسائلها ! إنهاآيات يرينا إياها الله تعالى بين الحين والآخر لنـزداد رسوخاً في الإيمان و العقيده.

ولعمري فإن مغزى كلام العلامة المحقق ومؤاخذاته على هذه المقولة لا يدركه من كان ذو عصبية، وإنما يدركه من كان متجرداً حراً في رأيه .

مقولات تجاهلها الكاتب

حصر "الكاتب" مقولات " البعض" المتعلقة بآدم (ع) بما مرّ، وتجاهل غيرها!! خاصة تلك التي تتعلق بالتعابير والألفاظ التي وصفها العلامة المحقق بأنها: "ليست لغة سليمة، ولا مقبولة، مهما حاولنا التبرير، والتوجيه، والإلتفاف على الكلمات" وبأنها "عبارات تستعمل لأقل الناس وأحطهم"(91).

فنتساءل : ما الدافع لتجاهل "الكاتب" قول " البعض" : (فلا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) الذين يظلمون أنفسهم ويسيئون إليها بالإنحراف عن خط المسؤولية في طاعة الله "؟!!(92).

وما الدافع لإغفاله قول "البعض"  : ( فدلاّهما بغرور، أي أنزلهما

عن درجتهما الرفيعة فأوصلهما إلى مرحلة السقوط بسبب الغرور الذي أوقعهما فيه ) ؟! (93).

فهل هناك جرأة أكثر من ذلك ؟! وهل صحيح أن إبليس أوقع آدم (ع) وزوجه بالغرور؟!!.

ولعل "كاتبنا" ومعه صاحب العبارة قد  فهما من كلمة غرور المعنى (العامي) لها وهو: رؤية النفس باستعلاء وتكبر ! فإن كان كذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ونعوذ به من هذا الوحي والإستيحاء والإستئناس بالمعاني العامية ومفاهيمها ! وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على غربة هذا  "الكاتب" وصاحبه عن عالم التفسير واللغة .

ونقول لهذا "الكاتب" الذي يدعي أنه يعيش في عالم التفسير ويتهم الآخرين بعدم الإطلاع على التفاسير: ألم يقرأ التبيان للشيخ الطوسي ليعلم أن الموصوف بكلمة الغرور إنما هو إبليس ؟!! وأن معنى الغرور هو: "إظهار النصح وإبطان الغش"(94) فيكون معنى قوله تعالى: "فدلاهما بغرور" أي أنزلهما من الجنة إلى الأرض عبر إظهاره للنصح وإبطانه للغش. وليخبرنا هذا "الكاتب" لماذا تعامى عن قول صاحبه: "فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما  وشعرا بالعري الذي بدأ يبعث في نفسيهما الشعور بالخزي والعار"؟!!(95)

علما أن "الكاتب" قد تعرّض لمناقشة موضوع السوءات(96) ومع ذلك تجاهل كليا تعبير صاحبه بكلمة: "الخزي والعار"

على أن سبب هذا التعامي بات معروفا، بل مفضوحا لا يخفى على أحد !

وماذا عن تعبير صاحبه الذي يقول: "وتمثلت الجريمة لهما بمستوى الكارثة"!!(97)  حيث لا يوجد مبرر لغض النظر عنه ؟!!.

فنسأل "الكاتب": أي نوع من أنواع الجريمة يقصد ؟ أم أن هناك أيضا جريمة إرشادية وأخرى مولوية ؟! فإننا لا نستبعد أن يتحفنا بهذا التقسيم للجريمة .

وماذا عن قوله: فأسقطه من مكانته لئلا يبقى هو الساقط الوحيد في عملية التمرد على الله ؟! (98).

ألا يعتبر هذا الكلام الساقط عن الإعتبار تمردا على الله تعالى ؟ لما فيه من اتهام لأنبيائه عليهم السلام .

وماذا عن قوله: "فها هو إبليس يشعر بالزهو والرضا لأنه استطاع أن يهبط بقيمة هذا المخلوق الذي كرمّه الله عليه إلى درك الخطيئة ليصبح منبوذا من الله"(99). فيا له من تكريم!!!

وماذا عن قول" البعض " : " ولكن آدم لم يتعمق في وعي الموضوع، ولم يأخذه مأخذ الجدية والإهتمام ." (100) 

ونسأل "الكاتب": هل هذه هي عقيدة الشيعة بالأنبياء، أم هي عقيدة آخرين؟!!  أوليس في هذا القول اتهام لآدم (ع) بأنه لم يأخذ النهي على محمل الجد؟!! فهل كان الله سبحانه يمازح آدم (ع) ويلاطفه ويداعبه بإصدار الأوامر له حتى اشتبه عليه الأمر بحيث لم يدر أن هذا الأمر جدي أو غير جدّي؟!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

وماذا عن أمثال العبارات التالية المستوحاة من القرآن كما يزعم"البعض": "فينحرف من موقع الغفلة". "ولو فكر جيدا". "واستسلما للجو الخيالي المشبع بالأحاسيس الذاتية المتحركة مع الأحلام وغير ذلك كثير 

فهل هذا كله حقاً من وحي القرآن ؟!

 

هوامش الفصل الأول

(18) سورة البقرة / الآية 35 - 37.

(19) سورة طه / الآية 115 - 122.

(20) سورة الأعراف / آية 19-23.

(21) خلفيات : 1/ 55 و 61.

(22) راجع : خلفيات : 1/56-57 و 62 نقلا عن: من وحي القرآن : 10/31 و 34 و : 15/171 و 176 و 177، والندوة : 1/314 و 315 و 360 و 737 ، والموسم عدد 21 و 22 ص 293 و 294 و 319.

(25) الموسم العددان 21 و 22 ص 309.

(26) ن . م ، ص 319 .

(23) خلفيات ج 1 ص 63.

(24) خلفيات ج 1 ص 63.

(28) خلفيات ج 1 ص 64.

(29) تنزيه الصفوة ص 21 و 22 و 10 و 11، خلفيات ج 1 ص 64.

(31) راجع: خلفيات ج 1 ص 62، والندوة ج 1 ص 737.

(32) الندوة ج 1 ص 737.

(35) ن. م ص 33 (الهامش).

(39) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 32.

(40) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 44.

(41) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 56 و 57.

(42) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 56 و 57 و ? من وحي القرآن ? ج 10 ص 34.

(43) خلفيات ج 1 ص 39.

(44) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 57.

(45) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 57.

(46) من وحي القرآن ج 10  ص 33.

(47) من وحي القرآن ج 10  ص  31.

(48) من وحي القرآن ج 10 ص 31.

(49) كان "الكاتب" قد ذكر هذا النص في رسالته ص 21 قبل طبع الكتاب لكنه تدارك ذلك وحذفه لعلمه بأنه لا يتناسب والدفاع عن صاحبه خاصةً وأن هذا النص مما لم يذكره العلامة المحقق.

(50) من وحي القرآن ج    ص 187.

(51) راجع: الميزان ج 1 ص 130.

(52) راجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص 49.

(53) راجع: الميزان ج 1 ص 128.

 (54) من وحي القرآن ج 10 ص 31.

(55) من وحي القرآن ج 10 ص 31.

(56) خلفيات ج 1 ص 58.

(57) الميزان ج 15 ص 222.

(58) من وحي القرآن ج 11 ص 187.

(60) الميزان ج 1 ص 130.

(61) راجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص 62.

(62) راجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص 67.

(63) خلفيات ج 1 ص 60.

(64) خلفيات ج 1 ص 60.

(65) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 60.

(66) من وحي القرآن ج 9 ص 123.

(67) من وحي القرآن ج 9 ص 114 و 115 و 116 و 122.

(68) راجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 113.

(72) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 126.

(77) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 69 و 70. وراجع : الصحيح في سيرة النبي الأعظم : 3/221 الطبعة الأولى.

(78) من وحي القرآن : 10/31 ، وراجع خلفيات : 1/55 و 56 و 57.

(80) خلفيات ج 1 ص 61.

(81) الندورة ج 1 ص 315.

(83) من وحي القرآن ج 15 ص 37.

(84) مجلة المرشد العددان 3 و 4 ص 57، وتحدي الممنوع ص 28.

(91) خلفيات ج 1 ص 48 و 49.

(92) من وحي القرآن ج 10 ص 25.

(93) من وحي القرآن ج 10 ص 32.

(94) التبيان ج 4 ص 372.

(95) من وحي القرآن ج 1 ص 32.

(96) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 77.

(97) من وحي القرآن ج 10 ص 33.

(98) من وحي القرآن ج 10 ص 181 و 182.

(99) من وحي القرآن ج 10 ص 181 و 182.

(100) من وحي القرآن ج 15 ص 169.

 

 

 

الفصل الثاني : يونس عليه السلام

 

 

 

خلاصة الانتقادات

1 ـ زعم "الكاتب" أن نبي الله يونس عليه السلام فر من ربه عز وجل ! في حين أجمع أعلام المفسرين على أن فراره عليه السلام كان من قومه وليس من ربه .

 2 ـ حرف "الكاتب" كلام الطوسي في حديثه عن فرار يونس (ع) محاولاً أن ينسب إليه أنه يقول بأن يونس فر من ربه وأبق منه . بينما صرح الشيخ الطوسي بشكل لا لبس فيه أن فراره كان من قومه.

3 ـ وكذلك فعل " الكاتب" برأي الطبرسي والفيض الكاشاني وأبن أبي جامع العاملي قدس الله سرهم .

4 ـ قام "الكاتب" بالتلاعب برأي العلامة الطباطبائي في مسألة الإباق  لإخراجه عن معناه الذي قصده ، علما أن العلامة الطباطبائي إنما تحدث عن أن ذلك كان تمثيلاً بالهروب لا هروباًً بالمعنى الحقيقي .

5 ـ أصر "الكاتب" على الطعن بنبي الله يونس (ع) عندما وصفه بأنه قد هرب من ربه من دون مبرر، ومن دون عذر، وأنه متمرد في ذهابه وفراره ، وزعم أن هذا المعنى واضح وبديهي.

6 ـ حذف "الكاتب" بعضا من كلام الطوسي مما لا يناسبه حول تعريفه قدس سره للمعنى اللغوي لكلمة ( أبق ) .

7 ـ تجاهل "الكاتب" تعريف الطبرسي لكلمة أبق .

8 ـ عمد "الكاتب" إلى التضليل بالإستشهاد بروايات لا تصلح لتأييد مبتغاه.

9 ـ ادعى "الكاتب" كذباً أن مقولة  " تهرب يونس من مسؤولياته" لم يقلها " البعض " ، بينما هو قالها .

10 ـ حذف "الكاتب" قول صاحبه: إن خروج يونس كان انفعالا في اتخاذ القرار.

11 ـ ادعى "الكاتب" كذباً أن معاجم اللغة تجمع على أن كلمة "مُليم" تعني أنه أتى ما يستحق اللوم عليه. مع أن بعضها صريح بأنها تعني : أتى ما لا يستحق عليه اللوم، وبعضها الآخر صريح بأن مُليم بمعنى ما يستحق اللوم إنما هو عند بعض العرب، وقد نُقل هذا القول عن الفراء .

12 ـ دلس "الكاتب" في نص لسان العرب عندما وضع كلمة "مَليم" (بالفتح) دون تحريكها لتفيد معنى "مُليم" (بالضم) لإثبات ما يدعيه، وقد عمد لتحريك معظم الكلمات واستثنى هذه الكلمة.

13 ـ وكذلك فعل بنص كتاب "العين" للفراهيدي .

الآيات القرآنية في الموضوع

(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )( 103)

وإن يونس لمن المرسلين . إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين . فالتقمه الحوت وهو مليم . فلولا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يبعثون . فنبذناه بالعراء وهو سقيم )( 104)

فاصبر لحكم ربك ولاتكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم . لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ) ( 105) .

( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) (106).

التهم التي وجهها "البعض" ليونس عليه السلام

84 ـ زعم أن يونس (ع) ليس لديه الصبر الكافي.

85 ـ وأن الله أدب نبيه يونس عليه السلام  بالمعنى العامي .

86 ـ وأن يونس (ع) تهرب من مسؤولياته.

87 ـ وأن الله تعالى اعتبر يونس (ع) هارباً كإباق العبد من سيده.

88 ـ وأن يونس (ع) يخرج دون أن يتلقى تعليمات من الله "(107).

قال : "ما كان عنده الصبر الذي تحتاجه المسألة، فتفسير (فظن أن لن نقدر عليه) ليس معناها أنه ظن أن الله لا يقدر عليه، أن لن نقدر عليه، يعني أن نضيق عليه كأنه في هذا المجال، وما في مانع أن أنبياء الله سبحانه يتعهدهم بالتربية والتأديب في حالة من الحالات، لا سيما إذا كانوا أنبياء في حجم يونس، وأمثال يونس من الأنبياء المحليين"(108).

"خرج مغاضبا إحتجاجا على ذلك، من دون أن يتلقى أية تعليمات من الله في ذلك منه (اعتقادا منه) بأن المسألة لا تحتاج إلى ذلك، فقد قام بدوره كما يجب، فلم يدخر جهدا في الدعوة إلى الله بكل الأساليب، والوسائل، ولم يبق هناك شيء مما يمكن عمله. ولكن الله اعتبرها نوعا من الهروب، فيما يمثله ذلك من معنى الإباق، تماما كما هو إباق العبد من مولاه"(109).

"نستوحي من هذه القصة الخاطفة، أن الله قد يبتلي الدعاة المؤمنين، من عباده ورسله، فيما يمكن أن يكونوا قد قصروا فيه أو تهربوا منه من مسؤليات.

وأن الداعية قد يضعف أمام حالات الفشل الأولى، أو أوضاع الضغط القاسية، أو مشاكل الظروف الصعبة، كنتيجة لفكرة إنفعالية سريعة، أو شعور حاد غاضب ثم يلطف الله بهم بعد أن يتراجعوا عن ذلك، ويرجعوا إليه، فينجيهم من بلائه، ويحوطهم بنعمائه، ويسبغ عليهم من ألطافه وآلائه، لئلا يتعقد الخطأ أو الإنفعال في شخصيتهم، لينطلقوا إلى الحياة من روحية الصفاء الروحي والنقاء الشعوري من جديد ليبدأوا الدعوة من حيث انتهوا ويتابعوا المسيرة بعزم وقوة وإخلاص .

ثم نلتقي في أعماق الموقف بالإبتهالات الخاشعة الخاضعة لله في روحية الإحساس بالعبودية، التي يشعر المؤمن معها بأن الله يلتقيه في مواقع الإنابة، مهما كانت الخطايا والذنوب، وأن الخطأ لا يتحول إلى عقدة بل يتحول إلى فرصة للقاء بالله من جديد، في مواقع التوبة الحقيقية الخالصة، التي يبدأ فيها التائب تاريخاً جديداً ، وصفحة بيضاء في حياته" (110).

ما ارتكبه "الكاتب  في الدفاع عن صاحبه

أول ما اتحفنا به "الكاتب " : إباق يونس عليه السلام من ربه !

إعتبرهذا الكاتب أن تفسير العلامة المحقق لمعنى الإباق "بالفرار من قومه" مما لم يقل به أحد من أعلام التفسير، وأنه مما لم يخطر على بال أحد مهما احتمل للآية من وجوه (111). واستدل على ذلك بـ: "إن الله سبحانه هو المتحدث، وهو الذي يقصّ علينا قصته (إذ أبق إلى الفلك المشحون) وأن الله هو الذي وصف فراره بالإباق، فكيف يمكن أن تقول: "اعتبروه فارا وآبقا منهم"(112).

ولعمري إنه استدلال عجيب،فحسب منطقه إذا قال قائل: هرب فلان إلى الجبل فإن ذلك يعني أنه هرب من القائل دون سواه، لأنه هو الذي وصفه بالهروب ؟! ولكي يتبين من الذي أتى ببدع من القول، ومن يفهم النصوص على وجه يصير معها دليل الإثبات دليلا للنفي، أو العكس، نستعرض كلام العلامة المحقق الذي يقول بعد عرضه للآيات المتعلقة بالبحث ، قال :

 1ـ كلمة مغاضبا تعني حدوث الإغضاب من الطرفين فلا يصح القول بأن المغاضبة قد كانت بين يونس (ع) وبين الله الحقيقة هي أن المغاضبة كانت بين يونس (ع) وبين فريق آخر، والظاهر أنهم قوم يونس (ع) فالتجأ إلى الفلك المشحون بالناس وكان قومه يطلبونه ليوصلوا إليه الأذى، لأنهم كانوا يرونه قد أساء إليهم، فاعتبروه فارا وآبقا منهم"(113).

وقد حمل "الكاتب" على كلام العلامة هذا ، وسعى جاهداً لإثبات أن الإباق كان من الله لامن قومه كما سيأتي !! ثم حشد نصوصا عديدة لبعض المفسرين زاعما أنها تؤيد ما ذهب إليه من أن الإباق إنما كان من الله لا من قوم يونس (ع) وأخذ ينشر العنوان تلو العنوان:

تفسير التبيان: يونس (ع) خرج قبل أن يؤمر.

مجمع البيان: يونس (ع) خرج قبل أن يؤذن له.

جوامع الجامع: ضجر فخرج من غير أمر. وهكذا

وهذه العناوين، كما هو واضح ، إنما تتحدث عن أن يونس (ع) خرج قبل أن يؤمر، وهذا ليس محل البحث ، علماً أن إخبار الله له (ع) بنزول العذاب بمثابة الإذن له بالخروج ، وأن عدم نزول العذاب كان من البداء .

وعلى التنـزل فإنه (ع) إن لم يؤمر بالخروج ، فإنه لم يؤمر بالبقاء وعدم الخروج أيضاً ، كما أشار الى ذلك العلامة الطباطبائي.

وهذه النصوص تؤكد ما ذكره العلامة المحقق وهو أن هروبه كان من قومه ، وللتدليل على ذلك نذكر أقوال المفسرين التي زعم أنها تؤيد ما يذهب إليه.

قال الشيخ الطوسي في تبيانه:

 " فالإباق هو الفرار، فالآبق الفار، حيث لا يهتدي إليه طالبه. يقال: أبق العبد يأبق إباقا فهو آبق إذا فرّ من مولاه، والآبق والهارب والفار واحد . قال الحسن: فر من قومه"(114).

وقال في تفسيره للآية 78 من سورة الأنبياء : وذا النون إذ ذهب مغاضبا:

" فأما ما روي عن الشعبي، وسعيد بن جبير من أنه خرج مغاضبا لربه، فلا يجوز ذلك على نبي من الأنبياء"(115). وهذا نص صريح يؤيد ما ذهب إليه العلامة المحقق من أن المغاضبة كانت لقومه .

وقال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان:

 "وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون . أي فر من قومه إلى السفينة"(116). وهذا نص صريح بأن الفرار كان من قومه. وسيأتي في البحث اللغوي تفسيره لمعنى "أبق" فانتظر.

وقال في جوامع الجامع:

"والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر، والمغاضبة لقومه"(117)  وهذا نص آخر يؤيد مقولة العلامة المحقق.

والملفت أن "الكاتب" جعل عنوان رأي العلامة الفيض كالتالي:

"تفسير الصافي: هرب من قومه بغير إذن ربه" ولعلّه لم يلتفت إلى كلمة: "من قومه" التي تقرر وتؤيد ما ذهب إليه العلامة المحقق صراحة.

وقال أيضا: " إذ ذهب مغاضبا لقومه"(118). وهذا أيضا يؤيد ما ذكره العلامة المحقق.

وقال ابن أبي جامع العاملي:

" فاطلق عليه لأنه هرب مختفيا من قومه"(119). وهذا أيضا تأييد لما جاء به العلامة المحقق، فإن الهروب كان من قومه.

وقد كان بإمكان الكاتب أن يذكر لنا العشرات من المصادر التي تؤيد ذلك لولا خوفه من الإطالة(120)!!! ومع هذا فلا حاجة له إكتفاءً بما تقدم .

 

 

ما نقله الكاتب عن العلامة الطباطبائي قدس سره

النص الأول: "والمراد بإباقه إلى الفلك المشحون خروجه من قومه معرضا عنهم، وهو وإن لم يعص في خروجه ذلك ربه، ولا كان هناك نهي من ربه عن الخروج، لكن خروجه إذ ذاك، كان ممثلا بإباق العبد من خدمة مولاه، فأخذه الله بذلك" ثم أحال العلامة الطباطبائي إلى كلامه ولنلتفت إلى قوله: "ولا كان هناك نهي من ربه عن الخروج" وهو ما أشرنا إليه قبل قليل. حول تفسير قوله تعالى: (وذا النون ) "(121).

النص الثاني: "فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضبا عليه ظانا أنه لا يقدر عليه"(122).

النص الثالث: "ويمكن أن يكون واردا مورد التمثيل، أي كان ذهابه هذا ومفارقته قومه ذهاب من كان مغاضبا لمولاه، وهو يظن أن مولاه لن يقدر عليه، وهو يفوته بالإبتعاد عنه فلا يقوى على سياسته"(123).

هذه ثلاثة نصوص نقلها "الكاتب" في محاولة منه لإثبات دعواه بأن الهروب كان من ربه، وأن المغاضبة كانت بينه وبين ربهوفيما يلي رأي العلامة الطباطبائي قدس سره لترى كيف عبث "الكاتب" بنصه :

أ ـ يقول العلامة الطباطبائي: "وذهب لوجهه على ما به من الغضب والسخط عليهم، فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضبا عليه" فلاحظ قوله: " على ما به من الغضب والسخط عليهم"(124).

ب ـ ويقول أيضا: "ويمكن أن يكون" أي يحتمل ذلك ولا يجزم به.

ج ـ إن تعبيره قدس سره بعبارات مثل: "وكان ممثلاً بإباق العبد من خدمة مولاه" و"فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه". و"واردا مورد التمثيل"

هذه التعابير لا تحتاج إلى كثير عناء لمعرفة المراد والمقصود منها، إذ أنها صريحة في دلالات ألفاظها ومعانيها.

فكيف خفي الأمر على هذا "الكاتب"؟! ألا يرى أن هذه العبارات إنما يقصد بها التمثيل والتشبيه؟! وهل أن ذلك خفي على الكاتب أم أنه أدرك مرام الطباطبائي فحذف تتمة الكلام وهو قوله قدس سره :"بالإبتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، وأما كونه مغاضبا لربه حقيقة وظنه أن الله لن يقدر عليه فمما يجل ساحة الأنبياء الكرام عن ذلك قطعا وهم المعصومون بعصمة الله"(125).

والجدير ذكره أن هذا التوجيه المرتكز على تنزيه الأنبياء يستعمله العلامة الطباطبائي كثيرا كما في توجيهه لقوله تعالى: (إني كنت من الظالمين)حيث يقول: "اعتراف بالظلم من حيث أنه أتى بعمل كان يمثل الظلم وإن لم يكن ظلما في نفسه ولا هو (ع) قصد به الظلم والمعصية"(126).

والملفت أنه السيد الطباطبائي كرّر عبارته هذه لإيضاح مقصوده من كلمة: "يمثل" أكثر من مرة، وفي صفحة واحدة، حتى لا يشتبه الأمر على أحد فكيف خفي على "الكاتب" ذلك كله؟!! لا سيما أنه نقل قوله قدس سره: "فما ورد فيه مما يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه"(127).

فلماذا عمد "الكاتب " الى حذف تتمة هذا الكلام وهو قول الطباطبائي قدس سره: "يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة، ولذا حملنا قوله تعالى: (إذ أبق) وقوله تعالى: (مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ) على حكاية الحال وإيهام فعله"(128)؟!!

في المعنى اللغوي للإباق

ظهر في تفسيرمعنى "أبق" بحالة يرثى لها، فما فتئ يطعن بنبي الله يونس (ع) طعنة تلو طعنة، ويحاول بكل ما أوتي من قوة، أن يتلاعب بمعنى الإباق، لا لشيء إلا لإثبات دعوى صاحبه التي ما أنزل الله بها من سلطان وهي أن يونس إنما هرب من ربه !!  وتراه بعد أن استعرض كلام بعض أعلام اللغة يردد مرة تلو الأخرى : "أسألكم يا سماحة السيد (يقصد العلامة المحقق): ممن ذهب العبد وهرب؟ ألم يكن ذهابه وهروبه من سيده . ؟! (129).

وقد تعجب هذا "الكاتب" من تفسير العلامة المحقق لمعنى الإباق: بأنه ليس فيه أن هروبه لا بد أن يكون من مولاه، وعلى صفة التمرد، والخروج من زي العبودية، وهو والله قول الحق لمن ألقى السمع وهو شهيد لأنه ليس في كلمة "أبق" بحد ذاتها أن هروبه كان من مولاه، وعلى صفة التمرد والخروج عن زي العبودية ، ولا يمكن حملها على هذا المعنى إلا بقرينة.

ألم ينقل "الكاتب" كلام الشيخ الطوسي في تبيانه: "فالإباق الفرار فالآبق الفارّ إلى حيث لا يهتدي إليه طالبه ، يقال: أبق العبد يأبق إباقا فهو آبق إذا فرّ من مولاه"(130)

فلاحظ تعريفه: "الإباق الفرار"، ولاحظ قوله: "الآبق الفار" ولاحظ قوله:"إلى حيث لا يهتدي إليه طالبه" وطالبه ليس بالضرورة أن يكون ربه، إذ ربما كان مولاه وربما كان غيره من البشر .

ولاحظ أيضا عندما قال: "يقال: أبق العبد إذا فرّ من مولاه" حيث عبر رحمه الله بقوله: "يقال أبق العبد" فجعل كلمة العبد قرينة على أن الهروب كان من المولى.

ونلاحظ أن "الكاتب" حذف من كلام الطوسي (قده) قوله: "يقال: أبق العبد يأبق إباقا إذا فرّ من مولاه. والآبق والهارب والفار واحد"(131).

فليلاحظ قوله ( قده ): " الآبق والهارب والفار واحد". وفيه دلالة على عدم كون الإباق مخصوص بالعبد ما لم تقم قرينة على ذلك . وكلمة العبد هي قرينة من القرائن.

أما سبب تجاهل "الكاتب" لكلام الطبرسي في مجمعه ، فسببه أن الطبرسي لم يضرب مثالا بإباق العبد !! فكلامه قدس سره لا يفيد "الكاتب" في هدفه، فقد قال الطبرسي في فقرة اللغة من كتابه مجمع البيان: "الآبق الفار إلى حيث لا يهتدي إليه طالبه"(132).

ولو تجاهلنا كل ما تقدم واكتفينا بما نقله "الكاتب" نفسه عن كليات أبي البقاء لوفينا المطلب حقه وهو قوله: "لا يقال للعبد آبق إلا إذا استخفى وذهب من غير خوف ولا كد عمل، وإلا فهو هارب"(133)

وهذا يعني أن العبد إذا ذهب من خوف وكد عمل ولم يستخف فهو هارب لا آبق. وعلى فرض أن يكون الإباق هو خصوص هروب العبد بلا خوف ولا كد عمل نسأل: ألم يتركهم (ع) بعد أن أخبره الله بنـزول العذاب؟ أولم يتركهم بعد أن دعا قومه للتوحيد لأكثر من ثلاثين سنة، كما تقول الروايات.

إذن فإن يونس (ع) قد تركهم من خوف وبعد كد عمل، فكيف وصف بأنه آبق بالمعنى الذي يحاول "الكاتب" تصويره ! لذلك كله لا محالة من القول بأنه هرب من قومه كما هو عليه إجماع الشيعة .

ثم ألم يجمع المفسرون على أنه يستحيل أن يكون المقصود من إباق يونس (ع) هو هروبه من ربه؟! وأن هذا غير جائز على الأنبياء عليهم السلام ؟!

ألم يقل الطوسي والطبرسي والفيض والمشهدي رحمهم الله وكل من افترى عليهم "الكاتب" من المفسرين أنه إنما فر من قومه؟! فهل قومه هم مولاه ، أم أنهم ربه فأبق منهم؟!!

ألا يعلم "الكاتب" أن العبد إنما يوصف بالآبق إذا كان يتعمد مخالفة مولاه؟! وهو لا يعقل في حق نبي الله تعالى ! وقد قال الرازي في تفسيره الكبير: "قال بعضهم: أنه أبق من الله تعالى وهذا بعيد ، لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمدّ مخالفة ربه"(134). فهذا قول الرازي وحاله معلوم في تجويزه على الأنبياء صدور الصغائر ، فكيف بأصحاب المذهب الملتزم بالقول بالعصمة؟!!.

وليخبرنا "الكاتب" عن مغزى قوله: "ويعني ذلك أنه هرب من دون مبرر ومن دون عذر ولهذا فهو متمرد في ذهابه وفراره"(135).

كيف وهو إنما يترك أرضا سينزل عليها عذاب الإستئصال وهل يصح بقاؤه بينهم، وهو يعلم ان العذاب نازل عليهم.

وما الذي يريد أن يثبته ويستدل عليه؟!!

ولأجل ماذا ولمن ؟ يصف نبيا من أنبياء الله بالتمرد ، وكأنه يصف فرعون أم نمرود ؟ وهل التمرد إلا المعصية والتحدي له تعالى ؟!

وهل هذا ما قاله الطوسي والطبرسي والطباطبائي وغيرهم من الأعلام؟!!

وهل نسبة ذلك إلى أنبياء الله تعالى إلا محض إفتراء ؟!

ألم ينقل "الكاتب" نفسه رواية جميل عن أبي عبد الله (ع) التي تقول: "أنه (ع) مرّ على وجهه مغاضبا لله" (136) ويسجل في الهامش تعليقة العلامة المجلسي (قده) في بحاره أن معنى قوله (ع) مغاضبا لله أي مغاضبا قومه لله بمعنى أن غضبه (ع) كان لله لا للهوى . فكيف يتمرد عليه تعالى ؟!!

ونختم بكلام السيد المرتضى علم الهدى قدس سره الذي قال :

"أما أن يونس (ع) خرج مغاضبا لربه من حيث لم ينزل بقومه العذاب فقد خرج في الإفتراء على الأنبياء (ع) وسوء الظن بهم عن الحد وليس يجوز أن يغاضب ربه إلا من كان معاديا له وجاهلا بأن الحكمة في سائر أفعاله" (137).

براءة يونس في روايات أهل البيت عليهم السلام

أما الروايات (138) التي نقلها "الكاتب" فليس فيها ما يدل على ما ذهب إليه! بل لا يفهم أحد منها ما فهمه هو منها، بل إن بعضها لا علاقة له بموضوع البحث ومحل الإشكال، ولا ندري سبب إيرادها ! وفيما يلي نعالج نموذجا يصلح أن تقاس عليه بقية الروايات التي نعيدها إلى "الكاتب" ليرشدنا إلى الفائدة منها فيما يدٌعيه في فرصة أخرى .

أ ـ إن رواية الفقيه والكافي التي تقول: "أي قضية أعدل من قضية تجال عليها السهام" لا تدل على أن يونس (ع) كان آبقا من ربه متمرّدا عليه ولا علاقة لها بموضوع البحث أصلا . بل إن الرواية المحال إليها في الفقيه في باب الحكم بالقرعة تشعر أن الإستهام كان لإلهاء الحوت، ودفعه عن السفينة عبر إلقاء أحدهم لنجاة الآخرين مما يصلح كدرس في الإيثار ولا يصلح للبحث في إباق يونس من ربه كما يحاول "الكاتب" إثباته، حيث تقول الرواية (139):

" روى حماد بن عيسى عن أبي جعفر (ع) قال: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم استهموا في يونس (ع) لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة فاستهموا فوقع السهم على يونس (ع) ثلاث مرات قال: فمضى يونس (ع) إلى صدر السفينة فإذا الحوت فاتح فاه فرمى بنفسه"(140)!!!.

أما قوله تعالى "فكان من المدحضين" والتي جاءت في رواية الكافي، فقد ذكر الطوسي والطبرسي (قده) أقوالا حول معناها، ولكن رأيهما استقر أخيرا على أن المعنى هو: فكان من "الملقين في البحر" فيكون "الدحض" بمعنى السقوط، وقد استدل الطوسي ( قده ) بقوله تعالى "حجتهم داحضة" أي ساقطة (141)

ب ـ أما رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر (ع) التي جاء فيها: "يا قوم إن في سفيتني مطلوبا" وهو قول ملاّح السفينة فليس فيها ما يدل أو يلمح إلى ما يسعى "الكاتب" إلى إثباته من أن نبي الله كان فارا من ربه مغاضبا له .

على أن الروايات التي تحدثت عن هذا الموضوع متعارضة ومتضاربة ؛ فبعضها يخبر أن الحوت كان يطارد السفينة حتى حبسها عليهم من قدامها، ولم يتركها إلا بعد أن ألقى يونس (ع) نفسه في فمه، وأن الملاّح عرف من خلال إصرار الحوت أن في سفينته مطلوبا، وبعضها الآخر يخبر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري(142).

والغريب أن هؤلاء المتحمسين للدفاع عن هذه الآراء وصاحبها قد ردوا روايات مأساة الزهراء عليها السلام لاختلافات بسيطة رغم وضوح إمكانية الجمع بينها  وإذا بهم هنا يتمسكون بروايات ظاهرة التعارض !!

وعلى أي حال: فإن قول الملاح: "إن في سفينتي مطلوبا" ليس فيه ما يدل على أنه مطلوب من قبل الله ، كما يحاول الكاتب الإشارة إليه ، ولماذا لا يكون مطلوباً من قومه ملاحقاً منهم ؟

وما المانع من ذلك ، لا سيما إذا كان فيه تنـزيه له عما ينسب إليه مما لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام ؟

ولايفوتنا هنا أن نذكر بأن "الكاتب" وضع لبحثه الروائي عنوانا سيئاً أخذه من فقرة بمعنى آخر من رواية أبي حمزة الثمالي ، فجعل العنوان : "السهام لا تخطئ" وأصاب بها قلب نبي الله يونس عليه السلام ، وقلب عصمته ، فاتهمه بأنه عصى ربه وهرب منه !!

ولا أحد يدري ما ستتركه هذه السهام من آثار على عقول وقلوب الناس الأبرياء من الناس الذين يتلقونها على أنها تفسير للقرآن؟

وهو بذلك يقلد صاحبه الذي أطلقها قبله فأصاب بها قلب الزهراء عليها السلام وضلعها المكسور !! وقلب الأنبياء والأوصياء عليهم السلام !!

يونس تهرب من مسؤولياته

وحول هذه المقولة زعم "الكاتب": " أن صاحبه لم يقلها إطلاقا بل رفضها رفضا قاطعا في كتابه (من وحي القرآن) وصرّح على النقيض منها تماما"

(143). مع أن صاحبه صرّح في نفس السياق أن فعل يونس (ع): "قد لايكون تهربا من المسؤولية وحبا للراحة"(144).

وقد حذف  "الكاتب " الفقرة التالية : "وفي هذا الجو كان خروجه السريع بسرعة انفعالية في اتخاذ القرار" "(145-146)  يعني أن نبي الله يونس (ع) قد اتخذ قرارا انفعاليا كاد أن يكون ضحيته مائة ألف أو يزيدون ؟!!.

فقول صاحبه : "وقد لا يكون ذلك تهربا من المسؤولية" لم يكن على سبيل الجزم ، بل على سبيل الإحتمال !! وكلمة "قد" تفيد الإحتمال الذي يقابله احتمال أن يكون قد تهرب وهذا الإحتمال حتى لو كان ضعيفا جدا فهو ينافي الإعتقاد بالعصمة المستلزم لنفي الاحتمالات التي لا تليق بساحة قدس الأنبياء (ع) . ولنلتفت لقوله المتفرع عنه: "فربما كان الجو يتحرك في حالة شديدة من الحيرة، والغم، والحزن (147)

ثم قال "البعض" في ختام تفسيره للآية: "وهكذا نستوحي من هذه القصة الخاطفة أن الله قد يبتلي الدعاة المؤمنين من عباده ورسله، فيما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه أو تهربوا منه من مسؤوليات "(148).

والأنكى من ذلك أنه لم يكتف باحتمال تهرب نبي الله يونس (ع) من المسؤولية بل ردد بينه وبين التقصير !! فكيف يقول بالعصمة على كل المستويات ثم ينسب التقصير الى نبي الله (149) .

فنبي الله يونس (ع) وفق " استيحاء البعض " إما قصّر في مسؤولياته أو تهرب منها!! فانتق منهما ماشئت .

والأنكى من ذلك أن هذا "المستوحي" عمم المسألة وخرج بقاعدة كلية مفادها: " أن الله يبتلي الرسل فيما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه أو تهربوا منه من مسؤوليات " انتهى . ! فهو يحتمل إذن أن يصدر من الأنبياء جميعا تقصير في المسؤوليات أو تهرب منها! ومع ذلك هو قائل بالعصمة! فأي عصمة هي هذه التي يقول بها ؟!!

وبناء على استخلاصه الختامي هذا نفهم ما ذكره في ابراهيم عليه السلام وعبادته الكوكب ! ولا ينفع معه محاولة دفاع "الكاتب " بأن ذلك مجرد عرض للإحتمالات قبل اختيار الرأي الصحيح.

بعد هذا ، أين تصبح دعاوى "الكاتب" بأن مقولاته هذه ليست بدعاً في علم التفسير ، وأن علماء التفسير يجمعون على ما يتبناه "البعض " من مقولات  ؟!!

وأي مقولات حقة تلك التي يحتاج "الكاتب" في دفاعه عنها الى خيانة الأمانة  وتشويه أقوال المفسرين بالتزوير والتحريف والتقطيع والتدليس !!

قوله تعالى : وهو مليم

يقول "الكاتب": "هذه معاجم اللغة بين يدي تجمع على أن معنى "مليم" بأنه مستحق للوم"(150).

ويقول أيضا: "ولست أدري لحد الآن كيف يكون (مليم) بمعنى: "أتى ما لا يستحق اللوم عليه" ؟! هذه لغة عجيبة تذكرونها في كتاب خلفيات، ولهذا احتملت لأول وهلة أنها خطأ مطبعي، أو من سهو القلم، ولكن كم كانت دهشتي كبيرة عندما أكملت النص حيث تبين لي أنها ليست كما احتملت، حيث تقولون : " قوله: (وهو مليم ) أي يلوم غيره، لا أنه يلوم نفسه، فإن هذه الكلمة هي إسم فاعل من (ألام) بمعنى (لام)، أو بمعنى (أتى ما لا يستحق اللوم عليه)، وتلك إشارة أخرى تؤكد عدم استحقاق يونس (ع) لأدنى لوم"(151).

هذا ما قاله "الكاتب"، قبل وبعد أن استعرض آراء بعض المعاجم اللغوية. ولكن عن أي اجماع لمعاجم اللغة يتحدث ؟!  ولماذا يلجأ من يدعي الإجماع على التلاعب بالنصوص وتحريفها ؟!

الحق يقال : إن تعريف العلامة المحقق لكلمة: (مُليم) بـ: "أتى ما لا يستحق اللوم عليه": ليس لغة عجيبة، إلا لمن لم يطلع على المعاجم اللغوية التي بين يديه أو خلفه.ولم يكن هناك مبرر لهذا الإندهاش، لا سيما أن تعريف العلامة المحقق هذا لم يكن من سهو القلم، كما لم يكن خطأ مطبعياً كما زعم "البعض"  مراراً حين طولب ببعض المقولات !!

ونعرض للقارئ كلمات المعاجم اللغوية، ليرى بنفسه مقدار الصدق فيما إدعاه الكاتب ! حيث وجدنا فيها عكس ما يدعي ، واليك التفصيل:

محيط المحيط : ( ألام: أتى ما لا يلام عليه . ألامه إلامة بمعنى لامه فهو مُليم (بالضم) وذلك مُلام. وألام الرجل أتى ما لا يلام عليه أو صار ذا لائمة أو فعل ما يستحق عليه اللوم"(152).

ونسأل: من المعُبر عنه بلفظ "فهو" اليس الذي يلوم غيره، ويقابله المُعبر عنه بلفظ "وذلك مُلام" اليس الذي وقع عليه اللوم ؟!

أقرب الموارد : ألام : أتى ما لا يلام عليه : ألامه إلامة: بمعنى لامه فهو مُليم (بالضم) وذاك مُلام ( بالضم ) ( ألام ) الرجل: أتى ما لا يلام عليه، وقيل صار ذا لائمة، أو فعل ما يستحق عليه اللوم"(153).

وليلاحظ قوله: "فهو لائم" أي الذي لام غيره يُقال له: لائم، أما الآخر أي من وقع عليه اللوم فيقال له: مَليم (بالفتح) ومَلوم (بالفتح).

ونفس المعنى قوله: "لامه فهو مُليم (بالضم) (أي يلوم غيره وعبّر عنه بلفظ هو أي اللائم) وذلك مُلام (بالضم) (أي وقع عليه اللوم)". و عبّر عنه بلفظ وذلك اي مقابل اللائم والمُليم.

قوله: "ألام الرجل أتى ما لا يلام عليه"

 قوله: "ألامه بمعنى لامه" (تقدم أنه لام غيره) فهو (أي اللائم) "مُليم" (بالضم) وذاك (أي الذي وقع عليه اللوم) "مُلام" .

لاحظ قوله أيضا: "ألام الرجل أتى ما لا يلام عليه".

وإذا أضفنا تعريف صاحب محيط المحيط وأقرب الموارد لكلمة "أَلَامَ" إلى ما قاله صاحب المصباح المنير وغيره وهو قوله: "ألامه" بالألف لغة فهو (مُلام) والفاعل (مُليم) [ وهي تعني أن المُليم هو الذي يلوم غيره، أما من وقع عليه اللوم لإتيانه ما يستحق عليه اللوم فهو المُلام ].و(ألام) الرجل (إلامة) فعل ما يستحق عليه اللوم"(154).

إذا لاحظنا ذلك فلا أقل من القول أن كلمة (ألام) هي لفظ مشترك، ومع غياب القرينة اللفظية التي تحسم المعنى المقصود ، فلا بد لنا البحث عن القرينة العقلية وعصمتهم عليهم السلام كافية في ذلك  لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

هذا إن لم يكن ثمة اشتباه في بعض المعاجم بين "مُليم" (بالضم) "ومَليم" بالفتح . وما يقوي هذا الإحتمال قول صاحب تاج العروس : " وقوله تعالى (فالتقمه الحوت وهو مُليم) ، قال بعضهم: المُليم هنا بمعنى ملوم ونقله الفرّاء عن العرب أيضا".

إذن ذهب بعضهم إلى أن "مُليم" بمعنى مَلوم، وهو تصريح بوجود إختلاف في هذا الأمر . بل لاحظ قوله:" المُليم هنا بمعنى ملوم" وهو كلام يفيد أن المُليم في الأصل تعني الذي يلوم غيره لكنها هنا تعني "الملوم" وفق قول الفراء طبعا.

والملفت وجود أخطاء في تشكيل أو تحريك الكلمات في كتاب لسان العرب، ويتضح ذلك بقارنته بما جاء في تاج العروس .

قال في لسان العرب: " قال الفراء: ومن العرب من يقول المَليم (بالفتح) بمعنى الملوم "(155). والخطأ واضح هنا إذ ينبغي وضع الضمة بدل الفتحة فوق الميم لتصير الجملة: "ومن العرب من يقول المُليم (بالضم) بمعنى الملوم". وبذلك يستقيم المعنى ليتوافق مع ما نقله صاحب تاج العروس عن الفراء. وإلا فإن المَليم (بالفتح) هي بمعنى الملوم عند كل العرب.

أضف إلى ذلك أن المثل القائل: "رب لائم مَليم" (بالفتح) ذكره البعض بالفتح كما في أقرب الموارد ومحيط المحيط وتاج العروس وبعضهم ذكره بالضم.

لا نعتقد أن هذه الأمور قد غابت عن "الكاتب" الذي عمد إلى تحريف بعض النصوص بقيامه بتحريك بعضها وإهماله تحريك بعضها الآخر (156)؟!

والملفت في نص لسان العرب أن قوله "مَليم (بالفتح) استحق اللوم"، يفيد أن "المُليم" (بالضم) بمعنى اللائموإلا لم يحصل الفرق.

وعندما تعرّض لكلمة "مُليم" بالضم وأنها تعني "أتى ذنبا يلام عليه" نسبها الى صاحب التهذيب ، ثم عقبه بقول الفرّاء كما تقدم.

وهذا يدل على أن صاحب لسان العرب إنما ذكر رأي صاحب التهذيب لأن فيه مفارقة مع ما قدمه ، فعمد إلى إيضاح أن هذا المعنى إنما نقله الفرّاء عن بعض العرب !

2 ـ وما فعله "الكاتب" في نص لسان العرب فعله أيضاً في نص "العين" حيث تجاهل التحريك رغم أن الفتحة ظاهرة على الميم في "مَليم". قال الفراهيدي: "رجل ملوم ومَليم (بالفتح) قد استحق اللوم"(157).

أصل الفعل ( لام ) بإجماع أعلام اللغة

  إن من يراجع معاجم اللغة يتضح له أنهم يجمعون على أن أصل الفعل: "لام" وأن الآتي بما يلام عليه إنما هو مَليم (بالفتح) وملوم وأن الفاعل له إنما هو: لائم ومُليم (بالضم)(158). ولم نجد فيما بين أيدينا من مصادرمن نقل أن "مُليم" بمعنى الملوم إلا الفرّاء !

ولا يخفى أن القول بأن: ألام تعني أتى ما يستحق عليه اللوم لا تدل بالضرورة على أن مُليم (بالضم) قد أتى ما يستحق عليه اللوم وإلا لاستوى اللائم مع الملوم.

 على أن بعض المعاجم تحدثت أن كلمة  "ألام الرجل" تفيد أنه أتى ما يستحق عليه اللوم، أي أن هذه المفردات بهذه الصيغة وهذا الإشتقاق تفيد هذا المعنى لا أن أصل الفعل يفيده ، ولو كان الأمر كذلك، لاستوى كما ذكرنا معنى إسم الفاعل مع إسم المفعول وبالتالي فلا داعي للتفريق بين المُليم (بالضم) والمَليم (بالفتح) والمُلام واللائم وغيرها كما يحاول الكاتب أن يوحي!!.

وعليه، فألام الرجل أتى ما يلام عليه، والمُليم هو إسم فاعل أي الذي يلوم غيره، على أن إسم الفاعل لا يمنع من أن يكون الفاعل قد لام نفسه لكن حمل إسم الفاعل على هذا المعنى يحتاج إلى قرينة لأن أصل إسم الفاعل أن يكون لام غيره .

وعلى كل حال : فما دامت كلمة "مُليم" (بالضم) تحتمل في أحد وجوهها معنى لام غيره وهو الأقوى واستحق اللوم كما نقله الفراء  فإن الأنسب أن تحمل على ما يتناسب وعصمة الأنبياء  فيكون معنى الآية: إن الحوت قد التقم يونس (ع) وهو "مُليم" (بالضم) أي حال كونه يلوم قومه على تكذيبهم له الأمر الذي أدى لخروجه عنهم مغاضبا لهم فوقع بما وقع فيه من البلاء الذي أنجاه الله منه لكونه من المسبحين.

أو أنه ملوم من قبل قومه الذين لم يقبلوا دعوته بل إتهموه ورفضوا ما جاء به.

من هنا نقول: إن ما ذكره العلامة المحقق كلام دقيق يتوافق وأصول اللغة العربية وينسجم ومدرسة أهل البيت في عصمة الأنبياء وتنـزيههم، وهي إلتفاتة موفقة منه آدام الله بقاءه للذب عن مذهب أهل البيت عليهم السلام .

 

هوامش الفصل الثاني

(103) سورة الأنبياء / الآية 87-88.

(104) سورة الصافات / 139-145.

(105) سورة القلم / الآية 48-49.

(106) سورة يونس / الآية 98.

(107) خلفيات ج 1 ص 121.

(108) ن.م، ج 1 ص 122.

(109) ن.م ج 1 ص 122.

(110) خلفيات  ج 21 ص 123.

(111) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 94.

(112) نفس المصدر.

(113) خلفيات ج 1 ص 126 و 127.

(114) التبيان ج 8 ص 484.

(115) التبيان ج 7 ص 242.

(116) مجمع البيان ج 8 ص 716، وراجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص 96.

(117) جوامع الجامع ص 505 وراجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 97.

(118) الصافي ج 4 ص 351.

(119) الوجيزة ج 3 ص 88.

(120) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 99.

(121) الميزان ج 17 ص 163.

(122) الميزان ج 17 ص 166.

(123) الميزان : 14 / 315، وراجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 95.

(124) الميزان ج 17 ص 166.

(125) الميزان ج 14 ص 315.

(126) الميزان ج 14 ص 315.

(127) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 95.

(128) الميزان ج 17 ص 169.

(129) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 100 و 101.

(130) التبيان، ج8، ص484. ومراجعات في عصمة الأنبياء ص96.

(131) التبيان ج 8 ص 484 ومراجعات في عصمة الأنبياء ص 96.

(132) مجمع البيان ج 7 أو 8 ص 589.

(133) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 100.

(134) التفسير الكبير ج 26 ص 165.

(135) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 101.

(136) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 103.

(137) تنـزيه الأنبياء ص 141.

(138) راجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص 103 و 104 و 105.

(139) عمد الكاتب إلى حذف هذه الرواية من كتابه والتي كان قد ذكرها في رسالته تحت رقم(3).

(140) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 51.

(141) التبيان ج 8 ص 528 ومجمع البيان ج 8 ص 590.

(142) بحار الأنوار ج 14 ص 382 و 404 نقلا عن الطبرسي . 

(144) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 106.

(145) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 106.

(146) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 281.

(147) من وحي القرآن ج 15 ص 281.

(148) من وحي القرآن ج 15 ص 284.

(149) ولو سلمنا بأفضلية الأنبياء على الأئمة(ع) كما يقول هو به فاللازم أن ننسب إمكان التقصير الى علي (ع) وباقي الأئمة واللازم أن نحمل ظواهر العبائر الدالة على تقصير علي (ع) في دعاء كميل على ظواهرها .

(150) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 92.

(151) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 94.

(152) محيط المحيط ص 833.

(153) أقرب الموارد ج 2 ص 1172.

(154) المصباح المنير ص 560.

(155) لسان العرب ج 12 ص 558.

(156) لسان العرب ج 12 ص 557.

(157) العين ج 8 ص 342.

(158) راجع : القاموس المحيط : 2/1526 ، و أقرب الموارد : 2/1172، وتاج العروس : 9/65 ، ومحيط المحيطص 833 ، والعين : 8/343 ، ولسان العرب :12/557.

 

 

 

 

الفصل الثالث إبراهيم عليه السلام

 

 

 

خلاصة الانتقادات

1 ـ ارتكب "الكاتب " تحريف رأي العلامة المحقق بأن إبراهيم عليه السلام كان في مقام المحاجة لقومه .

2 ـ حذف "الكاتب" كلمة ( ربما ) التي تشير إلى تردد "البعض" في أن يكون ما قاله إبراهيم (ع) كان على سبيل المحاكاة الإستعراضية.

3 ـ تجاهل "الكاتب" تقريب " البعض " بأن ما قاله إبراهيم كان في طفولته وأنه (ع) قد عاش مع الكوكب في حالة روحية من التصوف والعبادة وأنه أقبل عليه في خشوع العابد وفي لهفة المسحور، وغيرها من عبارات.

4 ـ حرف "الكاتب " نصوص صاحبه المتعلقة بما أسماه "الشواهد" على تقريب " البعض "لمقولة " المحاكاة الإستعراضية ".

5 ـ حرف كلام صاحبه الذي ورد في كتاب "الحوار في القرآن" عندما جعله شاهدا على تقريب الإتجاه الأول (المجاراة والمحاكاة الإستعراضية)، وهو في الحقيقة شاهد على تقريب الإتجاه الثاني.

6 ـ تجاهل نص صاحبه الذي ورد في كتاب "الحوار في القرآن" وهو نص صريح بأن إبراهيم (ع) كان معتقداً بألوهية الكواكب ، لكنه كان اعتقادا طارئاً وسريعاً !

7 ـ إفتراؤه على العلامة مكارم الشيرازي بأن كلامه له نفس دلالات كلام "البعض" ، وأنه يفيد في ظهوره الأولي اعتقاد إبراهيم (ع) في ألوهية الكواكب !

8 ـ اعتبر "الكاتب "أن تفسير الإمام الرضا (ع) لقول إبراهيم بالاستنكار من أضعف الآراء في المسألة .

9 ـ تجاهل وصف صاحبه لإبراهيم (ع) بالسذاجة ، رغم أن العلامة المحقق قد وضعها في أول العناوين .

10 ـ شوه "الكاتب "رأي العلامة الطباطبائي المتعلق بقصة إبراهيم (ع) . ثم اعتبر أن ما ذكره "البعض" يوافق ما ذكره العلامة الطباطبائي قدس سره.

11 ـ حرف "الكاتب "رأيي الشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي قدس سرهما!

الآيات القرآنية في الموضوع

( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين . فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (161).

ما قاله " البعض "

"وتطالعنا في هذا المجال شخصية إبراهيم (ع) ـ النبي التي يقدمها لنا القرآن في أجواء الصفاء الروحي، والبساطة الإنسانية والطبيعة العفوية التي تلامس في الإنسان طفولته البريئة فيما تلتقي به من حقيقة الأشياء ليفكر من خلال براءة النظرة في عينيه، وسلامة الحس في أذنيه ويديه، فيما يرى أو يسمع أو يلمس، فيما لديه من أدوات الحس الواقعي فنحن لا نرى فيه ـ من خلال الصورة القرآنية ـ شخصية الإنسان الذي يتكلف الكلمات التي يقولها للآخرين، ولا نلمح لديه روحية الشخص المشاكس الذي يبحث عن المشاكل في أفعاله وعلاقاته بل نشاهد فيه الشخصية البسيطة الواقعية التي ترتبط بالأشياء من جانب الإحساس، فتسمى الأشياء بأسمائها بعيدا عن تزويق الألفاظ، وزخرفة الأساليب، بقوةٍ وصدقٍ وواقعيةٍ وإيمان.

ففي الصورة الأولى، نلتقي به في موقفه من أبيه الذي يعبد الأصنام التي يعبدها قومه فيواجهه بالإنكار القوي الرافض للموقف من الأساس، لرفضه الفكرة التي يرتكز عليها فهذه الأصنام، هي أحجار جامدة، كبقية الأحجار الموجودة في العراء ولا ميزة لها إلا أن يد الإنسان قد أعطتها بعض ملامح الصورة، فحولتها إلى تماثيل فإذا كان الإنسان هو الذي أعطاها تلك الميزة التي تختلف بها عن سائر الأحجار فهي صنع يده، فكيف تكون آلهة له ومن الذي أودع فيها سر الألوهة؟ وهل الألوهة شيء يصنع ويخلق، أو هي قوة تصنع وتخلق ثم إن الألوهة تعني القدرة والعلم والحياة والغنى المطلق فيما تعنيه من ملامحها الحقيقية فما هي ملامح ذلك كله في هذه التماثيل؟ ولكنها الأوهام التي حولت الأشياء غير المعقولة إلى عقائد وتصورات ورموز قداسةٍ في مستوى الآلهة فكيف تتخذ هذه الأصنام آلهة؟ كيف؟ إن فكري لا يلمح أية إشراقة للحقيقة فيما تسير عليه ولو من بعيد بعيد بل كل ما هناك الظلام والتيه والضياع وهنا يتحول التساؤل إلى حكم قاطع في مستوى وعيه للحقيقة المنطلقة من خط الهدى التي تحدد ملامح الضلال في خطوط الآخرين.

إني أراك وقومك في ضلال مبين : إنه الموقف الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل ولا يغلف الأشياء بغلاف سحري، بل يدفع الموقف إلى الأمام، بكل وضوح وصراحة بعيدا عن المجاملة واللياقة التي تفرضها علاقة الإبن بأبيه لأن قضية العقيدة لا تخضع للجانب  العاطفي للعلاقات لأن علاقة الإنسان بالحقيقة التي تربطه بالله أقوى من أية علاقة بأي إنسان كان.

وفي الصورة الثانية نشاهد إبراهيم يتطلع إلى السماء، كما لو كان شاهدها أول مرة، فهو ـ فيما توحيه الآية ـ يواجهها كتجربة جديدة لم يلتق بها من قبل، وذلك فيما تعنيه التجربة من المعاناة في حركة الحس البصري كمادة للتفكير، للإنتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المادة إلى المعنى فقد كان يشاهدها سابقا، في رؤية جامدة، لا تعني له شيئا، إلا بمقدار ما يعنيه إنعكاس الصورة في العين ـ لمجرد تجميع الصور في الوجدان فيما يلتقي به الإنسان من مألوفاته العادية في حياته اليومية وهكذا نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: )وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض( هي الرؤية الواعية الفاحصة المدققة التي تثير في الداخل المزيد من التأمل والحوار والإستنتاج بدليل قوله تعالى )وليكون من الموقنين(، مما يوحي بأنها الرؤية التي تبعث على القناعة من خلال اليقين وبدأ يفكر في استعراض عقلي للعقائد التي يعتقدها قومه في عبادتهم للكواكب والقمر والشمس ومحاكاة ذاتية تتحرك من أجل إثارة التساؤل وهكذا التقى بالكواكب المتناثرة في السماء، في صورة بديعة في روعة التنسيق والتكوين فما أن لمح كوكبا يتلألأ ويشع في قلب هذا الظلام المترامي حتى سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولى على فكره الخشوع الروحي أمام هذا الشعاع الهادئ في الأفق البعيد فخيل إليه أن هذا هو الإله العظيم الذي يتعبد الناس إليه لأن الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد، الذي تتطلع إليه الأبصار برهبة وخشوع ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو تدرك كنهه )فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي( في صرخة الإنسان الطيب الساذج الذي خيل إليه أنه اكتشف السر الكبير الذي يبحث عنه كل الناس، كما لو لم يكتشفه أحد غيره وكأنه أقبل إليه في خشوع العابد، وفي لهفة المسحور وفي اندفاعة الإيمان وربما ردد هذه الكلمة )هذا ربي( في سره كثيرا ليوحي لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها ليؤكدها في ذاتها بعيدا عن كل حالات الشك والريب وبدأ الليل يقترب من نهايته وبدأت الكواكب تشحب وتفقد لمعانها ثم بدأت تبهت وتبهت حتى غابت عن العيون وحاول أن يلاحقها هنا وهناك لقد ضاع الإله في الأجواء الأولى للصباح وانكشفت له الحقيقة الصارخة فقد كان يعيش في وهم كبير فقد أفل الكوكب ولكن الإله لا يأفل لأنه القوة التي تمثل الحضور الدائم في الحياة كلها فلا يمكن أن تبتعد عن حركتها المتنوعة لأن ذلك يتنافى مع الرعاية المطلقة للكون ولما فيه من موجودات حية وغير حية واهتزت قناعاته من جديد وبدأ يسخر بالفكرة والعقيدة في عالمه الشعوري الصافي ( فلما أفل قال لا أحب الآفلين )

)فلما رأى القمر بازغا( في صفاء الليل، ووداعة السكون وكان الشعاع الفضي الساحر يلقي على الكون دفقا من النوى الهادئ الذي يتسلل إلى العيون فيوحي إليها بالخدر اللذيذ ويخترق القلوب فيوحي إليها بالاحلام اللذيذة الساحرة ويطل على الطبيعة فيغلفها بغلافه الشفاف الوادع الذي يثير في آفاقها الكثير الكثير من اللذة والأحلام وبدأت المقارنة بين ذلك النورالكوكبي الذي يأتي إلينا متعبا واهنا في جهد كبير وبين هذا النور القمري الذي يتدفق كشلال في قلب الأفق فأين هذا من ذاك فهذا هو السر الإلهي الذي كان يبحث عنه )قال هذا ربي( وعاش معه في حالة روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب النوراني الذي يتمثل في السماء قطعة فضية من النور الهادئ الساحر وفجأة بدأ الشعاع يبهت ثم يغيب وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد أين ذهب الإله وأين غاب وهل يمكن للإله أن يغيب ويأفل وضجت علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله؟ وأين هو وعاش في التصور الضبابي المبهم الغارق في الغامض يتوسل بالرب الذي لا يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل لئلا يضل ويضيع )فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين( وما زال ينتظر وضوح الحقيقة وفجأة أشرقت الشمس بأشعتها الذهبية الدافئة فأخذت عليه وجدانه )فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر( فأين حجم الشمس من حجم القمر والكواكب فلا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه، لأنها تتميز عنهما بصفات كثيرة وبدأ يتابعها وهي تتوهج وتشتعل وتملأ الكون كله دفئا وحياة وإشراقا وجمالا فإذا به يهتز ويتحرك في قوة وامتداد وحيوية دافقة ولكن ماذا؟ وبدأ يفكر فها هي تبهت وتبرد وتكاد تتضاءل ثم تغيب وتأفل وتترك الكون في ظلام دامس فكيف يمكن أن تكون إلها تعيش في الحياة في قدرته وقوته ما دامت تغيب مع المجهول تاركة الكون كله في ظلام وفراغ؟ وأطلق الصرخة فيمن حوله من هؤلاء الناس الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس فيما خيل له ، في وقت من الأوقات ، أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب ) فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( من هذه المخلوقات التي انطلقت من العدم، ولا يزال العدم يعشش في كل حركة من حركاتها، أو خطوة من خطواتها وتمرد على كل هذه الإتجاهات الإشراكية لأن الله لا يمكن أن يكون هذه الأشياء المحدودة بل لا بد أن يكون شيئا أعظم من ذلك وأكبر في القوة والقدرة لا في الحجم) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.

وهكذا تدفقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه، فأحس بأن الله هو شيء لا كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته وأدرك أن الله لا يحس كما تحس الموجودات الأخرى بالسمع والبصر واللمس، ولكنه يدرك بالعقل وبالقلب وبالشعور من خلال كل هذه المخلوقات التي تحيط بالإنسان في الكون الكبير من السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن فتترك لديه إنطباعا بأن الله هو الذي فطرها وأوجدها ومن خلال هذه الإنطلاقة الإيمانية الرائعة التي أحس معها بالراحة والطمأنينة والإنفتاح وقف بكل كيانه ـ ليحول كل وجهه ـ والوجه هنا كناية عن الذات بجميع التزاماتها وعلاقاتها وتطلعاتها ـ إلى الله، حنيفا، مخلصا مائلا عن خط الإنحراف فهو وحده الذي تتوجه إليه العقول والقلوب والوجوه بالخضوع والطاعة المطلقة بإحساس العبودية وحركة الإيمان الذي يعلن هذا التوحيد بما يشبه الصرخة الهادرة الرافضة لكل الوجودات المحدودة، التي تتأله أو التي يحسبها الناس في عداد الآلهة وما أنا من المشركين 

وماذا بعد ذلك؟ هل هي الرحلة الأولى في طريق الإيمان، لدى إبراهيم أو هي محاكاة استعراضية للأجواء المحيطة به، فيما يعتقده الناس من ألوهية الكواكب والقمر والشمس في محاولة إيحائية لمن حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي، وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها، مما يعطي لموقفه بعض القوة في الإيحاء، بإعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها ثم تمرد عليها

ربما كان هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم فيما حدثنا القرآن عن حياته فنحن لم نلمح  في غير هذه الآية حالة تأثر بالجو المحيط به بل ربما نرى الأمر ـ بالعكس من ذلك ـ حالة تمرد على البيئة حتى فيما يتعلق بالجو العائلي المتمثل في أبيه الذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم منه وقد نستطيع استيحاء الآية السابقة التي حدثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيم حول الأصنام التي يعبدها أن هذا الموقف سابق لموقفه من هذه العقائد هذا بالإضافة إلى أن الرؤية التي حدثنا الله عنها لملكوت السماوات والأرض لا بد أن تكون الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها وليست الرؤية البصرية الساذجة لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه على الحياة ليتطلع إلى ما فيه من موجودات يدركها البصر وربما كانت كلمة )وليكون من الموقنين( إشارة إلى ذلك، لتلتقي بكلمة ) رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي( مما يوحي بأن إبراهيم كان يعيش حالة الفكر الذي يريد أن ينمي من خلاله معلوماته وأفكاره، بكل الأشياء التي تركز قوتها وفاعليتها وثباتها وحركتها أمام التحديات التي تواجهها حتى فيما يشبه الأوهام ليواجه الصراع الذي يعيشه بانفتاح وقناعة وقوة لا تعرف الضعف ولا التراجع في كل المجالات

أما الإحتمال الأول، فقد يقربه، أن تكون الحادثة قد حدثت في بداية طفولته، عندما بدأ يتطلع للأشياء، ويفكر في الإله في عملية تأمل وتدبر في مستوى ذهنية الطفل ولعل هذا هو الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به الآية فهذا هو إبراهيم يواجه الكوكب الذي يبدو عاليا عاليا، بعيدا بعيدا ولكنه يشرق في قلب الظلام فيشعر بالرهبة والروعة فيصرخ ـ في مثل اللهفة ـ هذا ربي إنطلاقا مما كان يسمعه بأن الإله بعيد بعيد عن الإنسان، فلما أفل أحس بالإنقباض وقال: )لا أحب الأفلين( فقد نجد في كلمة )لا أحب( بعض كلمات الطفولة البريئة، التي تحب أو لا تحب من خلالها مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء وتتكرر التجربة مع القمر وتنطلق الصرخة الطفولية من جديد تماما كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئا قد أضاعه، أو شيئا قد طلبه وتتكرر خيبة الأمل من جديد.

ولكن الوعي يتنامى هنا ـ فلا نجد رد الفعل طفوليا بل نلاحظ في ردة الفعل حيرة وذهول وتوسل إلى هذا الرب الغامض الذي يتمثله في وعيه هاديا لعباده، أن يهديه إلى الحق لئلا يكون من القوم الضالين وتشرق الشمس في هذا الدفق اللاّهب من النور الذهبي في إطار هذا الوجه الواسع الذي يتفايض بالشعاع كما يتفايض الينبوع بالماء الصافي الرقراق فتكبر الصرخة في طفولية بارزة )هذا ربي هذا أكبر( وينطلق الحجم ليؤكد الفكرة، فيما لا توحي به إلا أفكار الطفل، أو ما يشبه الطفل لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة بما لا توحي به الأشياء الأقل حجما وتتجدد خيبة الأمل بالأفول ولكن تلك الإشراقة الساطعة للشمس استطاعت أن تبعث في قلبه إشراقة الإيمان الرافض لكل هذه الأوهام والظنون.

وفي كلا الإحتمالين يمكن للعاملين في حقل التوجيه، استيحاء الفكرة العملية في أسلوب التربية من خلال الأسلوب الإستعراضي، فيما يتمثل فيه من مناجاة ذاتية تجعل الإنسان يواجه الأفكار المطروحة في الساحة، مواجهة المؤمن بها ثم يقوم بمناقشتها بالطريقة التي توحي باكتشاف مواطن الضعف والخلل فيها، بالمستوى الذي يجعلها بعيدة عن الحقيقة، وعن إمكان اعتبارها عقيدة ترتبط بها قضية المصير ولا يختص الأمر بالأفكار المتصلة بالعقيدة الإلهية بل يمتد إلى جميع المجالات التي تمثل الخط العملي للحياة ويمكن لنا ممارسة هذا الأسلوب في القصة والمسرح والسينما وغيرها من الأساليب التي تخاطب الجمهور لتوجيه قناعاته وقد لا نحتاج إلى التأكيد على ضرورة دراسة المستوى العقلي والروحي للناس من أجل تركيز هذا الإتجاه على قاعدة متحركة في الفكرة والأسلوب كما يمكن استيحاء القصة في مدلولها الرسالي في عدم خضوع الإنسان للبيئة فيما تحمل من أفكار وعادات ومشاعر، بل يعمل على ممارسة دوره الذاتي المستقل، كإنسان يفكر بحرية ويقتنع على أساس الدليل.

وتبقى لنا في هذا المجال هذه البراءة الفكرية من إبراهيم حيث نتمثله إنسانا يواجه العقيدة من موقع البساطة الوجدانية، والعفوية الروحية، التي تلتقي بالقضايا من وحي الفطرة لا من وحي التكلف والتعقيد ثم هذه اللهفة الحارة المنفتحة على الله سبحانه عند إكتشافه للحقيقة في توحيده في كل شيء، وفي الإقبال عليه بكل وجهه، وبكل فكره، وبكل روحه وإنطلاقه العملي في الحياة لأن توجيه الوجه لله لا يعني ـ في مدلوله العميق ـ هذا الموقف الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان نحو الأفق الممتد في السماء بنظرة حائرة بلهاء بل يعني إنطلاقة حياة الإنسان وكيانه مع الله فيما يحمل من عقيدة، وفيما يرتبط به من فكر، وفيما يتحرك معه من خط، وفيما يستهدفه من أهداف وفيما يعيشه من علاقات وأوضاع وتطلعات إنه الإندماج في الحقيقة الإلهية، بأن تكون الحياة كلها لله  وفي خدمة الله " (163).

نتابع مع "الكاتب" حيث المنهج هو المنهج، والأسلوب هو الإسلوب ! تمويه، وتزييف، وتحريف، وتضليل، حيث تجاهل موضع الداء، والنصوص المشكلة التي انتقدها العلامة المحقق ! كما تلاعب "الكاتب "بنصوص العلماء لتطابق كلام صاحبه ، وبنصوص صاحبه لتنسجم مع كلام العلماء !!

ما قاله العلامة المحقق

قال أعزه الله في "الخلفيات":

"ويقول عن إبراهيم عليه السلام في ما قصّه الله تعالى، من خطابه عليه السلام للكوكب ثم للقمر والشمس أن هناك إحتمالين في تفسير الآيات التي تعرضت لذلك : أحدهما: أن يكون ظاهر الآيات هو حقيقة موقفه فيكون إبراهيم صدّق بأن الكوكب، والقمر والشمس آلهة. الثاني: أن يكون إبراهيم (ع) قد قام بحالة إستعراضية أمام قومه ليقنعهم بالحقيقة .

وقد ذكر لكلا الإحتمالين ما يقربه ولكنه شرح الآيات شرحا مسهبا على أساس الإحتمال الأول، ثم بعد أن ذكر ما يؤيد كل واحد من الإحتمالين وذكر ما يمكن إستفادته من الآيات، عاد وختم كلامه وفق الإحتمال الأول .

ومن الواضح: أننا وإن كنا نستظهر من ذلك ميله إلى ذلك الإحتمال الفاسد، ولم يذكره لمجرد كونه إحتمالا إلا أن مجرد إحتمال أن يكون نبي الله إبراهيم (ع) قد عبد غير الله، أو اعتقد بألوهيته، وربوبيته، هو إحتمال باطل في حق الأنبياء، ويلزم التصريح بتسخيفه، وبطلانه"(164).

وبعد أن عرض النص الكامل ل" البعض " قال في وقفة قصيرة:

"ونقول: أن احتمال عبادة إبراهيم (ع) للكوكب وغيره، مناف للعصمة، ولا يصح إبداؤه في حق المعصومين عموما، ولا يمكن أن يقربه شيء لا في الطفولة ولا فيما بعدها على ما هي عليه عقيدة علماء المذهب القطعية، المأخوذة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام"(165) .

وعليه يكون إشكال العلامة المحقق منصبا على ما صرّح  به " البعض " من قرائن وشواهد تقرّب إحتمال أن يكون ما حكاه الله عن إبراهيم عليه السلام إنما صدر منه في طفولته، قبل أن يكتشف الحقيقة. فليراجع النص المتقدم في بداية الفصل لصاحب (من وحي القرآن)

أما الإحتمال الثاني، وهو أن ابراهيم عليه السلام كان في صدد المحاججة لقومه  فلم يشكل العلامة المحقق عليه ، إنما أشكل على عدم تدعيمه بالشواهد والقرآئن التي تدحض الإحتمال الأول وتبطله وتبعده عن دائرة الإحتمال.

وهذا واضح من خلال النص المتقدم نقله عن كتاب خلفيات، ويزيده وضوحا قوله:  "إننا لا نجد أي دليل على أن هذه القضية قد حصلت لإبراهيم عليه السلام في زمان طفولته، بل في الآيات ما يشير إلى خلاف ذلك وأن ذلك في مقام الإحتجاج على قومه"(166).

وعليه يظهر عدم صحة إدعاء الكاتب، حيث ذكر في خلاصة بحثه أن " البعض " إستقرب ورجح أن يكون ما صدر من إبراهيم عليه السلام إنما كان على سبيل المجادلة لقومه ووصفه بأنه أفضل الآراء . وذكر أن الإحتمال الثاني، وهو أن يكون ذلك قد حصل مع إبراهيم عليه السلام زمان طفولته، قد استوجهه وإن لم يختره، ثم ذكر أن العلامة المحقق اختار الرأي الذي يقول بأن ذلك إنما كان في مقام "الإستنكار والإستهزاء" ووصفه بأنه أضعف الآراء وأنه لا ينسجم مع ظاهر الآيات(167) وهذا تضليل بل إفتراء ، إذ قد علمت أن العلامة المحقق صرّح: "أن ذلك كان في مقام الإحتجاج على قومه" الأمر الذي لم يشر إليه "الكاتب" رغم وضوحه (168).

أضف إلى ذلك أن العلامة المحقق اعترض على " البعض " لعدم استشهاده بما روي عن الإمام الرضا (ع) من: " أن إبراهيم إنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه لتسخيف معتقدهم"(169).

الإتجاه الثاني وتجاهل الكاتب له !

إعتبر "الكاتب" في تعليقه على رأي " البعض " أنه "لم يأت بشيء جديد، أو اتجاه مبتدع في عالم التفسير"  بل أنه مال إلى الإتجاه الأول واعتبره: "الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم عليه السلام فيما حدثنا القرآن عن حياته"(170) ثم قدّم ثلاثة شواهد من أربعة مواضع زعم أنها تؤيد ذلك وتؤكد عليه(171).

والملفت هنا أن " البعض "قد احتمل واستقرب أن يكون إبراهيم عليه السلام قد عبد الكواكب وعاش معها في حالة من التصوف والعبادة، وأنه أقبل عليها في خشوع العابد ولهفة المسحور و وللتدليل على ذلك نذكر عدة شواهد:

الشاهد الأول: حالة التأثر بالمحيط: فهو يرى أن من الشواهد على تقريبه لهذا الإتجاه ما أسماه: "حالة التأثر بالجو المحيط به "حيث يقول: "فنحن لم نلمح في غير هذه الآية حالة تأثر بالجو المحيط به"(174). وكلامه هذا واضح في أنه قد لمح في هذه الآية الى حالة تأثر إبراهيم (ع) بالجو المحيط به.

الشاهد الثاني : ظاهر الآيات : وهو يعتبر أن تقريب الإتجاه القائل بأن ذلك كان من إبراهيم عليه السلام على سبيل" المحاكاة الإستعراضية "هو من غير هذه الآيات، وإنما هو من خلال كون ذلك: "يلتقي مع شخصية إبراهيم عليه السلام فيما حدثنا القرآن عن حياته".

ففي هذه الآية لمح " البعض" الى حالة "تأثر بالجو المحيط" أما في غيرها فقد لمح عكس ذلك حيث استوحى "حالة تمرّد على البيئة حتى فيما يتعلق بالجو العائلي المتمثل بأبيه"(175).

وخلاصة الأمر عنده : أن ظاهر الآيات يقرب أن إبراهيم عليه السلام قد عبد الكواكب. أما ما يقرب الإحتمال الآخر فهو آيات أخرى تحدثت عن شخصية إبراهيم عليه السلام وموقفه من الأصنام الأمر الذي يوحي بأن ذلك "سابق لموقفه من هذه العقائد"(176).

وقد اعترف "الكاتب" بذلك من غير قصد طبعاً عندما ذكر أن ما قاله "البعض" حول الآيات إنما هو: "دلالات الآيات بحسب ظهورها الأولي" (177).

الشاهد الثالث: الموقف الطفولي: ويرى " البعض " أن الشاهد الثالث الذي يقرب هذا الإتجاه هو: " أن تكون الحادثة قد حدثت في بداية طفولته عندما بدأ يتطلع للأشياء ويفكر في الإله في عملية تأمل وتدبر في مستوى ذهنية الطفل"

(178).

ويعتبر "البعض " أن هذا الشاهد تدل عليه قرائن عدة :

القرينة الأولى: الجو النفسي الساذج: "الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به الآية"(179).

القرينة الثانية: اللهفة: فهو يقول: "فهذا إبراهيم يواجه الكوكب الذي يبدو عاليا عاليا، بعيدا بعيدا، ولكنه يشرق في قلب الظلام فيشعر بالرهبة والروعة فيصرخ في مثل اللهفة هذا ربي إنطلاقا مما كان يسمعه بأن الإله بعيد بعيد عن الإنسان"(180).

القرينة الثالثة: الكلمات الطفولية والمشاعر الساذجة: يقول : "بعض كلمات الطفولة البريئة التي تحب من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء"(181).

القرينة الرابعة: الطفل الذي وجد شيئا قد أضاعه : لأن هذه الصرخة "تماما كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئا قد أضاعه، أو شيئا قد طلبه"(182) !

 القرينة الخامسة: الأشياء الكبيرة والفكر الساذج. لأن قوله عليه السلام "هذا ربي هذا أكبر" يختلف عما سبقه من حيث كونه "صرخة طفولية بارزة" لأن الحجم هنا "ينطلق ليؤكد الفكرة فيما لا توحي بها إلا أفكار الطفل أو ما يشبه الطفل لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة بما لا توحي به الأشياء الأقل حجما"(183).

الشاهد الرابع: تفسيره الآيات : فالمتأمل في نص "من وحي القرآن" سيرى أن صاحبه قد فسرّها بما يتناسب وهذا الإتجاه ،حيث تحدث عن خشوع إبراهيم عليه السلام للكوكب وعيشه معه في حالة من التصوف والعبادة، وأنه أقبل عليه في خشوع العابد ولهفة المسحور واندفاعة الإيمان(184).

وقد ذكرنا أن "الكاتب" قد اعترف من حيث لا يشعر بهذا الأمر وأن صاحبه إنما كان يعطي" دلالات الآيات بحسب ظهورها الأولي"(185) وإن ساق "الكاتب" كلامه هذا في إطار التبرير والتخريج بل التهريج ربما ليضفي على "البحث" بعض الطرائف اللطيفة لكي لا يمل القارئ ويضجر.

الشاهد الخامس: اكتشافه عليه السلام للحقيقة: فقد ختم " البعض " بحثه بالقول: "وتبقى لنا في هذا المجال هذه البراءة الفكرية من إبراهيم عليه السلام حيث نتمثله إنسانا يواجه العقيدة من موقع البساطة الوجدانية والعفوية الروحية ثم هذه اللهفة الحارة المنفتحة على الله سبحانه عند اكتشافه للحقيقة في توحيده في كل شيء".(186)

ومن الواضح البيّن أن من كان في مقام "المحاججة" لقومه أو "المحاكاة الإستعراضية" لا يصح الحديث عنه بلغة تفيد أنه اكتشف الحقيقة لأن المفروض هو أنه على بينة من ربه ، كما قال العلامة الطباطبائي ، وأن الحقيقة ليست خافية عليه !!

فتفسيره للآيات أولا وفق الإتجاه الثاني (عبادة إبراهيم عليه السلام للكواكب) ، وقد ختم كلامه وفقه أيضا ، وتصريحه عند ذكره لما يقرب الإتجاه الأول (محاججة قومه ) بأن في الآية ما يلمح إلى "حالة تأثر بالجو المحيط به"، كل ذلك يجعلنا نستظهر، كما ذكر العلامة المحقق، "ميله إلى ذلك الإحتمال الفاسد، وأنه لم يذكره لمجرد كونه احتمالا !

إن مجرد توهم أن يكون نبي الله إبراهيم (ع) قد عبد غير الله أو اعتقد بألوهيته وربوبيته، هو توهم وإحتمال باطل في حق الأنبياء، ويلزم التصريح بتسخيفه، وبطلانه،لا تقريبه فضلا عن تأييده بالشواهد وشرح الآيات بما يناسبه، ثم إنهاء الكلام والخروج من الموضوع من خلاله"(187).

فإن إبقاء الإحتمال واردا ولو بنسبة واحد في المئة  منافٍ لليقين بعصمة الأنبياء .

ملاحظات ينبغي التوقف عندها

1 ـ لماذا قال " الكاتب" ما نصّه: "واعتبره الرأي الأقرب"(189)

مدعياً أقربية هذا الإتجاه (محاححجة قومه ) وأبعدية ذاك عند صاحبه؟! 

لكن صاحبه قال: "ربما كان هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم (ع)"(190)

فعمد "الكاتب " إلى حذف هي: "ربما"  التي تفيد أن صاحبه لم يقطع حتى بأقربية هذا الإتجاه، بل بقي في تقريبه له "متذبذباً". !!

2 ـ  اتضح بذلك  ضعف الشاهد الثاني الذي قدمه "الكاتب" كشاهد زور بعد أن تلاعب بالنص ، وحمله على نقيض ما أراده صاحبه منه !

فقد ذكر، أن " البعض" في حديثه عن أقربية إتجاه أن يكون إبراهيم (ع) في إطار محاججة قومه ، تحدث عن أن " قصة إبراهيم مع الكوكب والقمر والشمس جاءت بعد الآية المباركة التي تحدثت عن إراءة الله عز وجل لإبراهيم ملكوت السموات والأرض"(193).

ثم قال الكاتب بعد ذلك: "وعلى ضوء هذا السياق يقول " السيد ":إن الرؤية التي حدثنا الله عنها لملكوت السماوات والأرض لابد أن تكون الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها وليست الرؤية البصرية الساذجة وربما كانت كلمة (وليكون من الموقنين) ليس حديثا عما سيؤول إليه أمره في المستقبل ليكون قوله (فلما جن عليه الليل) تفصيلا لكيفية إستدلال إبراهيم (ع) بهذه المخلوقات (الكوكب والقمر والشمس) ومعرفة الحق من وجهتها والذي يعبر عنه القرآن بـ (رؤية الملكوت) وإنما حديث عن حال إبراهيم (ع) قبل موقفه من قومه في عبادتهم لتلك المخلوقات السماوية، فتكون (الفاء) في قوله (فلما جن عليه الليل) دالة على الترتيب الزمني، وتكون القصة حينئذ متأخرة زمانا عن رؤية الملكوت"(194).

وهذا نص واضح بل فاضح في التحريف، وذلك لأن "الكاتب" قبل أن ينقل هذا النص قال: "يقول (السيد): "إلخ أي وضع نقطتين، ثم فتح مزدوجين يشيران إلى أن ما سينقله إنما هو نص حرفي ! ولكنه لم يذكر "الكاتب": المصدر كما فعل في الشاهد الأول والثالث !! وذلك لأن النص المنقول بمعظمه غير موجود في المصدر ! والموجود منه هو من قوله: "إن الرؤية التي حدثنا الله عنها" إلى قوله: "وربما كانت كلمة (وليكون من المؤمنين)".

وكل ما ذكر بعد ذلك ليس له أثر إلا عند "الكاتب" أو من "وسوس" له بدس هذا النص !! ولا ندري : لعله يقول: قد أوكلت الأمر للمركز الفلاني ليوردوا النص فأخطأوا !! وذلك أسوة "بصاحبه" عندما ذكر هذه الإجابات في معرض تهربه من قضية حديثه عن شرب علي (ع) للخمر عند تفسيره لقوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) !!(195)

فما دامت هذه أعذار صاحبه ، فلا غرابة في أن يتحفنا الكاتب بمثلها !

 ب ـ ومهما كان تبرير "الكاتب"، فإنه لن يتمكن من إنكار وجود زيادة وإضافة على النص ، الأمر الذي يعتبر إقرارا ببطلان الشاهد الثاني وإعترافا بالتضليل؛ لا سيما إذا علمت أن رأي "البعض" بمعزل عن الزيادة ، هو على العكس تماما مما توحيه هذه الزيادة؛ لأن كلامه صريح بأن الرؤية التي يتحدث عنها إنما هي رؤيته للكوكب والقمر والشمس، وهي التي وصفها بالرؤية الوجدانية الواعية لا البصرية الساذجة وهذه الرؤية الوجدانية الواعية هي التي ستؤدي به (ع) لأن يكون من الموقنين، فكيف سيكون من الموقنين بسبب الرؤية الوجدانية الواعية للكوكب والقمر والشمس قبل أن تحدث له ؟!!

ولهذا قال "البعض" : "وربما كانت كلمة: (وليكون من الموقنين) إشارة إلى ذلك"(196) أي إشارة إلى الرؤية الوجدانية الواعية لملكوت السموات والأرض؛ لأن الرؤية التي يكون هذا حالها لا بد أن تؤدي بصاحبها ليكون من الموقنين.

من هنا تحدث "البعض" عن أن هذه الرؤية تفيد إبراهيم في تدرجه للوصول إلى اليقين وهو معنى ما قاله بالنص: " مما يوحي بأن إبراهيم كان يعيش حركة الفكر الذي يريد أن ينمّي من خلاله معلوماته وأفكاره، بكل الأشياء التي تركز للفكرة قوتها وفاعليتها وثباتها وحركتها"(197).

3ـ ولا يختلف حال "الكاتب" كثيرا في شاهده الثالث عن حاله في غيره من الشواهد؛ لأن ما نقله عن فحوى كلام صاحبه من أن إبراهيم عليه السلام: "لم ينطلق بقوله (هذا ربي) من حالة ذاتية يعيشها في نفسه، بل إنطلق على أساس الحالة الواقعية للآخرين الذين كانوا يعبدون الكوكب والقمر والشمس"(198) ، لأن ما نقله ليس دقيقا، ولا ينفعه عدم وضعه بين مزدوجين إذ أن صاحبه لم يكن يتحدث عن خصوص هذه الآية؛ بل عن مجمل آيات إبراهيم عليه السلام بما فيها موقفه من الأصنام.

وعلى أي حال فقد ذكرنا أن هذا الشاهد وغيره لم يجزم به "صاحب من وحي القرآن" ولذلك عبر بكلمة: "ربما".

4 ـ أما المواطن الأربعة التي استدل بها "الكاتب" على ميل "البعض" إلى هذا الإتجاه  فيرد عليها: أن المواطن الثلاثة الأول منها مأخوذة من كتابي الندوة ج 1، والندوة ج 4، وقد تقدم أن تقريبه لعبارة موهمة في مواضع بعيدة عن الموضع الذي ورد فيه الإشكال لا يفيد إذ "لا يجوز تأخير البيان عن موضع الحاجة" .

وأما الموطن الرابع المأخوذ من كتاب "الحوار في القرآن" فلا دليل فيه على ميله لهذا الإتجاه أي : "المحاكاة الإستعراضية"  فما ذكره "الكاتب" من صفحة 4 من أن إبراهيم عليه السلام كان يقف: "موقفا يجعل من نفسه طرفا للحوار الذاتي أمام دعوة الحق والباطل، فتراه يطرح قضايا الباطل من خلال أفكاره، ثم يبدأ عملية التساؤل والحوار الذاتي [الذي] يجرد فيه من نفسه شخصا ثانيا يتأمل ويناقش من أجل الوصول إلى الحق".

ومع الإلتفات إلى قوله مرتين : "الحوار الذاتي" يتضح مقصوده وتبنيه للإتجاه الثاني(عبادة إبراهيم (ع) للكواكب)؛ لا سيما إذا علمت أنه يعتبر أن إبراهيم قد خاض ثلاثة أنواع من الحوار : الأول: ذاتي (وهو الذي تتحدث عنه آيات رؤية الكواكب). والثاني: مع قومه (وهو الذي تتحدث عنه آيات محاججته لقومه في أمر الأصنام).والثالث: مع ربه (وهو الذي تتحدث عنه الآيات التي طلب فيها من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى).

فلو كان "البعض"يقصد بالحوار الذاتي الإتجاه الأول وهو"المحاكاة الإستعراضية" لما كان للتفريق بين النوع الأول والثاني من أنواع الحوار وجه .

والملفت هنا أن "الكاتب" عمد إلى حذف ذيل هذ النص الدال بوضوح على تبنيه للإتجاه الآخر وهو قوله: " يتأمل ويناقش من أجل الوصول إلى الحق لينتهي بعد ذلك إلى موقف الإيمان، بأقصر الطرق وأقواه. وانظر إلى هذا الموقف الرائع الذي يصور لنا فيه رحلة الإنسان الباحث عن الحق من موقف الشك إلى موقع اليقين في إسلوب هادئ ينطلق من الحوار الذاتي"(199).

ولا شك أن القارئ قد لاحظ قوله : "لينتهي بعد ذلك إلى موقف الإيمان الحق". وكذلك قوله: "رحلة الإنسان الباحث عن الحق من موقف الشك إلى موقع اليقين". وهذا نص صريح من صاحب "من وحي القرآن "، بأن إبراهيم (ع) لم يكن صدد محاججة قومه، وإنما كان شاكاً في ربه، عابداً للكواكب، وأن ما صدر منه (ع) كان خلال رحلته في طريق الإيمان.

أما النص الثاني الذي ذكره "الكاتب" أيضا من كتاب: "الحوار في القرآن" صفحة 42 وعمد كعادته الى تقطيع أوصاله بحذف ذيله الصريح في بيان رأي "البعض " حيث نقل عنه قوله: "فقد بدأت القضية [إلى قوله] تحمل من مظاهر العبادة ما يحملانه"(200) وأعرض عن قوله الذي يلي ذلك مباشرة: "وكانت الفكرة تنمو في ذهنه أمام عظمة هذه أو تلك [ يقصد الكواكب ] وهكذا إستطاع أن يتجاوز هذا الإعتقاد الطارئ السريع، إلى المطلق الذي فطر السموات والأرض".(201)

ولا أعتقد أن القارئ يحتاج إلى إلفات نظره لقوله: "تنمو الفكرة في ذهنه" وقوله: "يتجاوز هذا الإعتقاد الطارئ السريع". فإبراهيم (ع) إذن قد اعتقد بألوهية أو ربوبية الكواكب !! لكن هذا الإعتقاد كان طارئا وسريعا.

وقد أعرض "الكاتب" أيضا عن قول صاحبه: "وهكذا استطعنا أن نجد في شخصية إبراهيم من خلال هاتين الصورتين [موقفه من الكواكب، وطلبه من ربه أن يريه كيف يحي الموتى] اللتين يعرضهما القرآن له في حواره المتحرك في طريق الإيمان الشخصية الدينية للطرف الآخر الثاني للحوار الذي يريد أن يصل إلى الحق"(202).

فليتأمل القارئ في قوله: "في حواره المتحرك في طريق الإيمان" وليقارنه مع قوله في كتاب "من وحي القرآن" : "هل هي الرحلة الأولى في طريق الإيمان "

(203).

على أن ثمة نصا آخر ، عمد الكاتب الى تقطيعه، والقفز عن بعض فقراته؛ ليثبت تقريب صاحبه لاتجاه محاججة إبراهيم(ع) لقومه. مع أن النص صريح في دلالته، على عكس ما يدّعيه الكاتب.

يقول "البعض" تحت عنوان : "عود الى ما سبق" ما نصه :  "وقد تقدم الحديث عن إبراهيم في قصة الحوار في مواقف ثلاثة حواره الذاتي مع نفسه في رحلته الفكرية إلى الله، وحواره مع ربه في الإنفتاح على الطرق التي تجعل الإيمان نابعا من واقع الحس كما هو منطلق من واقع الفكر وحواره مع قومه ، عندما قام بتكسير الأصنام ليجعل ذلك فاتحة حوار معهم" (204) .

ويتضح للقارئ وجه المقارنة بين ما سبق من قوله عن الحوار الذاتي في طريق الإيمان وبين ما ذكره هنا وهو قوله: "حواره الذاتي مع نفسه في رحلته الفكرية إلى الله " !

اللغة العجيبة

وبعد أن عجز "الكاتب" أن يطابق كلام صاحبه مع كلام العلماء الأعلام واصطدم بمقولاته المخالفة بعبادة إبراهيم (ع) للكواكب، عمد إلى ابتداع ما أسماه "الظهور الأولي" للآيات (206)

فقال: إن وصف العلامة المحقق لهذه المقولات بـ "الجريئة" إنما انتزعه: "من سياق الحديث الذي كان بصدد إعطاء ظواهر الآيات المباركة".

وقال: "ومن دون شك فإن الظهور يدل على أن إبراهيم (ع) كان في مقام الإستدلال، وأنه كان يبحث عن الرب المدبر للأمر وهذا ما صرّح به العلامة الطباطبائي" !!

وأضاف "الكاتب "قائلا: "فالآيات المباركة ظاهرة في أن إبراهيم (ع) كان بصدد البحث والإستدلال، بيد أن المفسرين اختلفوا في تفسير ذلك إلى اتجاهين أساسيين ولهذا فإننا نرى صاحب تفسير "من وحي القرآن" بعد أن أعطى دلالات الآيات بحسب ظهورها الأولي عقد بحثا تحت عنوان: (وماذا بعد ذلك)"

وكلام "الكاتب "هذا لا يخلو من دهاء لأن قوله: " ومن دون شك فإن الظهور يدل على أن إبراهيم (ع) كان في مقام الإستدلال " حاول من خلاله الإيحاء بأن ذلك هو ما استظهره " البعض" لكن هذا المكر لا ينطلي إلا على السذج؛ لأن حيلة الظهور الأولي إنما إبتدعها للتخلص من صريح كلام صاحبه بأن إبراهيم (ع) كان معتقدا بألوهية الكواكب، وهذه الصراحة هي التي دفعت بالعلامة المحقق للحمل على هذا الكلام.

لذلك عمد "الكاتب" للإدعاء بأن ما أشكل عليه المحقق العاملي إنما إنتزعه " من سياق الحديث الذي كان بصدد إعطاء ظواهر الآيات المباركة ".

ولو كان "البعض" في استظهاره الأولي للآيات يتحدث عن أن إبراهيم (ع) كان في مقام الإستدلال، فلماذا احتج الكاتب بأن المحقق العاملي إنما إنتزع " المقولات الجريئة من سياق الحديث الذي كان بصدد إعطاء ظواهر الآيات المباركة ".

وما يؤيد ذلك أن "الكاتب" زعم أن العلامة ناصر مكارم الشيرازي فعل ما فعله "البعض" أي قدّم أولا دلالات الآيات بحسب ظهورها الأولي(207).

إلا أنه لم يذكر تلك الآراء التي توافق صاحبه بل تجاهلها!!

ولإظهار ذلك نستعرض آراء "من وحي القرآن " وما ذكره "الكاتب" من كلام للعلامة ناصر مكارم الشيرازي حول كل آية من الآيات موضع البحث:

الآية الأولى: (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي ).

قال "فضل الله": " ( قال هذا رب)  في صرخة الإنسان الطيب الساذج الذي خيل إليه أنه اكتشف السر الكبير الذي يبحث عنه كل الناس، كما لو لم يكتشفه أحد غيره، وكأنه أقبل إليه في خشوع العابد وفي لهفة المسحور وفي اندفاعة الإيمان وربما ردد هذه الكلمة (هذا ربي) في سرّه كثيرا. الى آخر ما تقدم  (208).

وقال الشيخ ناصر مكارم : "فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كله، ظهر أمام بصره كوكب لامع، فنادى إبراهيم هذا ربي، ولكنه إذ رآه يغرب، قال: لا أحب الذين يغربون".(209)

فنسأل "الكاتب": أي تشابه هذا الذي يدّعيه بين هذين القولين؟

فهل تحدث  الشيرازي عن صرخة إبراهيم "الساذج"؟ أم عن إقباله على الكوكب في خشوع العابد ولهفة المسحور واندفاعة الإيمان؟! أم عن ترديده لكلمة هذا ربي في سره كثيرا؟!! أم عن الحقيقة التي اكتشفها ،وهي ربوبية الكوكب، ليؤكدها في ذاتها بعيدا عن حالات الشك والريب؟ أم عن الوهم الكبير الذي كان يعيشه إبراهيم عليه السلام؟. وهل لآية ( هذا ربي ) كل هذه الدلالات وكل هذه "الظهورات الأولية"؟!!

الأمر الذي لا يشك به "الكاتب" الذي نقلنا عنه قبل قليل قوله إن: " الظهور يدل على أن إبراهيم كان في مقام الإستدلال وأنه يبحث عن الرب المدبر للأمر" . وأن ذلك ما صرّح به العلامة الطباطبائي ؟!!

فهل تستقيم هذه الدعوى مع المعاني التي تدل عليهاعبارات صاحبه الذي يدافع عنه؟! أعني هل كلام صاحبه المتقدم ذكره يفيد أنه (ع)كان في مقام الإستدلال، وأنه كان يبحث عن الرب المدبر ، وهل من يبحث عن الرب يقبل على ما افترضه ربا في خشوع العابد وفي لهفة المسحور وغير ذلك من عبارات؟!

ثم ما معنى قول"البعض" : " لقد ضاع الإله في الأجواء الأولى للصباح" ؟!

وليخبرنا "الكاتب" عما كان يبحث عنه إبراهيم، فهل هو الإله أم الرب المدبر؟!! وهو الذي نقل لنا قول العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير الميزان: " فالذي يعطيه ظاهر الآيات أنه (ع) سلّم أن لجميع الأشياء إلها فاطرا واحدا لا شريك له في الفطر والإيجاد وهو الله تعالى، وأن للإنسان ربا يدبر أمره لا محالة، وإنما يبحث عن أن هذا الرب المدبر أمره، هو الله سبحانه أم أنه بعض خلقه أخذه شريكا لنفسه"(210).

وكيف يكون كلام "البعض" مطابقا لكلام العلامة الطباطبائي رحمه الله؟!

وهل يريد "الكاتب "أن يقنعنا أن كلمة (هذا ربي ) تدل على: إقبال إبراهيم عليه السلام على الكوكب في خشوع العابد ولهفة المسحور واندفاعة الإيمان ، واكتشاف الحقيقة ليؤكدها في ذاتها بعيدا عن كل حالات الشك والريب ؟!

وأن قناعات إبراهيم اهتزت من جديد ؟!

ونفس المصيبة تجدها فيما ذكره "الكاتب " عن الآية الثانية : ( فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ) : فقد قال " البعض":

" قال هذا ربي  وبدأت المقارنة بين هذا النور الكوكبي وبين هذا النور القمري فأين هذا من ذاك، فهذا هو السر الإلهي الذي كان يبحث عنه (قال هذا ربي) وعاش معه في حالة روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب النوراني وفجأة بدأ الشعاع يبهت ثم يغيب وإنطلقت الحيرة في وعيه من جديد أين ذهب الإله، وأين غاب وهل يمكن للإله أن يغيب ويأفل وضجت علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله؟ وأين هو وعاش في التصور الضبابي المبهم الغارق في الغامض يتوسل بالرب الذي لا يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل " (211)

وقال ناصر مكارم: " ومرة أخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص القمر الفضّي ذو الإشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء فصاح ثانية: هذا ربي، ولكن مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأفق"(212).

فأين كلام "البعض "من كلام مكارم ؟! وهل كلمة: ( هذا ربي ) لها كل هذا الظهور وكل تلك الدلالات والمعاني والإيحاءات؟!! وهل يظهر من كلمة:

( هذا رب ) أن إبراهيم عليه السلام عاش مع القمر في حالة روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب النوراني؟!!.

وما كان يبحث عنه إبراهيم عليه السلام، هل هو الإله أم الرب المدبر؟!!

وماذا يعني قول "البعض " : " أين ذهب الإله وهل يمكن للإله أن يغيب وضجت علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله"؟!.

وما معنى قوله: "يتوسل بالرب الذي لا يعرف كنهه أن يهديه إلى سواء السبيل"؟!!.وكيف يكون كلام "فضل الله"مطابقا لكلام العلامة الطباطبائي رحمه الله ؟!

ولنتابع مع هذا "الكاتب" لنرى في الآية الثالثة ما فيه مخالفة لحقائق الدين وأصول المذهب ، حيث يحتوي على أقبح النسب الى الأنبياء وهو الشرك : ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ): يقول "فضل الله":

" وفجأة أشرقت الشمس بأشعتها الذهبية الدافئة فأخذت عليه وجدانه ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) فأين حجم الشمس من حجم القمر والكواكب فلا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه فإذا به يهتز ويتحرك في قوة وامتداد وحيوية دافقة ولكن ماذا؟ وبدأ يفكر فها هي تبهت وتبرد ثم تغيب وتأفل وتترك الكون في ظلام دامس فكيف يمكن أن تكون إلها تعيش الحياة في قدرته وقوته؟ وأطلق الصرخة فيمن حوله من هؤلاء الناس الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس فيما خيّل له ، في وقت من الأوقات، أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب"(213).

ويقول ناصر مكارم: "عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هاربا من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة وما أن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع، صاح: هذا ربي، فإنه أكبر وأقوى ضوءا، ولكنه إذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم، أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلا: يا قوم لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله"(214).

فهل ثمة تشابه بين هذين القولين؟! وهل تحدث الشيرازي عن تلك "اللابدّية" في أن تكون الشمس هي الإله الذي يبحث عنه إبراهيم عليه السلام؟! أم عن أنه (ع) خيّل له في وقت من الأوقات أن الكوكب والقمر والشمس هي الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب.

وهل لكلمة (هذا ربي هذا أكبر ) دلالة وظهور على أن الشمس قد أخذت عليه وجدانه ؟! وأنها لا بد من أن تكون الإله الذي يبحث عنه ؟!

ومرة جديدة نسأل "كاتبنا" هل كان إبراهيم (ع)، يبحث عن  الإله، أم الرب المدبر؟! حتى يقول "البعض": "فلا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه" أو يقول: "فكيف يمكن أن تكون إلها"

وبعد، هل يبقى ثمة شك بأن "الكاتب" يتعمد التضليل؟! وإلا فما معنى أن يعتبر كلام صاحبه متطابقا مع كلام الشيرازي؟!!

فضلا عن دعوى مطابقته لكلام العلامة الطباطبائي قدس سره؟!!.

وختاماً .. فالخلاصة التي لايقبلها عاقل  أن الآيات القرآنية الآنفة الذكر تدل عند "فضل الله " وفق رأي "الكاتب"، بحسب ظهورها الأولي على عدة أمور :

* إن إبراهيم (ع) عندما رأى الكوكب: سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولى عليه الخشوع الروحي، فخيل إليه أن هذا هو الإله العظيم".

* إن إبراهيم (ع) عندما رأى الكوكب: "قال هذا ربي في صرخة الإنسان الطيب الساذج الذي خيّل إليه أنه اكتشف السر الكبير الذي يبحث عنه كل الناس وكأنه أقبل إليه في خشوع العابد وفي لهفة المسحور وفي اندفاعة الإيمان".

* إن إبراهيم (ع) عندما رأى الكوكب: ربما  ـ ربما ـ ردد هذه الكلمة:

( هذا ربي ) في سرّه كثيرا ليوحي لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها ليؤكدها في ذاتها بعيدا عن كل حالات الشك والريب".

* إن إبراهيم (ع) عندما أفل الكوكب: "انكشفت له الحقيقة الصارخة فقد كان يعيش في وهم كبير واهتزت قناعاته من جديد".

* إن إبراهيم (ع) عندما رأى القمر إعتبر أن: "هذا هو السر الإلهي الذي كان يبحث عنه".

* إن إبراهيم (ع) عندما رأى القمر قال هذا ربي " وعاش معه حالة روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب النوراني"

( لاحظ كيف عبر هنا بالرب ثم عبر هناك بالإله عدة مرات !) .

* إن إبراهيم (ع) عندما أفل القمر: "إنطلقت الحيرة في وعيه من جديد وضجت علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله وعاش في التصور الضبابي".

* إن إبراهيم (ع) لما رأى الشمس بازغة وأن حجمها أكبر من حجم القمر اعتبر أنه: "لا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه".

* إن إبراهيم (ع) بعد أن أفلت الشمس كفر بالكواكب والقمر والشمس التي: "خيل له في وقت من الأوقات أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب".

اللغة الأعجب : روايات أهل البيت (ع ) لا تنسجم مع ظواهر الآيات!

صدّر "الكاتب" بحثه حول قصة إبراهيم (ع) بالتحدث عن اتجاهين أساسيين في تفسير الآيات: الأول: بأنه: " أسلوب حواري احتجاجي بمجاراة القوم، وتسليم ما سلموه، ثم بيان ما يظهر فساد رأيهم وبطلان قولهم في ألوهية الكواكب" .

والثاني: " أنه (ع) كان في دور المهلة والنظر والطلب والبحث عن الرب المدبر للأمر، على اختلاف المفسرين في أن ذلك كان قبل البلوغ أو بعده"(215). ثم خلص إلى القول: "إن رأي (السيد) الذي استقربه هو من أفضل الآراء ، وهو الإتجاه الذي يذهب إلى أن إبراهيم (ع) قال (هذا ربي ) على سبيل المجادلة والمناظرة".

أما الإتجاه الآخر " الذي استوجهه فضل الله وإن لم يختره، دلّت عليه الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، واستوجهه أعلام التفسير الشيعة على مدى قرون، فلم يكن الشريف المرتضى أولهم، ولا العلامة الطباطبائي آخرهم". ثم ختم "الكاتب" كلامه مخاطبا العلامة المحقق :

"الرأي الذي اخترتموه والذي يذهب إلى أن إبراهيم (ع) في قوله: (هذا ربي )كان في مقام الإستنكار والإستهزاء، يعد من أضعف الآراء في المسألة، ولا ينسجم مع ظواهر الآيات والسياق، ولهذا ذكره الأعلام في آخر ما ذكروه من وجوه محتملة".(216)

وقد بينّا تعسف "الكاتب" بأن ما أتى به فضل الله، لم يكن بدعاً من القول، وأنه قد سبقه إليه أعلام المذهب ، وسيأتي المزيد  ، وما يعنينا هنا قوله عن الرأي الذي اختاره العلامة المحقق القائل بأن إبراهيم (ع) في قوله (هذا ربي) كان في مقام الإستنكار والإستهزاء، يعد من أضعف الآراء في المسألة ولا ينسجم مع ظواهر الآيات والسياق، ولهذا ذكره الأعلام في آخر ما ذكروه من وجوه محتملة ! وكذلك دعواه أن روايات أهل البيت (ع) إنما دلّت على الإتجاه القائل بأن ذلك كان في زمان مهلة النظر الذي استوجهه "البعض" وإن لم يختره. فنسجّل على ذلك الملاحظات التالية :

1ـ تقدم أن العلامة المحقق إنما اختار مقولة "الإحتجاج" والإستنكار والإستهزاء ،ومن الواضح إمكانية الجمع بين هاتين المقولتين إذ لا تنافي بينهما. 2ـ نقل "الكاتب" نفسه رواية الإمام الرضا (ع) وتعليق العلامة الطباطبائي عليها ! وملخصها كما في العيون وذكرها البحراني في البرهان : أن المأمون سأل الإمام الرضا (ع) عن مسائل تتعلق بعصمة الأنبياء وكان مما سأله: الآيات المتعلقة بإبراهيم (ع) فقال الإمام (ع): "إن إبراهيم (ع) وقع إلى ثلاثة أصناف، صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس وذلك حينما خرج من السرب الذي أخفي فيه، فلما جن عليه الليل رأى الزهرة قال هذا ربي على الإنكار والإستخبار فلما أفل الكوكب قال: لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي على الإستنكار والإستخبار فلما أصبح رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي هذا أكبر على الإنكار والإستخبار لا على الإخبار والإقرار"(218).

فكيف يوفق، هذا "الكاتب"، بين ذكره للرواية من جهة، والإدعاء بأن رأي العلامة المحقق من أضعف الآراء ؟! لاسيما أن هذه الرواية تؤيد ما ذهب إليه العلامة المحقق أيده الله مع أن "الكاتب" ادعى زورا تأييد رواياتهم للإتجاه الآخر الذي استوجهه صاحبه وإن لم يختره ؟!!.

وماهو سبب اختيار صاحبه ما يخالف ما دلت عليه روايات أهل البيت عليهم السلام ؟! وهل يريد أن يقول لنا أن تفسير الإمام الرضا (ع) هو من أضعف الآراء، وأن قوله لا ينسجم مع ظواهر الآيات ؟!

وهل قال العلامة الطباطبائي قدس سره هذا القول أم قال إن هذا التفسير من الأئمة عليهم السلام لا ينافي صحة غيره من الوجوه ، إذ ليس بالضرورة أن يكونوا عليهم السلام في وارد إعطاء جميع وجوه الآية .

وبهذا نرى أن العلامة الطباطبائي قدس سره بريء مما نسبه إليه هذا "الكاتب" الذي أخذته العزة بالإثم إلى درجة اعتبر فيها تفسير الأئمة عليهم السلام من أضعف الآراء ! بل وتجرأ على اعتبار تفسيرهم لها في الرواية لا ينسجم مع ظواهر الآيات ! هذا في الوقت الذي يعتبر فيه تفسير صاحبه من أقوى الآراء !

وقديماً قالوا: إن لم تستح فافعل ما شئت !

السذاجة البلهاء

ذكر "الكاتب" أثناء تعرضه لمقولة: "السذاجة" في حديثه عن آدم عليه السلام ، أن التعبير بالسذاجة هو الذي جعل العلامة المحقق يعتبرها من "المقولات الجريئة" لأنها: "تعني التطلع إلى الأمور بنظرة حائرة بلهاء".(223)

وقد علّق "الكاتب" مخاطباً المحقق العاملي بقوله: "ما كان ينبغي أن يتبادر إلى ذهنكم هذا المعنى على الإطلاق" لأن "معنى السذاجة ليس كما يتبادر إلى بعض الأذهان خطأ من أنها البلاهة، التي تعني الحماقة والسفاهة وعدم العقل فالأبله هو الأحمق الذي لا تمييز له".

ثم ساق "الكاتب" ما ورد في لسان العرب من تعريف "للسذاجة"(224).

لكن هذا القول من "الكاتب" يمثل افتراءً واضحاً وتضليلا سافراً ، وذلك:

أ ـ  لأن ما ذكره العلامة المحقق عن السذاجة بأنها "تعني التطلع نحو الأمور بنظرة حائرة بلهاء" إنما هو كلام فضل الله ! وقد ردّده العلامة المحقق في معرض طعنه على وصف آدم عليه السلام به حيث قال أعزه الله بالنص الحرفي: "ولعل هذا " البعض"  قد حسب أن عدم معرفة آدم بأمر خفي، لم يجد السبيل إلى معرفته، نوعا من السذاجة، والبساطة، مع أن هناك فرقا بين السذاجة التي تعني التطلع إلى الأمور بنظرة بلهاء كما سيأتي في كلام نفس هذا "البعض" عن إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام ، أو تعني نوعاً من القصور في الوعي والفهم، كما يقول عن آدم عليه السلام وصرّح به في خطبة ليلة الجمعة بتاريخ (29 ج2 1418 هـ) ، وبيّن عدم الإطلاع على الواقع لسبب أو لآخر"(225).

وإذا راجعنا النص الذي ورد في كتاب "من وحي القرآن" والذي ذكرناه في أول هذا الفصل لوجدنا صاحبه يقول: .لأن توجيه الوجه لله لا يعني في مدلوله العميق هذا الموقف الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان نحو الأفق الممتد في السماء بنظرة حائرة بلهاء "!!  (226).

فظهر مما تقدم إن تعريف السذاجة بأنها "التطلع إلى الأمور بنظرة حائرة بلهاء" ليس تعريف العلامة المحقق حتى يقول له الكاتب: بأنه ما كان ينبغي أن يتبادر إلى ذهنه هذا المعنى على الإطلاق، فإن كان هذا المعنى خطأ، فإنه من جملة أخطاء "البعض" !!

انظروا الى من قال .. لا الى ماقيل !!

  ولا بأس بذكر حادثة حصلت مع أحد مريدي (السيد) ،حيث قرأ فهرست العناوين والمقولات في الصفحات الأولى لكتاب خلفيات الجزء الأول ، ثم عاد إلى الغلاف ليتأكد من إسم المؤلف فعلم أنه "السيد جعفر مرتضى العاملي" ثم عاد للمقولات ليردّدها الواحدة تلو الأخرى على مسمع ومرأى العديد من الإخوة المؤمنين الذين أخذوا يستمعون إليه ، إلى أن رمى الكتاب جانبا قائلا هذا الكفر بعينه لماذا لا يتصدى العلماء له ويوقفونه عند حده ؟!!

 فضحك أحد الحاضرين لعلمه بداهة أن هذا الشخص ظن أن هذه المقولات تعبر عن رأي العلامة المحقق وأنه غير ملتفت إلى أنها عناوين لمقولات "البعض" فأخبروه فلم يصدق بل قال: هذا الأمر يحتاج إلى تأمل وتفكر !!

ثم عاد للكتاب ليتأكد من ذلك بنفسه، ولتصبح بعد ذلك هذه الحادثة مضربا للمثل !!

وهذا الأمر قد حصل مثله مع "كاتبنا" الذي ظن أن صاحب هذا التعريف للسذاجة هو العلامة المحقق الذي "ما كان ينبغي أن يتبادر إلى ذهنه هذا المعنى على الإطلاق لأن معنى السذاجة ليس كما يتبادر إلى بعض الأذهان خطأ من أنها البلاهة التي تعني الحماقة والسفاهة وعدم العقل" إلخ .

وهو لا يعلم أن هذا الخطأ من مسؤولية صاحبه الذي عرف السذاجة بهذا المعنى، وإن كنا نظن أنه يعلم ولكنه الدهاء !

إذن إن وصف آدم أو إبراهيم عليهما السلام "بالساذج" إنما يعني فيه، وفق تعريف "البعض" : "الأبله" !!

ج ـ ومن الملفت للنظر تجاهل "الكاتب" لمقولة السذاجة عند حديثه عن إبراهيم (ع)، مع أن العلامة المحقق وضع هذه المقولة في العنوان الأول من العناوين المتعلقة بالحديث عن إبراهيم (ع) تحت الرقم (29)(228).

وقد ذكرنا في حديثنا عن آدم (ع) أسباب هذا التجاهل فليراجع هناك !!

ومن ذلك يتبين مكر ما ذكره "الكاتب" أثناء حديثه عن آدم عليه السلام بأن "معنى السذاجة ليس هو ما تبادر إلى ذهنكم (يقصد المحقق العاملي) خطأ جرّاء إنسكم بالتعابير العامية وهذا التبادر الخاطئ قد وقعتهم فيه أكثر من مرة في (خلفيات)"!!!(229). فكان الأولى به أن يخاطب صاحبه بذلك !!

تشويه رأي العلامة الطباطبائي قدس سره

يتحدث "الكاتب" أن ثمة اتجاهين أساسيين في تفسير قصة إبراهيم (ع): الأول هو: المجاراة والمناظرة، والثاني هو: التأمل والنظر(230). واعتبر أن هذين الإتجاهين ذكرهما أعلام التفسير وذهبوا إلى إحتمالهما معا، بل ودافعوا عن الإتجاه الثاني(231). كما اعتبر أن السيد الطباطبائي (قده) اعتبر الإتجاه الثاني محتملا في التفسير !! (232). وهنا عدة ملاحظات:

أ ـ إن ما تحدث عنه الطباطبائي (قده) حول ما أسماه "الكاتب" الإتجاه الثاني، إنما ذكره (قده) على أساس أنه بمثابة افتراض من قبل إبراهيم (ع) ونظيره موجود في المنطق ويسمى "قياس الخلف" الذي يقتضي أن تفترض أمرا تريد إظهار بطلانه لإثبات نقيضه وكلام العلامة الطباطبائي (قده) كله منصب على هذا الإتجاه لذا قال (قده) قبل تقديم مناقشته: "والذي يظهر مما حكي من كلام إبراهيم عليه السلام مع قومه في أمر الأصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه وله من العلم بالله وآياته بما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه وتعالىأنزه ساحة من التجسم والتمثل والمحدودية"(233).

وقد تجاهل "الكاتب" ذلك كعادته وعادة من سبقوه للدفاع عن "البعض" !!

وقال (قده) بعد ذلك أيضا: "وعليه يدل ما حكي عنه في آخر الآيات (قال يا قوم إني بريء مما تشركون) فإن ظاهره أنه ينصرف عن فرض الشريك إلى إثبات أنه لا شريك له لا أنه يثبت وجوده تعالى"(234).  مما يعني أن إبراهيم (ع) بعد أن افترض لله شريكا ثم رأى ما ينتج عن هذا الإفتراض من نتيجة باطلة لا يصح نسبتها إلى الرب أثبت بذلك لقومه أنه لا شريك له. وهو ما يسمى في المنطق بقياس الخلف وهو مستعمل في الرياضيات.

ولا يخفى ما لتعبير العلامة الطباطبائي (قده): "إثبات أن لا شريك له لا أنه يثبت  وجوده تعالى" من دلالة، ودلالته واضحة وهي: أن إبراهيم إنما كان في مقام الإثبات لقومه لا الثبوت لنفسه، أي تقديم ما هو حاصل لديه من إيمان بصورة الدليل والبرهان .

وهذا القول يكشف عن زيف ما نسبه الكاتب للعلامة من أنه (قده) اعتبر مقولة التأمل والنظر وجها محتملا في التفسير. ولذا قال السيد الطباطبائي قدس سره: "وفي إثر ذلك ما كان منه (ع) من افتراض للكوكب"(235). حتى لا يتوهم متوهم غير ما يريده ويرمي إليه لذلك .

وقال أيضاً:"فهو ما لم يتم له الإستدلال غير قاطع بشيء ولا بان على شيء، وإنما هو مفترض ومقدر لما افترضه وقدره"(236).

 وقال أيضاً: "وعلى هذا فقول إبراهيم ليس من القطع والبناء اللذين يعدّان من الشرك، وإنما هو افتراض أمر للنظر إلى الآثار التي تثبته وتؤيده " (237) .

فإبراهيم (ع)لم يؤمن ولو للحظة واحدة أو إحتمل أن يكون الكوكب ربا، على عكس ماذهب إليه (البعض) من أن إبراهيم (ع) قد اعتقد بألوهية الكواكب" لكنه استطاع أن يتجاوز هذا الإعتقاد الطارئ والسريع " وقد تقدم نص كلامه . ورغم كل ذلك فإن "الكاتب" الساذج توهم غير ما أراده الطباطبائي (قده) إن لم نقل تعمد التضليل !

ج ـ رغم اعتبار العلامة الطباطبائي (قده) لهذا الكلام أنه وجه ، إلا أنه لم يتبنه وإنما تبنى الوجه الثاني وهوأن الكلام جار مجرى التسليم والمجاراة لقومه لإثبات بطلان دعواهم ، وأن ذلك أجلب لإنصاف الخصم وأمنع لثوران عصبيته، وأصلح لإسماع الحجة (238).

وكلام الطباطبائي (قده) يتطابق مع ما ذكره عن الوجه الأول حيث قال قدس سره : "والذي يظهر ممـا حكي من كلام إبراهيم (ع) مع قومه في أمر الأصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه"(240)

والمتحصل مما قدمناه أن المتأمل في كلام العلامة الطباطبائي (قده) يراه يختلف أشد الإختلاف مع ما ذكره "البعض" الذي قام "الكاتب الأمين" بحذف بعض مقاطعه، بل وتجاهل كل النصوص المشكلة فيه !!

ونكتفي هنا بذكر بعض أوجه الإختلاف بل التناقض فيما بين الكلامين:

1ـ معرفة إبراهيم (ع) بتنزيه الله عن التجسم :

قال العلامة الطباطبائي (قده): " وله من العلم بالله وآياته بما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه أنزه ساحة من التجسم والتمثل والمحدودية"(241)

ولنقارن بينه وبين قول "البعض" : "وهكذا تدفقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه، فأحس بأن الله هو شيء لا كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته وأدرك أن الله لا يحس كما تحس الموجودات الأخرى بالسمع والبصر واللمس، ولكنه يدرك بالعقل والقلب والنور"(242).

فالذي يظهر من كلام العلامة الطباطبائي (قده): أن موقف إبراهيم (ع) من الأصنام وقبل موقفه من الكواكب يظهر ظهورا لا شك فيه أن إبراهيم (ع) كان على علم بأن الله أنزه عن التجسم وأنه لا يحس كما تحس الموجودات الأخرى بالسمع والبصر واللمس.

بينما يظهر من كلام "البعض" أن إبراهيم (ع) لم يكن يعلم ذلك إلا بعد الإنتهاء من قصته مع الكواكب وهذا أول التناقضات.

2ـ إبراهيم يبحث عن الرب أم الإله ؟

رأي السيد الطباطبائي (قده) الذي تقدم ذكره وعلى لسان "الكاتب" أيضا هو: "فالذي يعطيه ظاهر الآيات أنه (ع) سلّم أن لجميع الأشياء إلها فاطرا، واحدا لا شريك له في الفطر والإيجاد، وهو الله تعالى، وأن للإنسان ربا يدبر أمره لا محالة وإنما يبحث عن أن هذا الرب المدبر للأمر، أهو الله سبحانه وإليه يرجع التدبير كما إليه يرجع الإيجاد، أم أنه بعض خلقه أخذ شريكا لنفسه وفوض إليه أمر التدبير"(243).

أما رأي "البعض" وقد تقدم ذكر أقواله التي تحدث فيها عن الإله لا الرب، بل وردّد ذلك مرات عديدة وإليك ملخصها:

* ". فخيل إليه أن هذا هو الإله العظيم"(244)

* " ولقد ضاع الإله في الأجواء الأولى للصباح"(245).

* " فقد أفل الكوكب لكن الإله لا يأفل"(246).

* " وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد أين ذهب الإله وهل يمكن للإله أن يغيب ويأفل وضجت علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله "

(247).

* " أين حجم الشمس من حجم القمر والكواكب فلا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه"(248).

* " ثم تغيب وتأفل فكيف يمكن أن تكون إلها"(249).

"فيصرخ في مثل اللهفة هذا ربي إنطلاقا مما كان يسمعه بأن الإله بعيد عن الإنسان"(25).

 والطريف هنا أن قوله هذا قد جاء في معرض تقريبه لإحتمال أن تكون هذه الحادثة قد حدثت له في بداية طفولة إبراهيم (ع) حيث ذكر أنه (ع) لم يكن قد شاهدها من قبل فكيف، كان قد سمع بأن الإله بعيد عن الإنسان وقد عاش مع قوم كانوا يعبدون الأصنام وهي بينهم.إلا أن يقول:إنهم كانوا ينظرون الى الأصنام على أنها أرباب لا آلهه؟ لكنهم كانوا يسمونها آلهة،فقد كانوا يقولون للناس تحريضا إن الأنبياء يسبون آلهتكم ، وقال فرعون:ليس لي علم بأن لكم اله غيري ؟.

والخلاصة : أن العلامة الطباطبائي (قده) يعتبر أن إبراهيم (ع) لم يكن في مقام البحث عن الرب من ناحية أصل وجوده بل لم يكن في مقام إثبات وجوده تعالى لأنه مؤمن بوجوده أصلا ، وإنما كان في مقام إثبات نفي الشريك على صورة دليل وبرهان.

أما "البعض" فلم يتحدث عن الرب بل عن الإله .

3 ـ كلمة : لا أحب ، طفولية ؟!

رأي العلامة الطباطبائي (قده): " على أن الربوبية والمربوبية بإرتباط حقيقي بين الرب والمربوب، وهو يؤدي إلى حب المربوب لربه لإنجذابه التكويني إليه وتبعيته له، ولا معنى لحب ما يفنى ويتغير عن جماله الذي كان الحب لأجله.

وعلى أي حال: فإن إبراهيم (ع) أبطل ربوبية الكواكب بعروض الأفول له إما بالتكنية عن البطلان بأنه لا يحب الآفلين لأن المربوبية والعبودية متقومة بالحب فليس يسمع من لا يحب شيئا أن يعبده ، وقد ورد في المروي عن الصادق (ع): "وهل الدين إلا الحب" ، وإما لكون الحجة متقومة بعدم الحب، وإنما ذكر الأفول ليوجه به عدم حبه له المنافي للربوبية لأن الربوبية والألوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزي الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية، وهذا الوجه هو الظاهر.

ففي الكلام إشارة إلى التلازم بين الحب والعبودية أو المعبودية وقد اختار للنفي وصف أولي العقل حيث قال: (لا أحب الآفلين): وكأنه للإشارة إلى أن غير أولي الشعور والعقل لا يستحق الربوبية من رأس".(251)

فكلمة "لا أحب" عند العلامة الطباطبائي (قده) لها كل هذا المدلول العميق الذي يكشف عن حقيقة العلاقة بين الربوبية والمربوبية .

أما "البعض" فقد اعتبر أن دلالات كلمة "لا أحب" مما يمكن أن تقرب كون الحادثة وقعت في بداية طفولته حيث يقول: "أما الإحتمال الأول ( أنها الرحلة الأولى في طريق الإيمان لدى إبراهيم ) فقد يقربه، أن تكون الحادثة قد حدثت في بداية طفولته، عندما بدأ يتطلع للأشياء، ويفكر في الإله في عملية تأمل وتدبر في مستوى ذهنية الطفل فلما أفل أحس بالإنقباض وقال: لا أحب الآفلين: فقد نجد أن كلمة (لا أحب) بعض كلمات الطفولة البريئة التي تحب أو لا تحب من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء"!! (252).

هذه بعض الفروقات الجوهرية بين ما ذكره العلامة الطباطبائي (قده) وما ذكره "البعض" ! ومع كل هذا وذاك نجد إصرارا من "الكاتب" على الإدعاء مرارا وتكرارا أن هذه المقولات أجمع عليها المفسرون منذ الشيخ الطوسي (قده) وأن آراء "صاحبه" مما استوجهه أعلام التفسير فلم يكن الشريف المرتضى (قده) أولهم، ولا العلامة الطباطبائي (قده) آخرهم على حد تعبير "الكاتب" !! (253).

تحريف "الكاتب "كلام الشيخ الطوسي (قده)

يدعي "الكاتب" أن الشيخ الطوسي (قده) قد طرح: "وجوها أربعة محتملة في تأويل قول إبراهيم (ع) )هذا ربي) (254).  ونقول بإختصار:

1ـ تقدم أن أحدا لم يقل بما قاله "البعض" في خشوع إبراهيم للكواكب وأنه عاش معها في حالة من التصوف والعبادة ،بل تقدم إعتباره أن إبراهيم (ع) اعتقد حقيقة بألوهية الكواكب لكنه استطاع (ع) أن يتجاوز هذا الإعتقاد الطارئ السريع(255).

2ـ وقد تلاعب "الكاتب"، كما عودنا، تلاعب بالألفاظ عندما تحدث عن "وجوه أربعة محتملة" عند الطوسي (قده) وهذا محض إفتراء ، إذ أن الشيخ الطوسي (قده) تحدث عن أقوال أربعة لا "وجوه أربعة محتملة" فهناك فرق !

وهذا كلام الشيخ الطوسي قدس سره : "وقيل في معنى الآية وجوه أربعة " (256)  فتعبيره بكلمة "قيل" واضح في الدلالة على أنها أقوال ذهب إليها من قالها ، فمن أين علم هذا "الكاتب" بأن هذه الأقوال "محتملة" عند الطوسي؟!!.

3 ـ لقد ضعف الطوسي (قده) أن يكون إبراهيم (ع) قد قال ذلك قبل بلوغه ، وذلك لأنه نسبه إلى الجبائي، ونسبته  إلى الجبائي تضعيف له (257).

ولم يتحدث الشيخ الطوسي (قده) عن "اعتقاد حقيقي" عند إبراهيم (ع) وإنه "كان طارئا وسريعا" كما ذكر ذلك صاحب (من وحي القرآن).

4 ـ أما القول الثاني الذي ذكره الطوسي (قده) فهو إن إبراهيم (ع) كان في زمان مهلة النظر وقد نسبه للبلخي أيضا (258).

6 ـ أما القول الثالث (وهو الإنكار على قومه) فإن "الكاتب" عمد إلى تجاهله كالعادة ، ولغاية لم تعد تخفى، وهو القول المعتبر عند الشيعة وهو: "أن إبراهيم (ع) لم يقل ما تضمنته الآيات على وجه الشك، ولا في زمان مهلة النظر، بل كان في تلك الحال عالما بالله وبما يجوز عليه، فإنه لا يجوز أن يكون الإله بصفة الكوكب، وإنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه والتنبيه لهم"(261).  ويلاحظ في هذا القول عدة أمور:

أ ـ أنه موافق لروايات أهل البيت (ع).

ب ـ أن الطوسي لم ينسبه إلى أحد ولا يخفى ما في ذلك من دلالة.

ج ـ أن الطوسي ردّ جميع الإشكالات التي أوردها عليه كما رد الإشكالات على قول البلخي فما هو الأمر المعتبر عنده إذن .

د ـ أن الطوسي (قده) لا يمكن أن يجمع بين الموافقة على هذا الوجه والموافقة على الوجه الثاني لأنه يجمع بذلك بين متناقضين متنافرين، لأن القول الثالث يتنافى ويتنافر مع القول الثاني فلاحظ قوله (قده): "إن إبراهيم (ع) لم يقل ما تضمنته الآيات على وجه الشك ولا في زمان مهلة النظر" . انتهى . فهو صريح بأن القائل بهذا الوجه لا يقول بالوجهين الأولين.

7ـ وما قيل حول الوجه الثالث يقال حول الوجه الرابع وهو أنه (ع) قال ذلك على وجه المحجاجة لقومه وليس "على وجه الإقرار والإخبار والإعتقاد بذلك، بل على وجه المحجاجة"(262).

ومع أن "الكاتب" تجاهله، فإن من الواضح أنه الرأي الآخر المعتبر عنده وذلك لأسباب عديدة :

أ ـ قوله (قده): "ليس على وجه الإقرار والإخبار" يتلاءم مع ما جاء في رواية الإمام الرضا (ع) التي تقدم ذكرها.

ب ـ لم ينسب الطوسي (قده) هذا الرأي لأحد.

ج ـ إن المحاجج بأمر لا بد أنه على علم به، وهذا يتنافر مع القول بالشك أو القول أن ذلك كان في زمن مهلة النظر وهما مضمون القولين الأولين .

8 ـ إن احتجاج "الكاتب" بقول الطوسي (قده) بأن معرفة الله ليست ضرورية لاينفعه ، لأن المقصود بالضروري ما يقابل الكسبي .

وإذا كان الكاتب يقصد من هذا الشاهد تبرير قول "البعض" أن إبراهيم (ع) لم يعلم أن الله يحس كما تحس الأشياء إلا بعد الإنتهاء من قصته مع الكواكب، فتلك فضيحة علمية ، لأن ابراهيم عليه السلام كان في مقام المحاججة لقومه ، فلا بد أنه كان على علم بحقيقة ربه الذي يحاجج به قومه لإقناعهم بربوبيته وبطلان ربوبية غيره من الكواكب وغيرها. وإلا فكيف تتصور أنه يدعو قومه لعبادة ربٍ وتنـزيهه من الشرك دون أن يعرف صفاته.

ومن ناحية أخرى : إن كانت معرفة الله وصفاته ليست ضرورية بل كسبية فمن أين علم صاحب (من وحي القرآن) أن هذه المعرفة قد حصلت له (ع) بعد قضيته مع الكواكب، إذ لا مانع من أن يكون قد حصّلها قبل موقفه من عبادة الكواكب ولا يضر ذلك بكونها كسبية.

وهذا ما أشار إليه العلامة الطباطبائي (قده) فيما تقدم من نصوص له وهو قوله قدس سره : "والذي يظهر مما حكي من كلام إبراهيم (ع) مع قومه في أمر الأصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه وله من العلم بالله وآياته مما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه وتعالى أنزه ساحة من التجسيم والتمثل والمحدودية"(263).

تحريف "الكاتب " كلام الطبرسي (قده) أيضاً !

ولا يختلف ما ذكره "الكاتب" عن الطبرسي (قده) عما ذكره عن الطوسي (قده). فكلامه قدس سره متطابق مع كلامه الطوسي (قده) فلا نعيد(264).

 

 

هوامش الفصل الثالث

(161) سورة الأنعام / الآية 75 - 78.

(163) من وحي القرآن ج 9 ص 112-123.

(164) خلفيات ج 1 ص 69 و 70.

(165) خلفيات ج 1 ص 81.

(166) خلفيات ج 1 ص 82.

(167) راجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 133.

(168) خلفيات ج 1 ص 82.

(169) خلفيات ج 1 ص 84.

(170) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 123.

(171) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 123 و 124.

(174) من وحي القرآن ج 9 ص 119.

(175) من وحي القرآن ج 9 ص 119.

(176) من وحي القرآن ج 9 ص 119.

(177) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 130.

(178) من وحي القرآن ج 9 ص 120.

(179) نفس المصدر.

(180) نفس المصدر.

(181) نفس المصدر.

(182) من وحي القرآن ج 9 ص 121.

(183) من وحي القرآن ج 9 ص 121.

(184) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 130.

(185) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 130.

(186) من وحي القرآن ج 9 ص 122.

(187) خلفيات ج 1 ص 70.

(189) فليلاحظ أن "الكاتب" فتح المزدوجين قبيل كلمة الرأي.

(190) من وحي القرآن ج 9 ص 119.

(193) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 124.

(194) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 124 و 125.

(195) راجع خلفيات ج 1 ص 209.

(196) راجع: من وحي القرآن ج 9 ص 119 و 120.

(197) من وحي القرآن ج 9 ص 120.

(198) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 125.

(199) الحوار في القرآن ص 41.

(200) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 128.

(201) الحوار في القرآن ص 42.

(202) الحوار في القرآن ص 43.

(203) من وحي القرآن ج 9 ص 119.

(204) الحوار في القرآن ص 245 و 246. 

(206) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 129 و 130.

(207) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 129 و 130.

(208) من وحي القرآن ج 9 ص 115 و 116.

(209) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 130.

(210) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 129 و 130.

(211) من وحي القرآن ج 9 ص 116.

(212) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 130.

(213) من وحي القرآن ج 9 ص 117.

(214) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 131.

(215) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 114.

(216) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 133 و 134.

(218) راجع تفسير البرهان ج 1 ص 513 والميزان ج 7 ص 205.

(223) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 60 

(224) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 60.

(225) خلفيات ج 1 ص 60.

(226) من وحي القرآن ج 9 ص 122 و 123.

(228) خلفيات ج 1 ص 69، وقد ورد العنوان كما ذكره العلامة المحقق كما يلي: التأكيد على سذاجة إبراهيم عدة مرات.

(229) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 62.

(230) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 113 و 114.

(231) يبدو أن "الكاتب" قد تدارك في كتابه ما كان ذكره في الرسالة التي أرسلها الى المحقق العاملي والتي هي موضوع هذا الكتاب، حيث كان قد قال هناك: "بل ودافعا عنهما معا" ولا ندري كيف رأى "الكاتب" أولا أن أعلام التفسير قد دافعوا عن الإتجاهين معا ثم رأى بعد ذلك أنهم دافعوا عن الإتجاه الثاني؟!! أي قراءة هذه لآراء هؤلاء الأعلام؟!!.

(232) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 114.

(233) الميزان ج 7 ص 174.

(234) الميزان ج 7 ص 175.

(235) الميزان ج 7 ص 157.

(236) الميزان ج 7 ص 176.

(237) الميزان ج 7 ص 176.

(238) الميزان ج 7 ص 177.

(240) الميزان ج 7 ص 174.

(241) الميزان ج 7 ص 174.

(242) من وحي القرآن ج 9 ص 118.

(243) الميزان ج 7 ص 175.

(244) من وحي القرآن ج 9 ص 115.

(245) من وحي القرآن ج 9 ص 115.

(246) من وحي القرآن ج 9 ص 116.

(247) من وحي القرآن ج 9 ص 116 و 117.

(248) من وحي القرآن ج 9 ص 117.

(249) من وحي القرآن ج 9 ص 117.

(250) من وحي القرآن ج 9 ص 120.

(251) الميزان ج 7 ص 177 و 175

(252) من وحي القرآن ج 9 ص 20.

(253) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 113 و 133.

(254) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 119.

(255) الحوار في القرآن ص 42.

(256) التبيان ج 4 ص 182.

(257) التبيان ج 4 ص 182.

(258) التبيان ج 4 ص 182.

(261) التبيان ج 4 ص 184.

(262) التبيان ج 4 ص 185 و 186.

(263) الميزان ج 7 ص 174.

(264) مجمع البيان ج 3 و 4 ص 403.

 

 

 

الفصل الرابع موسى والعبد الصالح عليهما السلام

 

 

 

خلاصة الانتقادات

1 ـ تجاهل "الكاتب" كليا مقولات صاحبه المتعلقة بهذا البحث، ولم يأت على ذكر أي منها. كقول صاحبه إن موسى (ع) قد نكث بالعهد، وأنه لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة، وأنه لم يفهم الحدث ولم يفكر، وأنه (ع) ليس أهلا لمرافقة الخضر وغيرها !

2 ـ اعتبر "الكاتب "أن تنزيه النبي (ع) عن نكث العهد هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ، ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) !!

3ـ حرف "الكاتب " رأي الشيخ الطوسي في قوله تعالى ( لا تؤاخذني بما نسيت ).

6 ـ حرف رأي السيد المرتضى في قوله تعالى ( لا تؤاخذني بما نسيت ) .

7 ـ افترى على الإمام الخميني (قده) بتقويله مالم يقله .

 8 ـ أصر "الكاتب" على أن موسى (ع) قد عاهد الخضر (ع) على السكوت المطلق عن أية مخالفة ظاهرية للشريعة، وأن اعتراضه (ع) ليس له ما يبرّره، وبالتالي فهو نكث بالعهد .

9 ـ تجاهل قول "البعض" بأن موسى (ع) لم يفكر بأن من الممكن أن يكون لفعل الخضر وجه آخر ! وهذا مما لم يقل به أحد من الأولين والآخرين.

10 ـ جهل "الكاتب" الفرق بين أن يكون موسى (ع) لا يعلم أن هناك حقيقة وراء فعل الخضر (ع) ، وبين أنه يعلم ذلك لكنه لا يعلمها على وجه التفصيل.

11 ـ اعترف "الكاتب" بأن اتباع موسى للخضر (ع) إنما هو اتباع تلميذ لأستاذه الذي يثق بكفاءته وحكمته وإخلاصه، ورغم ذلك فإنه اتهم موسى (ع) بأنه شك في هذه الحكمة !

 12 ـ تجاهل "الكاتب" قول صاحبه إن موسى لم يكن أهلا لمرافقة الخضر عليهما السلام .

13 ـ وكذلك تجاهل قول صاحبه بأن موسى (ع) لم ينضبط أمام الكلمة المسؤولة !!

14 ـ افترى الكاتب على العلماء والمفسرين بأنهم يقولون كما يقول "البعض" إن الأنبياء ينكثون بعهودهم، ويخلون بكلمتهم، ولا ينضبطون أمام الكلمة المسؤولة !

الآيات القرآنية في الموضوع

(وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا . فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا . فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن اذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما . قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا . قال إنك لن تستطيع معي صبرا . وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا . قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا . قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا . فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا . قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا . قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا . فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا . قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا . قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا . فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا . قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا

((267).

ما قاله "البعض"

44 ـ موسى (ع) ينكث العهد.

45 ـ موسى (ع) غير منضبط.

46 ـ خطأ موسى (ع) في موقفه.

47 ـ موسى (ع) لا يستفيد من التجربة الخاطئة الأولى.

48 ـ موسى (ع) لم يفهم الحدث ولم يفكر.

49 ـ علم الأنبياء والأئمة (ع) محدود بحدود مسؤولياتهم.

50 ـ نسيان موسى (ع).

51 ـ النسيان حالة اضطرارية.

52 ـ موسى (ع) في دورة تدريبية.

53 ـ عدم أهلية موسى (ع) لمرافقة الخضر"(268).

نص أقواله

" وأحس موسى بالحرج الشديد لمخالفته للمرة الثانية ونكثه بالعهد، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني لأنني لن أكون أهلا لمرافقتك فيما يمثله ذلك من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة التي التزمت بها أمامك". "وها هو يعود إلى الإخلال بكلمته من جديد".

" (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) ولماذا لم تستفد من التجربة الأولى التي عرفت فيها خطأ موقفك في اهتزاز مشاعرك أمام الحدث الذي لم تفهمه، ولم تفكر بأن من الممكن أن يكون له وجه آخر".

"ففي قصة الخضر هو العبد الصالح، هي أن الله أراد أن يدخل موسى في دورة تدريبية حتى يفهم الجانب الثاني من الصورة".

"أما هذه الجوانب فلا دليل على ضرورة إحاطته بها، ولا يمنع العقل أن يكون لشخص حق الطاعة في بعض الأمور التي تحيط بها على الناس الذين يملكون إحاطة في أشياء أخرى لا يحيط بها، ولا تتعلق بحركة المسؤولية، وربما كانت هذه القصة دليلا على صحة هذا الرأي الذي نميل إليه".

"قال لا تؤاخذني بما نسيت من عهدي لك، هذا موقف ثان للنسيان يعيشه موسى في ذاته، لأن النسيان حالة اضطرارية لا يملك الإنسان معها عنصر الإختيار"(269).

ونتابع مع "الكاتب" في وقفاته، وحسبك في هذا المورد تجاهله الكلي للعناوين والنصوص المشكلة التي أوردها العلامة المحقق في كتاب "خلفيات"، والتي تعبر عن مقولات صاحبه محط النظر ومورد الإشكال.

على أننا لا ندري، ولعل غيرنا يدري، كيف يمكن أن يؤدي هذا "الكاتب" مهمته في إثبات عدم مخالفة مقولات صاحبه للمذهب ، وأن يثبت أنها مما أجمع عليه المفسرون منذ عصر الشيخ الطوسي (قده) دون أن يعرض لها أو يأتي على ذكرها ؟!.

وأنى له ذلك وقد انفرد صاحبه بها، وأصر على تبنيها في الطبعة الجديدة لكتابه "من وحي القرآن" رغم وضوح مخالفتها لما عليه المذهب. ولا يتوقف هذا الأمر على خصوص هذه المقولات في هذا المورد بالذات بل يتعداه ليشمل كل الموارد الأخرى

ومهما يكن من أمر ، فإن هذه المقولات التي تقدم ذكرها واضحة في الشكل والمضمون وصريحة في المعنى والدلالة وظاهرة في المخالفة ولن ينفع "الكاتب" دس رأسه في الترابوسنأتي على ذكرها حينما نستعرض ما قدمه "الكاتب" في هذه الوقفة التي أظهر فيها فنونا من التحريف والتزوير والتضليل لم نفاجأ بها. ولا نبالغ إذا قلنا إننا لم نكن ننتظر منه غير ذلك وقديما قالوا : إن لم تستح فافعل ما شئت.

نسيان موسى عليه السلام

يستعرض "الكاتب" في معرض حديثه عن قوله تعالى: ( قال لا تؤاخذني بما نسيت ) آراء ينسبها للعلماء زورا وبهتانا كما هو دأبه بعد تحريف أقوالهم لتنسجم مع أهوائه وأهواء صاحبه الذي يدافع عنه.

التحريف الأول : كلام  العلامة  المحقق

إن أول ما طالعنا به "الكاتب" من تحريفات هو تحريفه وافتراؤه على العلامة المحقق حيث زعم أنه أعزه الله يرى: "أن من الجرأة تفسير قول موسى (ع)

( لا تؤاخذني بما نسيت  بمعنى: بما نسيت من عهدي لك. وفسرتم ( مخاطبا العلامة المحقق ) النسيان بمعنى الترك ليكون معنى الآية: لا تؤاخذني بما نسيت أي: بتركي العمل في المورد الذي كان علي أن أهمل الوعد فيه إذ لا يجوز لي في هذا الموقف إلا أن أبادر للردع عن المنكر الظاهر"(270).

ولا ندري من أين جاء "الكاتب" بهذا الكلام الذي نظن أنه من عندياته ومن مخيلته الواسعة ومهما يكن من أمر فإن الذي قاله العلامة المحقق هو :

"إذا كان ثمة وجه صحيح ومعقول، ومنسجم مع دلالات الآيات القرآنية، فلماذا اللجوء إلى تفسير الآيات بطريقة توجب الشبهة وتوقع في المحذور"

(271). ثم عمد العلامة المحقق إلى تقديم عرض موجز لتفسير الآيات  "دون أن يكون ثمة أي محذور عقائدي"(272)،

ثم ذكر أن: "من الواضح أن نسبة النسيان وبهذا المعنى إلى موسى تعني نفي العصمة عنه من هذه الجهة كما أن موسى لم ينكث العهد"(273).

فالعلامة المحقق دقيق ، لم يدع أن من يفسّر معنى النسيان بأنه ما يقابل التذكر يقول بنفي العصمة مطلقا،  إنما هو نفي لها من هذه الجهة، أي جهة النسيان.

إذ من المعلوم أن علماء الإمامية يعتبرون أن من الموارد التي تشملها العصمة هي النسيان. و "البعض" نفسه يدّعي القول بالعصمة على جميع المستويات رغم أنه ينسب إليهم ما ينسب مما لا يبقي من العصمة شئ .

وليلاحظ القارئ الكريم استنكار العلامة المحقق على "البعض" اعتباره أن موسى (ع) قد نكث بالعهد، هذا التعبير الذي جعله العلامة المحقق في أول العناوين المشكلة التي وضعها فراجع(274). لكن "الكاتب"، وكما هو ديدنه ! عمد إلى تجاهل هذا التعبير وتعامى عن هذه المقولة بل تهرب منها رغم كونها مورد الإشكال .

وليخبرنا "الكاتب" هل وصف موسى (ع) بأنه نكث بالعهد ولا يخفى شناعة وفظاعة هذا الوصف وهو من المعاصي إجماعا ، هو مما يكاد يجمع عليه العلماء؟! على حد تعبيره.

وليخبرنا أيضا هل أن تنزيه الأنبياء عن نكثهم بالعهد هو "اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) في ميزانه" كما يدّعي؟!.

 

التحريف الثاني: رأي الشيخ الطوسي قدس سره

استشهد "الكاتب" بقول الشيخ الطوسي (قده) الذي نقله من تبيانه "ثلاث معاني للنسيان أحدهما: "بما غفلت من النسيان الذي هو ضد الذكر" (275). وهذا منه غريب ، فقول الطوسي (قده): "وقيل في معنى النسيان ثلاثة معان" لا يعني أنه يلتزم بها معا !

وإن قيل إن ذكر الطوسي للمعاني الثلاثة دون ترجيح أحدها على الآخر إنما يستفاد منه عدم اختيار الطوسي لأي منها ..

قلنا: مادام الشيخ الطوسي لم يختر رأيا منها فلماذا جعله "الكاتب"  في زمرة من يؤيد مقولة النسيان بمعنى الغفلة حيث يقول بعد استعراض رأي الطوسي (قده) وعدد من العلماء: "ولهذا فإن ما قاله "السيد" يوافق ما قاله أعلام التفسير الشيعة منذ القرن الرابع الهجري وحتى يومنا هذا"(276) فإنما كان الطوسي (قده) في مقام عرض المعاني اللغوية للنسيان لا عرض خصوص المعنى المقصود في الآية .

 ثم ألا يعرف "الكاتب " أن الشيخ الطوسي (قده) إن لم يذكر رأيه هنا في معنى النسيان فسبب وضوح رأيه في المسألة أصلا ، وهو القائل بتنزيه المعصوم عن النسيان وذلك في كلمات عديدة ، منها تفسيره للنسيان المنسوب لآدم (ع) بالترك وقد مر ذكره في الفصل الأول فراجع. ومنها تصريحه في كتبه الإعتقادية بتنزيه المعصوم عن النسيان . (277).

التحريف الثالث: رأي الشيخ الطبرسي قدس سره

نقل عنه "الكاتب" من مجمع البيان قوله في معنى النسيان : "أي غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك وهو من النسيان الذي ضد الذكر وقيل بما تركت وعلى هذا فيكون النسيان بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة والسهو"(278)

ثم علق "الكاتب" بقوله: "ولا يخفى أن الشيخ الطبرسي يختار النسيان بالمعنى الأول ويضعف المعنى الثاني بكلمة(قيل)"(279).

وهنا عدة مفارقات :

1 ـ لاحظ كيف أن "الكاتب" قد التفت هنا إلى أن كلمة "قيل" تفيد التضعيف لكنه تجاهلها في أماكن أخرى كما تقدم في الفصول السابقة.

2 ـ عندما حاول "الكاتب " إثبات أن الطبرسي (قده) ممن يقول بنزول سورة "عبس" بالنبي الأكرم ، قال بعد استشهاده بكلام الطبرسي (قده) من كتاب (جوامع الجامع): "ومن المعلوم أن تفسير جوامع الجامع يعتبر الكتاب التفسيري الأخير الذي كتبه الطبرسي، بعد سبع سنوات من تفسيره "مجمع البيان" وقد جاء متضمناً خلاصة آرائه التفسيرية ونظراته القرآنية"(280).

وعليه نسأله : إن كان كتاب "جوامع الجامع" هذا حاله ، فلماذا تجاهل رأي الطبرسي فيه فيما نحن فيه من مقولة النسيان واقتصر استشهاده على "مجمع البيان" ؟!

والسبب واضح لأن الطبرسي صرّح في "جوامع الجامع" بما نصّه: "ويجوز أن يريد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك "(281).

فهو إذن "يجوّز" أن يكون النسيان بمعنى الترك ، فكيف يدعي "الكاتب" أن تفسير النسيان بمعنى الترك مما يضعفه المفسرون الشيعة ؟!

أليس الإقتصار على كتاب مجمع البيان وتجاهل كتاب جوامع الجامع بمثابة تحريف لرأي الشيخ الطبرسي ، مع اعتراف  "الكاتب" بأن الجوامع يمثل خلاصة آراء الطبرسي قدس سره ؟!

التحريف الرابع: رأي السيد المرتضى قدس سره

ولا يحتلف ما اقترفه "الكاتب" في رأي السيد المرتضى (قده) عما فعله برأي الشيخ الطوسي (قده).  والمراجع للسؤال الذي سئل به السيد المرتضى قدس سره يجد نصّه ما يلي :

" وما معنى قوله: لا تؤاخذاني بما نسيت وعندكم أن النسيان لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام" (283). وقد أجاب السيد المرتضى (قده) بقوله :

"وأما قوله: (ولا تؤاخذني بما نسيت) فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة: أحدها: أنه أراد النسيان المعروف، وليس ذلك بعجب مع قصر المدة، فإن الإنسان قد ينسى ما قرب زمانه لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك.

والوجه الثاني: أنه أراد لا تأخذني بما تركت. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" أي ترك، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن ابن أبي كعب عن رسول الله  (ص) قال: "قال موسى لا تؤاخذني بما نسيت" يقول: "بما تركت من عهدك".

والوجه الثالث: أنه أراد لا تؤاخذني بما فعلته مما يشبه النسيان فسماه نسيانا للمشابهة وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها. وإذا حلمناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه أن النبي إنما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه " (284).

ومن الملاحظ :

1 ـ أن السيد المرتضى (قده) جعل عنوان بحثه : تنزيه موسى (ع) عن النسيان، فالقول بأنه (قده) يلتزم بالمعنى الحقيقي للنسيان فيه تعسف واضح.

2 ـ قال السيد المرتضى (قده) قبل استعراضه للمعاني الثلاثة إنه ذكر في معنى النسيان وجوه ثلاثة ، ثم ساق المعاني. ومن الواضح أن قوله عن المعنى الأول بأنه ليس بعجيب مع قصر المدة ليس قوله على الحقيقة وإنما هو قول من ذهب إلى هذا المعنى ويؤيده قوله: "لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك"، لأن شغل قلب الأنبياء بغير الله لا يقول به الإمامية وهو مما يتنزه عنه المعصوم.

هذا وقد جاء في الروايات عن أهل البيت (ع) أن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم .

3 ـ الأرجح أن السيد المرتضى (قده) يلتزم بالقول الثاني لتأييده بقوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) وهذه الآية لم يتعرض لها السيد المرتضى (قده) في تنزيه آدم (ع) والإستشهاد بها هنا لدلالتها التي لا تخفى.

4 ـ لا شك أن حديث السيد المرتضى (قده) عن كون النبي إنما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه، إنما ساقه (قده) على سبيل التنزل ، وهذا معنى قوله : "وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها، وإذا حملناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه" إذ من الواضح أن من يرفض حمل النسيان على المعنى غير الحقيقي ويلتزم بالحقيقي منه لا بد له إذا كان معتقدا بالعصمة أن يحصر النسيان في غير التبليغ. 

وبمعنى آخر : إذا ثبت أن النسيان هنا يقصد به المعنى الحقيقي وأن لا وجه آخر ، فلا بد من القول بما قاله السيد المرتضى (قده)، لكن ذلك بعيد إذ النسيان بمعنى الترك شائع مستعمل متأيد بالقرآن كقوله تعالى( وكذلك أتتك أياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) وغيرها.

5 ـ ويمكن استظهار رأي السيد المرتضى من السؤال نفسه حيث جاء فيه: "وما معنى قوله لا تؤاخذني بما نسيت وعندكم أن النسيان لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام". ومن الواضح أن قول السائل "عندكم" يقصد به الإمامية القائلون بالعصمة، ويستظهر منها أن تنزيه المعصوم عن النسيان هو من خصوصيات مذهب الشيعة، ولو كان السيد المرتضى يتبنى حمل النسيان على المعنى الحقيقي لاكتفى بالقول: إننا لا نجوز النسيان على الأنبياء فيما يؤديه عن الله تعالى، أما في غير ذلك فلا مانع منه!! ولم يكن بحاجة لذكر هذه الوجوه .

وعليه، فيكفي إقرار المرتضى بما في السؤال وهو بصدد الإجابة عنه ليدل على أن الإمامية يقولون بنفي نسبة النسيان عن الأنبياء، وأنه (رحمه الله) ملتزم بذلك. لكنه (قده) لم يفعل ذلك، وإنما ذكر معاني النسيان ثم ساق تنزيهه للنبي وفق المعنى الحقيقي على سبيل التنزل.

6 ـ السيد المرتضى (قده) لم يكن قطعاً في وارد الإلتزام بهذه المعاني الثلاثة للنسيان، كيف والمعنى الأول ينافي ويناقض الثاني والثالث. ومن هنا لا بد من التدقيق بكلامه (قده) لمعرفة رأيه النهائي .

ولو أغفلنا النظر عن جميع ما تقدم، فلا أقل من أن يكون كلام الشريف المرتضى مجملا ولا يصح الإستدلال به على ترجيح أي من الأقوال، حيث انه يكون قد إنصرف عن إبداء رأيه في هذا المورد واكتفى بإستعراض أقوال الآخرين، ولا معنى للإستدلال به من الأساس .

على أنّ حمل النسيان على معناه الحقيقي يخالف دلالات ظاهر الآيات ؛ حيث إن تعلل موسى (ع) بالنسيان لو كان يقصد به الغفلة، أي ما يقابل التذكر، للزم منه أنه لو لم يكن ناسيا لما اعترض، لكنه اعترض ثانية وثالثة، ولم يكن ناسيا ومن يدعي أنه في اعتراضيه الاخيرين كان ناسيا اتهم النبي (ع) بما لا يقبل به أقل الناس، لأن ذلك يعني: أنه عليه السلام كثير النسيان. ولو كان النسيان جائزا عليهم لما جوزنا كثرته الى هذا الحد وبهذا الشكل !! وقد قال السيد المرتضى قدس سره إن الأنبياء منزهون عن النسيان الذي يقتضي التنفير عنه، ويجمع العلماء على تنزههم عن فعل القبائح ولو نسيانا.

أضف إلى ذلك أن موسى (ع) كان قد عاهد الخضر (ع) على عدم الإعتراض كما يصر "الكاتب" على ذلك.

ومع ملاحظة أن النكث بالعهد من القبائح بل من المعاصي التي إن لم تكن من الكبائر فهي من الصغائر ومع الإصرار عليها تصبح من الكبائرأو على الأقل من المنفرات، لكونه عملا قبيحا بلا ريب، فكيف أصرّ (ع) على هذا النكث ثانياً وثالثاً ؟!!

الإفتراء على الإمام الخميني قدس سره

علق "الكاتب" على قول العلامة المحقق حول النسيان، بأن المراد به هو الترك والإهمال بقوله: "وهكذا بكل بساطة تحسمون الأمور بمسألة لم يستطع أكبر المفسرين من القدماء والمعاصرين أن يحسمها ويقطع بها"(286).

ثم يدوّن "الكاتب" في الهامش ما نصه: "من معالم المنهج التفسيري عند الإمام الخميني (قده) هو "الإحتمالية" أي أنه لا يجزم فيما يذهب إليه من تفسير للآيات المباركة، لأنه يرى أن التفسير الذي يحدد مراد الآية على نحو الجزم والحسم هو من مصاديق التفسير بالرأي المذموم ولهذا فإنه أكد مرارا وتكرارا قبل شروعه في دروسه التفسيرية لسورة الفاتحة احتمالية ما يقوله من دلالات ومعاني للآيات المباركة"(287).

ماذا يسعنا أن نقول أمام هذه المقارنة بين ماينسبه الكاتب الى العلامة المحقق وبين ماينسبه الى الإمام الخميني ؟! وهل ينطبق كلام الإمام (قده) على ما ينسبه إلى العلامة المحقق؟!.

وبماذا يمكننا أن نصف هذه المفارقة ؟! أهي ظرافة أم طرافة ؟!

ونسجل عليها ما يلي:

1 ـ استغل "الكاتب" كلام الإمام الخميني (قده) في غير الإتجاه الذي أراده قدس سره منه، فالأمر يختلف بين مورد ومورد، فمن يفسر سورة الفاتحة ، مثلا ويدعي أن ما يقدمه من تفسير هو الصحيح ويقطع في ذلك في مختلف مواردها ، يكون تفسيره بالرأي المذموم ، فمن ذا الذي يمكن أن يقطع بأن رأيه هو الصحيح في: ـ باء البسملة. ـ ومتعلق البسملة. ـ والمقصود من بسم الله. ـ والمقصود من الرحمن. ـ والمقصود من الرحيم. ـ والفرق بين الرحمن والرحيم.ـ سبب وعلة الإبتداء بالحمد دون الشكر مثلا. وغير ذلك من أسئلة كثيرة ... فهذا النوع من الآيات وما شابهها هو الذي يشير إليه الإمام الخميني (قده).

فهل يريد "الكاتب" أن ينسب للإمام الخميني (قده) القول بإحتمالية التفسير في كل الآيات القرآنية وعلى كافة مستويات معانيها ودلالاتها؟!.

وهل يريد أن ينسب إلى الإمام الخميني (قده) بأنه لا يقطع ولا يجزم بأنه لا يمكن أن يقصد بكلمة "اليد" في قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم ) تلك اليد الجسمانية الماديةوأنه إنما يقول ذلك على سبيل الإحتمال؟!.

وبالتالي إحتمال أن تكون " يد الله " جسمانيه؟!! أم يريد أن ينسب إليه (قده) بأنه لا يقطع ولا يجزم بأن قوله تعالى: ( ثم استوى على العرش)  وقوله تعالى: (وكان عرشه على الماء ) لا يقصد به ذلك الكرسي المرصع بالجواهر الشائع بين الملوك والقياصرة والأباطرة وأنه إنما يقول ذلك على سبيل الإحتمال؟! و بالتالي احتمال أن يكون " العرش" هو العرش المادي؟! 

أم يريد أن ينسب اليه أنه لم يقطع ولم يجزم بأن إبراهيم نبي الله وخليله لم يعبد الكوكب والقمر والشمس ؟!! وبالتالي احتمال عبادة خليل الله إبراهيم (ع) للكواكب و النجوم ؟!

وماذا عن قوله تعالى ( قل هو الله أحد ) فهل تكون دالة على الشرك باعتبار إحتمالية دلالتها على التوحيد لا الجزم بذلك، وقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ) وقوله (لا أعبد ما تعبدون) وقوله (من عمل صالحا فلنفسه )....

بل قوله تهالى (لا إله إلا الله )  فهل يريد الكاتب القول بإستحالة الجزم بمعنى هذه الآيات ؟! وأن ثمة إحتمالا مضادا لظاهرها ..

ألا يوجد ثمة قيد أو ضابطة أو معيار يسمح بالقطع والجزم ويمنع من التفسير بالرأي المذموم؟! أو على الأقل يستبعده أو يستقربه لقرائن تدل عليه؟!

ولماذا إذن كل هذه الضجة حول معنى النسيان ، طالما أن نفي أي احتمال أو إثباته أو القطع والجزم به سلبا أو إيجابا ن مع غياب القيود وفقدان الضوابط والمعايير يعتبر تفسيرا بالرأي المذموم ؟!

نعم ، مع ملاحظة أن لمعاني الآيات مراتب طولية لا بد معها من عدم الإدعاء بأن المراد هو هذا المعنى لا غير . لكن ذلك لا يتعارض ذلك مع الجزم، لوجود فرق بين الجزم بمعنى من المعاني دون استبعاد غيره والجزم مع الإستبعاد وهو معنى قول الإمام الخميني (قده) " ولن أقول بأن المراد هو هذا لا غير"(288)

لأن من شروط وخصوصيات المراتب الطولية للتفسير، أن التفسير الأعمق (البطن) ينبغي أن لا يتعارض ولا يتناقض مع التفسير الأقل عمقا وإنما يستوعبه ويشمله. ومن هنا يمكن الجزم بهذا المعنى من المعاني للآية دون أن يعارض ذلك وجود معاني أخرى، بل يمكن الجزم بعدة معاني للآية دون أن يكون بينهما تعارض وتنافر وهو معنى قول العلامة الطباطبائي (قده) الذي مر ذكره في تعليقه على رواية الإمام الرضا (ع) المتعلقة بإبراهيم (ع) حيث قال (قده):

إنه وجه من الوجوه ولا ينافي صحة غيره.

من هنا تبدو الإحتمالية في التفسير ضرورية في مراتبها الطولية، أما في المراتب العرضية فينبغي التوقف والحذر حيث لا يصح احتمال معنيين متنافرين.

وعليه فإن من يقول بأن المراد بالنسيان هو الترك لا يستقيم قوله هذا مع القول بأن المراد به هو الغفلة. أضف إلى ذلك، أن الآيات المتعلقة بالحوادث التي وقعت أو المتعلقة بتنزيه الأنبياء عن القبائح، وكل ما يؤدي إلى نسبة الجهل والنقائص إليهم، مما لا بد من الجزم والقطع بعدم صحة ما قد يفهمه بعضهم منها واستبعاده وتوهينه، إذ الأدلة العقلية حاكمة على الظهورات اللفظية على حد تعبير الشيخ الطوسي قدس سره.

2 ـ إن كان من شروط التفسير هو "الإحتمالية" في كل الآيات القرآنية، فإن من اليسير على كل أحد أن يعمد إلى الخوض في التفسير، إذ يكفي في ذلك أن يقول في كل آية : يحتمل في معنى الآية هذا الرأي أو ذاك أو ذلك وهكذا وهذا منهج "بديع" قد أتى به "الكاتب" لم يسبقه إليه أحد !!

3 ـ إن تفسير القرآن وفق "الإحتمالية" التي يصورها "الكاتب" يهدم كل ما يسمى "بالظهورات" طبعا في غير الموارد التي تكون الادلة العقلية حاكمة فيها.

4 ـ إن كان مجرد الجزم برأي من خلال الظهور اللفظي هو من مصاديق التفسير بالرأي ، فهذا يعني أن جل العلماء والمفسرين متهمون في ذلك ولينظر "الكاتب" فيما قدمه هو نفسه من نصوص وآراء ليدرك حجم هذا الإتهام الذي يطلقه ظلما وجورا باسم الإمام الخميني (قده) !!

5 ـ والغريب أن كتاب هذا "الكاتب" يزخر ويطفح بآراء يجزم بها في كثير من موارد التفسير. فليته طبق هذا المنهج "البديع" على نفسه قبل أن يدعو الآخرين إليه. أم أن باء هي وحده يجب أ، تجر ؟!

وقد حذر الإمام الخميني (قده) من أمثال هذا "الكاتب" الذي يبدو أنه يحيا في عالم آخر غير عالم التفسير والمفسرين والعلم والعلماء .. فقدم لهم النصيحة بقوله: " لاينبغي للذين لم يصلوا بعد إلى المستويات العالية من النضوج العلمي أن يدخلوا مضمار التفسير (والكاتب منهم)، فلا ينبغي للشباب غير المطلع على المعارف الإسلامية(والكاتب أيضا منهم) اقتحام ميدان تفسير القرآن".

وقد وصفهم بالمتطفلين بقوله: "وإذا حدث أن تطفل أمثال هؤلاء لغايات وأهداف ما (كما صنع الكاتب) على ميدان التفسير فلا ينبغي لشبابنا أن يولوا أهمية أو يقيموا وزنا لمثل هذه التفاسير"(289).

مقارنة بين مقولات فضل الله وآراء العلماء

ما مدى صحة ادعاء "الكاتب" بأن "ما قاله " السيد" يوافق ما قاله أعلام التفسير الشيعة منذ القرن الرابع الهجري وحتى يومنا هذا(290).

فقد تقدم أن نكث العهد من القبائح والمعاصي التي قلنا أنها إن لم تكن من الكبائر فهي من الصغائر حتما إلا أن الإصرار عليها حتى ارتكبها ثلاثا يعد من الكبائر فهل يجوز علماؤنا بالفعل على الأنبياء ارتكاب الصغائر؟!.فضلا عن الكبائر والقبائح؟ وما معنى قوله : "وأحس موسى بالحرج الشديد لمخالفته للمرة الثانية ونكثه بالعهد"؟!(291)

 ألا يعني أنه نكث بعهده للمرة الثانية بعد أن نكث به في المرة الأولى؟

ومن الواضح أن قصده تعمد النكث ! إذا أن الغافل عن العهد لا يعد ناكثا، فالنكث لا يتحقق إلا مع الإلتفات إلى العهد؟!.

أضف إلى ذلك أن "الكاتب" نفسه ذكر أقوال الطوسي والطباطبائي والمشهدي وغيرهم الذين قالوا: "إن موسى (ع) قد قيد عهده بالمشيئة ليخرج عن كونه كاذبا"(292).

فكيف يكون كلام صاحبه موافقا لكلام هؤلاء الأعلام؟! وكيف يستقيم قول صاحبه: بأن موسى (ع) قد نكث بعهده عدة مرات، مع كونه (ع) قد قيده بالمشيئة ؟!!. وليخبرنا "الكاتب" أيضا عن قول "البعض" في حق موسى (ع): "ولم يفكر بأن من الممكن أن يكون له وجه آخر"(293). فهل هذا القول أيضا يوافق ما قاله أعلام التفسير الشيعة؟!.

وفيما يلي مقارنة كلام "البعض" مع كلام العلماء الأعلام اعتمادا على النصوص التي جاء بها "الكاتب" نفسه :

فقد قال الشيخ الطوسي (قده): "كيف تصبر على ما لم تعلم من بواطن الأمور ولا تخبرها".

وقال الشيخ الطبرسي (قده): قال : "كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر وأنت لم تعرف باطنه ولم تعلم حقيقته"(294).

ولا يخرج ما قاله غير الطوسي والطبرسي (قده) من العلماء عما قالاه.

فهم إنما يتحدثون عن أن موسى (ع) لم يعلم حقيقة الأمر وباطنه، ولم يتحدث أي منهم عن أنه (ع) لم يحتمل أن يكون هناك وجه آخر .

على أن اتهام نبي الله موسى (ع) بأنه "لم يفكر بأن للأمر وجها آخر" هو اتهام له (ع) بالجهل ذهب به صاحبه إلى أبعد الحدود . إذ لا يخفى على كل متبصّر أن ثمة فارقا بين أن يكون موسى (ع) يعلم بأن وراء فعل الخضر (ع) حقيقة تصحح عمله وتبرره، وإن خالف فعله الظاهر، وبين أنه هل يعلم على وجه التفصيل حقيقته وباطنه .

إن الأمر الذي لا شك فيه أن موسى (ع) كان يعلم إجمالا ولم يكن يشك أبدا أن وراء فعل الخضر (ع) حقيقة تخالف ظاهر الأمر بشهادة تعليم الله له (قد آتيناه من لدنّا علما)  وأنّ الأنبياء لا يمكن أن يطلبوا من شخص أن يتبعوه ليتعلموا منه ما لم يكن يعمل وفق الأوامر الإلهية، ولا يعارض ذلك كونه (ع) لا يعلم هذه الحقيقة على وجه التفصيل.ولمّا كان تكليفه الشرعي يقتضي العمل وفق الظواهر كان لا بد له من الإعتراض.

وعليه، فإن ما ذكره هؤلاء الأعلام هو أنه لم يكن يعلم حقيقة الأمر وباطنه على وجه التفصيل، ولم يتحدثوا أبدا عن أنه(ع) لم يفكر بأنه من الممكن أن يكون لهذا الفعل وجه آخر.

وأعود وأكرر، بأن ثمة فارقا بين أن يكون موسى (ع) لا يعلم تأويلها وبين أنه لا يعلم أن لها تأويلا .

موسى عليه السلام لم ينكث بالعهد

علق "الكاتب" على قول موسى (ع) : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمراً ، بالقول: "في رحلة العلم والتعليم كما هو دور التلميذ مع استاذه الذي يثق بكفاءته وحكمته وإخلاصه" (295).

إذ كيف يثق التلميذ بكفاءة استاذه وحكمته، وإخلاصه، ثم لا يحتمل أن يكون وراء فعله المخالف ظاهرا لأحكام الشريعة، تأويلا وحقيقة ؟!. فأنت قد تعلم أن ضرب وتأنيب فلان، الذي تثق بحكمته، لشخص ما له ما يبرره ولكنك قد لا تعلم هذا المبرر على وجه التفصيل وهكذا.

بل كيف يستقيم ذلك مع قول "الكاتب": "بأن موسى (ع) لن يصبر على ما سيشاهده من أحداث غريبة، لأنه لا يملك العلم بتأويلها".

فإن كان "الكاتب"يؤيد ما قاله "البعض"  بأن موسى (ع) لم يفكر بأن من الممكن أن يكون هناك وجه آخر للمسألة، فقد كان ينبغي عليه أن يقول: بأن موسى (ع) لن يصبر لأنه لا يملك العلم بأن ثمة تأويلا لها، لا أن يقول: لا يملك العلم بتأويلها. لأنه وكما ذكرنا أن عدم امتلاكه للعلم بالتأويل لا يعني أنه لا يعلم بأن ثمة تأويل لها أصلاً .

ونعود للسؤال بعد الذي مر: من ذا من العلماء الأعلام قد تحدث بما تحدث به "البعض" أو قال بمقولته: إن موسى (ع) قد نكث بالعهد عدة مرات؟!!

فلنتابع أقوال هؤلاء العلماء الأعلام: فقد قال الشيخ الطوسي قدس سره :

 "أي ستصادفني إن شاء الله صابرا ولم يقل ذلك على وجه التكذيب، لكن لما أخبر به على ظاهر الحال فقيّده بمشيئة الله، لأنه يجوز أن لا يصبر فيما بعد بأن يعجزه عنه ليخرج بذلك عن كونه كاذباً "(296).

وقال الشيخ الطبرسي (قده): ليخرج بذلك من أن يكون كاذبا ، وهو عين قول الطوسي حيث يقول: "وإنما قيد (ع) صبره بمشيئة الله لأنه أخبر به على ظاهر الحال فيجوز أن لا يصير فيما بعد بأن يعجز عنه فقال: إن شاء الله ليخرج بذلك من أن يكون كاذبا"(297).

وكذلك فعل ابن أبي جامع العاملي عندما جعل تقييد الوعد بالمشيئة دليلا على عدم مخالفة موسى (ع) للوعد حيث قال: "وقيد بالمشيئة للتيمن أو لتجويزه أن لا يصبر لصعوبة الأمر على ما يخالف المعتاد فلا خلف"(298).

وكذلك ذهب العلامة الطباطبائي إلى أن موسى (ع) لم يخلف الوعد وهذا نص قوله: "وعده بالصبر لكن قيده بالمشيئة فلم يكذب إذ لم يصبر، وقوله: "ولا أعصي" إلخ عطف على "صابرا" لما فيه من معنى الفعل فعدم المعصية الذي وعده أيضا مقيد بالمشيئة ولم يخلف الوعد إذ لم ينته بنهيه عن السؤال "  

(299).

هذا ما عليه علمائنا من تنزيه موسى (ع) عن الإخلال بكلمته أو الإخلال بوعده فضلا عن نكثه به، فكيف يكون كلامهم (قده) موافقا لكلام "البعض" الذي يقول:

"وأحس موسى (ع) بالحرج الشديد لمخالفته للمرة الثانية، ونكثه بالعهد، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني لأنني لن أكون أهلا لمرافقتك فيما يمثله ذلك من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة التي التزمت بها أمامك". ثم يقول:  "وها هو يعود إلى الإخلال بكلمته من جديد"(300).

بعدما مر نسأل "الكاتب": هل أجمع المفسرون أو كادوا على: جواز نسبة النكث بالعهود للأنبياء؟ أو الإخلال بكلماتهم؟ أو عدم انضباطهم أمام الكلمة المسؤولة؟ أو عدهم أهليتهم للمرافقة؟!.

والعجيب هو إصرار "الكاتب" على أن موسى (ع) قد نكث بعهده، وأخل بكلمته تبعاً لصاحبه رغم الشواهد العديدة التي ذكرها من أقوال العلماء التي تخالف ما يحاول إثباته !!

ولهذا تراه يقول مؤكدا: "وبذلك يظهر جليا أن الذي يجب أن يصبر عليه موسى (ع) ويسكت هو الأعمال التي تكون في ظاهرها منكرة، ومخالفة لأحكام الشريعة والتي لا يحيط بخبرها ولا يعلم بباطنها وحقيقتها"(301). وهذا قول غريب لم يسبقه إليه أحد !!

 

علم الأنبياء وتنجّز التكليف

المتأمل في الآيات الشريفة المتعلقة بقصة موسى (ع) مع العبد الصالح سيظهر له ظهورا لا شك فيه:      

1 ـ أن العبد الصالح يملك علماً لدنياً.

2 ـ معرفة موسى (ع) بإمتلاك العبد الصالح لهذا العلم، لذا استأذنه على اتباعه ليعلمه مما علّم رشدا.

3 ـ إن أساس شعار الرحلة هو العلم والتعلم.

4 ـ إن موسى (ع) كان يعلم من خلال تركيز العبد الصالح على صعوبة صبر موسى (ع)، أنه سيرى أمورا غريبة يشق عليه الصبر عليها دون أن يعني ذلك بالضرورة أنها ستكون امورا منكرة مخالفة ظاهرا لأحكام الشريعة، لأن العبد الصالح قال له: )كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا( أي كيف تصبر على ما لا تعرف حقيقته وكنهه، ولا يعني ذلك أن ظاهره مخالف للشريعة وذلك كسلوك طريق طويل مثلا مع وجود طريق أقصر منه، فهذا أمر غريب لكنه ليس منكرا مخالفا لأحكام الشريعة ظاهرا.

5 ـ إن الآيات التي جعلها بعض العلماء دليلا على جواز مخالفة الأنبياء للأولى كانت دائماً تختتم بالإستغفار، بل أنهم كانوا يجعلون من هذا الإستغفار دليلا على هذا الإدعاء . فإذا كان الأمر كذلك، فليكن عدم صدور الإستغفار من موسى (ع) دليلا على عدم اتيانه بأي مخالفة للأولى .

وعليه، فإن هذه الآيات لاتشير إلى صدور أي ذنب منه (ع) ولو بمستوى مخالفة الأولى، فكيف يمكن اتهامه (ع ) بأنه نكث بعهده، أوأنه لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة، أو أنه ليس أهلا لمرافقة العبد الصالح، كما تحدث عن ذلك "البعض" .

وهنا سؤال يطرح نفسه : ماذا تريد هذه الآيات أن تعلمنا ا؟!

الجواب الأول : أنها تعلمنا أنه ينبغي على الإنسان أن يفكر بأن من الممكن أن يكون للأمر وجه آخر ! ولكن أدنى الناس يدرك بأن الذي يملك الحكمة، والكفاءة في الحكم فضلا عن أن يكون الله قد آتاه من لدنه علما، إذا أتى فعلا فيه مخالفة ظاهرية، فلا بد أن يكون وراء هذا الفعل ما يبرره ويصححه. فكيف بنبي الله موسى (ع) ؟! الذي لا يعقل أنه لم يفكر بأن من الممكن أن يكون للأمر وجه آخر؟! على حد تعبير "البعض" !  خصوصا أنه يطلب العلم من العبد الصالح الذي صدرت منه هذه الأفعال. وأن تحذير العبد الصالح لموسى (ع) بأنه لن يصبر فيه دلالة واضحة أنه سيشاهد في رحلته أشياء غريبة يشق عليه السكوت عنها وعدم الإعتراض عليها.

هذا فضلا عن أن موسى (ع) إنما استأذن العبد الصالح باتباعه على أن يعلمه مما علمه الله رشدا، لعلم موسى (ع) بأن هذا العبد الصالح قد آتاه الله رحمة منه وعلمه من لدنه علما، فهل من كان هذا حاله ويشهد عليه مقاله يمكن أن يتهمه موسى (ع) بالقتل، ولا يحتمل أن يكون لفعله تأويل ؟!

من هنا لابد من القول بأن موسى (ع) كان يعلم بالاجمال أن لفعل الخضر (ع) تأويلا ، وإن لم يكن يعلمه على وجه التفصيل .

 فاتضح أن هذه الإجابة تتضمن اتهاما لموسى (ع) بالجهل !

ولا يخرج عن هذا الإطار ما نقله "الكاتب" عن بعض المفسرين وهو قولهم: "من فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه، ولا يبادر إلى إنكار ما لايستحسنه فلعل فيه سرا لا يعرفه"(302).

 فإن موسى عليه السلام كان يعلم أن في الأمر سرا، وأن مبادرته للإعتراض إنما هي للمخالفة الحكم الظاهري لهذا الفعل، لا لأنه لا يعلم بأن له تأويلا !

ب ـ الجواب الثاني : أن موسى (ع) كان يعلم بوجود سرّ وراء فعل العبد الصالح، ولكن الآيات تريد ان تشير إلى أنه لا ينبغي الإعتراض، حتى مع عدم العلم، فكيف مع وجود العلم بأن وراء هذه الأفعال تأويلا .

وهذه الإجابة، وإن تخلصت من الإشكال الذي يرد على الجواب الأول، لكنها تواجه إشكالات متعددة  منها :

1ـ إن الإدعاء بأن القصة تشير إلى ضرورة عدم الإعتراض على ما هو مخالف ظاهرا لأحكام الشريعة حتى لمن لا يملك العلم بأن ثمة مبررا واقعيا وراء هذا الفعل، فكيف بنبي الله موسى (ع) الذي كان يعلم ذلك .

إن هذا الإدعاء يتضمن اتهاما صريحا بأن موسى (ع) أتى ذنبا يستحق عليه العتاب أو العقاب ، مع أن الآية خالية تماما حتى عن أي عتاب ولاتشتمل على أي نوع من أنواع الإستغفار أو الإعتراف بالظلم ، كما هو الحال في آيات أخرى ادعى بعض المفسرين أنها دليل على ارتكاب بعض الأنبياء (ع) ما يخالف الأولى .

2 ـ لايمكن القول إنه يجب على موسى عليه السلام أن لا يحكم بحسب ظواهر الأمور، فإنه (ع) مأمور بالعمل بحسب الظواهر. وهذا التكليف شامل لكل الأنبياء ، بإستثناء داود(ع)، ومن أتى بعده، بما فيهم رسول الله (ص) الذي كان يتعامل مع الناس على هذا الأساس. وقد روي عنه (ص) أيضا أنه قال: " إنما أقضى بينكم بالبينات والإيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا، فإنما قطعت له قطعة من النار"(303).

3 ـ إن عدم الإعتراض على المخالفة الظاهرية في أكثر موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسقط التكليف من رأس ، إذ لا يحق لأي إنسان أن يعترض على أحد، لاحتمال أن يكون له مبرر واقعي .

ومما لايخفى أن من فوائد عمل الأنبياء بالتكليف الظاهري هو قطع الحجة على الحكام الذين قد يحكمون العالم الإسلامي باسم الإسلام، ويدّعون لأنفسهم أن لهم ما للنبي (ص) من صلاحيات وهذا ما أشار إليه العلامة المحقق أيده الله عندما قال : "إن العمل لا بد أن يكون على حجة ظاهرة حتى لا يصبح ذريعة للجبارين والظالمين"(304)

4 ـ وما أشرنا إليه هو فحوى كلام أمير المؤمنين (ع) الذي جاء في حديث عبد الله بن أبي رافع وهو يروي قصة التحكيم في صفين حيث قال: "حضرت أمير المؤمنين (ع)، وقد وجه أبا موسى الأشعري، وقال له: أحكم بكتاب الله، ولا تجاوزه، فلما أدبر قال: كأني به وقد خدع.قلت: يا أمير المؤمنين، فلم توجهه وأنت تعلم أنه مخدوع؟ فقال (ع): يا بني لو عمل الله في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل " (305).

7ـ إذا اتضح ما تقدم،  فما هي الفائدة التي خرج بها موسى (ع) من هذه القصية ؟ إن القرآن لم يقص لنا كل ما جرى بينهما في رحلتهما ولا شك أنه (ع) قد تعلم منه أمورا لم يقصصها لنا القرآن .

وبهذا يظهر عقم ما ذكره "الكاتب" من أن ما تستهدفه القصة هو الحكم "على القضايا والأحداث بعيدا عن حجية ظواهرها التي هي بمعنى التنجيز والتعذير، بل إنها تقوم على أساس الباطن المخالف للظاهر، والعلم اللدني في مقابل العلم الكسبي"(307).

وأشد عقما منه ما تجرأ به "الكاتب" في إضافته إلى قول العلامة المحقق بأن موسى (ع) " كان تكليفه الإلهي أن يعترض وأن يسأل وأن يظهر حساسية بالغة لصالح الإلتزام بالحكم الشرعي"(308)  فأضاف اليه: "لولا الوعد الذي أعطاه بالصبر وعدم السؤال " !!! (3)

ولا يخفى ما في هذا القول الذي أضافه "الكاتب" من جرأة لا سيما على نبي الله موسى (ع) لأنه اتهام له بأنه قد نكث بالعهد وأخلف بالوعد وكذب به

وقد تقدم أنه (ع) قد قيد التزامه بالمشيئة ليخرج بذلك عن أن يكون كاذبا. وقول الطباطبائي: "لم يخلف بالعهد" !

فإذا عرفنا ما في هذه الإجابات من مطاعن ، أدركت أن لا محيص عن الذهاب إلى ما ذهب إليه العلامة المحقق وهو :

الجواب الثالث : المنسجم مع ظواهر الآيات، والمطابق للأدلة العقلية والنقلية الناهضة بعصمتهم عليهم السلام، والمدعم بالشواهد التاريخية والفقهية، والإعتقادية: وهو أن "الآية" لا ربط لها بعلم الأنبياء والأئمة عليهم السلام " وإنما هي ترتبط بموضوع تنجيز التكليف فيما يرتبط بالمعذرية أمام الله سبحانه لكي يكون العمل على حجة ظاهرة" وأن موسى (ع) : "كان تكليفه الإلهي الإلتزام بالحكم الشرعي"(310)

كما أشار إلى ذلك العلامة المحقق أيده الله وهذه الإجابة ترفع كل الإشكالات التي وردت على ما سبق من إجابات .

وقد يسأل " الكاتب ": ذكرتم في البداية أنه يظهر من هذه الآيات ظهورا لا شك فيه أن أساس شعار الرحلة هو العلم والتعلم، وأن موسى (ع) إنما استأذن العبد الصالح باتباعه على أن يعلمه مما علم رشدا  فكيف يستقيم ذلك مع الإدعاء بأن لا ربط لهذه الآية بعلم الأنبياء ؟

لكن هذا الإشكال ناشئ عن اشتباه ، سرعان ما يرتفع عند التأمل ، حيث أن العلامة المحقق لم يقل كما أوحى "الكاتب" بأن "لاربط للآية بموضوع علم الأنبياء أصلا"(311). فإن العلامة المحقق لم يقل أصلاً ، بل قال لاربط للآية أي من حيث هي. لا من حيث كونها جزءا من قصة تكون بمجملها مرتبطة بعلمهم عليهم السلام .

أما هذه الآية ، فإنها ناظرة الى لمعذرية أمام الله سبحانه لكي يكون العمل على حجة ظاهرة وثمة فرق ظاهر بين الأمرين. وبين الكلامين.

وقد يسأل أيضا: إذا كان الأمر كذلك فلماذا جعل شعار الرحلة العلم والتعليم. إذ من نافلة القول إن موسى (ع) لا يمكن أن يرضى أو يسكت عما فيه مخالفة ظاهرية، لأن ذلك مما يقتضيه تكليفه الشرعي؟.

والجواب: لا أحد يستطيع القول إن موسى (ع) لم يتعلم شيئا من الخضر، إذ أن القرآن لم يقصص علينا كل ما جرى في هذه الرحلة .

وعليه: فلم يقل صاحب هذا الرأي أن أصل الرحلة، مع التأكيد على كلمة " أصل الرحلة" هو موضوع تنجز التكليف، وإظهار مدى حساسية موسى (ع) تجاه الإلتزام بالحكم الشرعي وإن كان لهذا القول وجه كما سيأتي .

هذا من جهة ، ومن جهة ثانية: من الواضح أن قيام بعض الناس العاديين بما يخالف ظاهرا الأحكام الشرعية، واعتراض الأنبياء (ع) عليهم بل وزجرهم عنها لعلمهم أنهم ممن لا يملكون العلم ببواطن الأمور، لايظهر هذا القدر من امتلاك هذا النبي أو ذاك حساسية بالغة تجاه الإلتزام بالأحكام الشرعية .

ولكن الأمر يختلف جذريا عندما يكون الذي يرتكب هذه المخالفات الظاهرية يملك علما لدنياً ويتبعه النبي ليتعلم منه بأمر الله تعالى . وعندما تكون القضية فيها هذه الخصوصيات ، فالإعتراض سيكون إشعارا ودلالة، على مدى الحساسية التي يظهرها النبي تجاه الإلتزام بموافقة الأحكام الشرعية الظاهرية.

ومن هنا تلاحظ أن موسى (ع) قد اصطدم بأمرين:

الأول : أنه مكلف ومأمور بالعمل بحسب الظاهر وهذا الأمر مجمع عليه.

الثاني: أن من يتبعه هو ممن علّم علما لدنيا. ومن المقطوع به عنده (ع) أن لفعله حجة باطنة وإن خالفت الحكم الظاهري .

وعليه ، فإما أن يسكت موسى (ع) ولا يعترض، وبذلك يخالف تكليفه الشرعي بالإعتراض على ما فيه مخالفة ظاهرية وفي ذلك مخاطر كبيرة لأنه يفتح الباب على مصراعيه للحكام الظالمين والجبارين بالتعلل بأن ما يفعلونه ينطلق من علمهم بالواقع، ولا ينبغي أن ننسى ما حاول الحكام الأمويون، لا سيما معاوية، من إستغلال قول بعض المذاهب "بالجبرية" لتبرير حكمهم وتسلطهم على الناس .  وإما أن يعترض (ع) بطريقة لا توحي بالإتهام .

ولذلك اعترض بصيغة الإستفهام دون أن يشكل ذلك ذنبا، أو مخالفة شرعية لحكم شرعي،لأنه قيد وعده له بالمشيئة.

ولهذه الأمور ، تحدث العلامة المحقق عن النجاح الباهر الذي حققه موسى (ع ) في هذا الإمتحان الذي أظهر الله سبحانه وتعالى فيه "سر اصطفاء الله له من بين سائر قومه ليكون نبيا من أولي العزم"(312) فضلا عن إظهار أهليته لمقام النبوة والرسالة .

من هنا نقول ، وإن لم يقل ذلك العلامة المحقق ، إن الأمر إن كان بمثابة الإمتحان لموسى (ع ) لإظهار مدى حساسيته تجاه الأحكام الشرعية(313) وحسب أي كون القصة أساسا تستهدف موضوع تنجز التكليف، فإن ذلك من شأنه أن يشير إلى أن جعل شعار الرحلة هو العلم والتعليم مع شخصية كالخضر (ع) يمثل تحديا حقيقيا لموسى (ع) ولمدى إظهاره لتلك الحساسية،

وبالتالي يكون الإمتحان لموسى (ع) أبلغ واشد والله أعلم. ولكن ذلك يحتاج إلى إثبات أن الرحلة لم يكن يقصد منها سوى هذا الإمتحان، وهذا مما لا دليل عليه.

وإذا ما استطاع أحد أن يثبت بأن هذه  الرحلة إنما كانت تستهدف الإمتحان لموسى (ع) في مدى إظهار حساسيته تجاه المخالفة الظاهرية، فإن عدم علمه بحقيقة أفعال الخضر (ع) وبواطنها وحجب الله لها عنه (ع)، يصبح ضروريا،ً لأنه يرتبط بأصول وأسس الإجراءات الشكلية لهذا النوع من الإختبارات.

 وما دام لا يوجد دليل بين أيدينا على الأقل على كون القصة تستهدف هذا الأمر وحسب، فليكن عندئذ موضوع الإمتحان من جملة الأمور التي تستهدفها القصة . وإن الآية تريد أن تلحظ هذه الخصوصية، خاصة وأن القرآن حافل بشواهد كثيرة أراد الله سبحانه وتعالى بذكرها لنا أن يظهر سر اصطفائه لهم واتيانهم الحكمة والنبوة دون غيرهم .

3 ـ ليس المقصود من قول العبد الصالح: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) عدم قدرة موسى (ع) على تحمل هذا العلم، بل يراد عدم قدرته على تحمل آثاره ومقتضياته لمخالفته لما هو مكلف ومأمور به، أعني الحكم بحسب ظواهر الأمور . وهذا ما تشير إليه رواية القمي (قده) التي ذكرها "الكاتب"  (314) عن الإمام الرضا (ع) والتي جاء فيها: " قال من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال: نعم. قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه"(315). ولا يخفى ما في كلمة: "ووكلت" من دلالة واضحة على كون الموكل هو الله تعالى، وبذلك يكون المراد من التوكيل هو التكليف. وبذلك يظهر أن موسى (ع) إن كان لا يطيق العلم بحسب بواطن الأمور وحقائقها فإن ذلك يعود لكون تكليفه الإلهي هو العلم بحسب الظواهر .

كما أن العبد الصالح لا يطيق العمل بحسب الظواهر، لأن تكليفه إنما العمل بحسب الواقع وحقيقة الأمر وباطنه وما دام تكليف كل منهما (ع) يختلف عن الآخر، فإن الحديث عن كون الآية تتحدث عن علم الأنبياء والأئمة (ع) أو عن المقارنة بين علمهما أو عن أيهما أعلم يكون ليس في محله، إذ يصعب والحال هذه إجراء المقارنة لأن متعلق هذا العلم والإستفادة العملية مما يترتب عليه يختلف إختلافا جذريا. وهذا شاهد آخر على ما ذهب إليه العلامة المحقق من أن: "لا ربط لهذه (الأية)  بعلم الأنبياء والأئمة".

4 ـ ولكن ثمة مفارقة لطيفة في هذه الآيات ينبغي الإلتفات إليها، وهي: أن العبد الصالح لم يحتمل أن موسى لن يصبر ، بل قطع بهذا الأمر، ولذلك لم يقل له: إنك قد لا تستطيع معي صبرا أو ربما لن تستطيع معي صبرا، وما شابه ذلك من عبارات لا تفيد الجزم بالأمر، وإنما قال : (لن تستطيع معي صبرا ) بشكل جازم قاطع . ورغم علمه المسبق والقطعي بأن موسى (ع) لن يصبر ولسوف يعترض ، وافق على مرافقته واتباعه له. ولكنه إنما وافق عندما رأى أن موسى (ع) قد قيد وعده له بالمشيئة ولم يطلقه .

ولا يخفى أن علم الخضر (ع) بأن موسى (ع) سوف لن يصبر ، إنما هو لعلمه بأنه (ع) مكلف بالعمل بحسب ظواهر الأمور .

علام عاهد موسى الخضر عليهما السلام ؟

يدّعي "الكاتب" أن القول بعدم معاهدة موسى (ع) للخضر (ع) على الصبر على ما يراه مخالفا لأحكام الشريعة: "معارض لظواهر الآيات المباركة التي توضح أن موسى (ع) عاهده بذلك"(316) .

ويضيف " الكاتب": أن في الآيات "دلالة على أن موسى (ع) سيشاهد أمورا غريبة، لأنه لا يحيط بخلفياتها وتأويلاتها وإلا فما معنى ( الخبر ) في قوله: ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا )  غير حقيقة الواقعة وتأويلها وباطنها الذي يتجاوز سطح الأحداث وظواهرها"(317).

"يظهر جليا من القصة أن موسى (ع) قد عاهد العبد الصالح بالسكوت على أحداث ووقائع سيراها غريبة وعجيبة ومنكرة، لأنه لا يملك الإطلاع على أسرارها وأسبابها وخلفياتها"(318).

ويتابع "الكاتب" حشد أدلته على أن وعد موسى (ع) إنما كان بخصوص الأمور المخالفة ظاهرا للشريعة فيقول: "بل إن نهي العبد الصالح له عن السؤال لم يصدر إلا بخصوص هذه الأشياء والأمور المخالفة، والغريبة، والعجيبة وعليه أن لا يسأل مهما بدا الشيء مثيرا أو غريبا أو منكرا أو مخالفا لظواهر الشريعة، ولحقائق الدين"(319).

"فإذا كان موسى (ع) قد قبل شرط العبد الصالح بالسكوت على ما فيه مخالفة ظاهرية للحكم الشرعي، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب، أليس هذا وعدا بالسكوت على ما يراه مخالفا لأحكام الشريعة"(320).

 "وبذلك يظهر جليا أن الذي يجب أن يصبر عليه موسى (ع) ويسكت، هو الأعمال التي تكون في ظاهرها منكرة، ومخالفة لأحكام الشريعة"(321).

وهذه الدعوى فيها خلط واضح لا يخفى على متأمل ، وبيانه :

أ ـ إن قول الخضر (ع)( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) ليس فيه إشارة واضحة الى أن المقصود هو الأمور التي فيها مخالفة شرعية ظاهرية ولا الأعم منها ومن الواقعية ، فضلا عن أن يكون المقصود بها، كما ادعى "الكاتب"، هو خصوص هذه الأمور المخالفة للشريعة .

إن معنى الآية واضح، وقد عبر عنه الطوسي (قده) بقوله: "كيف تصبر على ما لم تعلم من بواطن الأمور ولا تخبرها"(322). وهذه الأمور التي لا يعلم باطنها ليس هي بالضرورة مخالفة ظاهرا للشريعة، فإن أقصى ما يمكن أن تدل عليه، أنه سيرى أمورا غريبة وعجيبة. ولكن ليس كل أمر غريب أو عجيب مخالف ظاهرا للشريعة  فإذا كنا نريد الذهاب إلى مكان ما وسلك بنا المرشد طريقا طويلا شاقا ومتعبا مع وجود الطريق الأقصر والأسهل، فإن هذا الفعل منه غريب وعجيب، إلا أنه ليس فيه مخالفة ظاهرة للشرع، ومع ذلك فقد يكون لهذا المرشد حجته، ولهذا الفعل حقيقته وهكذا

ب ـ وينبغي عدم الخلط بين المعاني التي تستظهر من مجمل القصة، وبين المعاني التي تستظهر من أجزائها. فالشق الأول منها هو الحوار الذي دار بين موسى (ع) وبين الخضر (ع) قبل بدء الرحلة. والشق الثاني: هو الرحلة وما جرى خلالها فإذا أردنا أن نعرف آيات الشق الأول وما تبادر من المعنى الى ذهن موسى (ع) فينبغي أن نغض النظر عن آيات الشق الثاني لأنها أحداث وقعت لاحقا ، ونحن نبحث عن المتبادر الى ذهن موسى عليه السلام قبلها .

ولما كانت هذه الأمور التي سيراها موسى (ع) والتي أخبره عنها الخضر (ع) بأنه لا يعلم حقيقتها، وأنه سيشق عليه الصبر عليها، لا يعلم (ع) ما هي على وجه التفصيل، فقد قيد موسى (ع) الوعد بالمشيئة، حتى يخرج بذلك عن أن يكون كاذبا لو حصل ما يقتضي الإعتراض، كما في مجمع البيان .

وبالتالي: حتى لا يكون ممن أخلف بوعده أو "نكث به" كما عبر "البعض"

إذ أن موسى (ع) كان يعلم أن الخضر (ع) إنما يسير في خط الله، وما وعده به لا بد أن يكون بالضرورة مما يدخل في هذا النطاق، أما غيره فالذهن ينصرف عنه كلية . وقد مر أن ما فيه مخالفة شرعية خارج عن نطاق الوعد تخصصا .

ج ـ ولأجل ما تقدم، ذكر الطوسي (قده) في معنى الآية: "كيف تصبر على ما لم تعلم من بواطن الأمور ولا تخبرها " (323).

أما قوله (قده): "لأن موسى (ع) كان يأخذ الأمور عن ظواهرها والخضر كان يحكم بما أعلمه الله من بواطن الأمور"(324) ، فلا شك أن الطوسي (قده) استظهر ذلك من خلال ما ظهر من رحلتهما (ع) لا من قوله: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا).

د ـ وكذلك قول الطبرسي (قده): "كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر، وأنت لم تعرف باطنه، ولم تعلم حقيقته"(325). فإنه (قده) إنما قصد من كلمة "منكر" معناها اللغوي أي ما ينكره الناس أي يستغربونه، ويتعجبون منه لا المنكر بالمعنى الشرعي أي المخالف للشريعة، بقرينة قوله: وأنت لم تعرف باطنهالخ. ولهذا قال الطبرسي (قده) في معنى قوله تعالى )فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا( أي"  لا تسألني عن شيء أفعله مما تنكره ولا تعلم باطنه". وعليه: يكون قوله: "مما تنكره" أي مما لا تعرفه أو تراه غريبا ولا تعلم حقيقته.

فإذا اتضح ذلك، اتضحت صوابية قول العلامة المحقق أيده الله بأن موسى (ع): "لم يكن قد عاهد الخضر (ع) على السكوت على ما يراه مخالفا لأحكام الشريعة"(326).

ومن هنا يغدو اصرار "الكاتب" على أن موسى (ع) إنما وعد الخضر بالسكوت على خصوص ما كان مخالفا للشريعة(327)، إتهاما خطيرا لنبي الله موسى (ع) لم يسبقه إليه أحد سوى صاحبه الذي يدافع عنه، فهو إصرار على اتهامه (ع) "بنكث العهد" على حد تعبيره وبالكذب والعياذ بالله .

وغصرار على تجاهل السبب من تقييد الوعد بالمشيئة  ؟!

وهنا نسأل "الكاتب": هل هذا مما يكاد يجمع عليه المفسرون الشيعة؟!

هـ ـ أما استغراب "الكاتب" قول العلامة المحقق: "وحين أكد له الخضر (ع) بصورة ضمنية على أن عمله ليس فيه مخالفة للحكم الشرعي، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب، قبل منه ذلك، فلما تكرر منه ما ظاهره المخالفة كان لا بد من تكرار الإعتراض، عملا بالتكليف الإلهي ولم يستعجل الحكم"

(328).

أقول: هذا الإستغراب لا مبرر له . ونوضح ذلك بأنا ذكرنا في بداية هذا الفصل أن "الكاتب" لم يستعرض مطلقا أيا من كلمات "البعض" لعلمه القطعي بأن أحدا لم يقل ما قاله، فلم يقل أحد بقيام موسى (ع) بنكث العهد؟! أو أنه لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة؟!

أو أنه لم يكن أهلا لمرافقة الخضر (ع)؟!.

أما تكملة العبارة التي نقلها "الكاتب" من كلام العلامة المحقق فهي: "كان لا بد من الإعتراض عملا بالتكليف الإلهي ولم يستعجل الحكم، ولا نكث العهد، ولا كان ذا فضول كما يقول "البعض" ولا هو يعاني من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة"(329). وكل هذا الذي ذكره العلامة المحقق هو كلام "البعض" لهذا السبب لم يكمل "الكاتب" العبارة !!

بعد هذا نقول: إن استغراب "الكاتب" لا مبرر له؛ لأن موسى (ع) إنما قبل من الخضر (ع) تأكيده له ضمنيا،ً بعد خرق السفينة، أن فعله ليس فيه مخالفة للحكم الشرعي وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب، ـ إنما قبل منه ذلك ـ في خصوص هذا المورد. وهذا ما قصده العلامة المحقق ولذلك قال: "قبل منه ذلك، فلما تكرر ما ظاهره المخالفة كان لا بد من تكرار الإعتراض".

و ـ ولأن "الكاتب" لم يدرك حقيقة هذا الأمر، ومعنى تقييد موسى (ع) لعهده بالمشيئة استغرب ما ذكره العلامة المحقق، بل راح يمعن في إظهار عدم إدراكه لهذه الأمور قائلا: "فإذا كان العبد الصالح قد أخبر موسى (ع) بأن عمله ليس فيه مخالفة شرعية، وعليه أن يصبر حتى يعرف السر، وقبل موسى (ع) ذلك .

ز ـ ومن غريب ما ذكره الكاتب في إعتراضه على العلامة المحقق هو قوله:

"فإذا كان موسى (ع) قد قبل شرط العبد الصالح بالسكوت على ما فيه مخالفة ظاهرية للحكم الشرعي، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب أليس هذا وعدا بالسكوت على ما يراه مخالفا لأحكام الشريعة؟! فكيف يكون الإعتراض وإعلان الإستنكار عملا بالتكليف الإلهي"(331)

فإن قول العلامة المحقق: إن الخضر (ع) بعدما اعترض عليه موسى (ع) أكد له بصورة قاطعة ضمنية أن عمله ليس فيه مخالفة وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب عندها قبل منه موسى (ع) ذلك . فموسى (ع) لم يقبل بالسكوت على ما فيه مخالفة ظاهرية، كما فهم "الكاتب" وإنما قبل الإستمهال إلى حين يعرِّفه باطن الأمر، الذي حدث الآن أمامه، في الوقت المناسب، بل حتى أن قبولـه لهذا الإستمهال إنما كان بعد اعتراضه.

ح ـ والأغرب مما تقدم هو قول الكاتب: "أليس معنى ذلك أن يكون الشرط الذي أعطاه العبد الصالح لموسى (ع) بالنهي عن السؤال، شرطا مخالفا لمقام النبوة والرسالة"(333). إذ من الواضح أن ما قاله "الكاتب" من أن معنى ذلك أن يكون الشرط الذي أعطاه العبد الصالح لموسى (ع) بالنهي عن السؤال شرطا مخالفا لمقام النبوة والرسالة، هذا القول قول من لم يفقه كلام العلماء، ولا تأمل في الآيات. لأن الخضر (ع) في الحقيقة هو الذي قبل بشرط(334) موسى (ع) عندما قبل بوعد موسى (ع) المقيّد بالمشيئة . لذلك قبل منه وقال له: (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ) .

 

 

عود على بدء

ونعود إلى ما ذكره "الكاتب" في تصديره لمعالجة هذه القضية حيث قال: " يعترض سماحتكم على (السيد) في تفسيره لقصة لقاء موسى (ع) مع العبد الصالح (الخضر (ع)  حيث سجلتم عشرة مقولات "جريئة" قد اقتطعتموها من سياقاتها. وكما هو دأبكم، فقد لجأتم إلى تصوير مقولات الآخر وكأنها مقولات لم يأت بها أحد من العالمين وأنه ينفرد بها دون غيره من المفسرين مع أن ما ذهبتم إليه من تفسير يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) في الميزان"(335).

ونقول: أين هي تلك المقولات التي زعم "الكاتب" أنها اقتطعت من سياقاتها؟ ولماذا لم "يتجرأ" على ذكرها أو التعرض لها ؟!

ولماذا كل هذا التهويل بأن ما ذهب إليه العلامة المحقق من تفسير هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) ، فإن كل ما اختلف به العلامة المحقق مع العلامة الطباطبائي (قده) هو في معنى النسيان، وما ذهب إليه العلامة المحقق في معنى النسيان هو ما عليه علماء المذهب ومفسروه  وليس السيد المرتضى أولهم كما ليس ابن أبي جامع العاملي آخرهم.

فليخبرنا "الكاتب" هل أن ما ذهب إليه العلامة المحقق من تنزيه لنبي الله موسى (ع) كالذي ذهب إليه " البعض" الذي وصف هذا النبي الكريم بأنه قد نكث بعهده؟ وهل ما ذهب إليه العلامة المحقق هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قدس سره الذين ذكرنا أقوالهم  فلا نعيد .

وهل تنزيهه عما نسبه "البعض" إلى نبي الله موسى (ع) من أنه لم يكن أهلا لمتابعة الخضر (ع) هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) أيضا ؟!.

وهل قول المحقق العاملي بأنه لا يصح وصف موسى (ع) بأنه: لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة كما وصفه "البعض" هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي؟!.

وهل أن العلامة المحقق أعزه الله عندما أدان وصف موسى (ع) بأن مشاعره اهتزت أمام الحدث الذي لم يفهمه (ع) هو الآخر اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) ؟!.

وماذا عمن يدين الحديث عن موسى (ع) بلغة أنه لم يفكر بأن من الممكن أن يكون لفعل الخضر (ع) وجه آخر !

فهل إدانة لغة كهذه مما يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي ؟!

ونكرر السؤال "للكاتب ": لماذا تجاهل مقولات (البعض ) ولم يأت على ذكر أي منها ما دام لم ينفرد بها، وما دامت ليست جريئة ومخالفة؟!

فليدلنا على واحد من هؤلاء الأعلام قد تحدث بما تحدث به (السيد) من أن موسى (ع): نكث بعهده عدة مرات .

وأنه لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة.

وأنه ليس أهلا لمرافقة الخضر (ع).

وأنه لم يفهم الحدث.

وأنه لم يفكر بأن من الممكن أن يكون للأمر وجه آخر.

وأنه لم يستفد من التجربة الأولى الخاطئة.

إن مشكلة هذا "الكاتب" هي العمل الدؤوب لتحريف كلام العلماء  ليتناسب مع كلام صاحبه الذي يدافع عنه، فإن لم يمكنه ذلك عمد الى تجاهل كلامه !! فهل رأيت أسوأ من هذا الدفاع ( العلمي ) ؟!!!

 

هوامش الفصل الرابع

(267) سورة الكهف / الآية 60 و 82.

(268) خلفيات ج 1 ص 98 و 99.

(269) خلفيات ج 1 ص 91 و 100.

(270) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 138.

(271) خلفيات ج 1 ص 101.

(272) خلفيات ج 1 ص 101.

(273) خلفيات ج 1 ص 101.

(274) خلفيات ج 1 ص 98.

(275) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 139.

(276) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 140.

(277) راجع كتاب الإقتصاد فيما يتعلق بالإعتقاد ص 260 وغيره.

(278) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 139.

(279) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 139.

(280) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 421.

(281) جوامع الجامع، طبعة حجرية ص 268ـ269.

(283) تنزيه الأنبياء ص 118.

(284) تنزيه الأنبياء ص 121.

(286) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 138.

(287) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 138 في الهامش.

(288) تفسير سورة البسملة، دار الهادي ـ بيروت ص 13.

(289) تفسير آية البسملة ص 12

(290) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 14.

(291) من وحي القرآن، ج14، ص393.

(292) راجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 148.

(293) من وحي القرآن ج 14 ص 393.

(294) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 152.

(295) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 141.

(296) التبيان ج 17 ص 63.

(297) مجمع البيان ج 6 ص 625.

(298) الوجيز ج 2 ص 241.

(299) الميزان ج 13 ص 343.

(300) من وحي القرآن ج 14 ص 393 و 394 و 395.

(301) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 152.

(302) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 146.

(304) خلفيات ج 1 ص 103.

(305) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 261.

(307) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 146.

(308) خلفيات ج 1 ص 103

(310) خلفيات ج 1 ص 103.

(311) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 141.

(312) خلفيات ج 1 ص 103.

(313) صحيح أن هذه العبارة هي عبارة العلامة المحقق، وإنما قلنا أنه لم يقل بذلك لأنه لا توجد    إشارة منه أعزه الله إلى أن القصة يراد منها الإمتحان والإختبار وحسب ولم ترد هذه المفردة: (وحسب) في كلامه مما يفهم منه أنه أراد بها ذلك إضافة إلى أمور أخرى لا نعلمها

(314) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 143.

(315) تفسير القمي ج 2 ص 38.

(316) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 147.

(317) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 147.

(318) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 147.

(319) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 150.

(320) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 151.

(321) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 152.

(322) التبيان ج 7 ص 71.

(323) التبيان ج 7 ص 63.

(324) نفس المصدر ج 7 ص 63.

(325) مجمع البيان ج 6 ص 624.

(326) خلفيات ج 1 ص 101.

(327) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 150.

(328) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 150 نقلا عن خلفيات : 1/102.

(329) خلفيات ج 1 ص 102.

(331) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 151.

(333) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 151.

(334) إستعملنا كلمة شرط تسامحا

(335) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 137.

 

 

 

 

الفصل الخامس يوسف عليه السلام

 

 

خلاصة الانتقادات

1- أخفى "الكاتب" خمس موارد من إشكالات العلامة المحق على "البعض " واقتصر على موردين !!

2- زوَّر "الكاتب" مصدراً ذكره العلامة المحقق حيث جعله شريطا مسجلاً وليس نصا مكتوباً بيد المؤلف ، مع أنه نص من كتاب الندوة ، ونص آخر من كتاب دنيا الشباب !

3- ارتكب "الكاتب" تحريف رأي الشريف المرتضى قدس سره ، ونسب اليه أنه يقبل مقولة ( الميل الطبيعي ) من نبي الله يوسف عليه السلام نحو زليخا !

4- ارتكب"الكاتب" تحريف رأي الشيخ الطوسي قدس سره لتأييد رأي صاحبه !

5- ارتكب "الكاتب" تحريف رأي العلامة المجلسي لتأييد رأي صاحبه !

6- ارتكب "الكاتب" تحريف رأي العلامة المشهدي صاحب كنز الدقائق

لتأييد رأي صاحبه !

7- ارتكب "الكاتب" تحريف رأي العلامة الطباطبائي ، لتأييد رأي صاحبه!

 

الآيات القرآنية في الموضوع

( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين . وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون . ولقد همّت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين . واستبقا الباب وقدّت قميصه من دبر وألفيا سيّدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب اليم . قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها. ) سورة يوسف: آية 22- 26

ما قاله "البعض "

35 - عذاب يوسف(ع) في مقاومة الإغراء.

36 - الإنجذاب إلى الحرام والقبيح لا ينافي العصمة.

37 - جسد يوسف(ع) تأثر بالجو.

38 - عزم على أن ينال منها ما أرادت نيله منه.

39 - هم بها، ولكنه توقف ثم تراجع.

40 - إيمان يوسف (النبي) يستيقظ .

41 - استنفذ كل طاقاته في المقاومة"(339).

نص أقواله

" التفسير الذي نميل إليه ونستقربه، هو الانجذاب اللاشعوري تماما كما ينجذب الإنسان إلى الطعام". "فالعصمة لا تعني عدم الانجذاب إلى الطعام المحرّم، والشراب المحرّم، أو الشهوة المحرمة، ولكنها لا تمارس هذا الحرام، فالانجذاب الغريزي الطبيعي هنا لا يتحوّل إلى ممارسة، وتتضح الصورة أكثر عندما جمعته مع النسوة، اللاتي قلن )حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم( عند ذلك شعر أن الطوق بدأ يضيق ويحاصره إلى درجة لا يستطيع فيها أن يتناسى، على اعتبار أنه استنفذ كل طاقاته في المقاومة".

"وهذا ما يجعلنا نشعر بالعذاب الذي كان يعيشه يوسف في مقاومته لإغراء هذه المرأة".

"خلاصة الفكرة: إن يوسف(ع) لم يتحرك نحو المعصية، ولم يقصدها ولكنه انجذب إليها غريزيا، بحيث تأثر جسده بالجو، دون أن يتحرّك خطوة واحدة نحو الممارسة"(340)

" عزم على أن ينال منها ما كانت تريد نيله منه"(341).

"( وهم بها) في حالة شعورية طبيعية، فيما يتحرك فيه الإنسان غريزيا بطريقة عفوية من دون تفكير لأن من الطبيعي لأي شاب يعيش في أجواء الإثارة أن ينجذب إليها، تماما، كمن يتأثر بالروائح الطيبة أو النتنة التي يمر بها، أو كمن تتحرك غريزة الجوع في نفسه بكل إفرازاتها الجسدية عندما يشم رائحة الطعام".

"وهكذا نتصوّر موقف يوسف، فقد أحس بالإنجذاب في إحساس لاشعوري، وهم بها استجابة لذلك الإحساس، كما همت به، ولكنه توقف ثم تراجع ورفض الحالة بحزم وتصميم، لأن المسألة عنده ليست مسألة تصوُّر سابق وموقف متعمّد، وتصميم مدروس، كما هي المسألة عندها، ليندفع نحو خطّ النه7اية كما اندفعت هي، ولكنها كانت مسألة إنجذاب جسدي يشبه التقلّص الطبيعي، والاندفاع الغريزي إنها لحظة من لحظات الإحساس، عبرت عن نفسها ثم ضاعت وتلاشت أمام الموقف الحاسم والعقيدة الراسخة أو القرار الحازم المنطلق من حساب دقيق لموقفه من الله، فيما ينطلق فيه من عقيدة، وفيما يتحرّك فيه من خط، وفيما يقبل عليه من عقاب الله، لو أطاع إحساسه وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى: (لولا أن رءا برهان ربّه) فيما تعنيه كلمة "البرهان" من الحجّة في الفكرة التي تقوده إلى وضوح الرؤية، فتكشف له حقيقة الأمر، فيحسّ بعمق الإيمان، أنه لا يملك أية حجّة فيما يمكن أن يقدم عليه، بل الحجّة كلها لله وربما كان جو هذه الآية هو جو قوله تعالى: )إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون( وقد نستوحي ذلك من مقابلة كلمة "هم بها" لكلمة "همت به" فقد اندفعت عليه بكل قوّة وضراوة واشتهاء، فحرّكت فيه قابلية الاندفاع وكاد أن يندفع عليها لولا يقظة الحقيقة في روحه، وانطلاقة الإيمان في قلبه وبذلك كان الموقف اليوسفي، فيما هو الإنجذاب، وفيما هو التماسك والتراجع والانضباط، مستوحى من الكلمة، ومن الجو الذي يوحي به السياق معا"(342). انتهى .

الكاتب هو الكاتب !

الكاتب هو "الكاتب"، والدواعي هي هي، كما الوسائل والغايات ! فقد بات أسيرا لهذا المنهج الذي لم يعد يملك أمامه من أمره شيئا !

ومشكلته مازالت أنه في كل مرّة يمارس فيها دور "محامي الدفاع" عن "البعض" ،  يأتي "بشواهد" و"أدلة" من كتب العلماء الأعلام فينسب إليهم ما هم منه براء ! ظنا منه أنه بذلك يدين صاحب كتاب "خلفيات" وهو في الحقيقة إنما يدين نبي الله يوسف والأنبياء عليهم السلام ، لالغاية إلا للدفاع عن "موكله" ، رغم اطلاعه الواسع على النصوص المتضمنة لمقولاته الخطيرة التي صدّرنا بها هذا الفصل !

ألا يرى هذا المدافع المتحمس أن صاحبه لم يبق كرامة لنبي الله يوسف على نبينا وآله وعليه السلام ؟! الذي برأه الله تعالى وشهد بأنه من الحسنين ومن المخلصين بالفتح .. وانه وصفه بأنه خفيف المشاعر والأحاسيس الباطنية والظاهرية والنفسية والجسدية ، فهي تتحرك مرة بشكل عفوي لاشعوري، ومرة بشكل طبيعي أو طبعي شعوري ! حتى أنه أسال لعابه وأفقده السيطرة على شهواته ! فبات غير قادر على تناسي ما يعاني منه من آلام وعذابات وضغوطات وإغراءات تلك المرأة والجو الجنسي !! كل ذلك تحت عنوان "الميل الطبعي"!!

وقد وصل به الأمر إلى أن جعل من جسد هذا النبي المخلص مرتعا للشيطان نتيجة ما أسماه "الجو" الجنسي الضاغط و"الإنجذاب" نحو الحرام رغم علمه بأن لا سلطة للشيطان على عباد الله المخلصين الذين استثناهم من دائرة الغواية (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) وإمعانا في بيان تأثره بهذا "الجو" الضاغط و"الانجذاب" نحو الحرام ، لم يتورّع عن الحديث عن "تقلّصات" و"إفرازات جسدية" لتوضيح الفكرة وشرحها !!

وإذا أضفت إلى ذلك ما جادت به قريحته، وأتحفنا به يراعه، من عبارات وألفاظ غير مناسبة ، تجلّى منهجه الخطير ، وظهر لك أن هذه المقولات ما هي إلا "ثمرة" من ثمرات هذا المنهج !!

وقد سعى "الكاتب" كعادته بما تيسّر له من وسائل وأساليب إلى التقاط "شواهد" و"أدلة" وانتقاء عبارات من كتب العلماء الأعلام أمعن في تقطيع أوصالها وتمزيقها وتحريفها ، ليوحي بها بأن "موكله" عندما وصف بها أنبياء الله بأوصاف لا يرضى أن يتصف بها أقل الناس وأحطهم ! لم يأت بشيء جديد في عالم التفسير ، فقد سبقه إلى ذلك المفسرون  !!

التجاهل من جديد

حصر "الكاتب" كلامه على موضوعين :

الأول : مقولة "الميل الطبعي". والثاني: مقولة "العزم" الواردة في شريط مسجل. وعمد كعادته إلى تجاهل المقولات التي أشكل عليها العلامة المحقق !

فلا بد أن نعرض ما أخفاه من العناوين المشكلة التي أُدرجت في كتاب "خلفبات" وهي التالية :

عذاب يوسف(ع) في مقاومة الإغراء.

الإنجذاب إلى الحرام والقبيح لا ينافي العصمة.

جسد يوسف(ع) تأثر بالجو "الجنسي".

عزم على أن ينال منها ما أرادت نيله منه.

هم بها، ولكنه توقف، ثم تراجع.

إيمان يوسف(ع) (النبي) يستيقظ.

استنفذ كل طاقاته في المقاومة"(343).

وإذا ما استثنينا مقولة العزم التي سيأتي الحديث عنها ، فإن باقي العناوين المشكلة لم يتحدّث عنها "الكاتب" !!

أولاً: عذاب يوسف(ع) في مقاومة الإغراء

يقول "البعض" : "بعد أن جمعت امرأة العزيز بين يوسف (ع) والنسوة اللاتي قلن: (حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) شعر يوسف(ع) عند ذلك أن الطوق بدأ يضيق ويحاصره إلى درجة لا يستطيع فيها أن يتناسى على اعتبار أنه استنفذ كل طاقاته في المقاومة، وهذا يجعلنا نشعر بالعذاب الذي كان يعيشه يوسف في مقاومته لإغراء هذه المرأة"(344).

فأي حصار هذا الذي لم يعد يستطيع معه نبي الله يوسف(ع) أن ينسى، بل يتناسى، أي أن يفعل فعل الناسي، أو أن يتظاهر بالنسيان على اعتبار أنه استنفذ كل طاقاته، مع ما رافق ذلك من عذاب ومقاومة من جرّاء إغراء هذه المرأة؟!

ومَن مِن العلماء الأعلام لا سيما منهم المرتضى، والطوسي، والطبرسي، والطباطبائي يتحدث عن الأنبياء ويعالج قصصهم ويتعامل مع الآيات القرآنية بهذه الطريقة والأسلوب الذي لا يليق بكتاب الله وأنبيائه؟!!

على أن الله قد أخبرنا عن قول يوسف(ع) لتلك المرأة : (معاذ الله) مباشرة بعد قول امرأة العزيز : (هيت لك) مما يدل على أن يوسف(ع) كان قد حسم الموقف من البداية ولاذ بالله واستعاذ به، فمن أين جاءت كل هذه التخيلات والأوهام التي يحلو للبعض أن يطلق عليها أنها "من وحي القرآن".

إن هذه الطريقة في التعامل مع كتاب الله وأنبيائه، والأسلوب في معالجة قصصهم، والمبالغة في وصف الموقف باستخدام صور ومفردات كـ: الطوق والحصار والعذاب الذي كان يعيشه هذا النبي، والممانعة فيما بين قوى النفس، واستنفاذ الطاقات في المقاومة ، التي تصور البطل اسطورة مثخنة بالجراح، ومرهقة من التعب وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وتبالغ في حجم العدو وقدراته وطاقاته التي لا تقهر.. إلى ما هنالك من صور ومفردات وحالات خاصة واستثنائية .. هذه الطريقة أو الاسلوب قد يصلح لسيناريو في فيلم سينمائي أو لقصة روائية أو لملحمة أدبية أو شعرية ، إلا أنه لا يصلح ولا يليق التعامل به في تفسير كتاب الله وآياته، ومعالجة قصص الأنبياء صلوات الله عليهم ، لأن عظمتهم لا تقاس بشخصية وهمية خيالية أو اسطورية هنا، ولا بشخصية تاريخية هناك، مهما كانت هذه الشخصية عظيمة.

فالحر بن يزيد الرياحي مثلا، شخصية عظيمة، عاش الصراع في نفسه بين قوى الشر والخير، والحق والباطل في تجربة فريدة ونادرة من نوعها، أتفق فيها أنه خيِّر بين اثنتين بين الموت (الشهادة) والحياة، أو بين الآخرة والدنيا، أو بين الوقوف إلى جانب الحق والوقوف إلى جانب الباطل، أو بين الجنة والنار، فاختار الموت (الشهادة) على الحياة في هذه الدنيا، ووقف إلى جانب الحق، ولم يرض عن الجنة بديلا، فقضى شهيدا.

فهل يقاس هذا الشهيد العظيم بمن عاش الصراع في نفسه فاختار الحياة الدنيا على الآخرة ووقف إلى جانب الباطل ؟!

وهل يقاس بمن خذل الحق ولم ينصر الباطل، أو جلس على التل ينظر إلى الحسين(ع) ويستمع إليه ينادي: هل من ناصر ينصرنا، فلم ينصره، فضلا عن أن يقاس بمن لم يعش الصراع، فنصر الباطل دون تردد؟!

فإن كان الحرّ رضوان الله عليه لا يقاس بهؤلاء، وهو أرفع من أن يقاس بهم، فإنه بالمقابل، وعلى عظمته، لا يقاس بمن لم يعش هذا الصراع أصلا؟! أي بمن هم أرفع منه مقاما، ممّن لم يعش هذا الصراع، لأنه لم يكن يرى سوى الحسين(ع) وحق الحسين(ع) وحب الحسين(ع) حتى أجنّه هذا الحب، نعم، لا شك بأن العناية والرعاية والألطاف الإلهية قد تداركت الحرّ في ذلك الامتحان والموقف الصعب، فاستحق الثناء من الإمام الحسين(ع) الذي قال له: أنت حر كما سمّتك أمك، فكان عظيما. ولكن، أين الحر من اولئك الذين لم يعيشوا هذا الصراع المرير ممن كانوا على طمأنينة وسكينة ويقين مما هم مقدمون عليه ومنتهون إليه.

 وعليه، فهل تقاس عظمة الحسين(ع) أو الأنبياء(ع)، بعظمة الحرّ التي إنما استمدها منهم واهتدى إليها واستحقها بهم، فهم الوسيلة له إلى ذلك، والقدوة والمثل الأعلى للكمال الإنساني.

فهؤلاء عليهم السلام قد شملتهم العناية الإلهية، والرعاية والألطاف الربانية منذ اللحظة الأولى لانعقاد نطفهم، وهم أجنّة في بطون أمهاتهم، لم يأت عليهم حين من الدهر على امتداد وجودهم، إلا وكانوا موضع لهذه العناية والرعاية واللطف، تطلبوا الكمال فنالوه، مذ كانوا بعين الله يتقلبون في الساجدين، بما أودعه الله فيهم من وسائل للهداية أخرجوها باختيارهم من عالم القوة إلى عالم الفعل وبما حقّقوه من نجاحات فيما امتحنهم وابتلاهم الله به، بدت آثارها عليهم منذ نعومة أظفارهم علم وحكمة، وقوة وقدرة، يقين وسكينة واطمئنان استحقوها بجدارة بعد أن سبق فضل الله عليهم بما وعد به عباده . ولذا استخلصهم لنفسه، واصطفاهم للنبوة، واختارهم للرسالة دون العالمين ، حتى إذا ما واجهوا البلاء وتعرضوا للابتلاء من جديد، وقفوا بثبات واختاروا الأولى والأصلح والأصح والأحسن بعد أن باتوا يرون الواقع على حقيقته، لا يحول بينهم وبين ذلك حائل طاهرة أجسادهم، صافية عقولهم، ساكنة قلوبهم، زاكية أرواحهم، مطمئنة نفوسهم لا تشوبها شائبة ولا يعتريها ريب ولا شك، قريبة من الله متحصنة به متيقنة من لقائه، فلا تطوقها المواقف والظروف ولا تضعف أمامها، ولا تنازعها الشهوات والنزوات والغرائز لتعيش العذاب، فلا تنجذب للحرام والقبيح الذي تنفر منه طباعهم وتأباه طبائعهم، لأنها (القبائح) مصروفة عنهم ، لا مصروفون عنها ! ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) لا سيما إذا عرض عليهم هذا الحرام والقبيح بثوب امرأة فائقة الحسن والجمال، تحسن استخدام مفاتنها، وتجيد الإغراء والغواية، فإن ذلك لا يستر الواقع المكشوف لهم ، والحقيقة الساطعة أمامهم، فلا يرون ذلك إلا تجلّي جلالي غضبي يمثل الغضب الإلهي ما دامت حراما، أو تجلي جمالي يمثل الجمال الإلهي ما دامت حلالا يستأنسون بها، وتسكن نفوسهم إليها (هو الذي جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) وعليه فلا يقاس أحد بهم، وكيف يقاس من كان هذا هو شأنه بمن هو دونه ؟! ألا ترى كيف أن هذا الإنسان المؤمن الملتزم ينفر بطبعه من الحرام إذا ما عرض عليه، بل هو معصوم عند تناول الميتة ولحم الخنزير والخمر والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه فهو يراه سما ينفر منه، ولا تهش له نفسه، ولا يخطر في باله، فضلا عن أن يفكر فيه. فكيف بالنبي، الذي علمت بعض صفاته ومزاياه وكمالاته .

ثانياً : الانجذاب الى الحرام والقبيح لا ينافي العصمة !!

وهذه مقولة ثانية من المقولات التي تجاهلها "الكاتب" ونفرد "البعض" بها، وإلا فليخبرنا "الكاتب" من العلماء الأعلام، لا سيما منهم المرتضى والطوسي يعتبر أن: "العصمة لا تعني عدم الانجذاب إلى الطعام المحرم، والشراب المحرم، أو الشهوة المحرمة، ولكنها لا تمارس هذا الحرام"(345).

وعلى رأي هذا "البعض" فالمعصوم يمكن أن يشتهي الخمر، وتنجذب نفسه إليه، ويشتهي النساء المحصنات ، وتنجذب نفسه إليهن، ولا يضر ذلك وغيره بالعصمة ، لأنها إنما تتعلق بالممارسة ! وهذا كلام غاية في الغرابة و"السذاجة" و"الجرأة" لم يسبقه إليه أحد !

هذه المقولة الشنيعة هي التي ربطها العلامة المحقق بقول "البعض" إن الإنسان :" لا يحاسب على نيّته إذا لم يحولها إلى واقع فالإنسان تخطر في باله أعمال يعبرون عنها في علم الأصول بالقول : "فعل قبيح وفاعل قبيح" بمعنى أن هذا يدل على قبح الفاعل ، أي أنه إنسان سيء ذاك الذي يفكر بالجريمة لكنه لم يفعل " (346).

وعلّق العلامة المحقق بالقول : " فهل يلتزم هذا "البعض" بنسبة القبح إلى نبي الله يوسف عليه السلام ؟ وهل يجوز أن يقول عنه إنه "إنسان سيء" أو أنه "فاعل قبيح" (347).

ثم جعل العلامة المحقق مقولة "العزم" بمثابة شاهد آخر على عدم صحة هذا الكلام وشناعته . لكن "الكاتب" عندما لم يستطع إنكار مقولة أن : " الذي يفكر بالجريمة إنسان سيء" عمد إلى ربطها بمقولة "العزم" فقط، متجاهلا حديث "البعض" عن ان العصمة لا تعني عدم الانجذاب إلى المحرم وإنما هي عدم ممارسة هذا المحرم !!

وعلى أي حال ، فإن العصمة عند "البعض" تنحصر في عدم ممارسة الحرام، أي تختصّ بالجانب العملي والفعلي ، ولا تشمل المجال النفسي والنظري !! وهو رأي يخالف أوضح أدلة العصمة التي يدركها المبتدئون في تحصيل العلوم الدينية، فضلا عن الأساتذة الفضلاء والعلماء الأعلام.

وخلاصة القول: أنه ثبت في محله أن العصمة ملكة نفسانية منشؤها العلم (348) ، لكنه ليس أي علم، وإنما هو من سنخ العلوم الحضورية، حيث ينكشف للمعصوم حقيقة الفعل وصورته الأخروية (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم )  فأشار سبحانه إلى آثار هذا العلم الذي إذا تحقق للإنسان، يجعله يرى بعين الله ، فيرى تجليات غضب الله ، كما يرى تجليات رحمته ورضاه .

وقد جاء في رواية عن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) قال : "حججت مع ابي عبد الله(ع) فلما كنت في الطواف قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله يغفر الله لهذا الخلق؟ فقال: يا أبا بصير إن أكثر من ترى قردة وخنازير، قال: قلت له: أرنيهم. قال: فتكلم بكلمات ثم أمرّ يده على بصري، فرأيتهم قردة وخنازير، فهالني ذلك، ثم أمرّ يده على بصري، فرأيتهم كما كانوا المرة الأولى"(350).

وجاء عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: " استقبل رسول الله (ص) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك ، فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال رسول الله (ص) : لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال: يا رسول الله أعزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري، وكأني أنظر الى عرش ربي وقد وضع للحساب ، وكأني أنظر الى أهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار . فقال رسول الله (ص): عبد نوّر الله قلبه" (351). وغير ذلك من الروايات الكثيرة  التي تصرح بأن المعصوم تنفر نفسه وتشمئز من المعاصي، وتندفع لفعل الطاعات، لأنه في الواقع يرى الأمور على حقيقتها وعلى صورتها الأخروية.

وإذا اتضح ذلك، أدركنا السبب في عدم انجذاب الأنبياء والأولياء(ع) إلى امرأة أجنبية، سواء انجذاب شعوري أو لاشعوري، فإن الإنسان مهما كان جائعا لن ينجذب أو يسيل لعابه سيلا لاشعوريا لجيفة نتنة تفوح رائحتها في الأجواء .

فالأنبياء لن ينجذبوا لامرأة أجنبية عرضت نفسها عليهم، ودعتهم إلى فعل الحرام، لأنهم والحال هذه، لن يروها إلا على صورة خنزير، أو أفعى، أو كلب أجرب . من هنا، فإن العصمة لا تمنع صاحبها من فعل المعاصي وحسب، وإنما تمنعه من التفكير بها أو من خطورها في البال.

إننا نرى كيف أن الجاهل بنوع الطعام قد يعتبر رائحته زكية عطرة، فتنجذب نفسه إليه، ويسيل لعابه له، فإذا علم أنه لحم خنزير مثلا انقلبت هذه الرائحة إلى رائحة كريهة نتنة يتنفر منها، وليس ذلك إلا بسبب العلم . فلا شك بعد ذلك بمدى تأثير العلم بالانفعالات النفسانية .

وكم نشاهد في حياتنا العملية كيف أن الإنسان العادي إذا فجع بعزيز من أعزاءه، كوالديه أو ولده، وقد سيطرت الفجيعة على كل أحاسيسه ومشاعره، فإنه وهو في هذه الحال، لا ينجذب إلى امرأة أو إلى أي منظر يثير الغرائز ويحرّك المشاعر والأحاسيس الجنسية .

بل إننا كثيرا ما نرى شخصا قد أحب امرأة وقد سيطر هذا الحب على مجامع قلبه، وأخذ منه كل مأخذ، فإنه لا يرى جميلا بعد ذلك غير محبوبته، ولا يميل إلا إليها فما بالك بالذي يكون الله سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها كما ورد في الحديث القدسي (المسمى بحديث قرب النوافل)، ولو اطلعت على ما في قلبه، فلن تجد سوى الله.

  ولا يشك عاقل بأن هذا الذي كان عليه حال يوسف عليه السلام ، الذي وصفه العلامة الطباطبائي بالقول: "فكان مملوء الحس، مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربه الخفية، يرى نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة، لا يرد إلا على خير، ولا يواجه إلا جميلا  فلم يزل يوسف(ع) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع الله ويمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، ويزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية، ويشاهد أن ربه هو القائم على كل نفس بما كسبت، وهو على كل شيء شهيد، حتى تمكنت المحبة الإلهية منه، واستقر الوله والهيمان في سرّه، فكان همه في ربه، لا يشغله عنه شاغل، ولا يصرفه عنه صارف، ولا طرفة عين، وهذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله: (معاذ الله إنه ربي ) وقوله: (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) وقوله: (إن الحكم إلا لله )( وقوله: (أنت وليي في الدنيا والآخرة ) وغير ذلك .. فهذا ما عند يوسف(ع)، فقد كان شبحا ما وراءه إلا محبة إلهية أنسته نفسه، وشغلته عن كل شيء، وصورة معناها أنها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد"(352).

ثم يصف الطباطبائي قدس سره الموقف بين حال امرأة العزيز وحال يوسف (ع) فيقول: " فتى واله في حبّه، وفتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية، أما هي فمشغوفة بحب يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها وتتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب، ومراودته عن نفسه، والاعتماد على ما لها من العزّة والملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر (هيت لك) لتقهره على ما تريده منه. وأما هو فقد استغرق في حب ربّه وأخلص وصفى ذلك نفسه، فلم يترك لشيء في قلبه محلا غير حبيبه، فهو في خلوة مع ربّه، وحضرة منه، يشاهد فيها جماله، وجلاله، وقد طارت الأسباب الكونية على مالها من ظاهر التأثير من نظره، فهو على خلافها لا يتبجح بالأسباب ولا يركن إلى الأعضاد.

ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب أما هو فقد قابلها بقوله: (معاذ الله) فلم يجبها بتهديد، ولم يقل: إني أخاف العزيز، أو لا أخونه، أو إني من بيت النبوة والطهارة، أو إن عفّتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، ولم يقل إني أرجو ثواب الله، أو أخاف عذابه إلى غير ذلك، ولو كان قلبه متعلقا بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره، وبدأ به، عند مفاجأة الشدة، ونزول الاضطرار بل استمسك بعروة التوحيد، وأجاب بالعياذ بالله فحسب، ولم يكن في قلبه أحد سوى ربه، ولا تعدى بصره إياه إلى غيره، فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية وأولهه في ربّه أو ما يؤدي معناه وإنما قال: (معاذ الله )"(353).

ترى من كان هذا حاله، كيف يمكن أن ينجذب إلى الحرام أو أن يتأثر جسده بالجو(الجنسي) كما يتخرص "البعض" ؟!!

ثالثا ً:  جسد  يوسف عليه السلام تأثر  بالجو  (الجنسي) !

وهذه المقولة لا يمكن فصلها عن سابقتها، حيث يقول "البعض" في وحيه :

 "خلاصة الفكرة: أن يوسف(ع) لم يتحرك نحو المعصية ولم يقصدها، ولكنه انجذب إليها غريزيا، بحيث تأثر جسده بالجو، دون أن يتحرك خطوة واحدة نحو الممارسة"(354). ويقول في مكان آخر أيضا: "ولكنها كانت مسألة انجذاب جسدي يشبه التقلّص الطبيعي، والاندفاع الغريزي"(355).

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن أولا هو: من أين علم  أن جسد يوسف(ع) قد تأثر بالجو؟! وهل يمكن أن يحدث هذا الأمر بالفعل بطريقة لاشعورية؟!

فإذا كان الأمر كذلك ، فليستفد من ذلك الفقهاء ، وليحرموا الاختلاط وظهور المرأة في الشارع ما دام يمكن للإنسان أن يحصل معه ذلك بطريقة لاشعورية ! وليتوقف "سماحته" عن إعطاء المحاضرات للنساء، وليمنع الاخوة أخواتهم، وبناتهم، ونساءهم من حضور محاضراته، إذ ما دام أنبياء الله غير مأمونين على السيطرة على أنفسهم من هذا الأمر الذي يحصل معهم بطريقة غير شعورية، فإن سماحته غير مأمون من ذلك بطريق أولى !!

وليستفد علماء النفس من هذا الأمر، ومن هذا المعين المعرفي الذي لا ينضب، في صياغة نظريات جديدة، فإن الجائع يمكن أن يسيل لعابه لاشعوريا إذا رأى جيفة ، وكذلك العطشان إذا رأى سمّا زعافاً !!

ولعمري كيف ينجذب الرجل إلى امرأة مهما كانت فائقة الجمال والحسن ما دام يعلم أنها تريد هلاكه وقتله، ترى هل يلتفت هذا الرجل إلى جمالها وحسنها حينئذٍ وهل يمكن أن تحرك فيه الأحاسيس والمشاعر، وهل يمكن أن ينجذب إليها بطبعه؟ وهل يمكن أن تحصل لديه تمدّدات ؟! (356). ومن من العلماء تحدث عن تأثر الأنبياء بالجو (الجنسي) والانجذاب الجسدي بما يشبه التقلّص الطبيعي والاندفاع الغريزي ؟! وأي عاقل يقول ذلك ؟

على أن المثال الذي ضربه "البعض" تمثيلا للانجذاب بالانجذاب إلى الطعام،  وأخذه كما يبدو من الفخر الرازي الذي ضرب مثالا حول الصائم في الصيف والجلاب المبرد ، فيه خلط واضح، بل وفهم مغلوط حتى لكلام الرازي، رغم أن حال الرازي معلوم، إذ شتان بين انجذاب الصائم في الصيف إلى الجلاب المبرد على فرض مقبولية تطبيقه على الأنبياء(ع) وبين الانجذاب الذي نحن بصدده ، لأن الجلاب مباح في ذاته (بمعزل عن حالة الصوم). بينما امرأة العزيز فهي: امرأة محصنة محرمة على يوسف(ع).

فإن كان يريد "البعض" تشبيه الانجذاب الذي يتحدّث عنه بالشرب، فإن الأوفق أن يقول : إن الانجذاب الذي حصل مع يوسف(ع) هو كالصائم الذي ينجذب إلى الخمر مثلا ! !

فهل يصح هذا القول ؟! ومَن مِن الأعلام يقبل به ؟!!

رابعا : همّ  بها،  لكنه  توقف  ثم  تراجع

يقول "البعض" : " وهكذا نتصور موقف يوسف، فقد أحسّ بالانجذاب في إحساس لاشعوري، وهم بها إستجابة لذلك الإحساس، كما همت به، ولكنه توقف ثم تراجع"(357).

فليخبرنا "الكاتب" لماذا تجاهل هذا القول ؟! وليخبرنا ما معنى قول "البعض" : " أحس يوسف بالإنجذاب وهم بها استجابة لذلك الإحساس" ألا يعني ذلك أن "الهمّ" هو أمر آخر غير الانجذاب، وقد حصل بعده، وإلا ما معنى : وهم بها استجابة لذلك الإحساس؟!

فإذا كان معنى " الهمّ " هو الانجذاب اللاشعوري، فإننا لو استبدلنا كلمة "الهمّ" بكلمة "الانجذاب اللاشعوري" فإن العبارة ستصبح كالتالي: أي انجذب إليها لا شعوريا استجابة لانجذابه اللاشعوري؟! ولعمري فإن اللغة السنسكريتية أفصح وأبلغ من هذه اللغة.

ثم ما معنى قوله: وهم بها لكنه توقف ثم تراجع، فهل أقدم يوسف(ع) أو تقدّم، حتى يقال: إنه توقف ثم تراجع؟!!

إن الإطلاع على هذه النصوص تجعلنا ندرك السبب الحقيقي وراء تجاهل "الكاتب" لها .

خامسا :  إيمان  يوسف  (ع)  يستيقظ !

ويقول "البعض" : " كان انجذابا عفويا طبيعيا، لا انجذابا إراديا متعمدا (لولا أن رأى برهان ربّه) لولا أن استيقظ إيمانه"(358)

فليخبرنا "الكاتب": هل إيمان يوسف(ع) كان نائما حقا، ثم استيقظ؟! وما الذي يمكن أن يكون قد حصل أثناء غياب هذا الإيمان ؟ فهل حل محله الكفر؟! وإن كان الإيمان والكفر نائمين معا في تلك الأثناء فما الذي أيقظ هذا الإيمان النائم ؟!!

فهذه مقولة جريئة أخرى تجاهلها "الكاتب" كما هو ديدنه ، والسبب هو عجزه وعدز صاحبه عن الدفاع عنها ؟!!

سادسا: استنفذ كل طاقاته في المقاومة !

ويقول "البعض" :

"عند ذلك شعر إن الطوق بدأ يضيق، ويحاصره إلى درجة لا يستطيع فيها أن يتناسى، على اعتبار أنه استنفذ كل طاقاته في المقاومة "   (359)

فليخبرنا "الكاتب" بصراحة: ما الذي لم يستطع يوسف(ع) أن يتناساه، هل هو الطوق، والحصار، أم الإنجذاب الغريزي الطبيعي؟

وقد أوضح ذلك "البعض" بقوله: " العصمة لا تعني عدم الإنجذاب إلى الطعام المحرّم والشراب المحرّم، أو الشهوة المحرّمة، ولكنها لا تمارس هذا الحرام، فالإنجذاب الغريزي الطبيعي هنا لا يتحول إلى ممارسة، وتتضح الصورة أكثر، عندما جمعته مع النسوة اللاتي قلن: )حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم( عند ذلك شعر أن الطوق" الخ (360)

وبعد أن علمنا ذلك، نسأل "الكاتب": ألا يعني هذا أن نبي الله يوسف(ع) لم يستطع تناسي هذا الانجذاب الغريزي الطبيعي ! وأنه لم يكن ناسيا إلى حين جمعته هذه المرأة مع النسوة! وأنه عند ذلك كان يحاول أن لا تظهر عليه علامات هذا الانجذاب الغريزي الطبيعي، لأنه لم يستطع، بعد أن شعر أن الطوق بدأ يضيق ويحاصره ، أن يتناسى ! على اعتبار أنه استنفذ كل طاقاته في المقاومة ؟!! مما يدل على أن حالة الانجذاب الغريزي الطبيعي هذه قد أخذت من نبي الله يوسف(ع) كل مأخذ بحيث إنه لم يستطع أن يتظاهر بنسيانها رغم المقاومة التي استنفذ معها كل طاقاته إلى حين جمعته هذه المرأة مع النسوة. حتى إن علامات هذا الانجذاب ظهرت وبدت على ملامحه ولم يستطع أن يخفيها رغم محاولته تناسيها أي رغم محاولته التظاهر بنسيانها أو رغم محاولته الظهور بمظهر الناسي لها.

فليخبرنا "الكاتب" من مِن الأعلام يتبنّى مثل هذا الرأي الجريء على الأنبياء (ع)؟! وليخبرنا أيضاً لماذا تجاهل هذه المقولة؟!!

سابعاً : يوسف (ع)  قد  لا  يكون  نبيا  آنذاك !!

وهذه المقولة مما لم يرد في كتاب "خلفيات" حيث يقول " البعض ":

" وتحدث المفسرون كثيرا عن تأويل هذه الفقرة ليواجهوا مشكلة العصمة في يوسف النبي الذي قد لا يكون نبيا آنذاك، ولكن رأي الكثيرين، أن العصمة تسبق النبوة، كما تلحقها أو ترافقها"(361) وتستوقفنا هنا عدة نقاط :

1 ـ من هم هؤلاء "الكثيرين" ؟ فإن كانوا من الشيعة الإمامية فهذا خلط واضح فاضح، لأن جميع الإمامية تقول بذلك لاكثيرين، إلا إذا قصد من المسلمين عامة !

2 ـ ولعل "البعض" لا يعرف الفرق بين النبوة والبعثة، لأن هؤلاء " الكثيرين"، إنما يقولون بعصمة الأنبياء قبل بعثتهم لا قبل نبوتهم؟!

أما نحن فنقول إن نبي الله يوسف(ع) كان نبيا عندما حصلت له الحادثة مع امرأة العزيز فقد قال تعالى قبل ذلك: ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما، وكذلك نجزي المحسنين ). ثم إنه بمعزل عن كونه نبيا أم لا، فلا شك أنه معصوم منذ ولادته .

 3 ـ على أن " البعض" نفسه يقول: " إن عقيدة الشيعة الإمامية تؤكد أن عصمتهم تبدأ من حين ولادتهم"(362) ومن هنا فلا معنى للتشكيك بأنه(ع) ربما لم يكن نبيا.

فهذه سبع مقولات "مخالفة" تجاهلها "الكاتب" كعادته !!

الميل الطبعي والتلاعب المعهود بالنصوص

ذكرنا أن "الكاتب" تجاهل مقولات "البعض " السبع المتقدمة ، وركّز بحثه حول نقطتين: الأولى: مقولة الميل الطبعي. والثانية: مقولة العزم .. وفيما يلي نطالع ما أورده .

القفز من جديد

تحت عنوان: "رأي السيد هو الإتجاه السائد" ذكر أن صاحبه صرّح " مرارا وتكرارا إن الإتجاه الذي يميل إليه ويستقربه هو اتجاه الميل الطبعي"(363) ويتابع الكاتب خطابه للعلامة المحقق قائلا: "ألم تسجلوا خلاصة الفكرة التي يراها في تفسير همِّ يوسف"(364).

ثم نقل نصّين من كلمات (السيد) نقلا عن كتاب "خلفيات" لتأييد ما يدّعيه، وهما: "خلاصة الفكرة: إن يوسف(ع) لم يتحرك نحو المعصية، ولم يقصدها ولكنه انجذب إليها غريزيا"(365).

"والتفسير الذي نميل اليه ونستقربه هو الإنجذاب اللاشعوري تماما، كما ينجذب الإنسان إلى الطعام"(366). وقد أحال "الكاتب" النص الأول إلى المصدر بالشكل التالي: "[ ن.م/1/87، نقلا عن شريط مسجل للسيد]" (367). وأحال النص الثاني بالشكل التالي: "[ ن.م/1/86، نقلا عن شريط مسجل ]" (368). وتعليقا على ما تقدم نسجل الملاحظات التالية:

1 ـ إننا نستغرب إحالات "الكاتب" المذكورة في كلا النصّين، وتحديداً أن يكون النصّان (نقلا عن شريط مسجل) لأن هذا الأمر غير صحيح، إذ أن العلامة المحقق قد أحال النص الأول إلى كتاب (الندوة ج1، ص 304)، والنص الثاني إلى كتاب (دنيا الشباب، ص 36) وكلا المصدرين من المصادر المكتوبة (للسيد).

ولنا أن نسأل، وبصراحة، لماذا أقدم "الكاتب" على التلاعب بالإحالة إلى المصدر الحقيقي وأحال إلى "شريط مسجل"؟!!

وجواب ذلك  يتضح إذا كملنا ما بتره من النصين ! فقد قال "البعض" "خلاصة الفكرة: إن يوسف(ع) لم يتحرّك نحو المعصية، ولم يقصدها، ولكنه انجذب إليها غريزيا [ هنا توقف  "الكاتب" ولم يكمل ]، بحيث تأثر جسده بالجو"(369). " التفسير الذي نميل إليه ونستقربه هو الإنجذاب اللاشعوري تماما كما ينجذب الإنسان إلى الطعام [ هنا توقف "الكاتب" ولم يكمل ]، فيتفاعل في جسده عندما يكون جائعا."(370).

وبهذا يظهر الأمر الذي يرغب "الكاتب" في إخفائه وعدم ذكره وهو المقولة الثالثة  التي مر ذكرها تحت عنوان: جسد يوسف(ع) تأثر بالجو (الجنسي)!!

الشريف  المرتضى: تنزيه  يوسف عليه السلام عن  الميل  الطبعيي

استعرض "الكاتب" الوجوه اللغوية الأربعة لـ "الهمّ" التي ذكرها الشريف المرتضى وهي: الوجه الأول: العزم على الفعل.

الوجه الثاني: خطور الشيء في البال.

الوجه الثالث: المقاربة، أي كاد أن يفعل.

الوجه الرابع: الشهوة وميل الطباع.

ثم نقل الكاتب عن المرتضىرضوان الله عليه قوله: " فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متّسعة على ما ذكرناه، نفينا عن نبي الله ما لا يليق به، وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحدٍ منها يليق بحاله " (371).

ثم علق "الكاتب" بالقول: " وهذا نص صريح في مقبولية الوجه الرابع (الشهوة وميل الطباع) وأنه يليق بحال يوسف الصدّيق(ع)، بل إنه يؤكد بأن التجوُّز باستعمال الهم مكان الشهوة ظاهر في اللغة"(372).

وقبل أن نشرع بالكشف عما اقترفته يد "الكاتب" هنا أن نشير الى ما نقله عن الشريف المرتضى حول تفسيره لقوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) حيث قال :" يقول علم الهدى (قده): إنما أراد يوسف (عليه السلام) الدعاء ومنازعة الشهوة، ولم يرد العزم على المعصية، وهو لا يبرئ نفسه مما لا تعرى منه طباع البشر"(373).

وقد ارتكب تحريفا في رأي الشريف المرتضى افترى به عليه وأخرج كلامه عن وجهته ! فما ذكره الشريف المرتضى إنما هو المعنى اللغوي للهم وليس بالضرورة أنه يثبت مقولة الميل الطبعي .

2 ـ في تفسيره للآية لم يذكر الشريف المرتضى سوى وجهين من وجوه التفسير :  الأول : أن يكون جواب لولا محذوفا ويكون هم يوسف(ع) هو الهم بضربها.

الثاني: أن يكون جواب لولا متقدم عليها. ولم يمانع قدس سره وفق هذا الوجه، من حمل الهم على العزم ، لأنه مع كون جواب لولا متقدما لم يحصل لديه العزم ! وعليه فإن الشريف المرتضى وإن فسر الهم بمعنى ميل الطبع، فإنه يقول : لم يحدث أصلا شيء من ذلك، لأن كلمة هم بها هي الجواب لكلمة لولا ، فتدل على أنه لم يقع منه (ع) شيء من ذلك.

وقد يقول "الكاتب"إن هذا مدفوع بما ذكره من قول الشريف المرتضى (قده) حول تفسيره لقوله تعالى (وما أبرئ نفسي) بأنه: " إنما أراد يوسف(ع) الدعاء، والمنازعة، والشهوة، ولم يرد العزم على المعصية، وهو لا يبرئ نفسه مما لا تعرى منه طباع البشر" فإن كلامه هذا(قده) يؤكد أنه يثبت وقوع "الميل الطبعي" من يوسف(ع) ولا ينفيه، فهو لا يبرئ نفسه منه.

ونجيب "الكاتب" : بأنه لم يكن أميناً فيما نقله عن الشريف المرتضى من أنه يرتضي التفسير القائل:  " أما همها، فكان أخبث الهم، وأما همه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء"(374). لأن هذا القول إنما نقله الشريف المرتضى(قده) عن الحسن البصري، فهو القائل بهذا التأويل لا الشريف المرتضى(قده)، وإليه يرجع القول بأن من وجوه الهم الشهوة وميل الطبع وأن استعمال الهم مكان الشهوة ظاهر في اللغة(375).

ولا يخفى أن نقل قول من الأقوال لا يعني الالتزام به وارتضاؤه.

وأما رأي الشريف المرتضى في تفسير قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي ) فإن ما ذكره "الكاتب" ليس رأي الشريف المرتضى (قده) أيضاً ! وإنما هو رأي من حمل الآية على أنها من كلام يوسف(ع)، والشريف المرتضى لا يتبنّى هذا الرأي وإنما يتبنّى ما نسبه إلى أبي علي الجبائي "وإن كان قد سبق إليه جماعة من أهل التأويل" وهذا الرأي هو: " أن هذا الكلام إنما هو من كلام المرأة لا من كلام يوسف(ع)، واستشهدوا على صحة هذا التأويل بأنه مسوق على الكلام المحكي عن المرأة بلا شك. وعلى هذا التأويل يكون التبرؤ من الخيانة الذي هو ذلك "ليعلم إني لم أخنه بالغيب" من كلام المرأة لا من كلام يوسف(ع) ويكون المكنّى عنه في قوله تعالى: )إني لم أخنه بالغيب( هو يوسف(ع) دون زوجها لأن زوجها قد خانته في الحقيقة بالغيب، وإنما أرادت إني لم أخن يوسف(ع) وهو غائب في السجن، ولم أقل فيه لما سئلت عنه وعن قصّتي معه إلا الحق".

وهذا الرأي هو الذي يرتضيه الشريف المرتضى(قده) ولذلك قال عنه: "وهذا الجواب كأنه أشبه بالظاهر، لأن الكلام معه لا ينقطع عن اتساقه، وانتظامه " (376) .

  على أننا نقرأ ما جاء في دعاء التوبة للإمام زين العابدين عليه السلام: " اللهم إني أتوب إليك في مقامي هذا. توبة من لا يحدث نفسه بمعصية"  فالإمام عليه السلام يعلمنا موارد التوبة دون أن يعني ذلك أنه فعل فعلا يتوب عنه كما حققه العلماء في محلّه وأن نتوب ولا نعود حتى على هذا المستوى من حديث النفس بالمعصية !

ألا يعني ذلك أن هذا أمر ممكن التحقق؟ وأن الأنبياء هم أولى الناس بالتزام هذا الأمر والانتهاء إليه ؟!

كما يعلمنا الإمام زين العابدين(ع) أيضا في نفس الدعاء أن نقول:

"اللهم وإني أتوب إليك من كل ما خالف إرادتك أو أزال عن محبتك من خطرات قلبي ولحظات عيوني، وحكايات لساني" ألا يعني ذلك أن خطرات القلب ولحظات العيون وحكايات اللسان تزيل الإنسان عن محبة الله وتخالف إرادته ؟!

فكيف يقول هذا "الكاتب" تبعا لصاحبه ليقول: إن خطور الفاحشة بالبال قد حصل عند يوسف(ع) وأن ذلك لا يطعن بعصمته لأنها مما تليق بحاله!! ما لم تصل إلى العزم ؟!!

ولا ندري ، فلعل "الكاتب" يصدّر مراجعات أخرى لاحقا يردّ بها على الإمام زين العابدين عليه السلام ، وياشد "الأدلة" و"الشواهد" والنصوص التي يتلاعب بها ليثبت أن خطرات القلب لا تطعن بعصمة ولا تهتك ستر نبي أو إمام!! ولا تزيل مرتكبها عن محبة الله ! ولا هي مخالفة لإرادته !!

الشيخ الطوسي (قده) : تنزيه  يوسف (ع) عن  الميل  أيضا

وما ذهب إليه الشيخ الطوسي هو بعينه ما ذهب إليه الشريف المرتضى(قده) مع فارق بسيط يتعلّق بتفسير قوله تعالى: )وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي(. حيث اعتبر الطوسي (قده) إن هذا القول: " إخبار عما قال يوسف(ع)" وذكر (قده) أن: "أكثر المفسرين على أن هذا من قول يوسف(ع). وقال أبو علي الجبائي هو من كلام المرأة"(377)

وكأني "بالكاتب" تغمره السعادة عند قراءته لهذا النص، لكنها سعادة لن تلبث أن تتحوّل إلى تعاسة وشقاء عندما يعلم أن الطوسي (قده) عندما ذكر هذا التفسير ذكر معه ما يلي: " إنه إخبار عما قال يوسف(ع) على وجه التواضع لله"(378) . وبالتالي: لم يفسّر الطوسي(قده) ذلك بمعنى أبرئ نفسي عن الشهوة وميل الطباع !!

كما لابد أن نلاحظ أن في الآية استثناء، فإن قوله(ع): وما أبرئ نفسي متفرع عن قوله: إن النفس لأمارة بالسوء، فيكون المعنى: إن النفس لأمّارة بالسوء، ولذلك فإني لا أبرئ نفسي، لكن يستثني من ذلك: إلا ما رحم ربِّي وبالتالي، فإن تلك النفس التي رحمها الله بريئة من ذلك، لأنها تخرج بذلك عن أن تكون أمّارة بالسوء. وهذا معنى قول الطوسي قدس سره : ( إلا ما رحم ربي ) استثناء من الأنفس التي يرحمها الله، فلا تدعو إلى القبيح، بأن يفعل معها من الألطاف ما تنصرف به عن ذلك"(379).

والحق أن يقال : إنه حتى ولو اعتبرنا أن قوله تعالى: ( وما أبرئ نفسي ) هو قول يوسف (ع) ، وأن معناه: ما أبرئ نفسي عن ميل الطبع ومنازعة الشهوة فإن وجود الاستثناء الظاهر كافٍ في الدلالة على نفي حصوله من يوسف(ع) فيكون المعنى: من رحمهُ ربي بريء عن هذا الأمر .

العلامة المجلسي (قده) : يختار ما أومأ إليه الإمام الرضا(ع)

تابع "الكاتب" سلسلة تحريفاته وافتراءاته على العلماء الأعلام ووصل الدور الى العلامة المجلسي (قده) فقال "الكاتب":

"عقد العلامة المجلسي في (البحار) بحثا. تحت عنوان: "تذنيب في حل ما يورد من الإشكال على ما مرّ من الآيات والأخبار"، تصدى في أحد فصوله للرد على الإشكال الذي قد يرد في تفسير قوله تعالى: (وهم بها لولا أن رأى برهان ربّه )".

ويضيف "الكاتب" قائلا: " وقد رأى صاحب البحار أن الأجدى في دفع هذا الإشكال هو ما قد جاء في تفسير الفخر الرازي فنقله بأكمله على طوله واعتبره أجدى في إتمام المرام في هذا المقام".

وتابع يقول: "وقد ذكر ثلاثة وجوه في تفسير "الهم" كان ثانيها "الهم بالشهوة" ليكون معنى الآية على هذا الوجه: "ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود".

ومضى "الكاتب" ينقل بعض العبارات منها مثال الصائم في الصيف الصائف والجلاّب المبرد(380). وختم بالقول: " إننا إذا نظرنا إلى الأمثلة التي استجودها المجلسي فيما نقله عن (التفسير الكبير) للفخر الرازي في تقريب معنى "الميل الطبعي"، نجدها قريبة جدا من تلك الأمثلة التي ذكرها (السيد) بيد أن العلامة المجلسي فاته أن يضع خطوطا عريضة تحت عباراتها، بل نقلها على طولها، معتزا بها، من دون أن يسجل في أي مقطع من مقاطعها أي إشكال، أو أدنى تأمل، بل اعتبرها الأجدى في إتمام المرام"(381).

ولا يسعنا إلا أن نعبر عن ذهولنا أمام هذا الحجم والركام الهائل من التحريف والإفتراء ! ولا ندري لأجل من كل هذا التحريف ؟! ومن المستفيد ؟!

كلام الرازي الذي نقل منه المجلسي

1 ـ إن أول ما عالجه الرازي هو الرد على ما ذكره الواحدي في "البسيط" وغيره، من أن يوسف(ع) عزم على الفاحشة فأبطل كلامه، واستخف واستهزأ به . ثم شرح الآيات وقسّم بحثه إلى مقامين: الأول: إن يوسف(ع) لم يهم بها أصلا وهو قوله: "إذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين: المقام الأول أن نقول: لا نسلم أن يوسف(ع) هم بها"(382) ثم تحدث الرازي في تأكيده لهذا الرأي عن جواز تقديم جواب "لولا".

الثاني: التسليم بأن الهم قد حصل، وبالتالي البحث عن الوجوه التي يمكن حمل الآية عليها بناء على ذلك. وهذا هو قوله: "المقام الثاني: في الكلام على هذه الآية نقول: سلمنا أن الهم قد حصل، إلا أننا نقول: إن قوله: )وهم بها( لا يمكن حمله على ظاهره. ونحن نضمر شيئا آخر يغاير ما ذكروه"(383) أي من الفاحشة. ثم استعرض الرازي ما ذكره "الكاتب" من معاني لغوية للهم !

والمتأمل في كلام الرازي يجد أنه يتبنّى ما ورد في المقام الأول، أي أن يوسف(ع) لم يهم بها. أما بحثه في المقام الثاني: فقد كان على سبيل التنزل وهو مقتضى قوله: "سلمنا أن الهم قد حصل" فإن هذا تعبير من يتنزل. فلا يصح نسبة هذا القول إليه لأن ما يذكر على سبيل التسليم والمجاراة لا يكون هو الرأي الذي يلتزم به بصورة نهائية !

كلام المجلسي (قده) : ونتحدث عنه في نقاط

1 ـ عمد "الكاتب" الى التعمية على ماقاله المجلسي قبل أن يعرض رأي الرازي  "فإن اعتراف الخصم أجدى في إتمام المرام" فقد أورد "الكاتب "هذه العبارة في النص الحرفي لكنه في التمهيد له حذفها واكتفى بأن ينسب للمجلسي (قده) أنه اعتبر أن ما جاء في تفسير الرازي : "أجدى في إتمام المرام"

وكذلك حذفها من خاتمة بحثه حينما نسب إلى المجلسي (قده) قوله فقط "بل اعتبرها: (أجدى في إتمام المرام) !

ولا يخفى أن حذف عبارة : "اعتراف الخصم" في مكانين يهدف التعمية على القارئ !! ودلالتها واضحة، فإن كلام الرازي هو كلام الخصم، والمقصود بالخصم هو الذي لا يتبنى ما يقوله الشيعة الإمامية من العصمة المطلقة . وعليه، فإن الاستدلال بكلام "الخصم" إنما هو للأخذ منه ما يفيد في إثبات ما يعتقده ويتبنّاه الشيعة الإمامية دون الإلتفات إلى غيره مما لا يحتاج إلى مناقشة أصلا.

وبعبارة أخرى: قصد المجلسي أن الرازي يتبنى أن يوسف(ع) لم يهم أصلا، وقد أورد المجلسي(قده) كلامه ليقول إن الخصم الذي لا يمنع عن الأنبياء المعصية ولا يؤمن بعصمتهم المطلقة ، فتنزيهه ليوسف في هذا المقام له دلالته ..  فقد أخذ المجلسي أخذ من الرازي ما يبطل قول من لا يؤمن بالعصمة مطلقا، ممن هم على شاكلة الرازي ، ولذلك سمّاه المجلسي اعترافا من "الخصم" . وقد تقدم أن الرازي يختار: إن يوسف(ع) لم يهم بامرأة العزيز، وأنه ممن يجوِّز تقديم جواب "لولا" عليها وقد تبنّى المجلسي (قده) هذا الرأي دون غيره مؤيداً له برواية الإمام الرضا(ع) كما سيأتي.

2ـ أما قوله بأن العلامة المجلسي(قده) لم يسجل أي إشكال أو أدنى تأمل !! فهو تحريف للكلم عن مواضعه، لأن المجلسي اختار، وبشكل صريح الوجهين القائلين بأن يوسف(ع) إما أنه لم يهم أصلا، وإما أنه هم بضربها، وذلك واضح وبيّن: فإن العلامة المجلسي (قده) بعد أن أنهى نقل كلام "الخصم" علَّق قائلاً : " أقول: قد عرفت أن الوجهين اللذين اختارهما أومأ الرضا(ع) إلى أحدهما في خبر أبي الصلت، حيث قال: وأما قوله عز وجل في يوسف(ع): ) ولقد همت به وهم بها(، فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله، فصرف الله عن قتلها والفاحشة، وهو قوله: (كذلك لنصرف عنه السوء) يعني القتل ( والفحشاء ) يعني الزنا. وأشار إليهما معا في خبر ابن الجهم قال: "لقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم كما همت ،أي تقديم جواب "لولا" وبالتالي نفي الهم أصلا، لكنه كان معصوما، والمعصوم لا يهم بذنب، ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي، عن أبيه الصادق(ع) أنه قال: "همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل"(384).

هذا هو رأي العلامة المجلسي الحقيقي، لا ما نسبه إليه هذا "الكاتب" الذي ما فتئ يفتري على العلماء الأعلام بدم بارد من دون أن يرف له جفن !!

العلامة المشهدي: "وقيل" التي أصبحت في خبر كان !

ومن جملة العلماء الأعلام الذين لم يسلموا من افتراءات هذا "الكاتب" العلامة المشهدي، فقد نقل عنه أنه يقول بما يقول به "البعض" ! وأنه يذكر في تفسير قوله تعالى: ( وهم بها ) قولين أساسيين ثانيهما: "المراد بهمّه ميل الطبع ومنازعة الشهوة، لا القصد الإختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح، والأجر الجزيل من الله من يكفّ عن الفعل عند قيام هذا الهم " (385) .

وبأسلوبه المعهود ، تلاعب "الكاتب" بهذا النص في مكانين :

الأول : اعتباره أن القولين اللذين ذكرهما العلامة المشهدي هما : "أساسيين " وهذا افتراء فاضح من "الكاتب" على صاحب (كنز الدقائق) لأن القول الأول الذي تجاهله ولم يذكره هو: أن المقصود من الهم "القصد والعزم" حيث قال (قده): "قيل قصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهم بالشيء: قصده والعزم عليه"(386).

فهل تفسير الهم بالقصد هو قول أساس، أم هو مرفوض عند جميع العلماء الأعلام، وقد ذكر "الكاتب" هذا الأمر وأن جميع العلماء يرفضون أن يكون هم يوسف هو العقد والعزم ، وذلك عند استعراضه لرأي الطوسي، والطبرسي، والشريف المرتضى، وغيرهم . (387). ولا يخفى أن تعبير العلامة المشهدي بلفظ: " قيل" يفيد تضعيف هذا الرأي .

والثاني: نقل "الكاتب" عن (كنز الدقائق) قوله: "المراد بهمّه ميل الطبع الخ". لكن المراجع للنص الأصلي سيجد أن المشهدي صدّر الرأي الثاني هذا بكلمة: "قيل" التي تفيد التضعيف، فعمد "الكاتب "إلى تجاهلها كعادته بل هوايته وقال العلامة المشهدي(قده) قال بالنص الحرفي: "وقيل: المراد بهمّه، ميل الطبع ومنازعة الشهوة الخ"(388) وبقدرة قادر "طارت" كلمة "قيل" لاخفاء الحقيقة ! !

والملفت في كلام المشهدي أنه ذكر رأيين وصدرهما بكلمة : "قيل" ويظهر لي أن المشهدي توقف في ترجيح أي من هذين القولين.

العلامة الطباطبائي (قده): الميل الطبعي لا يسمّى هماً !

وفي استعراضه لرأي العلامة الطباطبائي (قده) ارتكب "الكاتب" مفارقات عديدة :

 1 ـ فقد اعترف "الكاتب" بأن الإتجاه الذي تبنّاه الطباطبائي(قده) في ميزانه هو: " أن يوسف(ع) لم يهم إليها أصلا، وإن اختلف عن الأعلام الذين تبنّوه لأنه يعتبر أن قوله: )وهم بها( ليست جزاءً لـ "لولا" متقدما، بل "هو مقسمً به بالعطف على قوله: )ولقد همت به( وهو في معنى الجزاء استغنى به عن معنى الشرط"(389) .

2 ـ وأن العلامة الطباطبائي (قده) يفسّر الهم بمعنى: أوشك، أو كاد، أو مال. ويستدل عليه بما قيل من أن "الهم": "لا يستعمل إلا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى: )وهموا بما لم ينالوا( وقوله: )إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا( وقول صخر:

أهم بأمر الحزم لا أستطيعه              وقد حيل بين العير والنزوان

ومن هنا يعتبر الطباطبائي (قده) أن يوسف(ع) "لولا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهمّ، والإقتراب دون الإرتكاب والإقتراف".

وعليه فإن يوسف(ع)، وفق رأي صاحب "الميزان"، منزّه حتى عن الاقتراب والميل، لأن رؤية البرهان حالت دون "الهمّ" ومن هنا استظهر صاحب "الميزان": "أن الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها كما أن المراد بالفحشاء، اقتراف الفاحشة وهي الزنا فهو(ع) لم يفعل ولم يكد، ولولا ما أراه الله من البرهان لهم وكاد أن يفعل".وكلاهما:أي السوء (الهم بها والميل إليها) والفحشاء (الإقتراف) مصروفان عنه لا هو مصروف عنهما"(390).

3 ـ يخرج الطباطبائي بنتيجة مفادها: أن يوسف(ع) لم يحصل في نفسه شيء: لا الميل، ولا الخطور في البال، ولا المشارفة، ويستدل(قده) على ذلك بما تقدم، من كون )وهم بها( ليس جزاءً، بل هو مقسمٌ به بالعطف على قوله: )ولقد همت به( ثم يضيف (قده) دليلا آخر وهو قوله تعالى: )لنصرف عنه السوء والفحشاء( حيث أخذ السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفا عنهما. واعتبر (قده) العدول عن التعبير بأنه (ع) مصروف عنها لما فيه "من الدلالة على أنه كان فيه ما يقتضي اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، وهو ينافي شهادته تعالى: بأنه من عباده المخلصين"(391).

وعليه، فإن قوله تعالى (لنصرف عنه السوء والفحشاء ) يفيد أنه لا توجد لدى يوسف أي ميول نحو هذا الأمر ليحتاج إلى أن يصرف عنه.

4 ـ وبهذا يتضح معه ما اقترفته يد "الكاتب" في رأي العلامة الطباطبائي، عندما راح يقول بأنه: "من الخطأ الشائع في بعض الأوساط أن العلامة الطباطبائي يعارض اتجاه "الميل الطبعي" ولا يقبله لأنه مضر بالعصمة"(392).

ثم اعتبر هذا الأمر عن الطباطبائي بمثابة "إشاعة"(393) !!

كل ذلك من أجل تأييد رأي صاحبه !

5 ـ ومن التزويرات التي استعملها "الكاتب" أنه زعم أن العلامة الطباطبائي(قده) لا يرى ضيرا بمقولة: "الميل الطبعي" ! فنقل عن الميزان أن: " الهمّ بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، والطبع وإن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف، لكنه لا يسمّى هما البتة"(395).

لكن هذا النص ليس للعلامة الطباطبائي(قده) أصلا ! بل هو من كلام المعارضين الذين كانوا يردون على من تبنّى الرأي المخالف كصاحب الكشاف والبيضاوي . ثم صدر رأيه بكلمة: "أقول".  واليك نصه في تفسير "الميزان".

"ورُدّ هذا القول. والهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم والطبع وإن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هما. أقول: هذا إنما يصلح."(396).

فما قبل كلمة "أقول" ليس من كلام الطباطبائي أصلاً ! ومع ذلك تجرأ هذا "الكاتب " ونسب الى العلامة الطباطبائي (قده) أنه ممن يؤيد مقولة "الميل الطبعي"، أو أنه لا يرى ضيراً فيه !!! (397)

مقولة العزم : الفطنة والنباهة !

بعد أن اعترف "الكاتب" بأن العديد من العلماء الأعلام صرحوا بنفي أن يكون ما صدر من يوسف(ع) هو العزم .

فماذا سيفعل بمقولة صاحبه التي يصرّح فيها بأنه: "عزم على أن ينال منها ما تريد نيله منه".

وقد نقل ذلك العلامة المحقق في كتابه خلفيات مقولة عن (البعض)  مفادها: "عزم على أن ينال منها ما تريد نيله منه".(398) وأحال القارىء إلى شريط مسجل بصوت "البعض" بثته إذاعة محلية تابعة له !

فهل يواصل "الكاتب" منهجه في معالجة مقولات "السيد" حسب قوله ، بمنهجه الذي يقوم على تحريف كلام صاحبه ليطابق كلام العلماء ، أو بتحريف كلام العلماء ليطابق كلام صاحبه، فإن لم تستطع، أنكره من الأصل !! (399) !!

وهنا عمد "الكاتب" الى إنكار هذه المقولة، وادعى أنها مقطّعة تقطيعا، وممزقة تمزيقا، فلم  "يبق في البين سياق، ولا قرينة، لا قبل الجملة ولا بعدها"(400).

ثم ادعى "الكاتب" أنه يملك الشريط "المقطع نفسه" بزعمه، وأنه أيضا قد عثر على الشريط "الأصلي"، وعلى المحاضرة بكاملها، وهي محاضرة ألقيت بتاريخ 29/9/1992 في درس التفسير، كما يدّعي(401) ثم أخذ يصول ويجول في استعراض نص الشريطين، والمقارنة بين ما جاء في الأول والثاني(402).

أقول: سعيت جاهدا للحصول على الشريط الذي يزعم الكاتب أنه مؤرخ بتاريخ 29/9/1992 بهدف إجراء مقارنة بين الشريطين للتأكد مما يدّعيه هذا "الكاتب" الذي لا أخفي أنني لم أعد أثق بإحالاته المكتوبة فكيف بالمسجلة ؟! لكن الإخوة والأصدقاء الذين أرسلناهم في طلبه ووجهوا بالصدّ والزجر، وعملية تحر وتحقيق : لماذا تريد الشريط؟ ولمن؟ ولماذا هذا الشريط بالذات؟ وما هو الأمر المهم فيه؟ سأرى كيف يمكن أن أحصل لك عليه؟! سأسعى لإحضاره لك ؟! أمهلني بضعة أيام أخرى؟!!

لقد استعمل "الكاتب " ما كرره صاحبه من أن هذه الأشرطة "مدبلجة مخابراتيا " ! لكن إذا فتحنا هذا الباب فإن الشك يجري في الشريط الذي يدعون أنه الأصلي . فلماذا شكك "الكاتب" بالشريط الذي وصل إلى العلامة المحقق ولم يشكك بالشريط الذي وصل إليه وزعم أنه الشريط الأصل ؟!

 وبمعزل عن الشريط، فإن ما سجله " البعض " بخط يده كافٍ في إثبات ما يريد "الكاتب " نفيه ! فاقرأ قول صاحب (من وحي القرآن): "وهم بها استجابة لذلك الإحساس، لكنه توقف ثم تراجع" .

فإن هذا القول يكفي في إظهار الفرية على نبي الله يوسف بأنه عزم على النيل منها، فلو لم يكن ثمة عزم واندفاع لم يكن معنى للتوقف ثم التراجع  عن الاستجابة لذلك الإحساس ، بل إن التوقف يشير إلى أكثر من مقولة العزم، فإنه يعني أنه قد سار باتجاه الهدف، ثم توقف، والسير لا يكون في العادة إلا عن عزيمة وتصميم. اللهم إلا أن يقول الكاتب إنه سير طبعي لا شعوري كما يسير الشخص وهو نائم ؟!

 

هوامش الفصل الخامس

(339) خلفيات ج1 ص86.

(340) خلفيات ج 1 ص 86 و87 نقلا عن: دنيا الشباب ص36، والندوة ج1 ص304.

(341) خلفيات ج1 ص87 نقلا عن شريط مسجل.

(342) خلفيات ج1 ص87 - 89، نقلا عن: من وحي القرآن ج12 ص204 - 208.

(343) خلفيات ج1 ص86.

(344) دنيا الشباب ص36.

(345) دنيا الشباب ص36.

(346) خلفيات ج1 ص89 نقلا عن الندوة ج1 ص640.

(347) خلفيات ج1 ص89 و90.

(348) وهناك الاستعداد والكمال في الميزات النفسانية والتوازن والعقل الكامل وهناك التوفيق والرعاية الإلهية وفقا لقوله: والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم .

(350) بصائر الدرجات ص290، وراجع أيضا بحار الأنوار ج46 ص261 وكذلك لئالي الأخبار، وسفينة البحار.

(351) بحار الأنوار، ج 64 ، ص 288 .

(352) الميزان ج11 ص120 و121.

(353) الميزان ج11 ص122 و123.

(354) كتاب الندوة ج1 ص304.

(355) من وحي القرآن ج12 ص205.

(356) نعم، تمددات لا تقلصات كما قال " البعض "ولعل "سماحته" قد فاته أن الحرارة تسبب التمدد أما التقلص فتسببه البرودة.

(357) من وحي القرآن ج12 ص204.

(358) دنيا الشباب، ص 36.

(359) دنيا الشباب، ص 36.

(360) دنيا الشباب، ص 36.

(361) من وحي القرآن، ج12، ص 206.

(362) أجوبة السيد فضل الله على مسائل الشيخ التبريزي 11 جمادي الآخرة 1417هـ.

(363) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 176.

(364) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 177.

(365) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 177.

(366) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 177.

(367) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 177.

(368) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 177.

(369) خلفيات: ج1، ص 87 نقلا عن كتاب الندوة، ج1، ص 304.

(370) خلفيات: ج1، ص 87 نقلا عن دنيا الشباب، ص 36.

(371) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 178نقلا عن تنزيه الأنبياء ص 79.

(372) مراجعات في عصمة الأنبياء،ص179 نقلا عن تنزيه الأنبياء، ص79 أو ص 75 من طبعة أخرى.

(373) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 179نقلا عن تنزيه الأنبياء ص 83.

(374) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 179.

(375) تنزيه الأنبياء، ص 75.

(376) تنزيه الأنبياء، ص 79 و80.

(377) التبيان: ج6، ص 155.

(378) التبيان: ج6، ص 155.

(379) التبيان: ج6، ص 155.

(380) راجع مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 183 و184.

(381) راجع مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 183 و184.

(382) بحار الأنوار: ج12، ص 331.

(383) بحار الأنوار: ج12، ص 332.

(384) بحار الأنوار، ج12، ص 336.

(385) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 185.

(386) كنز الدقائق: ج6، ص 294.

(387) راجع: مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 178 ـ 181 وغيرها.

(388) كنز الدقائق، ج6، ص 294.

(389) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 189، وراجع الميزان :11/128.

(390) الميزان، ج6، ص 128.

(391) الميزان، ج6، ص 129.

(392) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 189.

(393) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 189.

(395) مراجعات في عصمة الأنبياء، ص 189 نقلا عن الميزان :6/136.

(396) الميزان: ج6، ص 136.

(397) هذا وقد كرر "الكاتب" زج اسم العلامة الطباطبائي(قده) في هذا الأمر كثيرا فراجع: ص 175 و176 و177 و178 و188 و189 و210.

(398) خلفيات ج1 ص87

(399) وهذه هي الترجمة بالمعنى لمقولة: إكذب إكذب حتى يصدقك الناس ، ثم اكذب اكذب حتى تصدق نفسك" التي يرددها " البعض "باستمرار.

(400) مراجعات في عصمة الأنبياء ص195.

(401) مراجعات في عصمة الأنبياء ص197.

(402) مراجعات في عصمة الأنبياء ص195 و200.

 

 

 

 

الفصل السادس موسى وهارون عليهما السلام

 

 

 

خلاصة الانتقادات

1 ـ "الكاتب" يكيل بمكيالين ، فهو يستنكر على العلامة المحقق أنه يتبنى رأيا ويرفض آخر، في الوقت الذي هو نفسه يدافع عن رأي ويستبعد آخر ، بحجة الظهور تارة ، والسياق أخرى.

2 ـ حاول "الكاتب" توهين رأي العلامة المحقق في التفسير بحجة أنه رأي قديم للشيخ المفيد (قده). مع أن هذا الرأي ذهب اليه، فضلا عن المفيد كل من الصدوق والمجلسي ومكارم الشيرازي والشيخ السبحاني.

3ـ حريف "الكاتب" رأي الشيخ الطبرسي(قده) ثم وضعه في سياق المؤيدين لما قاله صاحبه ! .

4 ـ وفعل في رأي الشيخ الطوسي(قده) عين ما فعله برأي الطبرسي(قده).

5 ـ تجاهل "الكاتب" ما أجمع عليه المفسرون من أن قول هارون (ع): (ولا تشمت بي الأعداء ) إنما يراد به أنه (ع) خاف أن يتوهم بنو إسرائيل من فعل موسى (ع) ، أنه أراد إيذاءه . واستعمال لفظ "توهم" أو " ما ظاهره الإهانة" يدفع أن موسى (ع) أراد إيذاء هارون حقيقة.

6 ـ تجاهل "الكاتب" رأي الصدوق قدس سره الذي قال عين ما قاله المفيد قدس سره  ، ومع ذلك أوحى الكاتب أن رأي المفيد قد انفرد به.

7 ـ وكذلك تجاهل رأي العلامة المجلسي(قده) الذي ذهب إلى عين ما ذهب إليه الصدوق والمفيد .

8 ـ وكذلك تجاهل رأي الشيخ السبحاني الذي ذهب إلى عين ما ذهب إليه الصدوق والمفيد والمجلسي ومع ذلك.

9 ـ حرف "الكاتب" رأي العلامة مكارم الشيرازي وهو الذي يتبنى عين ما تبناه العلامة المحقق تبعاً للصدوق والمفيد والمجلسي وغيرهم.

10 ـ ادعى "الكاتب" أن ما ذهب إليه المحقق من كون سؤال موسى لهارون عليهما السلام ( أفعصيت أمري ) يهدف لإظهار براءة هارون، بأن ذلك رأي عجيب لم يقل به أحد لا من الأولين ولا من الآخرين، مع أن هذا الرأي قد تبناه العلامة مكارم الشيرازي وكذلك الشيخ السبحاني تبعا للصدوق والمفيد والطوسي الذي قال بأنه (ع) لم يكن يتهم على أخيه.

وكذلك قال : "لأن موسى (ع) كان يعلم أن هارون لا يعصيه في أمره"

11 ـ تجاهل "الكاتب" رأي الشيخ السبزواري صاحب تفسي (الجديد) الذي ذهب إلى ما ذهب إليه غيره من العلماء .

12 ـ أمام كل ذلك يأتي "الكاتب" ليدعي أن ما قاله صاحب (من وحي القرآن) هو عين ما ذكره الأعلام !

13 ـ رغم ادعائه بما تقدم في النقطة السابقة فإنه اعترف بأن ما قاله الأعلام اعتبره العلامة الطباطبائي مخالفا للظهور ، مع أن "الكاتب" ذكر أن ما قاله صاحبه هو عين ما قاله الأعلام ومنهم الطباطبائي !!

14 ـ ارتكب "الكاتب"تحريفاً آخر لرأي العلامة الطبرسي (قده) عندما اعتبره ممن يقول بأن موسى قد اتهم هارون فعلا مع أنه زعم قبل ذلك أن رأي الطبرسي وغيره من الأعلام قد اعتبره الطباطبائي مخالفا للظهور علما أن الرأي الذي نسبه الكاتب للطبرسي يلائم ما قاله الطباطبائي فكيف يكون مخالفا، بحسب الطباطبائي، للظهور ؟!

15 ـ تهكم "الكاتب" بأن ما ذكره العلامة المحقق من مخاطر ومحاذير لم يلتفت إليه المفسرون، مع أنه هو نفسه اعترف بأن هذه المحاذير التي دفعت بالأعلام لتأويل ما صدر من موسى عليه السلام ، حيث قال : " لأن المفسرين ما ذكروا هذا الوجه [ إظهار خطورة ما صدر من القدح ] إلا من أجل تأويل المواجهة القاسية التي صدرت من موسى(ع)"

16 ـ حرف رأي العلامة المحقق محاولا إظهار تناقضه وتهافته.

17 ـ دلس "الكاتب" في كلام "البعض" محاولاً نفي أن يكون صاحبه قد نسب الجهل المركب إلى الأنبياء عليهم السلام .

18 ـ خلط "الكاتب" في بترك الأولى المنسوب إلى الأنبياء عليهم السلام .

الآيات القرآنية في الموضوع

( وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) .  (406) .

( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تـتـّبعن أفعصيت أمري . قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) (407) .

ما قاله " البعض "

"65 ـ إختلاف نبيين في الرأي في مسألة واحدة.

66 ـ موسى (ع) يغضب لله سبحانه على هارون (ع).

67 ـ موسى (ع) يحمّـل هارون (ع) مسؤولية ضلال قومه.

68 ـ هارون (ع) يتساهل مع قومه وموسى (ع) يعنف.

69 ـ موسى (ع) يشعر بالحرج مما صدر منه.

70 ـ لو احتاط موسى (ع) وهارون (ع) لكانت النتائج أفضل.

71 ـ خطأ موسى (ع) أو هارون (ع) في تقدير الموقف.

72 ـ مرة أخرى العصمة لا تمنع من الخطأ في تقدير الأمور.

73 ـ الجهل المركب لدى الأنبياء (ع) ثانية.

74 ـ لا يفهم العصمة بالطريقة الغيبية.

75 ـ هارون (ع) مقصّر لكنه ليس بعاص"(408).

نص أقواله

" وأخذ برأس أخيه يجره إليه، في تعبير صارخ عن الحالة النفسية التي كان يعيشها موسى إزاء ما حدث وربما تحدث الكثيرون عن مبدأ العصمة في شخصيته كنبي، وعن التساؤل الإيماني، في مدى انسجام هذا التصرف الغاضب مع هذا المبدأ ولكننا لا نجد هناك تنافيا بينهما إذا أردنا أن نأخذ القضية ببساطة تحليلية بعيدا عن التعقيد والتكلف فموسى بشر يغضب كما يغضب البشر، ولكن الفرق بينه وبينهم، أن لغضبه ضوابط في التصرفات، فلا يتصرف بما لا يرضي الله وفي الدوافع فلا يغضب إلا لما يرضاه الله وقد غضب موسى على قومه لله وعلى أخيه هارون لنفس الغرض لأنه اعتبره مسؤولا عما حدث، من خلل التساهل وعدم ممارسة الضغط الشديد عليهم، ومنعهم من ذلك، فقد كان تقديره، أن رفع درجة الضغط يمكن أن تساهم في منع ما حدث ما لم يقم به هارون فكان موسى منسجما مع نفسه، ومع دوره، فيما اتخذه من إجراء مع هارون ولكن هارون كان له رأي آخر فقد وقف ضدّهم، وواجههم بكل الوسائل التي يملكها في الضغط عليهم ولكنهم كانوا لا يهابونه كما يهابون موسى من خلال شخصيته القوية، فيما عاشه من عنف المواجهة مع فرعون حتى قهره".

(قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء) فلم أفعل ما أحاسب عليه، لأن الظروف كانت أقوى من قدرتي فقاومت حتى لم يعد هناك مجال للمقاومة وجابهت حتى كدت أن أقتل فإذا تصرفت معي بهذه الطريقة فإن ذلك سوف يكون دافعا لشماتة الأعداء بي لأنني قاومتهم وجابهتهم وها هم يرونني أمامك واقفا وقفة المذنب من دون ذنب فلا تفعل بي ذلك )ولا تجعلني مع القوم الظالمين( لأني قمت بما اعتقدت أنه مسؤوليتي من دون تقصير

وشعر موسى بالحرج وسكن غضبه فرجع إلى الله يستغفره، لنفسه ولأخيه، لا لذنب ارتكباه ولكن للجو الذي ابتعد فيه القوم عن الله، من خلال الفكرة التي كانت تلح عليهما فيما لو كان الإحتياط للموقف أكثر، فقد تكون النتائج أفضل"

"وتبقى لفكرة العصمة بعض التساؤلات، كيف يخطئ هارون في تقدير الموقف، وهو نبي أو كيف يخطئ موسى في تقدير موقف هارون، وهو النبي العظيم، وكيف يتصرف معه هذا التصرف ولكننا قد لا نجد مثل هذه الأمور ضارة بمستوى العصمة لأننا لا نفهم المبدأ بالطريقة الغيبية التي تمنع الإنسان من مثل هذه الأخطاء في تقدير الأمور بل كل ما هناك، أنه لا يعصي الله في ما يعتقد أنه معصية، أما أنه لا يتصرف تصرفا خاطئا يعتقد أنه صحيح ومشروع فهذا ما لا نجد دليلا عليه بل ربما نلاحظ في هذا المجال حياتهم العملية قد يؤكد الحاجة إلى الإيحاء بأن الرسالية لا تتنافى مع بعض نقاط الضعف البشري في الخطأ في  تقدير الأمور والله العالم بأسرار خلقه"(409) "ربما كانت القضية على أساس أنه اعتبر أن هارون قصّر، وليس من الضروري أن يكون تقصيره معصية"

"هارون عنده تقييم معين للمسألة، وانطلق فيها من حالة أنه قال : )إني خشيت أن تقول : فرقت بين بني إسرائيل(، ولهذا واجه القضية بطريقة لينة.

وكان موسى (ع) يعتقد على أنه لازم تواجه القضية بقوة، لأن بني إسرائيل لا يفهمون إلاّ بلغة القوة إلخ"(410)

*       *

الكيل بمكيالين !

وكما هو ديدنه فقد صدّر"الكاتب" وقفته السابعة بنشر الإتهامات والإفتراءات على العلامة المحقق لا لشيء إلا لأنه وجده متلبسا "بجريمة" تنزيه الأنبياء عن الخطأ والمعصية والجهل والتقصير الأمر الذي يبدو أنه يؤرق بعضهم ! فتراه يقول :"لست أدري سماحة السيد لماذا تنظرون إلى الآيات المباركة بهذه النظرة التي لا تحتمل إلا رأيا واحدا، ولا ترى إلا اتجاها وترا فاردا، وكأن الوحي نزل عليكم، أو كأن تفسيره ليس من حق أحد إلا ما يراه سماحتكم أو ما توافقون عليه من رأي مطروح من قبلكم"(411).

ونقول : لماذا يضنّ "الكاتب" على العلامة المحقق أن يتبنّى رأيا ويرفض آخر ما دامت توجد على الرأي الآخر إشكالات لاستلزامه الطعن بعصمة الأنبياء عليهم السلام ؟

هذا في الوقت الذي يرفض فيه هذا "الكاتب" ما قاله معظم أعلام التفسير من وجوه للآيات تبرئ ساحة نبي الله موسى (ع) وهارون (ع)، وتنزههما عما لا يليق بساحة قدسهما، بحجة أنها بعيدة عن الظهور أو السياق!

آراء العلماء في مهب التحريف

أول ما يطالعنا به "الكاتب" طعنه على ما ذهب إليه العلامة المحقق في تفسيره  قال : "إن ما ذهبتم إليه من تفسير ما حصل بين موسى وهارون "ع" والذي هو رأي قديم للشيخ المفيد (قده) قد ضعفه أعلام التفسير كالعلامة الطباطبائي في ميزانه واعتبره مخالفا لسياق الآيات في سورتي طه والأعراف"

(414).

ولا يخفى أن وصف "الكاتب" لرأي العلامة المحقق بأنه رأي قديم للشيخ المفيد (قده) هو محاولة لتوهين هذا الرأي وتسخيفه !

وخير ما نرد به قول أمير المؤمنين (ع) لمعاوية : " لعمرو الله لقد أردت أن تذم فمدحت"(415). فإن كون هذا الرأي قد ذهب إليه الشيخ المفيد (قده) هو شرف كبير أنّى لهذا "الكاتب" ولأمثاله أن ينالوه !  على أننا سنكشف أن هذا الرأي ليس رأيا للشيخ المفيد (قده) وحسب ، بل هو ما ذهب إليه معظم علماء الأمة وأعلامها .

وما يستوقفنا في كلامه هنا أيضا قوله عن هذا الرأي : "قد ضعّفه بعض أعلام التفسير كالعلامة الطباطبائي (قده) " إذ لايخفى بأن تعبيره "بالبعض" قد ينحصر بالعلامة الطباطبائي (قده) كما سنكشف عن ذلك بعد قليل.

أراد أن يفضح فافتضح !

استشهد "كاتبنا" بقول العلامة الطبرسي(قده) في (جوامع الجامع) : "وعنّف بأخيه وخليفته على قومه إذ أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على شعر رأسه ووجهه ". (416) وهوكلام صريح في أن موسى (ع) لم يغضب على أخيه هارون (ع) كما صّرح بذلك صاحب "من وحي القرآن" الذي ذهب أيضا إلى أن موسى (ع) قد غضب على هارون لأنه : "اعتبره مسؤولا عما حدث من خلل التساهل معهم وعدم ممارسة الضغط الشديد عليهم"(417).

وما ذهب إليه الطبرسي (قده) هو أحد الوجوه التي ذكرها الأعلام في تنزيه موسى (ع) وقد ذهب إليه الطوسي (قده) أيضا كما سترى.

وكذلك السيد المرتضى (علم الهدى) الذي قال : "ليس فيما حكاه الله تعالى عن فعل موسى (ع) وأخيه عليهما السلام مما يقتضي وقوع معصية ولا قبيح من واحد منهما، وذلك أن موسى (ع) أقبل وهو غضبان على قومه لما أحدثوه بعده مستعظما لفعلهم مفكرا منكرا ما كان منهم، فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب وشدة الفكر. ألا ترى أن المفكر الغضبان قد يعض على شفتيه ويفتل أصابعه، ويقبض على لحيته؟ فأجرى موسى (ع) أخاه هارون مجرى نفسه، لأنه كان أخاه وشريكه، وحريمه، ومن يمسّه من الخير والشر ما يمسّه، فصنع به ما يصنعه الرجل بنفسه في أحوال الفكر والغضب، وهذه الأمور تختلف أحكامها بالعادات، فيكون ما هو استخفاف في بعضها إكراما في غيرها، ويكون ما هو إكرام في موقع استخفافا في آخر"(418).

إذن فما ذهب إليه السيد المرتضى وتبعه عليه الطبرسي (قده) إنما كان إكراما من موسى لهارون عليهما السلام لأنه قد أجرى أخاه مجرى نفسه.

وقد ذكر الطبرسي (قده) في مجمع البيان خمسة وجوه في معنى أخذ موسى (ع) برأس أخيه : الأول : ما ذكرناه من رأي السيد المرتضى بأنه (ع) قد أجرى أخاه مجرى نفسه.

والثاني : إظهار خطورة ما صدر من قومه، ونسب هذا القول للشيخ المفيد (قده) وهو الذي اختاره العلامة المحقق كما أشرنا إليه فيما سبق.

والثالث : أنه جرّه إليه ليستعلم منه الحال

والرابع : أنه أخذ برأس أخيه مسكَّنا فكره متوجعا له مواسيا

والخامس : أنه أنكر على هارون ما بيّنه في سورة "طه" من قوله تعالى : (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتّبعن ) ونسبه إلى أبي مسلم(419).

ولا يخفى أن الطبرسي (قده) لا يقبل بها جميعا، إذ لا يمكنه أن يقبل برأيين متناقضين ، لأن الخامس يتنافر مع الأوجه الأربعة الأولى. على أنه قد اختار الرأي الأول في كتابة جوامع الجامع وهو النص الذي ذكره "الكاتب" نفسه كما مر .

وعليه نسأل هذا "الكاتب" : أين هذا الكلام من كلام "البعض"الذي اعتبر أن أخذ موسى (ع) برأس أخيه هو تعنيف له، وغضب عليه لأنه اعتبره مسؤولا عما حدث ؟!!

وبعد هذا كله يأتي "الكاتب " ليقول بكل جرأة أن "السيد" لم يأت بشيء جديد وغريب وعجيب !!(420) وأن العلماء الأعلام قد ذهبوا إلى ما ذهب إليه "السيد" من مقولات، وتبنّوا ما تبنّاه من آراء وأقوال وتفسيرات !! (421) .

وبعد ذلك هجم "الكاتب" على كتب الأعلام ليحرّف الكلم عن مواضعه ويزوّر التاريخ ! وهذا ما فعله برأي الشيخ الطوسي (قده) عندما نقل عنه تفسيره لمعنى قوله تعالى : (إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ) حيث قال : "معناه إنما خفت إن فعلت ذلك على وجه العنف والإكراه أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم ويصيروا أحزابا"(422).

ولا ندري ما يرمي إليه "الكاتب" من نقل كلام الطوسي (قده) هذا إذ أنه لم يتهم فيه موسى (ع) بأنه قد غضب على أخيه لغضبه على قومه وأنه أخذ برأس أخيه تعنيفا له وغضبا عليه، لأنه اعتبره مسؤولا عما حدث على حد تعبير صاحبه ؟!

وقد ذكر الطوسي (قده) أيضا في شرحه للآية الواردة في سورة "الأعراف" أنه قيل في معنى الآية : ( وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ) قولان : "إحدهما، قال الجبائي : إنما هو كقبض الرجل منا على لحيته، وعضّه على شفته أو إبهامه، فأجرى موسى (ع) هارون مجرى نفسه" ثم نقل قول ابن الأخشيد : "إن هذا أمر يتغيّر بالعادة ويجوز أن تكون العادة في ذلك الوقت أنه إذا أراد الإنسان أن يعاتب غيره لا على وجه الهوان، أخذ بلحيته وجره إليه"

وقد علمت أن هذا قول السيد المرتضى علم الهدى (قده) والطبرسي (قده) . أما القول الثاني فهو أنه (ع) "إنما أخذ برأسه ليسرّ إليه شيئا أراده"

(423). ولا مانع في هذا الوجه، فإنه ليس فيه طعنا بالنبي (ع).

أما ماورد في سورة "طه" فقد ذكر الطوسي (قده) أيضا أن في الآية قولين: "أحدهما : إن عادة ذلك الوقت أن الواحد إذا خاطب غيره قبض على لحيته كما يقبض على يده في عادتنا والعادات تختلف، ولم يكن ذلك على وجه الإستخفاف. والثاني : أنه أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على لحيته، لأنه لم يكن يتهم عليه، كما لا يتهم على نفسه"(424).

ولا شك أن القارئ قد التفت إلى قوله (قده) : "ولم يكن ذلك على وجه الإستخفاف" وقوله  (قده) : "لم يكن يتهم عليه، كما لا يتهم على نفسه". فليقارن القارئ كلامه (قده) هذا مع قول "البعض" : "وقد غضب على قومه لله وعلى أخيه هارون لنفس الغرض لأنه اعتبره مسؤولا عما حدث من خلل التساهل معهم وعدم ممارسة الضغط الشديد عليهم"(425).

ورغم ذلك يأتي "الكاتب" وبكل جرأة ليدعي أن ما أتى به "السيد" ليس جديدا وأنه يوافق ما قاله أعلام التفسير !! ولعـله يقول : إني إنما ذكرت كلام الشيخ الطوسي (قده) في مقام الرد على ما قاله العلامة المحقق من أن ما جرى بين موسى (ع) وأخيه هارون (ع) : "لم يكن سببه الإختلاف في الرأي بينهما في كيفية المعاملة" !!(426)  أو أن ذكر كلام الطوسي (قده) إنما هو لإثبات أن ما قاله العلامة المحقق يخالف ما قاله أعلام التفسير.

فإن كان هذا هو ردّه، فإنه لا يخلو من طرافة وأسف في آن معا ! حيث أن هذا الفهم لكلام الطوسي (قده) بعيد كل البعد عما يرمي إليه، فإن الطوسي (قده) صرّح بما لا يقبل التأويل بأن قول موسى (ع) لأخيه هارون (ع) : "أفعصيت أمري . صورته صورة الإستفهام، والمراد به التقرير، لأن موسى (ع) كان يعلم أن هارون لا يعصيه في أمره"(427).

إذن فالشيخ الطوسي(قده) يعتبر أن موسى (ع) كان يعلم أن هارون لا يعصيه في أمره، وأن مفاد الآية هو : أن موسى (ع) وكأنه قال لأخيه (ع) : أنا أعلم أنك لا تعصي أمري فلماذا لم تتّبعن ؟!

وتفسير الطوسي (قده) لقول هارون (ع) : (إني خشيت أن تقول) بأنه خاف إن فعل ذلك على وجه العنف أن يتفرقوا، يدل على أن الطوسي (قده) يرى أن الإتباع هنا اتباعه في استعمال الشدة، ولا يعني أبدا أن الطوسي (قده) يتحدث عن وجود اختلاف في الرأي حول كيفية التعامل بل على العكس تماما، لأن هارون (ع) اعتبر عدم استعماله للشدة والعنف ليس رأيا له في مقابل رأي موسى (ع) بل هو التزام بتعاليمه حيث قال له : (أخلفني في قومي وأصلح ) لذا قال له إنه خشي إن هو استعمل الشدة  أن يقول لم ترقب قولي في الإصلاح  كما أجمع على ذلك المفسرون .

وعنا نسأل "الكاتب" : ما الفرق بين ما ذكره الشيخ الطوسي (قده) وبين ما ذكره العلامة المحقق أيده الله الذي يقول : أن موسى (ع) وجه إلى هارون (ع) "سؤالا عن ذلك ليسمع الناس جوابه الذي يتضمن برهانا إقناعيا يدل على دقّته، وحسن تقديره للأمور، وقد قبل موسى (ع) منه ذلك بمجرّد تفوّهه به، ودعا لنفسه وله "(428).

الحق يقال : أن لا فرق جوهريا بين القولين والاختلاف في أسلوب عرض المسألة  وما يؤيد هذا التفسير هو قول الطبرسي (قده) الذي نقله "الكاتب" حيث قال في معرض تفسيره لقول هارون (ع) : إني خشيت : " لو قابلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا ، فأردت أن تكون أنت الملاقي لأمرهم بنفسك، وخشيت عتابك على ترك ما أوصيتني به حين قلت : (أخلفني في قومي وأصلح ) (42)،  وهذا يؤكد ما ذكرناه أيضا من أن إتخاذ قرار قتالهم واستعمال الشدّة معهم مع ما يلزم منه، يحتاج إلى قرار من موسى (ع) بنفسه وهذا معنى قوله (قده) "أن تكون أنت الملاقي لأمرهم بنفسك".

ويلاحظ أيضا أن هارون (ع) كان يخشى عتاب موسى (ع)، ولا يخفى أن الذي يحرص على أن لا يكون معرضا للعتاب لا يتصوّر أن يقدم على أمور تجعله في معرض التأنيب أو العقاب أو الغضب كما ذهب إلى ذلك " البعض".

دفع توهم الإيذاء

ولماذا تجاهل "الكاتب" ما أجمع عليه أعلام التفسير من أن قول هارون (ع) : (ولا تشمت بي الأعداء ) إنما يراد به أنه خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل من فعل موسى (ع) عندما أخذ برأسه يجره إليه ، أنه أراد إيذاءه .

ولا يخفى ما في استعمالهم للفظة  "توهم" من دلالة ، إذ لو كان فعل موسى (ع) ناتجا عن غضب حقيقي على أخيه كما يدعي" البعض" لما كان للحديث عن توهم الإيذاء أو عن "ما ظاهره الإهانة" معنى ، لأن فعله (ع) يكون والحال هذه غضباً وإيذاءً حقيقيا ، لا توهم إيذاء أو ما ظاهره ذلك.

وها هي أقوالهم قدس الله أسرارهم بين يديك :

1ـ الشيخ المفيد (قده) : نقل عنه الطبرسي قوله في معنى الآية (وأخذ برأس أخيه يجره إليه( أنه كان لإعلامهم "عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال"(430) فالشيخ المفيد (قده) لا يرى أصلا أن موسى (ع) قصد بفعلته إيذاء هارون (ع).

2 ـ السيد المرتضى (قده) :  بعد ما ذكر أن أخذه (ع) برأس أخيه يعني أنه أجراه مجرى نفسه ذكر أن قوله (ع) (لا تأخذ بلحيت) : " لا يمتنع من أن يكون هارون (ع) خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل لسوء ظنهم أنه منكر عليه معاتب له"(431).

3 ـ الشيخ الطوسي (قده) : قال في تفسيره لقوله تعالى : )ربي اغفر لي ولأخي) : "في هذه الآية حكاية عن دعاء موسى (ع) ربه عز وجل حين تبين له ما نبهه إليه هارون من خوف التهمة، ودخول الشبهة عليهم بجره رأسه إليه"(432).

4 ـ الشيخ الطبرسي (قده) : لم يخرج عما ذهب إليه من سبقه حيث قال :" ) لا تشمت بي الأعداء( أي لا تسرّهم بأن تفعل ما يوهم ظاهره خلاف التعظيم"(433).

وليتأمل في قوله (قده) : "خلاف التعظيم" فإنه لا يخلو من دلالة .

5 ـ صدر الدين الشيرازي (قده) : ذكر بما لا لبس فيه من أن موسى (ع) عندما أخذ " رأس أخيه يجره إليه لم يكن على سبيل الإيذاء، بل يدنيه من نفسه ليتفحّص منه حقيقة الحال، فخاف هارون (ع) أن يحمله بنو إسرائيل على سبيل الإيذاء ويفضي إلى شماتة الأعداء"(434).

6 ـ إبن أبي جامع العاملي (قده) : قال في الوجيز  : "يجره إليه" غضبا على قومه كما يفعل الغضبان بنفسه(فلا تشمت بي الأعداء ) لا تسرّهم بأن تفعل بي ما ظاهره الإهانة"(435).

خامساً : ماذا عن رأي الشيخ الصدوق (قده)

من يقرأ رأي الصدوق (قده)، يدرك حجم التهويل الذي أطلقه "الكاتب" عندما وصف ما ذهب إليه العلامة المحقق بأنه رأي قديم للمفيد (قده)!! مصرِّحا بأن هذا الرأي قد ضعّفه بعض أعلام التفسير كالعلامة الطباطبائي (قده) موحياً بإنفراد الشيخ المفيد به ! وهذا غاية في التمويه والتضليل، فما ذهب إليه الشيخ المفيد (قده) سبقه إليه الصدوق (قده) الذي قال : " وفي العادة أيضا أن يخاطب الأقرب ويعاتب على ما يأتيه البعيد عن إتيان ما يوجب العقاب، وقد قال الله عز وجل لخير خلقه وأقربهم إليه (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) وقد علم عز وجل أن نبيه (ص) لا يشرك به أبدا إنما خاطبه بذلك وأراد به أمته، وهكذا موسى (ع) الذي عاتب أخاه هارون (ع) وأراد بذلك أمته اقتداء بالله تعالى ذكره وإستعمالا لعادات الصالحين قبله وفي وقته"(436).

والشواهد على هذا الأمر كثيرة، فقد نقل عن رسول الله (ص) قوله لابنته الصديقة الشهيدة الطاهرة: والله لو سرقت فاطمة لقطعت يدها، ولا يتوهم بحق الزهراء (ع) فعل القبيح. وكذلك قول الله لعيسى (ع) مما جاء في محكم التنزيل : ( وإذ قال الله لعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إتخذوني وأمي إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) 

( 437 ) فالله يعلم بأن عيسى ( ع ) لم يقله ، إنما سأله ليظهر براءته على لسانه .

وقال تعالى : ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (438) وهو تعالى يعلم أنه (ص) لا يتقوّل عليه ذلك.

العلامة المجلسي قدس سره  أيضاً

وهذا الرأي لم ينفرد به الصدوق (قده) والمفيد (قده)، بل تابعهما عليه العلامة المجلسي (قده) في بحاره إذ بعد نقله لنص الصدوق (قده) واستعراضه للوجوه التي ذكرها علم الهدى، علق قائلا : " أقول : لعل الأظهر ما ذكره الصدوق (قده) أخيرا من كون ذلك بينهما على جهة المصلحة لتخفيف آلامه، وليعلموا شدّة إنكار موسى عليهم (ع)"(439).

وماذا عن المعاصرين ؟

نذكر رأي أحد العلماء المعاصرين، وهو سماحة الشيخ جعفر السبحاني الذي ذهب إلى عين ما ذهب إليه المجلسي (قده) تبعا للصدوق (قده) والمفيد (قده) حيث يقول : " واجه أخاه القائم مقامه في غيبته ، بالشدة والعنف حتى يقف الباقون على خطورة الموقف"(440).

بعد ما مرّ نسأل "الكاتب" : ما الفرق بين ما قاله الشيخ السبحاني وما قاله العلامة المحقق :" إن ما أظهره موسى (ع) تجاه أخيه هارون (ع) لم يكن سببه الإختلاف في الرأي بينهما في كيفية المعاملة، بل كان من أجل إظهار خطر ما صدر منهم"(441) .

ولو أردنا تتبع أقوال المفسرين الذين نزّهوا موسى (ع) عن أن يكون قد أخذ برأس أخيه غضبا عليه لأنه اعتبره مسؤولا عما حدث، كما ذهب إلى ذلك " البعض" لسطرنا عشرات الأسماء ممن ذهبوا إلى خلاف ذلك واستبعدوه ، تنزيها لنبي الله موسى (ع) ومن لم يكفه الصدوق (قده) والمفيد (قده) وابن أبي جامع العاملي (قده) والمجلسي (قده) لن يكفيه المئات ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا

وبعد ذلك كله يأتي هذا "الكاتب" "المدعي" ليقول : إن "السيد" لم يأت ببدع من القول ولا بشيء جديد، وإن ما قاله قد سبقه إليه أعلام التفسير! فتبارك الله أحسن الخالقين !

تحريف سافر لرأي الشيرازي

تجرأ "الكاتب "على تحريف رأي العلامة الشيرازي ، مع علمه بأنه يذهب إلى عين ما ذهب إليه العلامة المحقق تبعاُ للصدوق (قده) والمجلسي (قده)، فقد قام بالعبث بكلام الشيرازي فقطعه تقطيعا ومزقه تمزيقا كما يحلو له أن يعبر ، فلم يعد هناك أثر لظهور أو سياق ! فليعد القارئ الى ما دوّنه "الكاتب" عن رأي صاحب "الأمثل"(442) ليرى ماذا فعلت يداه غير الأمينة حيث ذكر قول الشيرازي عما فعله موسى (ع) أنه كان : "وسيلة مؤثّرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية، وإلفاتهم إلى قبح أعمالهم"(443).

لكنه لم يكمل النص الذي قال الشيرازي فيه : " وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبحا (فرضا) وكان الهجوم على أخيه لا يبدو عملا صحيحا في النظر، ولكن مع ملاحظة الحقيقة، وهي أنه من دون إظهار هذا الموقف الإنزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى أهمية وعمق خطئهم"(444)  فما هو الفرق بين كلام الشيرازي عن إلفات نظر بني إسرائيل إلى أهمية وعمق خطئهم أو قبح أعمالهم، وبين كلام العلامة المحقق عن إظهار خطورة موقفهم ؟!

وما حكم الذي يقطع النصوص تقطيعا ويمزقها تمزيقا ؟!!

مضافاً الى أن الشيرازي صرح برأيه الذي تجاهله "الكاتب "وهو موافق مطابق لرأي العلامة المحقق أيده الله تبعا للصدوق (قده) والمفيد (قده) والمجلسي (قده) كما أسلفنا قال في التفسير الأمثل : " وهنا ينقدح السؤال التالي وهو : لا شك أن كلا من موسى (ع) وهارون (ع) نبي فكيف يوجه هذا البحث والعتاب واللهجة الشديدة من قبل موسى (ع)، وما أجاب به هارون (ع) مدافعا عن نفسه ؟!

ويمكن القول في الجواب : إن موسى (ع) كان متيقنا من براءة أخيه [ لا يخفى أن المتيقن من براءة أخيه لا يعامله بشدة على نحو الحقيقة] إلا أنه أراد أن يثبت أمرين بهذا العمل :

الأول : أراد أن يفهم بني إسرائيل أنهم قد ارتكبوا ذنبا عظيما جدا، وأي ذنب؟! ذنب ساق حتى قدّم هارون الذي كان نبيا عظيما إلى المحكمة، وبتلك الشدة من المعاملة، أي أن المسألة لـم تكن بتلك البساطة التي كان يتصورها بنو إسرائيل، فإن الإنحراف عن التوحيد والرجوع إلى الشرك. أمر لا يمكن تصديقه، ويجب الوقوف عنده بكل حزم وشدة، قد يشق الإنسان جيبه، ويلطم على رأسه، عندما تقع حادثة عظيمة أحيانا، فكيف إذا وصل الأمر إلى عتاب أخيه وملامته، ولا شك أن هذا الأسلوب مؤثر في حفظ الهدف وترك الأثر النفسي في الأناس المنحرفين، وبيان عظمة الذنب الذي ارتكبوه، كما لا تشك في أن هارون (ع)  أيضا  كان راضيا كل الرضا عن هذه الحادثة.

الثاني : هو أن يثبت للجميع براءة هارون (ع) من خلال التوضيحات التي يبديها، حتى لا يتهموه فيما بعد بالتهاون في أداء رسالته. وبعد الإنتهاء من محادثة أخيه هارون (ع)، وتبرأة ساحته بدأ بمحاكمة السامري"(445).

ونسأل "الكاتب" : ما الفرق بين ما ذكره العلامة المحقق المؤيدّ من أن ذلك كان لإظهار خطورة الموقف، وبين ما نقلناه عن الشيرازي الذي تحدث عن أن ذلك كان لإفهام بني إسرائيل عظيم ما ارتكبوه من ذنب ؟!

وختاماً.. نسأل الكاتب : هل لا زال رأي العلامة المحقق، رأياً قديما للشيخ المفيد؟!. أم أنه هو الرأي الأصيل في مقابل ما هو غير أصيل .

وما معنى تعليقه على رأي العلامة المحقق من أن هذا الموقف يهدف، فضلا عن إظهار خطورة ما صدر منهم إلى : "إظهار براءة هارون (ع) وتحصينه من نسبة القصور أو التقصير إليه"(446). فعلّق عليه "الكاتب" تحت عنوان : تأويل غريب ! قائلا : "وهذا وجه لم يسبقكم إليه أحد من المفسرين، لا من القدماء، ولا من المعاصرين، بل لم يخطر على بال واحد منهم"(447)

إذن لا محيص عن القول : إنه الدهاء والفجور وإن لم تستح فافعل ما شئت . فما ذكره هؤلاء الأعلام ليس بتأويل غريب إلا عند القاصرين.

بنيان على شفا جُرف هارٍ

هلمّ عزيزي القارئ نسمع ونقرأ معا، معزوفة "الكاتب" النشاز وتناقضاته السافرة ! فهو يقول :" لست أدري لماذا يكون ديدنكم في كتاب "خلفيات" الإبتعاد عن مراجعة المصادر، وأقوال العلماء الأعلام"(450)!! "لعلمتم أن ما جاء به "السيد" هو بعينه ما قاله العلامة الطباطبائي (قده) في ميزانه، وغيره من الأعلام"(451).

وطبعا من حق القارئ أن يسأل بعد ما مرّ : من هم هؤلاء الأعلام الذين يتحدث عنهم هذا "الكاتب" بعد الذي رأيت من أقوالهم ؟!

 ولنحفظ قوله : "هو بعينه ما قاله العلامة الطباطبائي في ميزانه، وغيره من الأعلام".

وقوله :" أريد أن أقول : أن "السيد" لم يأت بشيء جديد، وغريب، وعجيب، فمن الأولى أن يكون اعتراضكم على "الكل" بدلا من "البعض""(452).

فمن هم هؤلاء " الكل " الذين طابق قولهم قول "البعض"؟!!

والجواب ما سمعت من شذوذ رأي صاحبه "السيد " عن آرائهم !! لكن "الكاتب" لم ينته عند هذا الحد في ادعاء التطابق بين قول "السيد" وقول "الأعلام"، فقد ختم بالقول : " ينبغي أولا أن تضعوا أصابعكم الشريفة على جراحات المفسرين النازفة منذ الشريف المرتضى، والطوسي، والطبرسي، وحتى مغنية، والطباطبائي، ومكارم الشيرازي، الذين ذهبوا إلى ما ذهب إليه "السيد" من مقولات، وتبنوا ما تبنّاه من آراء، وأقوال، وتفسيرات"(453).

ولنر الى أي مدى كان "الكاتب" منسجما مع ما ذكره في أماكن أخرى من بحثه هذا. يقول :" وكما هو معروف في عالم التفسير، فإن الوجوه التي ذكرتموها في تأويل غضب موسى (ع) أربعة"(454).

ثم يستعرض هذه الوجوه الأربعة التي ذكرناها فيما مرّ عن الطوسي (قده) والطبرسي (قده) والمرتضى (قده)، لكن "الكاتب الحذق" بعد أن استعرضها علّق عليها قائلا وبصوت ملؤه الثقة : " ومن دون شك أن هذه الوجوه الأربعة بعيدة عن الظهور والسياق [!!!] ولهذا صرّح بعض المفسرين بذلك، كالعلامة الطباطبائي"(455).

فكيف يمكن الجمع بين القول بأن رأي "السيد" يوافق ما قاله الأعلام، في الوقت الذي يرى فيه الطباطبائي (قده) وكما يدعي الكاتب : أن ما قاله الأعلام بعيد عن الظهور والسياق ؟!  ألم يقل إن رأي الأعلام مضاد لرأي العلامة الطباطبائي (قده) ، فإن كان رأي صاحبه مطابقاً لرأي "الأعلام" فهو بالتالي بعيد عن السياق والظهور وفق رأي الطباطبائي (قده)  لكن "الكاتب" يقول إنه عين رأي الأعلام !!

ولم يقتصر "الكاتب "في تهافته عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى افتراء فاضح على العلامة الطبرسي (قده) فقال : " ذكر الشيخ الطبرسي (قده) في "مجمع البيان" الوجوه الأربعة الآنفة الذكر، ثم ذكر الوجه الخامس الذي يتلاءم مع الظهور، عن أبي مسلم، وهو : "أنه (ع) أنكر على هارون (ع) ما بينه في سورة "طه" قوله : (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألاّ تتّـبعن ) الآية، ولا يخفى أن العلامة الطبرسي (قده) يقبل بالوجه الخامس ويرتضيه، بل إنه ذهب إليه في تفسيره لآيات سورة "طه" لملائمته الظهور، حيث يتساءل في تفسيره لقوله : (أفعصيت أمري) (456) : "متى قيل أن الظاهر يقتضي أن موسى كان أمره باللحاق به، فعصى هارون أمره؟" يجيب الطبرسي (قده) عن هذا السؤال بقوله : " قلنا يجوز أن يكون أمره بذلك بشرط المصلحة، ورأى هارون الإقامة أصلح، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب . [ مجمع البيان/7-8/43] "  (457). هذا ما ذكره "الكاتب" بالحرف الواحد عن رأي الشيخ الطبرسي (قده) وقبل أن نوضح التهافت نشير الى :

1- أن عبارة : " ثم ذكر الوجه الخامس الذي يتلائم مع الظهور" هي عبارة "الكاتب" ، فلم يقل الشيخ الطبرسي (قده) إن هذا الوجه يتلائم مع الظهور ! وكذلك عبارة : " ولا يخفى أن العلامة الطبرسي (قده) يقبل بالوجه الخامس ويرتضيه بل إنه ذهب إليه في تفسيره لآيات سورة "طه" لملائمته الظهور"فإن عبارة " ملائمته للظهور " هي " للكاتب " ولم يقل الطبرسي (قده) ذلك .

2 ـ إن الوجه الخامس المشار إليه إنما ذكره الطبرسي (قده) في عرض الوجوه الأربعة ولا توجد دلالة أو أية إشارة أو حتى إلماحة منه إلى ارتضائه له ، بل الدلالات الكثيرة تشير إلى خلافه باعتراف "الكاتب" نفسه كما سيأتي.

3ـ لقد جعل "الكاتب" عمدة دليله على كون الطبرسي (قده) قد اختار الوجه الخامس هو ما ذكره من الإشكال الذي طرحه الطبرسي (قده) في أنه إذا كان موسى (ع) قد أمر هارون (ع) باللحاق به فإن ذلك يعني عصيان هارون (ع) لأمر موسى (ع)، وأجاب الطبرسي (قده) على ذلك بأنه قد يكون أمره بذلك شرط المصلحة، وأن هارون (ع) رأى الإقامة أصلح.

وكما ترى فإن الطبرسي (قده) إنما ذكر هذا الإشكال على سبيل التنزّل، أي عند من يقول بظهور أمره (ع) له (ع) باللحاق به، وعند من يقول أن قوله (ألاّ تتّبعن) يعني ألا تلحق بي.

أما رأي الطبرسي فقد ذكره "الكاتب" بنفسه قبل صفحات قليلة ، وقد أشرنا إليه قال "الكاتب" : " في تفسيره لقوله : (قال يا هارون ما منعك إذا رأيتهم ضلّوا ألا تتّبعن أفعصيت أمري ) يقول العلامة الطبرسي :(  أفعصيت أمري ) فيما أمرتك، يريد قوله : ( أخلفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين) ، فلمّا أقام معهم ولم يبالغ في منعهم نسبه إلى عصيانه"(458). أي لم يبالغ في منعهم عبر شدّة الزجر لهم .

وقد نقل "الكاتب" أيضا عن الطبرسي (قده) قوله في "جوامع الجامع" حول قول هارون (ع) : (إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل) : " إني لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا"(459) .

أضف إلى ذلك أن الطبرسي (قده) قد تبنّى الوجه القائل بأن موسى (قده) بأخذه رأس أخيه يجره إليه قد أجرى أخاه مجرى نفسه، وهذا الرأي هو الوجه الأول من الوجوه التي ذكرها الطبرسي قدس سره (461) .

وما دام كتاب (جوامع الجامع) للطبرسي هو خلاصة آرائه كما ذكر ذلك " الكاتب " نفسه فيما أشرنا إليه سابقا ( 462 ) وقد تحدث عن هذا الوجه وحسب ، وقال في النص الذي نقله " الكاتب " أيضا : "وعنّف بأخيه وخليفته على قومه إذ أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على شعر رأسه ووجهه"(463) .

وهذه تهافتات وتناقضات عجيبة من "الكاتب " تذكرنا بقول الله تعالى : (فمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أم من أسّس بنيانه على شفا جرف هارٍ ، فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين)(464) .

المحاذير الثلاثة ولغة "الكاتب"اللغة التحريضية

ذكرالعلامة المحقق ثلاثة حاذير ينبغي الإلتفات إليها في تفسير الآيات المذكورة :

أولا : "إنّ مخالفة هارون لموسى(ع) الذي هو إمام هارون، إنما يعني التأسيس لتجويز مخالفة كل مأموم لإمامه ، وتبرير خروجه عليه".

ثانيا : إن الإختلاف في الرأي هنا يستبطن وجود مخطئ ومصيب، فبأيهما تكون الأسوة والقدرة للناس، والحالة هذه ؟!

ثالثا : إنه إذا كان إختلاف الرأي يرتبط بالدعوة وأسلوبها، فذلك يعني أن هذا النبي يجهل تكليفه، فكيف يمكنه تبليغه للناس وإعلامهم به؟!! ألا يلزم من ذلك تبليغ حكم خاطئ لا واقع له" ! (465).

وقد علق "الكاتب" على هذه المحاذير بطريقة تحريضية قائلا : "ومع الأسف الشديد فإن مفسرّين قدماء ومعاصرين أمثال الطوسي (قده)، والطباطبائي (قده) لم " يتفطنوا " إلى هذه المحاذير من الخطيرة التي ذكرتموها". وأضاف: "وكما أن صاحب تفسير "الكاشف" العلامة مغنية العاملي لم "يتفطن" هو الآخر إلى المحاذير الثلاثة التي ذكرتموها".ثم استعرض رأي العلامة مكارم الشيرازي واضعا له في سياق مؤيِّد كما يزعم .  ( 466 ) .

لكن هذه اللغة التحريضية لن تنفع في جعل الحق باطلاُ والباطل حقا ! ونسجل حولها الملاحظات التالية :

1 ـ تقدم الحديث عن ري العلامة الطبرسي (قده) وتحريف "الكاتب" له . وكذلك رأي الشيرازي صاحب التفسير الأمثل.

2 ـ إن هذه المحاذير والمخاطر هي التي دفعت بالصدوق (قده) والمفيد (قده) والمرتضى (قده) والطوسي (قده) والطبرسي (قده) والمجلسي (قده) وابن أبي جامع العاملي (قده) والشيرازي والسبحاني وغيرهم لأن يذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من آراء واضحة ، استعرضناها فلا نعيد .

4 ـ هذه المحاذير هي التي دفعت بالشريف المرتضى (قده) الى تفسيره المتقدم حيث قال : "أوليس ظاهر الآية يدل على أن هارون عليه السلام أحدث ما أوجب إيقاع ذلك الفعل منه؟ وبعد، فما الإعتذار لموسى (ع) من ذلك وهو فعل السخفاء والمتسرّعين وليس من عادة الحكماء والمتماسكين"(467). ثم أجاب بما ذكرناه من كلامه .

وكذلك طرح العلامة الشيرازي السؤال: "وهنا ينقدح السؤال التالي وهو : لا شك أن كلا من موسى وهارون نبي ، فكيف يوجّه هذا البحث والعقاب واللهجة الشديدة من قبل موسى، وما أجاب به هارون مدافعا عن نفسه ؟ "

(468). ثم أجاب عليه

وعبه فال معنى لادعاء "الكاتب" بشكل تحريضي، بأن بعض المفسرين لم "يتفطنوا" لهذه المخاطر والمحاذير !!

5ـ وقد اعترف "الكاتب" نفسه بأن العلماء الأعلام التفتوا إلى هذه المحاذير وإلا فما معنى قوله : "لأن المفسرين ما ذكروا هذا الوجه إلا من أجل تأويل المواجهة الغالبة التي صدرت من موسى (ع) تجاه أخيه هارون"(471).

أليس لجوؤهم إلى التأويل، على حد تعبيره إنما هو للتخلص من هذه المحاذير ؟! وقد تحدث "الكاتب " نفسه تحت عنوان "لا داعي للتأويل" : بأن العلامة المحقق كما فعل غيره من المفسرين، يؤوّلون ظواهر الآيات لإعتقادهم "بأن القول بغضب موسى (ع) على أخيه يشكل نقطة ضعف في شخصيته "        (472). فمن هم هؤلاء المفسرون الذين فعل العلامة المحقق مثلهم في تأويل الآيات خوفا من تلك المحاذير والمخاطر!!.

فكيف يدّعي أنه لم يلتفت أحد إلى المحاذير التي عددها العلامة المحقق؟!

بل نقول : حتى الذين استدل بكلامهم كالعلامة الطباطبائي، والشيخ مغنية قد تفطنوا لهذه المخاطر والمحاذير ولذلك تحدث العلامة الطباطبائي عن أن "هذا المقدار من الإختلاف في السليقة والمشية بين نبيين معصومين لا دليل على منعه، وإنما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق وطرق الحياة على اختلافها"(469).

وقد تحدث الشيخ مغنية في محاولة منه لحل هذه المخاطر والمحاذير عن أن " العصمة لا تحوّل الإنسان عن طبيعته، وتجعله حقيقة أخرى"(470) . والملفت أن "الكاتب" ذكر هذه النصوص !!!

أما بالنسبة للعلامة الطباطبائي فإن قوله : إن العصمة إنما تكون "فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق" فغير مقبول على إطلاقه، لأن الدليل قام على منع الإختلاف في السليقة والمشية بين نبيّين معصومين إذا لزم عن هذا الاختلاف توجيه الإتهامات الباطلة من نبي إلى آخر بالتقصير أو عدم تقدير الأمور، خاصة إذا وصل الأمر إلى حد القيام بأمور كأنها مقدمة لضربة، كما ذكر العلامة الطباطبائي (قده) .

لكن المفارقة هنا، لماذا لم يحرّض "الكاتب" على رأي السيد الطباطبائي (قده) ويقول له بأن هذا الحديث عن الإختلاف في السليقة، والذي لم يقم الدليل على منع صدوره من المعصوم مما لم يتفطن إليه المفسرون !!

وما قيل في رأي العلامة الطباطبائي، يقال أيضا حول رأي الشيخ مغنية، وهو رأي خاطئ لأن ما ذكره من أن " العصمة لا تحوّل الإنسان عن طبيعته" أمرٌ مخالف لأبسط تعاليم الإسلام وأوضح أخلاقياته، إذ لو كان الأمر كذلك، لأضحت إرشادات أهل البيت (ع) وتعاليمهم الأخلاقية حول الحلم، وضبط النفس، والغضب، لا طائل منها ما دامت غير قادرة على تهذيب هذه الطبيعة، وترويض هذه النفس.

يقول العلامة الحلي : " الغرض من إمامته إنقياد الأمة له، وامتثال أوامره، واتباعه، فيما يفعله، فلو وقعت المعصية منه لم يجب شيء من ذلك وهو مناف لنصبه"(476).

ويقول المقداد السيوري : " إذا جازت المعصية عليهم لم يحصل الإنقياد لأمرهم، ونهيهم فتنتفي فائدة البعثة"(477). ويقول في مكان آخر : " لو صدر عنهم الذنب لوجب اتباعهم"(478).

ويقول العلامة المحقق عن المحذور الثالث : " إنه إذا كان اختلاف الرأي يرتبط بالدعوة وأسلوبها، فذلك يعني أن هذا النبي يجهل تكليفه، فكيف يمكنه تبليغه للناس، وإعلامهم به؟!. ألا يلزم من ذلك تبليغ حكم خاطئ لا واقع له " (479).

أليس هذا ما تحدّث عنه العلامة الحلِّي عندما قال : "لأنه لولا ذلك (أي العصمة) لم يحصل الوثوق بقوله"(480).

أو ليس هذا أيضا ما تحدث عنه الفاضل المقداد عندما قال : " إذا جازت المعصية عليهم لم يحصل الوثوق بصحة قولهموإذا لم يحصل الوثوق بقولهم لم يحصل الإنقياد لأمرهم ونهيهم فتنتفي فائدة البعثة"(481).

ولو فتح "الكاتب" أي كتاب اعتقادي يتحدث عن العصمة لرأى عين هذه العبارات، أو ما يفيد عين معناها !!

تهافت التهافت

لخص "الكاتب" ما جاء في كتاب "خلفيات" حول موقف موسى (ع) من أخيه هارون (ع) بنقطتين هما :

الأولى : خطر ما صدر من القوم، ومدى بشاعة الجريمة التي ارتكبوها. وبراءة هارون (ع) وتحصينه من نسبة القصور أو التقصير إليه.

والثانية : لم تكن مواجهة موسى لأخيه (ع) مواجهة قاسية بل إنه "وجه له سؤالا عن ذلك ليسمع الناس جوابه الذي يتضمن برهانا اقناعيا يدل على دقته، وحسن تقديره للأمور ! ".

ولهذا فإن موسى لم يغضب على أخيه لأن ذلك "يعني أنه كان يتهم أخاه النبي هارون (ع) بارتكاب المعصية، ويحمله مسؤولية ما جرى"(482).

ثم استعرض "الكاتب" ردّه على مالخّصه من كتاب خلفيات بقوله : " إن نفي المواجهة القاسية يتنافى مع ماذكرتموه في النقطة الأولى من إظهار خطر ماصدر من القوم ، لأن المفسرين ماذكروا هذا الوجه إلا من أجل تأويل المواجهة القاسية التي صدرت من موسى تجاه أخيه هارون، من أخذ رأسه وجرّه إليه فقالوا : إن هذا الأسلوب الشديد الغاضب كان ضروريا في ذلك الوقت الصعب، من أجل إظهار خطر ما صدر من القوم ومدى بشاعته وشناعته"(483).

وهذا التعليق من "الكاتب" فضلا عن أنه متهافت في نفسه فإن فيه مفارقات نلخصها بما يلي :

1 ـ مع الأسف أن "الكاتب" لم ينقل بشكل صحيح من كتاب خلفيات ! فالعلامة المحقق لم يقل : "لم تكن مواجهة موسى (ع) لأخيه مواجهة قاسية "كما ذكر الكاتب الأمين"(484) وإنما قال : " قد بين موسى (ع) : أنه لم يتهمه بمعصية أمره ليستحق بزعم البعض هذه المواجهة القاسية، وهذا العقاب والتوبيخ بهذه القوة "(485). فالعلامة المحقق يعرض بصاحبه الذي حمل هارون مسؤولية انحراف الأمة ، وجعل مواجهة موسى  قاسية !  فقد صرح العلامة المحقق بأن  " موسى (ع) لم يتهم هارون (ع) بمعصية أمره ليستحق بزعم البعض هذه المواجهة القاسية".

كما صرخ بأن سؤاله لهارون عن ذلك الأمر " ليسمع الناس جوابه الذي يتضمن برهانا إقناعيا يدل على دقته وحسن تقديره للأمور"(486).

فهو لم ينكر حصول مواجهة قاسية، بل أكد حصولها، وإنما الذي أنكره هو أن تكون هذه المواجهة حقيقية نابعة من وجود اختلاف واقعي بينهما . ولذلك قال : " إن ما أظهره موسى (ع) تجاه أخيه هارون (ع) لم يكن سببه الإختلاف في الرأي بينهما في كيفية المعاملة، بل كان من أجل إظهار خطر ما صدر منهم ومدى بشاعة الجريمة التي ارتكبوها"(487).

كما أن العلامة المحقق رفض تبعا للأعلام أن يكون خطاب موسى (ع)  لهارون (ع) بمثابة اتهام له، وإنما هو قد "وجه إليه سؤالا عن ذلك" بهدف "إظهار براءة هارون (ع) وتحصينه من نسبة القصور أو التفصير إليه".

وبذلك يتضح معنى كلام العلامة المحقق عندما قال : "وقد بين موسى (ع) أنه لم يتهمه بمعصية أمره ليستحق - بزعم البعض - هذه المواجهة القاسية وهذا العتاب، والتوبيخ بهذه القوة، بل وجه إليه سؤالا عن ذلك، ليسمع الناس جوابه الذي يتضمن برهانا إقناعيا يدل على دقته، وحسن تقديره للأمور"   (488).

هذا الكلام الذي عبث به "الكاتب" تقطيعاً وتمزيقا، لأجل إظهار نوع من التهافت في كلام العلامة المحقق ! وقد ظهر مما مر كلام من هو المتهافت !

2 ـ ومن تهافتات "الكاتب" وطرائفه قوله :" إن نفي المواجهة القاسية يتنافى مع ما ذكرتموه من إظهار خطورة ما صدر من القوم، لأن المفسرين ما ذكروا هذا الوجه إلا من أجل تأويل المواجهة القاسية "(489)

وهذا اعتراف منه بأن المفسرين ذكروا هذا الوجه ! فمن هم هؤلاء المفسرون الذين ذهبوا إلى القول بأن ما جرى من موسى (ع) هو من أجل إظهار خطورة ما صدر من القوم في محاولة لتأويل تلك المواجهة ؟!

أليس "الكاتب "هو القائل في صدر بحثه هذا إن هذا الرأي رأي قديم للمفيد (قده) ! وذلك في محاولة إيحائية منه أراد بها توهين هذا الرأي وإظهاره بأنه رأي تفرّد به المفيد (قده) ولم يذهب إليه أحد لا قبله ولا بعده سوى العلامة المحقق ؟!!

3 ـ نقل "الكاتب" عن العلامة المحقق قوله : " لأن ذلك لا يعني أنه عليه السلام كان يتهم أخاه النبي هارون عليه السلام بارتكاب المعصية، ويحمّله مسؤولية ما جرى"(490).

وعمد إلى بتر بقيته التي تمثل حجة دامغة ودليلا اقناعيا دقيقا هي قوله أيده الله : "ويحمله مسؤولية ما جرى، ويتهمه بالتساهل والتخلف عن أن يكون عضدا له، يشدّ أزره، ويشركه في أمره، وذلك مما لا يمكن قبوله في حق الأنبياء "   (491). وهذا الكلام في غاية الدقّة لأن اتهام موسى (ع) لأخيه وتحميله المسؤولية، هو اتهام بالتساهل في أمر خطير جدا، يتمثل بانحراف القوم، وإشراكهم بالله تعالى !

الجهل المركب لدى الأنبياء !!

يقول " البعض ": " كيف يخطئ هارون في تقدير الموقف، وهو نبي ؟ أوكيف يخطئ موسى في تقدير موقف هارون، وهو النبي العظيم؟ وكيف يتصرف معه هذا التصرف ؟ ولكننا قد لا نجد مثل هذه الأمور ضارة بمستوى العصمة، لأننا لا نفهم المبدأ بالطريقة الغيبية التي تمنع الإنسان من مثل هذه الأخطاء في تقدير الموقف بل كل ما هناك، أنه لا يعصي الله في ما يعتقد أنه معصية، أما أنه لا يتصرف تصرفا خاطئا يعتقد أنه صحيح ومشروع، فهذا ما لا نجد دليلا عليه"(493).

أورد "الكاتب" عناوين "المقولات الجريئة" التي ذكرها العلامة المحقق في كتابه "خلفيات" واعتبرها كعادته مقتطعة من سياقها ، وزعم أنها مما ذكره علماء التفسير، وقد ناقشنا ذلك بما فيه الكفاية فلا نعيد .. ولكنا نقف عند مناقشة "الكاتب"  لنسبة  " البعض " الجهل المركب الى الأنبياء عليهم السلام، وزعمه أن هذه المقولة أخذها العلامة المحقق من لوازم النص الآنف الذكر . قال : " لوازم عجيبة لا تخطر على ذهن من يقرأ النص الآنف مهما كان "

(497) معلّلا ذلك بثلاثة أمور :

الأول : "أن النص صريح بأن الحديث عن الخطأ في تقدير الأمور التي لا تضر بالعصمة، والتي تقع في دائرة ترك الأولى، فقد جاء التعبير: "لا نجد مثل هذه الأمور ضارة بمستوى العصمة" وتعبيره : "من مثل هذه الأخطاء في تقدير الأمور"

كما أن سياق الحديث في موقف موسى (ع) من أخيه هارون (ع) حيث صرّح المفسرون القدماء والمعاصرون، أن موسى (ع) : "غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنه غضب عليه حسبانا من أنه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل" على حد تعبير العلامة الطباطبائي (قده)".

الثاني : " لا يمكن أن نفسر العديد مما وقع به الأنبياء، في دائرة ترك الأولى إلا بعدم القصد أو الإعتقاد بأنها معصية إرشادية أو ترك أولى"(498).

الثالث : "إن "السيد" أكد مراراً وتكراراً أن الأنبياء معصومون في دائرة الأوامر والنواهي المولوية ولا يمكن أن يقعوا في الجهل من هذه الناحية، لأنهم الأعلم، والأعرف بأمور الشريعة، ولا يمكن أن يجهلوا مفردة من مفرداتها ولهذا، فإن قوله : "لا يعضي الله في ما يعتقد أنه معصية" واضح بصورة جلية بالمعاصي الإرشادية لا المولوية"(499).

وفي هذا الكلام مفارقات عديدة أهمها :

1 ـ إن مقولة "الجهل المركب" هي لوازم قريبة وواضحة كلام " البعض "، فالذي يقول بأن النبي "إنما لا يعصي الله فيما يعتقد أنه معصية" ، فهو ينسب إلى النبي أنه جاهل بأن هذا الفعل معصية ، وجاهل بأنه جاهل بذلك . وهذا هو الجهل المركب ! وإلا فليسمه لنا "الكاتب" ما هو؟!

2 ـ أما قوله بكون "النص صريح بأن الحديث عن الخطأ في تقدير الأمور التي لا تضر بالعصمة، والتي تقع في دائرة ترك الأولى" فهو قول غريب لأنه مصادرة واضحة على المطلوب، كون البحث إنما هو في أن هل الخطأ في تقدير الأمور يضر بالعصمة أم لا ؟ ولو كنا نسلم بأن أخطاء كهذه لا تضر بالعصمة أو أنها تقع ضمن دائرة ترك الأولى ، لم يكن ثمة مبرر لكل هذا النقاش ولكل تلك الإعتراضات.

ثم على فرض التسليم بقبول الخطأ في تقدير الأمور وأن ذلك يقع في دائرة ترك الأولى، فإن أقصى ما يمكن قبوله الأمور المتعلقة ببعض الشؤون الحياتية الخاصة، أما الخطأ في تقدير الأمور المتعلقة بالدعوة، أو ما ينتج عنها من أخطاء تؤدي إلى اتهامات خطيرة لنبي من الأنبياء، كأن يتحمل مسؤولية انحراف قوم عن جادة التوحيد بسبب التساهل معهم على حد تعبير " البعض" فإن ذلك من الأخطاء التي لا يصح نسبتها إلى الأنبياء، ولا يمكن أن تقع ضمن دائرة ترك الأولى !! فهل يتصور "البعض" أن إطلاق التهم الخطيرة يبرها أن يجعلها من قبيل الترك الأولى ؟!!

3 ـ هل يكفي التصريح بأن هذا الخطأ أو ذاك لا يضر بالعصمة ليخرج  هذا الفعل بذلك عن كونه ضارا بالعصمة ؟! لا شك أن هذا منطق غريب نسمعه في هذه الأيام، ولا ندري، فلعلهم يقولون لنا غدا بأن السارق يخرج عن كونه سارقا إذا نفى عن فعله صفة السرقة وقال أنه "اقتباس" مثلاً !!

4 ـ لم يذكر "الكاتب" لنا أسماء هؤلاء المفسرين القدماء والمعاصرين الذين اعتبروا أن موسى (ع) غضب على أخيه حسبانا منه أنه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل. فإن هذا التعبير لم يذكره أحد من المفسرين إلا العلامة الطباطبائي وقد ذكرنا ما في كلامه  (قده)  !

5 ـ أما تعليله الثاني وهو قوله بأنه "لا يمكن أن نفسر العديد مما وقع به الأنبياء في دائرة ترك الأولى إلا بعدم القصد أو الإعتقاد بأنها معصية إرشادية أو ترك الأولى" . فهو قول عجيب أيضا يتحفنا به  "الكاتب" مرة تلو أخرى ! ولا أخفي أني لم أفهم معنى قوله "بأنه لا يمكننا أن نفسر ما وقع به الأنبياء في دائرة ترك الأولى إلا على أنه ترك أولى " ؟!

6 ـ أما تعليله الثالث بأن "السيد" أكد مرارا تنزيه المعصوم عن مخالفة الأوامر المولوية، وأنهم لا يقعون في الجهل من هذه الناحية ؛ لأنهم الأعرف بأمور الشريعة .. وأن ما كان يتحدث عنه "السيد" هوالمعاصي الإرشادية لا المولوية .

فأقول : ألا يدل هذا التعليل على تجويز صاحبه نسبة الجهل إلى الأنبياء عليهم السلام ، فيما يتعلق بالمعاصي الإرشادية.

ألا يعني ذلك اعتراف " الكاتب" بأن ما قاله "البعض "صريح بنسبة الجهل إلى الأنبياء ، لكنه يعتبره غير قادح بالعصمة لأنه يتعلق بالأمور والمعاصي الإرشادية ! فلماذا إذن كل هذا التهويل بأن مقولة "الجهل المركب" من اللوازم العجيبة التي لا تخطر على ذهن من يقرأ النص، ما دام يعترف "الكاتب" بأن "السيد" يجوز نسبة الجهل للأنبياء في الأمور المتعلقة بالمعاصي الإرشادية، وأن الجهل الذي نسبه إلى موسى (ع) هو من هذا القبيل، وأنه أيضا جهل مركب؟!!

7 ـ وأخيرا يستوقفنا "استنباط"  "الكاتب" بأن العلامة المحقق يتبنّى جهل آدم (ع) بكذب إبليس لأنه قال : "وليس من حق آدم أن يكذب أحداً لم تظهر له دلائل كذبه، فكان من الطبيعي أن يقبل آدم منه ما أخبره به"(500).

فمن السذاجة أن لا يميز بين كون أحدنا عالما بكذب فلان، خاصة إذا كانت هذه المعرفة ناتجة عن غير اختبار هذا الشخص، وبين ترتيب الآثار العملية على هذه المعرفة .

إن العلم بكذب إبليس عن طريق الإختبار المباشر له وهو المسمى بظهور دلائل كذبه، شيء ، وأن تقبل ما يخبرك به لعدم ظهور دلائل كذبه ، خاصة مع قسمه شيء آخر.

وفي ختام هذا البحث نذكر بمفارقة أخرى "للكاتب "

ففي معرض استنكاره على انتزاع مقولة "الجهل المركب" من النص المذكور آنفا ذكر رأيا للعلامة المشهدي صاحب "كنز الدقائق" مفاده : أن قول هارون (ع) (إن القوم استضعفوني وكادوا يتقلونني ) يمثل "إزالة لتوهم التقصير في حقه"(494). ثم قال  "الكاتب"  : "هل في كلام العلامة المشهدي ما يدل على أن موسى (ع) يعيش الوهم والجهل المركب"(495).

ويبدو "الكاتب" كما استعصى عليه أن يكون نزيها في نقده واستعراضه لآراء العلماء ، استعصى عليه فهم مرادهم أيضا ! لأن كلام المشهدي (قده) في سياق أن كلام موسى (ع) مع أخيه لم يكن اتهاما له، وإنما كان بمثابة سؤال لإظهار براءة هارون من نسبة القصور أو التقصير إليه، فإنه حينئذٍ، سيكون المقصود من عبارة العلامة المشهدي "إزالة لتوهم التقصير في حقه" إنما هو إزالة التوهم الحاصل عند غير موسى (ع) سواء ممن كان حاضرا أو غائبا من الأجيال اللاحقة .

وقد ضعف العلامة المشهدي القول بأن هارون (ع) كان مقصرا بعبارة "قيل" فقال في تفسيره لقوله تعالى : (فأخذ برأس أخيه يجره إليه) : " قيل : توهما بأنه قصّر في كفّهم" (496).

هوامش الفصل السادس

(406) سورة الأعراف، الآية 150

(407) سورة طه، الآية 92-94

(408) خلفيات ج 1 ص 109 و 111.

(409) خلفيات : 1/111 - 114نقلا عن من وحي القرآن : 10/ 176 – 179 .

(410) ن.م، نقلا عن مجلة الموسم ، عدد 3و4 ، ص 321 .

(411) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 213.

(414) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 215 و 216.

(415) نهج البلاغة ، كتاب رقم 28.

(416) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 221 نقلا عن جوامع الجامع ص 285.

(417) من وحي القرآن ،ج 10 ، ص 176.

(418) تنزيه الأنبياء ،ص 116.

(419) مجمع البيان ، ج 3 و 4 ص 596.

(420) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 214.

(421) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 214 و 237.

(422) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 221 نقلا عن التبيان : 7/178.

(423) التبيان ج 4 ص 548.

(424) التبيان ج 7 ص 178.

(425) من وحي القرآن ج 10 ص 176.

(426) خلفيات ج 1 ص 115.

(427) التبيان ج 7 ص 178.

(428) خلفيات ج 1 ص 115.

(429) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 220 نقلا عن جوامع الجامع ص 285.

(430) مجمع البيان ج 3 و 4 ص 596.

(431) تنـزيه الأنبياء ص 16.

(432) التبيان ج 4 ص 550.

(433) مجمع البيان ج 3 و 4 ص 597.

(434) تفسير القرآن ج 3 ص 120؟

(435) الوجيز ج 1 ص 490 و 491.

(436) بحار الأنوار ج 13 ص 221، نقلا عن الشرائع ص 35.

(437) سورة المائدة / الآية 127.

(438) سورة الحاقة / الآية 44-46.

(439) بحار الأنوار، ج 13 ص 223.

(440) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم ، ص 223.

(441) خلفيات ، ج 1 ، ص 115.

(442) راجع مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 223 و 224 و 228.

(443) الأمثل : 5/210، وكذلك مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 228.

(444) الأمثل ، ج 5 ، ص 210.

(445) الأمثل ، ج 10 ، ص 57 و 58.

(446) خلفيات ، ج 1ص ، 115.

(447) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 230.

(450) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 213.

(451) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 214.

(452) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 214.

(453) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 237.

(454) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 226.

(455) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 227.

(456) سورة طه / الآية 93.

(457) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 228 و 229.

(458) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 220.

(459) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 221.

(461) مجمع البيان ج 3 و 4 ص 596.

(462) راجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 421 في تعليق "الكاتب" على سورة عبس.

(463) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 226.

(464) سورة التوبة ، آية 109.

(465) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 222.

(466) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 222 و 223.

(467) تنزيه الأنبياء ، ص 116.

(468) تفسير الأمثل ، ج 10، ص 57.

(471) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 225.

(472) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 226.

(469) الميزان ، ج 8 ، ص 251.

(470) الكاشف ، ج 3 ، ص 397.

(476) كشف المراد ص 391.

(477) النافع يوم الحشر ص 37 و 38.

(478) النافع يوم الحشر ص 38.

(479) خلفيات ج 1 ص 114.

(480) الباب الحادي عشر ص 37 ولا يخفى أن الكذب والجهل يؤديان إلى نتيجة واحدة من ناحية عدم الوثوق لأنهما أخبار عما لا واقع له.

(481) النافع يوم الحشر ص 37 و 38.

(482) مراجعات في عصمة الأنبياء.

(483) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 225.

(484) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 225.

(485) خلفيات ج 1 ص 115.

(486) خلفيات ، ج 1 ، ص 115.

(487) خلفيات ج 1 ص 115.

(488) خلفيات ج 1 ص 115.

(489) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 225.

(490) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 225.

(491) خلفيات ج 1 ص 116.

(493) من وحي القرآن ج 10 ص 178.

(497) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 234.

(498) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 234.

(499) مراجعات في عصمة الأنبياء ، ص 235 و 236.

(500) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 234.

(494) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 233.

(495) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 233.

(496) كنز الدقائق ج 5 ص 186.

 

 

الفصل السابع موسى عليه السلام وقتل القبطي

 

 

 

خلاصة الانتقادات

1 ـ اعترف "الكاتب"، بشكل غير مقصود، بأنه حرّف رأي العلامة المحقق في قول إبراهيم (ع) : ( هذا ربي ) فنسب إليه هنا ما أنكر نسبته إليه هناك !

 2 ـ افترى على العلامة الطباطبائي (قده) فشبه أسلوبه في عرض الآراء المتضاربة، وتأخير بيان موقفه منها، بأسلوب " البعض" الذي رجح أن يكون موسى (ع) لم يرتكب جريمة دينية وترك احتمال ارتكابه لها أمرا مرجوحا !

3 ـ دلس "الكاتب" في رأي صاحبه في تبنيه لمقولة خضوع موسى (ع) لوسوسة الشيطان الخفية .

 4 ـ أثبت "الكاتب" قصوره أو تقصيره في معرفة الفرق بين النبوة والبعثة، ومحاولة تضليل الأبرياء في ذلك .

 5 ـ دلس "الكاتب" في رأي صاحبه باستحقاق القبطي للقتل ، فقد قال صاحبه " ربما كان هذا الشخص يستحق القتل" فلم يجزم ، وذلك يعني أنه أيضا قد لا يكون مستحقا للقتل ! فحذف "الكاتب " كلمة "ربما" لتصبح العبارة : " كان هذا القبطي يستحق القتل" وذلك ليتخلص نهائيا من احتمال أن يكون موسى قد ارتكب جريمة دينية !

الآيات القرآنية في الموضوع

( قال ألم نربّك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين . وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين . قال فعلتها إذا وأنا من الضالين . ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين . وتلك نعمة تمنها علي أن عّبدت بني إسرائيل((503).

( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين . قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم . قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين . فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين . فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدولهما قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) (504).

ما قاله " البعض "

54 ـ إحتمال ارتكاب النبي موسى (ع) جريمة دينية.

55 ـ الآلام النفسية لموسى (ع) بسبب عملية القتل.

56 ـ جريمة موسى (ع) في مستوى الخطيئة.

57 ـ الخطأ غير المقصود لموسى (ع).

85 ـ موسى (ع) يستجيب للوسوسة الخفية بالقتل"(505).

نص أقواله

"ولكن هل يشعر بالذنب لقتله القبطي، باعتبار أن ذلك يمثل جريمة دينية في مستوى الخطيئة التي يطلب فيها المغفرة من الله؟! أو أن المسألة هي أنه يشعر بالخطأ غير المقصود الذي كان لا يجب أن يؤدي إلى ما انتهى إليه مما يجعله يعيش الألم الذاتي تجاه عملية القتل إننا نرجح الإحتمال الثاني"(506).

"أما حديث التأثير الشيطاني في الأشياء من خلال آية المائدة فلا يدل على المقصود، فإن الظاهر إرادة الإرتباط بهذه الأشياء في الجانب العملي من خلال وسوسته للإنسان في الأخذ بها بالطريقة المضادة لمصلحته، وهذا هو الذي نفهمه من آية موسى (ع) لأن قتله للقبطي قد يكون ناشئا من الوسوسة الخفية فيما تصنعه من حالة الإثارة التي تقود إلى ذلك"(507).

هذا هو الفصل السابع حول قضية نبي الله موسى (ع) والقبطي..  ووسائل "الكاتب "هي الوسائل، والدواعي هي الدواعي !

فمن "المقولات الجريئة" التي يتبناها " البعض "مقولة : احتمال ارتكاب نبي الله موسى (ع) جريمة دينية بمستوى الخطيئة وقد تقدم عرض النص المشكل الذي يتضمن هذه المقولة في بداية الفصل.

وكما هو ديدن هذا "الكاتب" في تمحّله لتصويب رأي صاحبه ، وتحريف كلام العلماء الأعلام ليوافق كلامه ، أو توجيه كلامه ليوافق كلام العلماء ! فقد عمد الى اتهام العلامة المحقق بأنه لم يتابع سياق حديث "السيد"، وأنه اكتفى بالوقوف عند ترجيحه للإحتمال الثاني ، هذا الترجيح الذي يلزم منه أن يبقى الإحتمال الأول، وهو شعور موسى (ع) بالذنب لقتله القبطي " باعتبار أن ذلك يمثل جريمة دينية بمستوى الخطيئة" ، مرجوحا.

وادعى "الكاتب " أن صاحبه جزم بعد ذلك بنفي هذا الإحتمال " واثبت بضرس قاطع الإحتمال الثاني فحسب"(508).

ثم تساءل " الكاتب " : " لماذا لم يجزم صاحبه ويحسم الأمر من أول وهلة بل قال إننا نرجح الإحتمال الثاني "(509).

وأجاب بأن هذا أسلوب رائع من أساليب الحوار والمجادلة والإقناع، يستعمله حتى الأنبياء والمرسلون عليهم السلام ...

ثم أردف "الكاتب " قائلا: " فليس من الضروري أن يجزم المفسِّر لأول وهلة بالإتجاه الذي يتبناه ويرتضيه، ويرفض الإتجاه الذي لا يرتضيه". "إننا كثيرا ما نجد سيد المفسرين في هذا العصر، العلامة الطباطبائي (قده) لا يعطي رأيه النهائي من أول وهلة، بل ولا من أول صفحة".

وتابع قائلا : "ولعل أكبر مثال على ذلك تفسيره لسورة "عبس" حيث نجده في بيانه في أول السورة لم يختر رأيا، ولم يرجح رواية، بل أشار إلى ورورد روايات من طرق أهل السنة والشيعة ثم قال : وسيوافيك تفصيل البحث عن ذلك في البحث الروائي ، وبعد أربع صفحات يعقد البحث الروائي ويستعرض فيه الروايات المتعارضة ثم يعطي رأيه النهائي الذي يستبعد فيه أن السورة نازلة في النبي (ص)"(515).

وهذا الشاهد من  "الكاتب" غريب ، فقد جعل من "لم يختر رأيا ولم يرجح رواية" من أوِّل الأمر، كمن يحتمل من أوِّل الأمر رأيين ويرجح أحدهما ويترك الآخر مرجوحا ؟! وهل من يستعرض الآراء ثم "يعطي رأيه النهائي" كمن يحتمل ويرجح، ثم يقدم المبرارات التي دفعته للإحتمال والترجيح ؟! وهل الذي يتحدث عن آراء وأقوال ،كمن يتحدث عن احتمالات وترجيحات ؟!

ماذا رجح "البعض "؟

 لفت نظري في مراجعتي تفسير الآيات مورد البحث ، استيحاء " البعض "، من قوله تعالى : ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) حيث قال :

" لينتصر له في معركة جديدة مع شخص آخر من الأقباط ولم يستجب موسى له، فقد استوعب التجربة السابقة واحتوى نتائجها في فكره وشعوره فقد لا يكون المستغيث دائما مظلوما، بل قد يكون صاحب مشاكل يتحرك في عملية الإثارة للنزاع والخلاف على أساس حدة طبعه أو رغبته في العدوان فكيف يمكن له أن يستجيب له وإذا كان موسى قد اندفع سابقا للإنتصار له، فليس ذلك من موقع الإنتصار للقريب، بل من موقع الإعتقاد بأنه مظلوم من قبل القبطي إنطلاقا من دراسة طبيعة الأشياء في موازين القوة التي توحي بأن القبطي في مركز القوة، والإسرائيلي في مركز الضعف ولكن المسألة الآن هي أن صاحبه يدخل في خلاف جديد مما يوحي بأنه رجل يتعمد المشاكسة مع الآخرين وقد يكون انتصار موسى له أغراه في ذلك "قال له موسى إنك لغوي مبين" فإنك لا تسلك طريق الرشد الذي يفرض على الإنسان أن يحل الأمور بالتي هي أحسن، بعيدا عن العنف، أو أن يبتعد عن الدخول في القضايا التي تثير الخلاف من حوله "فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما "ليدفعه عن صاحبه، لينهي المعركة بسلام، أو ليواجه عدوانه بطريق القوة، بعد أن امتنع عن الإبتعاد عنه"(516) . ونشير في هذا النص الى جملة نقاط :

1 ـ من أين استوحى " البعض " أن موسى (ع) أراد أن يدفع القبطي عن صاحبه لينهي المعركة بسلام، مع أن الآية ظاهرة بأن الدفع إنما كان "بالبطش" ، أي "بالضرب بقوة وسطوة" كما في القاموس المحيط.

2 ـ كيف يوفق بين حديثه عن أن موسى (ع) لم يستجب له لأنه استوعب التجربة السابقة ، وبين التدخل من جديد ليبطش بالذي هو عدو لهما ؟!.

3 ـ وكيف يكون موسى (ع) في تدخله السابق قد أغرى الإسرائيلي بتعمد المشاكسة، ومع ذلك يتدخل موسى (ع) من جديد لمساعدته ؟!

4 ـ كيف يمكن الموازنة بين كل ما ذكره، من أن المستغيث قد لا يكون دائما مظلوما، وأنه قد يتحرك على أساس حدّة الطبع ورغبة العدوان، وبالتالي فإن من كان هذا شأنه لا يمكن أن تدافع عنه، وأن المدافعة السابقة عنه، إنما كانت من موقع اعتقاد موسى (ع) بأنه مظلوم من قبل القبطي ، وأن المسألة الآن ودخوله في عراك يوحي بأنه رجل يعتمد المشاكسة !

كيف يمكن الموازنة بين كل ذلك وبين قيام موسى (ع) بالدفاع عنه من جديد، وربما بطريقة أشد من الأولى وأعنف، التي عبر القرآن عنها بلفظ "وكز" وهي الضرب، وقيل الضرب مع قبض الكف، بل قيل أنها و "اللكز" مترادفان، وهي على أي حال خالية من إشارة إلى عنف الضربة أو خفتها، وإن كان المتبادر منها أنها خصوص الضرب الخفيف، أما في الثانية فقد عبر القرآن عنها "بالبطش"، وهو الضرب القوي كما أسلفنا؟!

الهروب إلى الأمام !

من جملة الإشكالات التي طرحها العلامة المحقق على " البعض" اعتباره أن قتل القبطي "قد يكون ناشئا من الوسوسة الخفية فيما تصنعه من حالة الإثارة التي تعود إلى ذلك"(517).

ومقتضى هذا التفسير، أن الإشارة في كلمة "هذا" الواردة في قوله تعالى : (هذا من عمل الشيطان) تعود للقتل لا للإقتتال.

لكن هذا الكلام يناقضه أن "البعض " في تفسيره لسورة القصص ، اعتبر أن كلمة "هذا" إشارة إلى الإقتتال لا القتل ( 518) .

وأمام هذا التناقض المألوف لنا من "البعض " حاول "الكاتب" التملص من هذا التناقض وتوجيهه، فعمد إلى الزعم أن صاحبه لم يكن " بصدد تفسير آية سورة القصص، إنما كان بصدد مناقشة العلامة الطباطبائي " (519 )  وأنه قال : بالرأي الآخر في تفسير ( هذا من عمل الشيطان ) تنزلا ! (520).

ونقول : إن كلام هذا " الكاتب" بعيد عن الصواب لما يلي:

1ـ كان صاحب " من وحي القرآن " يناقش العلامة الطباطبائي (قده) في رأيه بتأثير الشيطان على النبي أيوب (ع) جسديا ، حيث عمد إلى رفض هذا الرأي من منطلق أن الشيطان إنما يهدف من خلال وسوسته التأثير على حركة الإنسان في " قضاياه العملية المتصلة بأوامر الله ونواهيه لإضلاله بطريق الوسوسة التي تدعو الإنسان إلى الإستجابة له في حركة الإنحراف عن الخط المستقيم"(521).

وعلى هذا الأساس اعتبر أنه لا يجد ملامح صورة الشيطان من حيث كونه أحد "المؤثرات الطبيعية في مرض الإنسان أو تعبه"(523). وخلص إلى القول بأن "الظاهر إرادة الإرتباط بهذه الأشياء في الجانب العملي من خلال وسوسته للإنسان في الأخذ بها بالطريقة المضادة لمصلحته"(525).

ولما أراد تقديم شاهد على ضوء هذه الرؤية، عمد إلى تقديم قضية قتل موسى (ع) للقبطي، لتكون بمثابة الشاهد على أن تركيز الشيطان في وسوسته إنما هو فيما يتعلق بالجانب العملي ؛ لذلك قال: "وهذا هو الذي نفهمه من آية موسى (ع)، لأن قتله للقبطي قد يكون ناشئا من الوسوسة الخفية فيما تصنعه من حالة الإثارة التي تعود إلى ذلك"(526).

وهنا نسأل "الكاتب" أين هو ذلك التنزّل الذي تحدث عنه؟!  وكيف يصح أن نقول عمّن يناقش رأي الآخر ويعارضه، ثم يأتي بالشواهد على مدعاه، بأنه ذكر ذلك على سبيل التنزّل؟!!

2 ـ هنا ندرك السبب الذي دفع "الكاتب" إلى تجاهل هذا النص في مناقشة "البعض " للعلامة الطباطبائي، واقتصاره على جملة واحدة منها ، لأن الباقييدين صاحبه !!

لقد اقتطع "الكاتب" سطراً واحداً من سياق مناقشة كان مقدارها واحدا وخمسين سطراً .. ولا نطالبه ببقية السطور ، بل نطالبه بتركه لما يدين صاحبه منها !!

4 ـ على أن أصل تبرير "الكاتب" غير دقيق .. فقد ادعى أن "البعض" كان في مقام الرد على العلامة الطباطبائي (قده) بخصوص كون الأنبياء وأهل بيت العصمة " في أمن من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة، وأما تأثيره في أبدانهم وسائر ما ينسب إليهم من إيذاء وأتعاب، أو نحو ذلك من غير إضلال، فلا دليل يدل على امتناعه"(527).

بينما كان "البعض " يناقش رأي العلامة الطباطبائي (قده) الذي ينفي تعرض الأنبياء للإضلال من الشيطان، وأنهم لعصمتهم، في أمن من تأثيره في نفوسهم. وقد صدر مناقشته له بقوله : "ولنا ملاحظة على ذلك"، ثم عمد إلى تقديم مناقشة دور الشيطان في الأرض بما تقدم ذكره(528). لهذا سمينا محاولة هذا "الكاتب" رفع التناقض في كلام صاحبه لا تعدو كونها " محاولة "هروب الى الأمام".

أغاثا كريستي بعثت من جديد

ماذا عسانا نقول عن معالجة "الكاتب" لتفسير " البعض " لقوله تعالى : (وأنا من الضالين )؟!!.

لقد خلط الحابل بالنابل ! وأفرد ستة عشر صفحة لهذا الموضوع صاغها بطريقة غريبة على شكل مخلوق هجين أشبه بقصّة بوليسية محبوكة حبكة معقدة كقصص الكاتبة البريطانية  "أغاثا كريستي" !

نرجو من القارئ أن يفتح كتاب هذا "الكاتب"  ويقرأ النص الممتد من الصفحة رقم (253) إلى الصفحة رقم (266) بتمعّن ، وليتابع معنا ما سنورده من ملاحظات سنسعى قدر الإمكان أن تكون موجزة ومختصرة.

صبراً آل ياسر

 مما أشكل به العلامة المحقق على"البعض" تفسيره لمعنى قوله تعالى : (وأنا من الضالين ) بأن موسى (ع) لم يكن : " بصدد الإعتراف بالجهل بالنتائج السلبية لما فعله، فإنه حتى الغبي يدرك النتائج المترتبة على قتل إنسان ، فكيف إذا كان يعلم أن وراء هذا المقتول أمة بأسرها، بما فيها حاكمها المستكبر المدعي للربوبية"(529).

" قال فعلتها إذا أي حينئذٍ وأنا من الضالين . أي الجاهلين بالنتائج السلبية التي تترتب علي فيما أدّى إلى أكثر من مشكلة اعترضت حياتي وأبعدتني عن أهلي، وبلدي"(530). فكيف حاول "الكاتب" التملص من هذا الإشكال المحكم ؟!

ادعى أولا أن تفسير صاحبه لمعنى الضلال هو ما ذهب إليه "كل علماء التفسير منذ الشريف المرتضى وحتى العلامة الطباطبائي ومن جاء بعده من المفسرين المعاصرين"(531). ثم استعرض آراء كلا من الطباطبائي والشريف المرتضى، والطوسي والطبرسي، والمشهدي، وابن أبي جامع العاملي، وشبّر وأخيرا الشيخ مغنية   (532). وقال :

"وهذا القول منكم عجيب أيضا ، بعد أن رأينا إجماع المفسرين على أن موسى (ع) من الجاهلين بأنها [ أي الوكزة] تبلغ القتل على حد تعبير الطوسي والطبرسي، أو من الذاهبين على أن الوكزة تأتي على النفس، أو أن المدافعة تفضي إلى القتل على حد تعبير الشريف المرتضى"(534).

وكلام هؤلاء الأعلام  لا غبار عليه في أنهم يقصدون بالضلال هذا المعنى. ولكن هل هذا عين ما قصده " البعض " ؟

الجواب : لا، لأن كلامه صريح وواضح بأن موسى (ع) اعتبر نفسه أنه من "الجاهلين بالنتائج السلبية التي تترتب علي فيما ادى إلى أكثر من مشلكة اعترضت حياتي، وأبعدتني عن أهلي وبلدي"(535).

فهذا نص واضح تحدث فيه عن النتائج السلبية المترتبة على عملية القتل نفسها ، لا عن مقدار ما ينتج عن الوكزة هل هو جرح أو قتل أو لا جرح ولا قتل، وذلك بشهادة قوله " التي تترتب علي " ولو كان رأيه كرأي الأعلام لكان ينبغي عليه القول : :بالنتائج السلبية التي تترتب على الضرب أو الوكز !

وبذلك يظهر أن ما أشكله العلامة المحقق كان في محله، كما يظهر أيضا الفرق بين كلام " البعض "الذي فسّر الضلال بمعنى "الجهل" بالنتائج السلبية المترتبة على القتل ! وبين كلام أعلام التفسير الذين فسّروا الضلال بمعنى "الجهل" بكون الضربة ستؤدي إلى القتل.

ولأن نص "البعض "الذي ورد في الجزء 17 صفحة 108، واضح الدلالة والمعنى عمد "الكاتب" لإثبات مدعاه في تطابق كلام صاحبه مع كلام الأعلام فقفز فوق مئتين وثلاث صفحات (203 صفحات) (311)، لينقل عبارة لصاحبه من هناك وهي قوله : " من الجاهلين إن المدافعة تفضي إلى القتل على حد تعبير الشريف المرتضى، أو من أنه (ع) لم يكن من همه أن يدخل المعركة، بل كان كل همه أن يدافع عن الإسرائيلي ويخلصه من بين يدي القبطي ولم تكن النتيجة مقصودة له، ولكنه كان يفضل أن لا يحدث ما حدث" (536).

ولإحكام حبكته  أضاف ناقلا عن "البعض " قوله : "ولهذا شعر بالخطأ غير المقصود الذي كان لا يجب أن يؤدي إلى ما انتهى إليه، مما يجعله يعيش الألم الذاتي تجاه عملية القتل، لأنه لا يريد أن يبادر إلى القتل حتى ولو كان المقتول عدوا له" (537) . ثم أنهى "الكاتب" المشهد بقوله : " من هذا المنطلق ندرك أن موسى (ع) لم يقصد قتله ولم يتعمده، حتى يأتي ما قلتموه من إدراك الأغبياء للنتائج المترتبة على القتل"(538).

    قد يسأل سائل : ما المانع من القفز فوق هذا العدد من الصفحات ما دام ذلك يؤدي لمعرفة رأيه في معنى الضلال ؟

الجواب : لامانع من ذلك بشرط أن يكون كلامه بعدمئتي صفحة مفسرا لماذكره قبل ، لا أن يكون ناقضا ومناقضا له !

على أن كلامه بعد مئتي صفحة ليس واردا في شرح معنى الضلال كما زعم "الكاتب " !! فقد صرح " البعض "  في شرحه لمعنى الضلال بأنه الجهل "بالنتائج السلبية" المترتبة على القتل كما تقدم .

أما النص الذي أورده "الكاتب" فكان شرحا لمعنى قوله تعالى : (قال رب ظلمت نفسي فاغفر لي) وليس شرحا لمعنى "الضلال" أصلا.

ثم إن كلامه هذا لم يرد بصورة التقرير وإنما على الإستفهام ، ونصه الحرفي هو: "ولكن هل كان يشعر بالذنب لقتله القبطي باعتبار أن ذلك يمثل جريمة دينية في مستوى الخطيئة التي يطلب فيها المغفرة من الله أو أن المسألة هي أن يشعر بالخطأ غير المقصود والذي كان لا يجب أن يؤدي إلى ما انتهى إليه"(540). وبعد أن رجّح الإحتمال الثاني(541)،  شرع في تقديم مبررات هذا الترجيح التي منها : أنه (ع) : " لم يكن من همه أن يدخل في المعركة، بل كان كل همه أن يدافع عن الإسرائيلي، ويخلصه من بين يدي القبطي ولم تكن النتيجة مقصودة له ولكنه كان يفضّل أن لا يحدث ما حدث"(542).

وهذا هو النص الآخر الذي زجّه "الكاتب" على أنه تفسير لمعنى "الضلال" وهو في الواقع تفسير لمعنى ظلم النفس وطلب المغفرة !! فأين هذا من ذاك ؟!

وقد اعترف "الكاتب "بأن النص الذي استشهد به كان في شرح قوله تعالى (ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي) عندما قال : " ألم يصرح بأن تعبير موسى (ع) بقوله : (رب إني ظلمت نفسي) كان تعبيرا عن الحالة الشعورية أكثر مما كان تعبيرا عن حالة المسؤولية، وربما كان تعبيرا عن القلق من النتائج الواقعية السلبية" لأنه (ع) لا يجد أي ضرورة، أو أي مبرر للدخول في معركة مع الأقباط، ولهذا كان "يشعر بالخطأ غير المقصود الذي كان لا يجب أن يؤدي إلى ما انتهى إليه"(544) !!

عذر أقبح من ذنب

قال العلامة المحقق في إشكالاته على " البعض ": 

" ولا ندري كيف حكم هذا البعض على موسى (ع) أنه حين قتل القبطي كان ضالا لا يعرف قواعد الشريعة ؟!  مع أن هذا البعض قد فسر قوله تعالى : (لقد جئت شيئا نكرا ) في مسألة قتل الغلام مع العبد الصالح بحضور موسى بأن قتل النفس أمر ينكره العقل والشرع، الأمر الذي يبطل كلامه هنا" (546).

و زعم "الكاتب " أن العلامة المحقق بأنه لم يحط بكلام الآخر، ولم يدرك دلالاته، وأنه لو قرأ نصوص "السيد" جيدا لما سأل هذه الأسئلة(547) .

ثم أتى بالنص الذي يصرح فيه صاحبه بأن معنى الضلال هو الجهل " بالنتائج السلبية التي تترتب علي فيما أدى إلى أكثر من مشكلة"(548) وجعله نصا يؤيد لمزاعمه !

ثم دعمه بنص آخر يقول فيه : " فلم أفعلها في حال الرسالة لتكون تلك نقطة سوداء تسجلها علي في موقعي الرسالي، بل فعلتها قبل أن يلهمني الله الهدى المتحرك في خط الرسالة عندما كنت ضالا لم أحدد لنفسي الطريق الواضح المستقيم المنطلق من قواعد الشريعة المنزلة القائمة على التوازن فيما يصلح الإنسان أو يفسده" !!  (549). ولا شك أن القارئ قد التفت إلى ما يلي :

أ ـ أن مقتضى كلام "البعض "هو أن موسى (ع) قد أقر لفرعون بأنه لو قتل القبطي في حال الرسالة لكان نقطة سوداء في موقعه الرسالي !! كل ذلك مع أن العلماء أجمعوا بأن القتل كان غير مقصود، وأن القبطي كان مستحقا للقتل ! فكيف يكون نقطة سوداء في موقع موسى (ع) الرسالي؟!

ب ـ إن هذا النص صريح بأن " البعض "قد فسّر الضلال بمعنى الضلال عن معرفة قواعد الشريعة، وقد اعترف "الكاتب" بذلك، فكيف يوفق "الكاتب" بين ذلك وبين ما ادعاه من قبل بأن "السيد" يفسر معنى الضلال بأنه الجهل بكون الضربة ستؤدي إلى القتل؟!

ج ـ هل يريد "البعض" أن يقول لنا : إن موسى (ع) لو كان الله قد ألهمه من قبل "الهدى المتحرك في خط الرسالة" بحيث قد حدد لنفسه الطريق الواضح المستقيم المنطلق من قواعد الشريعة المنزلة لم يكن لينصر من هو من شيعته على الذي هو من عدوّه ؟! فهل "هدى الرسالة"و "قواعد الشريعة" تمنعه من مساعدة أنصاره وشيعته ونصرة المظلوم على الظالم؟!! وهل نصرة المظلوم تحتاج إلى معرفة تفصيلية لقواعد الشريعة ؟! 

إنه عذر أقبح من ذنبه !

النبوة والبعثة

أشكل العلامة المحقق على قول " البعض "في تفسيره لمعنى الضلال بأنه : "كان ضالا لا يعرف قواعد الشريعة" بأنه  "من أين عرف أن موسى (ع) لم يكن نبيا من أول أمره؟!"(550).

وقد أجاب "الكاتب" على هذا الإشكال بقول عجيب فقال : يكفي في الإجابة عنه أدنى تدبر لقصة موسى (ع) حيث يتبين بجلاء أن بعثة موسى (ع) قد جاءت بعد حادثة القتل بعشر سنين، حينما رجع إلى مصر، وهو في الطريق ( فلما قضى موسى من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) (551).

وهذا يعني أن "الكاتب " لا يفرق بين النبوة والبعثة، وأنه لا تلازم بينهما ، فيمكن أن يكون نبيا قبل أن يبعثه الله رسولا بسنوات كثيرة، بل يمكن أن يكون نبيا منذ ولادته كنبينا محمد (ص) الذي بعث رسولا في الأربعين، كما بعث موسى (ع) رسولا حينما عاد من مصر .. وقد قال العلامة الطباطبائي (قده) في تفسيره لقوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) " فكان نبيا وكان يصلي، ولما ينزل عليه قرآن، ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد، ولما يؤمر بالتبليغ"(553).

وقد يشكل "الكاتب" على هذا الكلام بالرواية التي نقلها عن أمير المؤمنين (ع) وأنها تذكر النبوة لا البعثة : " إن موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا، فكلمه الله عز وجل فرجع نبيا " (555).

وجوابه :

أ ـ أن الكثير من الروايات تتحدث عن البعثة لا النبوة فلتراجع في مظانّها.

ب ـ أن سبق النبوة على البعثة أمر معروف في الأنبياء، بل إن عيسى (ع) كان نبيا منذ ولادته : (آتاني الكتاب وجعلني نبيا) .

وقال رسول الله (ص) : "كنت نبيا وآدم بين الطين والماء".

وقال أمير المؤمنين (ع) أيضا :"كنت وليا وإماما وآدم بين الطين والماء" وغير ذلك كثير.

ج ـ نقول : إن حل ما يظهر من تعارض بين الروايات التي تحدثت عن النبوة، كالرواية التي ذكرها "الكاتب" وبين الروايات التي تحدثت عن البعثة أو الرسالة هو : أن مقصود الأئمة (ع) عندما يتحدثون عن النبوة إظهار النبوة ودعوة الناس ، كما في قولهم عن نبينا (ص): أنه تنبأ وعمره أربعون سنة، مع أنه قد بعث رسولا في الأربعين ، وهذا هو المقصود في قول أمير المؤمنين عن موسى (ع) : " فكلمه الله عز وجل، فرجع نبيا" أنه رجع رسولاً وأظهر نبوته للناس .

استعمال العنف .. للتستير على التزوير

عنف "الكاتب " العلامة المحقق فقال له : " لست أدري لماذا تصل أسألتكم الإستنكارية التعجبية إلى هذا المستوى الذي لا يصدق، وهي إن دلت على شئ، فإنما تدل وبوضوح على أنكم  لحد الآن لم تتدبروا كلام الآخر وإلا لما خطرت تلك الأسئلة التعجبية على ذهنكم الشريف" (556) !!!.

أما سبب هذا التعنيف فهو برأيه : "لأن ( السيد) أكد مرارا وتكرارا أن موسى (ع) لم يفعل حراما وأنه "لم يكن متعمدا" و " لم يكن من همه أن يدخل في المعركة، بل كان كل همه أن يدافع عن الإسرائيلي، ويخلصه من بين يدي القبطي" وإن كان هذا القبطي "يستحق القتل"(557).

فليلاحظ القارئ العبارات التي وضعها "الكاتب" بين مزدوجين والتي جعلها  نصا حرفيا واحدا لصاحبه وهي : " لم يفعل حراما". " لم يكن متعمدا". " لم يكن من همه أن يدخل في المعركة ..الى قوله . ويخلصه من بين يدي القبطي". ـ " يستحق القتل"!!

لقد ارتكب "الكاتب " عن عمد وبطريقة مذهلة حقا تحريفا سافرا وتضليلا ظاهرا !!

فعبارة "يستحق القتل" هي لصاحبه ، لكن العبارة التي دسّها "الكاتب" قبلها أي "وإن كان هذا القبطي" هي من تلك تزويرات "الكاتب" لربط تلك النصوص الحرفية ببعضها لجعل العبارة، كالتالي : "وإن كان هذا القبطي يستحق القتل"!  وهنا الجريمة النكراء، حيث أوهم القارئ بأن صاحبه "السيد" يجزم بأن القبطي كان مستحقا للقتل!! بينما نراه تردد بالجزم باستحقاق القبطي للقتل بكلمة : "ربما" مما يعني احتمال أن يكون غير مستحق للقتل !!

 وهذا نص صاحبه الأصلي : " لا لأنه فعل حراما، فلم يكن متعمدا للمسألة، وربما كان هذا الشخص يستحق القتل"(558) .

فحول "الكاتب عبارة صاحبه  "ربما كان هذا الشخص يستحق القتل" إلى عبارة  "كان هذا القبطي يستحق القتل" !!

وبذلك يتضح أن استعمال "الكاتب" لعبارات العنف بحق العلامة المحقق كانت من أجل ستر ما مارسه من تحريف وتزوير !! ليخلص منها الى نتيجة يحبها هي أن إشكالات صاحب كتاب "خلفيات" بمثابة السالبة بانتفاء الموضوع " (559). 

ولكن هل ينجح التزوير ؟!

هوامش الفصل السابع

(503) سورة الشعراء / الآية 18 و 22

(504) سورة القصص آية 15 و 19.

(505) خلفيات ج 1 ص 103.

(506) من وحي القرآن ج 17 ص 310.

(507) من وحي القرآن ج 19 ص 301 و 302.

(508) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 242 و 243.

(509) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 242.

(515) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 243 و 244.

(516) من وحي القرآن ج 17 ص 313.

(517) من وحي القرآن ج 19 ص 302.

(518) من وحي القرآن ج 17 ص 309.

(519) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 248.

(520) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 248

(521) من وحي القرآن ج 19 ص 300 .

(523) من وحي القرآن ج 19 ص 301.

(525) من وحي القرآن ج 19 ص 301 و 302.

(526) من وحي القرآن ج 19 ص 302.

(527) من وحي القرآن : 19/261، وراجع الميزان : 17/209 و 210.

(528) من وحي القرآن ج 19 ص 300.

(529) خلفيات : 2/ 68 وراجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 257.

(530) من وحي القرآن ج 17 ص 108.

(531) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 253.

(532) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 253 و 256.

(534) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 257 و 258.

(535) من وحي القرآن ج 17 ص 108.

(536) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 258 نقلا عن " من وحي القرآن " : 17/311.

(537) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 258 نقلا عن " من وحي القرآن " : 17/310.

(538) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 258.

(541) تقدم الحديث عن هذا النص وإشكال العلامة المحقق عليه من كون هذا الترجيح يبقي من احتمال كونه (ع) قد ارتكب جريمة دينية احتمالا مرجوحا.

(542) من وحي القرآن ج 17 ص 310 و 311.

(544) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 267.

(546) خلفيات : 2/68 ، وراجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 259.

(547) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 259.

(548) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 259.

(549) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 259 ، وراجع من وحي القرآن : 17/108.

(550) خلفيات ج 2 ص 69.

(551) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 264 و 265.

(553) الميزان ج 2 ص 21.

(555) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 265.

(556) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 266.

(557) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 266.

(558) من وحي القرآن ج 17 ص 109.

(559) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 266.

 

 

 

الفصل الثامن نوح عليه السلام

 

 

 

خلاصة الانتقادات

1 ـ أنكر "الكاتب" لمقولة : "الله يؤنب ويوبخ نبيّه" ، التي قالها  "البعض" واعتبرها أسلوبا من أساليب التربية الإلهية لأنبيائه .

2 ـ ادعى "الكاتب" أن ما تبناه العلامة المحقق هو عين ما تبناه "البعض " بحذافيره ! وقد بينا أن الفرق بين الرأيين شاسع ،  وأن ما تبناه "البعض "مخالف لرأي أعلام التفسير الشيعة.

3 ـ أخفى "الكاتب" الرأي الحقيقي للعلامة الطباطبائي فقفز فوق عباراته، ونصوصه بهدف التعمية على القارىء، وادعى أنه يرى أن ابن نوح(ع) كان يخفي كفره على أبيه.

4 ـ وفعل "الكاتب" برأي الطباطبائي(قده) ما فعله برأي صاحب "الصافي".

5 ـ قام "الكاتب" بالتلاعب برأي الشيخ الطوسي(قده) فحول قوله(قده): "إنه أي نوحد ع دعا ولده إلى الركوب بشرط أن يؤمن"  الىأنه : "كان عارفا بكفر ابنه وهو يأمل إيمانه". وكذلك قوله(قده): "كان ينافق بإظهار الإيمان" حوله الى: "يظن بإيمانه ولم يثبت لديه كفره".

6 ـ تجاهل "الكاتب" ما ذكره الشريف المرتضى(قده) حول أن نوح(ع) لم يكن يعلم بكفر ولده.

7 ـ كشفنا عن رأي "البعض" الذي لم يسبقه إليه أحد وهو اعتباره أن نوحا(ع) طلب من ربه أن يقرب أهله إليه تعالى لمجرد قربهم منه (ع).

الآيات القرآنية في الموضوع

( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ) . ( ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين . قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين . قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ). سورة هود - آية 40 وآية47

ما قاله "البعض"

"26 ـ الله يؤنب ويوبخ نبيّه.

27 - نوح لم يلتفت إلى ( إلا من سبق عليه القول ).

28 ـ كلمة (من سبق عليه القول) لم تكن واضحة"(560).

نص أقواله

 " كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضعف أمام عاطفة البنوّة، ليقف بين يدي الله ليطلب فيه إنقاذ ولده الكافر، من بين كل الكافرين؟! وكيف يخاطبه الله بكل هذا الأسلوب الذي يقطر بالتوبيخ والتأنيب؟ ويتراجع نوح، ليستغفر، ويطلب الرحمة لئلا يكون من الخاسرين.

ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك أن المسألةليست مسألة عاطفة تتمرد، ولكنها عاطفة تتأمل وتتساءل، فربما كان نوح يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل. وربما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل لأنه من أهله ولم يلتفت إلى كلمة )إلا من سبق عليه القول( لأنها لم تكن واضحة"(561).

"والحسرة تأكل قلبه على ولده إن الله وعده أن ينقذ أهله. ولم ينتبه إلى كلمة: ( إلا من سبق عليه القول) فأقبل إلى ربه بالنداء"(562).

لقد بات "منهج" هذا "الكاتب" واضحا وجليا، لاسيما في تعاطيه مع مقولات " البعض "التي يعترف بصدورها عنه وبنسبتها إليه، إلا أنه يتكلف لها التأويل، بتحميلها ما لا تحمله ولا تتحمله ولا تحتمله، وإن لم يمكنه ذلك اختلق لصاحبها مؤيدين وأنصارا والتمس له مبررات وأعذارا وذلك حين يمعن، وبلا تردد، في تقطيع وتمزيق كلام العلماء الأعلام، لينتصر بذلك لمقولات " البعض "، التي لا ينكر أحد من أهل العلم والانصاف مخالفتها للمذهب الحق، ثم هو بعد، وقبل، ومع ذلك لا يفتأ يحمل على كتاب "خلفيات" ويتحامل على مؤلفه، لا لشيء إلا لأنه تعرض لتلك المقولات بالنقد، وبيّن بطلانها. وقد تمادى هذا "الكاتب" في ذلك إلى أبعد الحدود، وتجاوز في منهجه كل الموانع والسدود

لذا، لا نرى حاجة لتذكير القارىء الكريم بأننا لم نعد نجد ثمة ضرورة لمتابعة هذا الكم الكبير، والحجم الهائل من التحريف والتزوير والتضليل الذي يمارسه هذا "الكاتب" بدم بارد إلا أننا نجد أنفسنا مضطرين للتصدي حين يتعلق الأمر بالمفاصل الأساسية والحساسة، فنبادر إلى الإشارة أو الإلماح إلى بعض مفردات هذه الممارسة، ونعرض عن أخرى تاركين للقارىء الذي بات، بلا شك، ممن تغنيه الكناية عن التصريح ولا يحتاج مع الإشارة إلى توضيح قادرا على اكتشافها بنفسه ـ تاركين له ـ تتبعها، لا سيما بعد أن تعرف عن كثب على مفردات هذا "المنهج" من خلال اطلاعه على فصوله السابقة الغنية بالشواهد والأدلة والبراهين الجلية على ما ندّعيه وفي هذا الفصل المزيد، والجديد، فإلى ما هنالك:

مقولة التوبيخ: نسبة مؤكدة

من المقولات الخطيرة التي اشار إليها العلامة المحقق هي: "أن الله يؤنب ويوبخ نبيّه"(563).

وكما هو ديدنه عمد "الكاتب" إلى إنكار نسبة هذه المقولة إلى "السيد" وزعم أنه لم يقلها" ولم يتبناها [يتبنّها] على الإطلاق، بل جاءت في كتاب من وحي القرآن على لسان المتسائل والمستفهم لما يراه من منافاة بين ظاهر الآيات وعصمة الأنبياء".

ثم اتهم "الكاتب" العلامة المحقق بأنه اقتطعها من السياق ونقلها مبتورة، زاعما أن الأخير " قد أجاب عن الإشكال بأروع جواب" متهما العلامة المحقق بأنه قد مارس "عملية البتر في الجواب أيضا"(564).

ولا بد من كشف النقاب عن حقيقة هذه المسألة؛ فنقول:

1 ـ إن السطر ونصف السطر التي ذكر "الكاتب" بأن العلامة المحقق قد حذفها، لم تخل بالنص أبدا إذ لم تحول النص إلى تقرير وإثبات بعد أن كان سؤالا واستفهاما والنص الحرفي الذي ورد في "خلفيات" هو:

"كيف يمكن له [ أي لنوح(ع)] أن يعيش لحظة الضعف أمام عاطفة النبوة، ليقف بين يدي الله، ليطلب منه إنقاذ ولده الكافر من بين كل الكافرين؟! وكيف يخاطبه الله بكل هذا الأسلوب الذي يقطر بالتوبيخ والتأنيب؟

ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك:."(566).

ومن الواضح لكل أحد أن العلامة المحقق لم يغير في طبيعة النص إذ أن صيغة التساؤل لا تزال واضحة في النص، ولم يقل العلامة المحقق بأن الاستفهام في هو تقرير .

هذا فضلا عن أن العلامة المحقق قد ذكر إجابة "البعض" على هذا التساؤل وهو عبارة: "ويمكن لنا أن نجيب على ذلك" وعليه فلا حذف مخل في البين. ولكن "الكاتب"، استغل اختصار النص وتمسك به ليموّه على إجابة "البعض " وبالتالي لينكر نسبة هذه المقولة إليه !

2 - إن مقولة التأنيب والتوبيخ، وإن ذكرها " البعض "كسؤال على لسان المتسائل، لكنه لم ينفها في إجابته كما زعم "الكاتب"، بل على العكس تماما، فهو قد أكدها وإن حاول توجيهها في إجابته على سؤال المتسائل !

فبعد أن اعتبر أن الرد الإلهي كان: "منسجما مع ما أراده الله له [أي لنوح(ع)] من العصمة كأسلوب من أساليب التربية التي يربّي الله بها أنبياءه ليمنع عنهم الانحراف العاطفي"

أكد مقولة التوبيخ والتأنيب حيث اعتبر أن هذه الشدة في الخطاب الرباني إلى نوح(ع): "لوناً من الوان التأكيد على ذلك"(567).

فليخبرنا "الكاتب" بعدما مرّ هل هذا الكلام تأكيد لمقولة "التوبيخ والتأنيب" أم نفي لها؟! وأين جواب "البعض " الذي قال عنه  "الكاتب" : "قد أجاب عن الإشكال بأروع جواب" ؟!!!

مخالفة إجماع المفسرين !

ذكر العلامة المحقق في وقفته القصيرة التي سجلها على مقولات "البعض" أنه: " ليس ثمة دليل ملموس يدل على أن نوحا صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بكفر ولده، فلعله كان قد أخفى كفره عن أبيه، فكان من الطبيعي أن يتوقع عليه السلام نجاة ذلك الولد الذي كان مؤمنا في ظاهر الأمر، وذلك لأنه مشمول بالوعد الإلهي، فكان أن سأل الله سبحانه أن يهديه للحق، ويعرفه واقع الأمور، فأعلمه الله سبحانه بأن ولده لم يكن من أهله المؤمنين، وأنه من مصاديق ( إلا من سبق عليه القول) فتقبل نوح ذلك بروح راضية"(568).

 فعلّق الكاتب على ذلك بالقول: " وكم أصابتني الدهشة، وأخذني العجب والاستغراب، حينما وجدت أنكم في الوقت الذي ترفضون فيه كلام " البعض " وتعتبرونه جريئا تعودون أخيرا إلى تبنّي نفس هذا الرأي بحذافيره"(569). ويعقب قائلا: " أسألكم سماحة السيد : ما هو الفرق بين قولكم هذا وقول (السيد) الآنف الذكر ؟! أوَلا يدل قولكم هذا على عدم وضوح ( إلا من سبق عليه القول ) لدى نوح(ع)، ولذلك أعلمه الله سبحانه بأن ولده لم يكن من أهله المؤمنين، وأنه من مصاديق ( من سبق عليه القول) . إذن لم تكن مصاديق (من سبق عليه القول ) واضحة مشخصة لدى نوح(ع)، وكان يتوقع أن ابنه خارج عنهم في الوقت الذي كان متيقنا بأن زوجته مصداق لذلك "     (570)

ثم قال "الكاتب" : " إذا راجعنا تفسير "السيد" في كتابه (من وحي القرآن 12/78) و(الحوار في القرآن /230) نجد أن ما يقوله واضح وبيّن من أنه يعني بعدم وضوح (إلا من سبق عليه القول) أنه(ع) لم تتضح لديه دائرة الاستثناء ومصاديقها"(571).

ثم أخذ "الكاتب" يستعرض آراء المفسرين زاعما أنهم يقولون بما يقول به صاحبه !!

ونحن أمام هذه الجرأة في التضليل، والمهارة في التحريف لا بد أن نقف عند هذه النقاط :

أولاً: إجماع المفسرين :

عمد "الكاتب " الى استعراض آراء بعضهم عابثا بنصوصهم مقطعا أوصال عباراتهم، ممارسا هوايته المعهودة في حذف العبارات الشاهدة عليه !

الميزان: نوح(ع) يرى أن ابنه مؤمن:

كان تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي أول الضحايا التي وقعت بين براثن  "الكاتب" حيث نقل عنه قوله(قده): " فهل المراد بالذين ظلموا الكافرون بالدعوة أو يشمل كل ظلم، أو هو مبهم، مجمل يحتاج إلى تفسير من لدن قائله؟ فكأن هذه الأمور قد رابته (ع) في أمر ابنه"(572).

وأضاف "الكاتب" ناقلا قول صاحب (الميزان): "ولذلك لم يجترىء(ع) على مسألة قاطعة، بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعا على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الرب لأنه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل. ثم قال: ( إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ) كأنه يقول: وهذا يقضي بنجاة ابني ( وأنت أحكم الحاكمين ) لا خطأ في أمرك، ولا مغمض في كلمتك، فما أدري إلى ما انجر أمره"(573).

وتابع "الكاتب" نقل كلام الطباطبائي (قده):

" فأدركته العصمة الإلهية وقطعت عليه الكلام، وفسر الله سبحانه له معنى قوله في الوعد (وأهلك) أن المراد به الأهل الصالحون وليس الابن بصالح، وقد قال تعالى من قبل ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) وقد أخذ نوح(ع) بظاهر الأهل وأن المستثنى منهم هو امرأته الكافرة فقط"(574).

وبعد أن نقل "الكاتب" هذه النصوص من تفسير الميزان (ج6 ص266) عمد إلى نقل نص آخر من جزء آخر هو (ج10 ص233) حيث يقول:

" وفي موضع آخر في الميزان يقول الطباطبائي: " وكانت الجملتان - إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق- ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنه(ع) لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدبا في مقام العبودية فلا حكم إلا لله"(575). هذا كل ما نقله "الكاتب" من تفسير الميزان ووضعه تحت عنوان: " تفسير الميزان: غموض (وأهلك )"(576). وهنا عمد "الكاتب " الى تقطيع أوصال كلام الطباطبائي (قده) وحذف ما طاب له منه ليثبت رأي صاحبه !

لقد قام "الكاتب" بالقفز فوق النص التالي للعلامة الطباطبائي الذي يقول فيه: " لا ريب أن الظاهر من قول نوح(ع) أنه كان يريد الدعاء لابنه بالنجاة ، غير أن التدبر في آيات القصة يكشف الغطاء عن حقيقة الأمر بنحو آخر. فمن جانب, أمره الله بركوب السفينة هو وأهله والمؤمنون بقوله: ( واحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن)  هود: 40 فوعده بإنجاء أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول، وقد كانت امرأته كافرة كما ذكرها الله في قوله تعالى: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) [التحريم: 10] . وأما ابنه فلم يظهر منه كفر بدعوة نوح، والذي ذكره الله من أمره مع أبيه وهو في معزل إنما هو معصية بمخالفة أمره(ع) وليس بالكفر الصريح, فمن الجائز أن يظن في حقه أنه من الناجين لظهور كونه من أبنائه وليس من الكافرين فيشمله الوعد الإلهي بالنجاة ومن جانب قد أوحى الله تعالى إلى نوح(ع) حكمه المحتوم في أمر الناس كما قال: (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من من قد آمن ) "(577). ثم قال(قده) ما ذكره "الكاتب" الى قوله: " فكأن هذه الأمور رابته(ع) في أمر ابنه".

وقد تعمد "الكاتب" أن يقفز فوق قوله(قده): "ولم يكن نوح(ع) بالذي يغفل من مقام ربه وهو أحد الخمسة أولي العزم سادات الأنبياء، ولم يكن لينسى وحي ربه ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون)  ولا ليرضى بنجاة ابنه، ولو كان كافرا ماحضا في كفره، وهو(ع) القائل فيما دعا على قومه: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ولو رضي في ابنه بذلك رضي بمثله في امرأته"(578).

ثم قال(قده): ما نقله الكاتب عنه : أعني قوله: " ولذلك لم يجترىء(ع) على مسألة قاطعة.. إلى قوله: امرأته الكافرة فقط" ولم يكمل نص الطباطبائي(قده) الذي يقول فيه: " فاستعاذ إلى ربه مما كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه وهو سؤال نجاة ابنه ولا علم له بحقيقة حاله"(579).

إذن رأي العلامة الطباطبائي، ليس كما أظهره "الكاتب" فإن قوله: (وأهلك) ليس فيها غموض، بل هي واضحة لديه(ع) بأنها لا تشمل الكافرين، ولذلك علم بخروج امرأته من الوعد. وإنما الأمر، بالنسبة للعلامة الطباطبائي(قده) أن نوحا(ع) كان يظن أن ابنه من الناجين بسبب عدم ظهور كفره بدعوته ، ولو كان نوح(ع) يعلم بكفره، فلا يمكن لنوح(ع) على حد تعبير الطباطبائي أن يرضى "بنجاة ابنه ولو رضي في ابنه بذلك لرضي بمثله في امرأته"، لأن نوحا(ع) لم يكن " لينسى وحي ربه: ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) . وهذا الأمر يؤكد عليه العلامة الطباطبائي في موضع آخر من تفسيره (ج10 ص232 و233) .

وهذا هو الموضع الذي أخذ منه "الكاتب" نصا لكنه أيضاً قفز فوق النصوص متجاهلا تأكيدات صاحب (الميزان) لما تقدم (ج6) وها هو الطباطبائي(قده) يقول: " قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك هو الحق وأنت أحكم الحاكمين) دعاء نوح(ع) لابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة وقد كان آخر عهده به يوم ركب السفينة، فوجده في معزل، فناداه، وأمره بركوب السفينة، فلم يأتمر، ثم حال الموج بينهما، فوجد نوح(ع) وهو يرى أنه مؤمن بالله من أهله وقد وعده الله بإنجاء أهله"(580).

ولم تمض إلاّ سطور قليلة ، حتى كرّر الطباطبائي قدس سره كلامه  قائلا: " وكان أهله ـ غير امرأته ـ حتى ابنه هذا مؤمنين به ظاهرا، ولو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوح(ع) مؤمنا، لم يدعه البتة إلى ركوب السفينة، فهو(ع) الداعي على الكافرين، السائل هلاكهم بقوله( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) فقد كان يرى ابنه هذا مؤمنا، ولم تكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بالركوب في السفينة كفرا أو مؤديا إلى الكفر، وإنما هي معصية دون الكفر"(581).

فلماذا هذا الإمعان من "الكاتب" بالحذف والتقطيع للنصوص، والقفز فوق السطور والصفحات ؟!!

تفسير الصافي: إنه ليس على دينك :

وما فعله "الكاتب" بنص الطباطبائي(قده) كرره في نص تفسير الصافي. فقد نقل عنه قوله: " (يا نوح إنه ليس من أهلك ) الذين وعدتك بنجاتهم (فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ما لا تعلم اصواب هو أم لا حتى تعرف كنهه"

(582).

وقد وضع "الكاتب" نقاطاً بعد كلمة: "بنجاتهم" ! وحذف ماقاله الصافي  وهو : " الذين وعدتك بنجاتهم، لأنه ليس على دينك"(583).

إذن، ووفق رأي صاحب تفسير "الصافي"، لم يكن نوح(ع) يعلم بحقيقة كفر ولده، وهو يطابق ما ذكره العلامة الطباطبائي(قده).

فلماذا تعمد "الكاتب" إخفاء هذا الأمر؟!

الشيخ الطوسي(قده) : بشرط الإيمان ، أو منافق :

وتحريف آخر مارسه "الكاتب" بحق رأي الشيخ الطوسي(قده). فقد لخص "الكاتب" رأي الشيخ الطوسي(قده) بأنه: يسأل ربه نجاة ابنه لأنه " إما كان عارفا بكفر ابنه وهو يأمل إيمانه أو كان يظن بإيمانه ولم يثبت لديه كفره"

(584). وعبارته "وهو يأمل إيمانه" لا تخلو من تحريف، و"الكاتب" عمد إلى استعارة عين عبارة صاحبه لغاية لا تخفى.

والحق أن صاحب التبيان قال في معرض جوابه على سؤال حول كيف دعا نوح ابنه إلى الركوب معه مع أن الله نهاه أن يركب فيها كافرا، فأجاب: " فيه جوابان: أحدهما: أنه دعاه إلى الركوب بشرط أن يؤمن، الثاني قال الحسن والجبائي: إنه كان ينافق بإظهار الإيمان "(585).

فقام "الكاتب" بتحويل عبارة "بشرط أن يؤمن" إلى عبارة "يأمل إيمانه"!!

كما أنه قد حرف القول الآخر للحسن والجبائي ! فقد قالا: " إنه كان ينافق بإظهار الإيمان". فحوله الكاتب إلى: " كان يظن بإيمانه ولم يثبت لديه كفره"!!

مجمع البيان: إنه ليس على دينك :

اعترف "الكاتب" بأن الطبرسي اعتبر أن أحد الآراء المعتمدة هي: "إنه ليس على دينك"(586).

العلامة الشيرازي: نفاق الابن :

كما اعترف "الكاتب" أن صاحب تفسير (الأمثل) ممن يقولون بأن نوحا(ع) لم يكن يعلم بكفر ولده الذي كان "يوحي بأنه مؤمن"(587).

الشريف المرتضى : كان الابن كافراً  :

وما اعتمده المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء هو ما اتبعه عليه الطوسي والطبرسي(قده) من أنه: "إما نفي لكونه من أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم، وإما لأنه لم يكن يعلم بكفره"(588).

وقد عمد "الكاتب" إلى تجاهل الرأي الثاني عند الشريف المرتضى !!

فأين مانسبه "الكاتب" لهؤلاء الأعلام الثلاثة من أنهم يقولون بغموض دائرة الاستثناء عند نوح ؟!.

فما لاشك فيه أن عدم سؤال نوح(ع) نجاة امرأته إنما هو لمعرفته بخروجها عن هذه دائرة (وأهلك) لكفرها ، فكيف يظن بقاء ولده ضمنها مع علمه بكفره.

والمحصل: أنه لا محيص عن القول بأن نوحا(ع) لم يكن يعلم بكفر ولده. وأن من التحكم القول بأ نوحا(ع) قد فهم أن المراد من الاستثناء (إلا من سبق عليه القول) خصوص زوجته !

الشيخ السبحاني: كان الابن متظاهرا بالإيمان مبطناً للكفر :

ولسماحة العلامة الشيخ جعفر السبحاني في كتابه القيم (عصمة الأنبياء في القرآن الكريم) مناقشة لطيفة لهذه القضية نوردها لأهميتها محاولين قدر الإمكان الإيجاز. يقول حفظه الله: " إنه سبحانه قد وعد نوحا بإنجاء أهله إلا من سبق عليه القول. ومن جانب آخر يجب أن نقف على حالة ابن نوح(ع) وأنه إما أن يكون متظاهرا بالكفر، وكان أبوه(ع) واقفا على ذلك، وإما أن يكون متظاهرا بالإيمان مبطنا للكفر، وكان أبوه(ع) يتصور أنه من المؤمنين به....الى أن قال " وأما الفرض الثاني: فالظاهر أنه الحق وحاصله أن الابن كان متظاهرا بالإيمان مبطنا للكفر". ثم ذكر الشيخ السبحاني ما يدعم هذا الرأي(590).

"السيد" فضل الله ومخالفة الإجماع

أما الآن فقد حان الوقت للإجابة على سؤال : ما هو السبب الذي يقف وراء قيام "الكاتب" بالقفز فوق بعض النصوص، وحذف بعض العبارات، وتحريف بعضها الآخر؟!

السبب : أن صاحبه "السيد" صرح بما لا يقبل الجدل، بأن نوحا(ع) طلب إنقاذ ولده لأنه: "لم يلتفت إلى كلمة: ( إلا من سبق عليه القول ) لأنها لم تكن واضحة" !! وهذا مما لم يسبقه إليه أحد، وقد مر أنه حتى من اعتبر أن أحد الوجوه المعتمدة في تفسير الآية أن ابن نوح لم يكن مشمولا بالوعد فإنه قد قال ذلك على اعتبار أنه ناشىء عن إبهام الوعد نفسه مع كمال التفات نوح إلى جميع ما خاطبه الله به لا أنه(ع) لم يلتفت إلى قوله تعالى (إلا من سبق عليه القول )!!

أضف إلى ذلك أن "فضل الله " لم يحتمل حتى أن يكون ابن نوح(ع) يظهر الإيمان ويبطن الكفر، بل قطع بأن نوحا(ع) كان عالما بكفر ولده، وأنه إنما طلب إنقاذه دون غيره مع علمه بكفره، لأنه ربما كان يأمل أن يهديه الله في المستقبل. بل اعتبر هذا الرأي هو الأظهر، وغيره باطل ولا دليل عليه!! 

أضف إلى ذلك أن أحدا لم يسبقه الى القول بأن الله قد وبخ وأنب نبيّه، وأن هذه الشدة في الخطاب الرباني كان أسلوبا من أساليب التربية الإلهية لأنبيائه.

على أن ثمة مقولة جريئة "جدا" لم يشر إليها العلامة المحقق ولا ندريمن أين استظهرها صاحب (الوحي) حيث قال: " (إنه عمل غير صالح ) أما أهلك فهم الصالحون ولا يمكن أن تطلب مني أن أقربهم إلي لقربهم منك"(591).

فهل طلب نوح(ع) بالفعل من ربه أن يقرب أهله إليه لمجرد قربهم منه(ع)؟!!! إنها لمقولة جريئة بالفعل لم يسبقه إليها أحد لا من الأولين ولا من الآخرين كما يحلو "للكاتب" التعبير دائما.

عود على بدء

وبذلك اتضح لك مدى تزوير "الكاتب" عندما اعتبر أن ما قاله العلامة المحقق وقد تقدم وهو موافق لآراء من تقدم من العلماء .. اعتبره نفس رأي " البعض "بحذافيره على حد تعبيره !!

أليس من التزوير أن يجعل "الكاتب " من يقول بأن نوحا(ع) كان لا يعلم بكفر ولده الذي أبطن الكفر، هو نفس رأي من يقول بأن نوحا(ع) كان يعلم بكفر ولده ، ومع ذلك طلب نجاته !! بل وجعله نفسه "بحذافيره" !!

العجائب والغرائب

قال" الكاتب " : " لا غرابة في المقولة الثانية والثالثة على الإطلاق بل أنتم أنفسكم قد ذهبتم إليها اضطرارا في نفس كتاب " خلفيات "، وفي نفس الصفحة التي تعترضون فيها على "السيد" وهذا من العجائب والغرائب في عالم النقد"

(593). 

والحق يقال: لا ينبغي أن نتعجب من تعجب "الكاتب" حتى إذا كذب في تعجبه !!!

هوامش الفصل الثامن

(560) خلفيات ج1 ص64.

(561) خلفيات : 1/64 - 65 نقلا عن من وحي القرآن : 12/79 و80.

(562) خلفيات ج1 ص65 نقلا عن الحوار في القرآن ص230.

(563) خلفيات ج1 ص64.

(564) مراجعات في عصمة الأنبياء ص271 و272.

(566) مراجعات في عصمة الأنبياء ص272 وراجع خلفيات ج1 ص64 وقد تقدم النص الذي ذكره العلامة المحقق كاملا في بداية هذا الفصل تحت عنوان: النصوص المشكلة.

(567) من وحي القرآن ج12 ص80.

(568) خلفيات ج1 ص65 و66.

(569) مراجعات في عصمة الأنبياء ص274.

(570) مراجعات في عصمة الأنبياء ص274 و275.

(571) مراجعات في عصمة الأنبياء ص275.

(572) مراجعات في عصمة الأنبياء ص275 وراجع الميزان ج6 ص266.

(573) مرجعات في عصمة الأنبياء ص276 وراجع الميزان ج6 ص266.

(574) مراجعات في عصمة الأنبياء ص276 وراجع الميزان ج26 ص266.

(575) مراجعات في عصمة الأنبياء ص276 وراجع الميزان ج10 ص233.

(576) مراجعات في عصمة الأنبياء ص275.

(577) الميزان ج6 ص265 و266.

(578) الميزان ج6 ص266.

(579) الميزان ج6 ص267.

(580) الميزان ج10 ص232.

(581) الميزان ج10 ص233.

(582) مراجعات في عصمة الأنبياء ص277.

(583) الصافي ج2 ص450.

(584) مراجعات في عصمة الأنبياء ص278.

(585) التبيان ج5 ص49.

(586) مراجعات في عصمة الأنبياء ص278.

(587) مراجعات في عصمة الأنبياء ص278.

(588) تنزيه الأنبياء ص35 و36.

(590) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم ص115 - 117.

(591) من وحي القرآن ج12 ص77.

(593) مراجعات في عصمة الأنبياء ص280.

 

 

الفصل التاسع النبي داوود عليه السلام

 

 

 

خلاصة الانتقادات

1ـ اتهم "الكاتب" العلامة المحقق بأنه حرّف كلام الطباطبائي المتعلق بقوله : "فلا توجد خطيئة" والحق أن "الكاتب" هو الذي حرّف وحذف تتمة كلام العلامة المحقق الذي كان ينقل معنى كلام الطباطبائي .

 2ـ ارتكب "الكاتب" الكذب الصريح عندما أنكر وجود جملة في تفسير الميزان وهي : "ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء" واتهم العلامة المحقق بأنه أضافها على النص. والحق أن العبارة موجودة في تفسير الميزان !!

3ـ ادعى "الكاتب "بأن مقولة (الحكم قبل أن يسأل الخصم) يقول بها أعلام الشيعة! وهو افتراء منه حيث أوردنا كلام المرتضى (قده) والطبرسي (قده) اللذين اعتبرا أن من يقول ذلك إنما هو من غير الإمامية ممن يجوزون الصغائر على الأنبياء !!

4ـ دلس "الكاتب "في رأي "البعض" وادعى أنه رجح الإتجاه القائل بأن ما جرى كان في عالم التمثل.

5ـ ادعى "الكاتب " زورا، عدم وجود فرق بين قول الطباطبائي (قده) : "تهييج الرحمة والعطوفة" وبين قول" البعض " "الإستسلام للمشاعر العاطفية" مع وضوح أن الأول وصف لفعل أحد المتخاصمين والثاني وصف لداود (ع).

6 ـ ارتكب "الكاتب "التضليل والتدليس حول رأي "البعض" في استعجال داود (ع) بالحكم وتأثره العاطفي ! وادعى أنه ليس جديدا في عالم التفسير وذلك يناقض ما تقدم من تصريح المرتضى والطبرسي بأن ذلك رأي غير الإمامية ممن يجوز على الأنبياء الصغائر.

7ـ حرض "الكاتب "على رأي العلامة المحقق المتعلق في معنى "أكفلنيها" وأنه لم يقل به أحد من الأولين والآخرين .. مع أن مجموعة كبيرة من العلماء قالوا بنفس القول  أمثال :  الطبرسي والطوسي والمشهدي والطباطبائي والسبحاني

8 ـ حرض"الكاتب " أيضا على رأي العلامة المحقق المتعلق باحتمال أن يكون حكم داود (ع) مجرد إخبار بالواقع الذي عرفه داود (ع) عن طريق الوحي أو عن أي طريق آخر ، مع أن هذا القول يذهب إليه الشيخ السبحاني وغيره ، فضلا عن تضافر الروايات بأن داود (ع) كان يحكم بما يكشف الله له عن الواقع .

الآيات القرآنية  في الموضوع

( واصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب . إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . والطير محشورة كل له أواب . وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب . وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب. إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط . إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعّزني في الخطاب . قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعا وأناب . فغفرناله ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) (600).

ما قاله " البعض "

89 ـ قضية داود (ع) كقضية آدم (ع).

90 ـ داود (ع) يستسلم لعواطفه في قضائه.

91 ـ داود (ع) يعتمد على ما لا يصح الإعتماد عليه في القضاء.

92 ـ داود (ع) يخطئ في إجراء الحكم.

93 ـ الله هو الذي أراد لداود (ع) أن يقع في الخطأ.

94 ـ خطأ داود (ع) كانت له نتائج سلبية.

95 ـ الخطأ لا يتنافى مع مقام النبوة" (601)

نص أقواله

"وهكذا أطلق داود الحكم، وتدخل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهرا من مظاهر الإنحراف الإجتماعي في العلاقات العامة في الحقوق المتنازع عليها بين الناس ولم يكن قد استمع إلى الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون، فعليه أن يدرس الدعوى، من خلال الإستماع إلى حجة المدعي ودفاع المدّعى عليه لأن مسألة الغنى والفقر، والكثرة والقلة، لا يصلحان أساسا للحكم على الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل أو لا يملك شيئا في دائرة الحق المختلف فيه ، ولكن المشاعر العاطفية قد تجذب الإنسان إلى الجانب الضعيف في الدعوى، لتثير فيه الإحساس بالمأساة التي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصعبة بينما يعيش الإنسان الآخر الراحة والسعة في أجواء اللامشكلة، مما يجعل من الحكم على الضعيف تعقيدا لمشكلته بينما لا يمثل الحكم عليه لمصلحة الضعيف مشكلة صعبة بالنسبة إليه هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الواقع الذي يتحرك في حياة الناس تستبعد أن يكون هذا الفقير متعديا على الغني، لا سيما في هذا الشيء البسيط، بينما يمكن أن يكون الغني في جشعه وطمعه معتديا على الفقير من موقع قوته، كما هي حال الأقوياء بالنسبة إلى الضعفاء .

(وظن داود أنما فتناه) أي أوقعناه في الفتنة، أي في البلاء والإختبار الذي يفتتن به الإنسان فيكون معرضا للخطأ من خلال طبيعة الأجواء المثيرة الضاغطة المحيطة به وانتبه بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة، إلى استسلامه للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير، وخطأه في عدم الإستماع إلى وجهة النظر الأخرى )فاستغفر ربه( على هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشكلية (وخرّ راكعا وأناب ) أي رجع إلى الله وتاب إليه وأخلص إليه .

( فغفرنا له ) ذلك الخطأ الذي لم يؤد إلى نتيجة سلبية كبيرة في الحياة العامة ولم يصل إلى الموقف الحاسم في تغيير الوضع .

(وإن له عندنا لزلفى ) وهي المنزلة والحظوة (وحسن مآب) فيما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه"

"النقطة الثانية : كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء، أمام تصريح الآية بالإستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع النجاح فيها، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه ربما تطرح القضية على أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة، فإنها لا تكون تكليفا حقيقيا، بل هي قضية تمثيلية على سبيل التدريب العملي ليتفادى التجارب المستقبلية فيما يمارسه من الحكم بين الناس تماما كما في قضية آدم التي كانت قضية إمتحانية لا تكليفا شرعيا، فلم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح، وبذلك يكون الإستغفار مجرد تعبير عن الإنفتاح على الله والمحبة له، والخضوع له فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة، لا من واقعها، وأما إذا كان الخصمان من البشر، فقد يقال بأن القضاء الصادر من داود لم يكن قضاء فعليا حاسما بل كان قضاءً تقديريا، بحيث يكون قوله : ) لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه( بتقدير قوله : لو لم يأت خصمك بحجة بينة . ولكن ذلك كله لا يمنع الخطأ منه، فإنه لم ينتبه إلى أن الخصمين ملكان، بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر  وبذلك فلم تكن المشكلة في إنفاذ الحكم ليتحدث متحدث بأن المسألة قد انكشفت قبل انفاذه، أو أنها لم تكن واقعية بل كانت تمثيلية، بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم فلا بدّ من الإعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوة، لا سيّما إذا كانت الأمور جارية في بداياتها مما قد يراد به الوقوع في الخطأ من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصدمة القوية التي تمنع عن الخطأ في المستقبل. وقد أكد الإمام الرضا (ع) ذلك فيما روي عنه في عيون أخبار الرضا، قال الراوي وهو يسأله عن خطيئة داود (ع) :  يا بن رسول الله ما كانت خطيئته فقال : ويحك إن داود إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه، فبعث الله إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا : ( خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب)

فعجّل داود على المدعى عليه فقال : (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه)، ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعي عليه فيقول له : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ".

وقد ذكرنا في هذا التفسير أن علينا أن نأخذ الفكر في طبيعة العقيدة من نصوص القرآن الظاهرة، لا من أفكار خارجة عنه، مما قد تتحرك به الفلسفات غير الدقيقة)(602).

جزم قطع يخفي تقطيعا

المتأمل في أسلوب "الكاتب" ومنهجه، يجد أنه كلما قدم لأدلته بكلام عنيف، وكلام يتسم بإظهار الجزم واليقين والتأكيد، كلما كان حجم المأزق الذي يعيشه في طامات صاحبه أكبر ، والتحريف الذي يخفيه أخطر !

واليك ما جاء في تقديم وقفته العاشرة ، قال : "كان في نيتي أن لا أقف هذه الوقفة، لأنقد ما جاء في (خلفيات) من ملاحظات نقدية حول قصة داود (ع) والخصمين ذلك لأنها ملاحظات بينة الخطأ، واضحة الإشتباه، جلية التهافت، لمن له أدنى إطلاع على عالم التفسير"(604).

ثم أردف ذلك باتهام وتأكيد : " لقد تأكد لي من نقدكم لتفسير (السيد) في قصة داود (ع)، أنكم غرباء عن عالم التفسير وما يزخر به من اتجاهات ووجوه وآراء ذلك لأنكم بصورة عامة، وفي هذه المرة بالخصوص تجعلون من الإتجاه السائد والرائد تفسيرا غريبا وعجيبا، وكأنكم تقرأونه لأول مرة"(605). وعقَّب قائلا :" لست أدري ما هو السر الذي يجعلكم تصرون على هذه الطريقة التي تمتنعون فيها عن مراجعة أمهات الكتب والتفاسير الشيعية"(606).

ثم قال : " إن السيد في قصة داود (ع) والخصمين لم يأت بشيء جديد في عالم التفسير الشيعي، بل أنه جاء بما جاء به المفسرون الشيعة الكبار"(607). وختم بالقول : "ولهذا فإني أعتبر أن ما جئتم به من ملاحظات نقدية يفتقر إلى أبسط شروط النقد العلمي والموضوعي"(608).

فما الذي يخفيه "الكاتب" وراء قوله : " ذلك لأنها ملاحظات بينة الخطأ، واضحة الإشتباه، جلية التهافت، لمن له أدنى إطلاع على عالم التفسير"؟!

هذا ما سيجيب عنه "الكاتب" بنفسه، وعمليا, فيما قدمه بعد ذلك من نماذج  في الكذب والتحريف !

أول الغيث . الكذب

وعلى غير عادته في الفصول السابقة، فقد نفد صبره هذه المرة باكرا، فلم يستطع تأخير كذبه وقد سارع لإظهار إلتزامه "الدقيق" بشروط النقد العلمي والموضوعي !

لخّص "الكاتب" رأي العلامة الطباطبائي بالقول : "ولهذا يرى العلامة الطباطبائي وفقا للإتجاه الأول أنه : أولا : لا تكليف في ظرف التمثل كما لا تكليف في عالم الرؤية، وإنما التكليف في عالمنا المشهود، وهو عالم المادة، ولم تقع الواقعة فيه .

ثانيا : لم يكن "هناك متخاصمان، ولا نعجة، ولا نعاج إلا في ظرف التمثل".

ثالثا : ولهذا "كانت خطيئة داود عليه السلام في هذا الظرف من التمثل، ولا تكليف هناك كخطيئة آدم في الجنة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض، وتشريع الشرائع وجعل التكاليف"(609).

ومن رأي العلامة الطباطبائي هذا، يخرج "الكاتب" بنتيجة مفادها أن "هذه المقولة تعبّر عن الإتجاه الرائع في التفسير الذي ينزّه داود عليه السلام عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية"(610). ولنحفظ قوله الأخير : " عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية " ولنستذكر تلخيصه لكلام الطباطبائي !!

بعد هذا التقديم شرع "الكاتب" في توجيه "النقد" للعلامة المحقق، فانتقد في أول الغيث : "مدى التحريف الذي مورس في كلام العلامة الطباطبائي حيث أنكم قلتم : "قد ذكر العلامة الطباطبائي أن أكثر المفسرين يقولون : أن الخصمين كانا من الملائكة فلم يكن هناك نعجة ولا متخاصمان في عالم المادة، لأن القضية (إنما) هي في ظرف التمثل، ولا تكليف هناك، فلا توجد خطيئة". ثم أردف قائلا : "والجملة الأخيرة : "فلا توجد خطيئة" لم يقلها العلامة الطباطبائي، بل على العكس من ذلك تماما، حيث أنه صرّح بحصول الخطيئة، والنص الأصلي في كتاب الميزان ما يلي : "ولا كان هناك متخاصمان، ولا نعجة ولا نعاج إلا في ظرف التمثّل، فكانت خطيئة داود عليه السلام، في هذا الظرف من التمثل، ولا تكليف هناك، كخطيئة آدم عليه السلام في الجنة "(611).

ولا بد لنا أن نستعرض كلام العلامة المحقق في كتاب خلفيات بنصه ، قال   " قد ذكر العلامة الطباطبائي : أن أكثر المفسرين يقولون : أن الخصمين كانا من الملائكة، وأيد رحمه الله ذلك ببعض الشواهد، فلم يكن هناك نعجة ولا متخاصمان في عالم المادة، لأن القضية إنما هي في ظرف التمثل، ولا تكليف هناك فلا توجد خطيئة، ولا حكم، ولا غير ذلك في عالم الشهود"(612).

وهنا نقول : 1ـ من الواضح أن العلامة المحقق كان ينقل نص الميزان بالمعنى لا بحرفيته، لذلك لم يضعه بين مزدوجين ، فضلا عن أنه (أعزه الله) وضع في الهامش عند إشارته للمصدر عبارة : "راجع تفسير الميزان" ومن المعلوم أن من يستعمل لفظ : "راجع" إنما يقصد بذلك أن النص مأخوذ بمعناه لا بحرفيته . ومما يؤكد ذلك أن العلامة المحقق ذككر في وسط النص عبارة : "وأيد رحمه الله ذلك ببعض الشواهد" وهي تدل على أنه لم يكن في وارد نقل نص حرفي .

2ـ والظاهر أن "الكاتب" يدرك هذا الأمر جيدا ، ولذلك  عمد إلى حذف العبارة الآنفة من نص العلامة المحقق !!

3ـ وقف "الكاتب" "الأمين" في نقل نص "خلفيات" عند عبارة : "فلا توجد خطيئة" ولم يكمل نقلها ! لكي يقول : "الجملة الأخيرة : فلا توجد خطيئة لم يقلها العلامة الطباطبائي، بل على العكس من ذلك تماما، حيث أنه صرّح بحصول الخطيئة" مع أن تكملة عبارة "خلفيات" هي : " فلا توجد خطيئة، ولا حكم ولا غير ذلك في عالم الشهود" فالتفت الى قوله : " في عالم الشهود".

وعليه، فالخطيئة التي تحدث عنها العلامة المحقق ونسب لصاحب الميزان إنكار حصولها إنما هي "الخطيئة في عالم الشهود" وهذا واضح في كلام العلامة الطباطبائي الذي اعتبر أن الحادثة لم تقع في عالم المادة، وهو عالم التكليف، إنما وقعت في "هذا الظرف من التمثل، ولا تكليف هناك".

بعد هذا ، نسأل "الكاتب" : ما الفرق بين ما ذكره العلامة المحقق من رأي صاحب الميزان بأن لا خطيئة في عالم الشهود، وبين ما ذكره "الكاتب" نفسه قبل قليل بقوله : "هذه المقولة تعبّر عن الإتجاه الرائع في التفسير الذي ينزّه داود عليه السلام عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية"؟!(613).

والطريف أن "الكاتب" يصرّح بأن صاحب الميزان يعتبر أن داود عليه السلام منزه "عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية" في الوقت الذي ينكر فيه على العلامة المحقق نسبة ذلك لصاحب الميزان بقوله : " فلا توجد خطيئة ولا حكم، ولا غير ذلك في عالم الشهود " !! وقد تقدم ذلك في تلخيصه لرأي العلامة الطباطبائي !

ونسأل "الكاتب" : لماذا حذف تكملة كلام العلامة المحقق الذي ينسب فيه للعلامة الطباطبائي نفيه حصول الخطيئة في عالم الشهود؟!! أليس لاتهام العلامة المحقق بالتحريف ؟!!! وليس كلامنا منا مجرد توقع، ولا هو رجم بالغيب أو قراءة للنوايا ، فقد صرح "الكاتب" بذلك وبالفم الملآن بقوله مخاطبا العلامة المحقق : " إنكم حاولتم في التحريف الأول أن تنفوا مقولة (الخطيئة) فحولتم جملته: "فكانت خطيئة داود عليه السلام" إلى "فلا توجد خطيئة"(615) مع أنه كان تحامل على العلامة المحقق بقوله : "لست أدري لماذا تتصرفون بما تنقلون من نصوص، فتحذفون منها الكلمات التي لا تعجبكم ولا تنسجم مع مزاجكم إلى درجة يتحول فيها الإثبات إلى نفي!! ليكون المنقول : "فلا توجد خطيئة" بدلا من "فكانت خطيئة داود عليه السلام"(616)

وقد ظهر بذلك من الذي حرف وحذف وقطّع وتصرف !!

وثاني الغيث  الكذب !

لم يكتف "الكاتب" بالإتهام الأول للعلامة المحقق بالتحريف، بل سارع إلى اتهام آخر أخطر، وشر الدهاء الفجور، عندما اتهم صاحب "خلفيات" بإضافة كلام إلى نص العلامة الطباطبائي حيث قال : "وتحريف آخر في نفس الصفحة من كتابكم "خلفيات"، قد مورس أيضا على كلام العلامة الطباطبائي حيث تقولون أن العلامة ذكر : "إن الأنبياء معصومون بعصمة الله، ولا يجوز عليهم لا كبيرة ولا صغيرة، على أن الله صرّح قبل هذا بأنه آتاه الحكمة وفصل الخطاب، ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء" والجملة الأخيرة : "ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء" محّرفه، ولم يقلها الطباطبائي والنص الأصلي هكذا :" إن الأنبياء معصومون بعصمة من الله لا يجوز عليهم كبيرة ولا صغيرة" . فلماذا أضفتم جملة : "لا يلائم ذلك خطأه في القضاء، والحال أن العلامة يؤكد وقوع الخطأ ويصرّح به"(617).

ثم عنف "الكاتب" العلامة المحقق متهماً إياه بأنه حاول في هذا التحريف أن ينفي " مقولة الخطأ فجئتم بجملة إضافية نسبتموها إلى العلامة، وهو منها بريء وهي : "لا يلائم ذلك خطأه في القضاء" كل ذلك لأن رأيكم يذهب إلى أنه لا خطأ ولا خطيئة في قصّة داود عليه السلام، والخصمين"(618). ثم ختم "الكاتب" بالقول : " أين الأمانة العلمية في النقل، والتي هي من أبسط شروط الكاتب الناقد؟! ولماذا تستغفلون القارئ في كل مرّة، والذي لا يملك الوقت الكافي للرجوع إلى المصدر الأصل الذي تنقلون عنه وتقتبسون ؟!".(619).

ولعمري، فإن عبارته الأخيرة هذه لا تخلو من دهاء ! فهو بعد أن لفّق التهمة للعلامة المحقق، راح يوحي للقارئ بأنه مستغفل ولا يملك الوقت الكافي للرجوع إلى المصدر الأصل الذي لو كان يملكه لاكتشف الحقيقة التي كفاه هو مؤونة اكتشافها،

ماذا يسعنا أن نفعل أمام هذا الإتهام الوقح ، بل الفجور الممنهج !! فإن عبارة : "ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء" موجودة في الأصل، ولا يفصل بينها وبين ما ذكره العلامة المحقق شيء، لا نقطة، ولا فاصلة، أو حتى علامة من علامات الوقف!! نعم، يفصل بينها أربعة أصابع وضعها هذا "الكاتب" على عينية وأذنيه ثم قال : لم أر ، ولم أسمع !! فالعبارة بالنص الحرفي في تفسير الميزان، وكما نقلها العلامة المحقق هي: "على أن الله سبحانه صرّح قبلا، بأنه أتاه الحكمة وفصل الخطاب، ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء"(620).

ادعاء النقد الموضوعي وخدمة أهل البيت عليهم السلام !!

قال "الكاتب" : " لكنني دعوت السيد العاملي إلى أن يأتي على المقولات الخاطئة فعلا، أو المخالفة للمشهور والإجماع لينقدها ويبين خطأها واشتباهها، بروح علمية ونفس موضوعي بعيدا عن أساليب المبالغة، والتهويل والتحريف التي تنأى بالبحث عن العلمية والموضوعية"(622).

وتابع حديثه عن الأمانة العلمية، والنقد الموضوعي فقال : "ومن دون شك أن تفعيل حركة النقد من أشرف المحاولات التي تفتقرها ساحتنا الفكرية الإسلامية ، ولا يخفى ما للمارسة النقدية من دور كبير وفاعل في تكامل الأفكار بيد أن هناك شروطا وضوابط، وأخلاقيات للمارسة النقدية" (623) .

ولنا أن نسأل : هل تحتاج ساحتنا الإسلامية بالفعل لهذا النوع من النقد المبني على الكذب والإفتراء ؟! وهل سيساهم هذا الكتاب الذي يتضمن كل هذا الكذب والإفتراء في تفعيل حركة النقد، أم أنه سيساهم في نشر الأباطيل والأضاليل ؟!

ثم يأتي هذا "الكاتب"بعد ذلك ليتحدث عن القرآن الذي يدعونا إلى تحرّي الطريقة التي هي أحسن، مستحضرا العديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عن المجادلة بالتي هي أحسن(624) !!

 والأدهى من كل ذلك، أن "الكاتب" ختم مقدمة كتابه بسؤال الله جل وعلا أن يوفقه "لخدمة كتابه العزيز" بتكملة كتابه هذا !!  وأن يوفقه لخدمة " أهل البيت عليهم السلام" !! من خلال وقفات أخرى قادمة ليقضي "شيئاً من حقوقهم ، ويبصّر الأمة بمظلوميتهم " !!(625)

وكأنه لم يكفه ما أتهم به الأنبياء عليهم السلام في كتابه هذا , وما قام من تحريف أقوال العلماء والأعلام المتعلقة بتنـزيه الأنبياء عن الخطايا والذنوب .. حتى يعد بوقفات أخرى قادمة مع أهل البيت عليهم السلام !!

المكابرة المكشوفة !

مر أن "الكاتب" ذكر بأن صاحبه فضل الله : "لم يأت بشيء جديد في عالم التفسير الشيعي، بل أنه جاء بما جاء به المفسرون الشيعة الكبار"(626).

وأكد ذلك بقوله : "إن مقولة (الحكم قبل أن يسأل الخصم) يقول بها أعلام الشيعة"(627).

ثم صعد حدّة لهجته فقال : "كان من الأولى أن تثوروا على أعلام الطائفة وأركانها من المفسرين، من القدماء، والمعاصرين، لأنهم يذهبون جميعا إلى ما يذهب إليه [ السيد]"(628).

ولكن هل يعقل أن يكون أعلام الطائفة وأركانها من المفسرين "جميعا"!! القدماء، والمعاصرين ، يصرّحون بأن داود (ع) قد "ارتكب خطأ وأنه وقع في الخطيئة"!!(629). فلننظر لنرى صحّة إدّعاء "الكاتب" :

الشريف المرتضى(قده) : لا أدلة على وقوع الخطأ من داود عليه السلام :

استعرض الشريف المرتضى(قده) في كتابه القيّم " تنـزيه الأنبياء" ما رواه بعضهم عن قصة داود (ع) مع زوجة أوريا، ثم طرح سؤالا حول علاقة هذه الآيات والقصة مع عصمة داود (ع)، ثم أجاب (قده) عن ذلك إجابة تدق أول "مسمار" في نعش مزاعم "الكاتب" ! ولأهمية الجواب نعرضه حرفيا على طوله لما فيه من فائدة (630) قال رحمه الله :

" فأما خوفه منهما فلأنه (ع) كان خاليا بالعبادة في وقت لا يدخل عليه فيه أحد على مجرى عادته، فراعه منهما أنهما أتيا في غير وقت الدخول، ولأنهما دخلا من غير المكان المعهود . وأما قوله لقد ظلمك من غير مسألة الخصم، فإن المراد به إن كان الأمر كذلك، ومعنى ظلمك أنتقصك، كما قال الله تعالى : ( أتت أكلهم ولم تظلم منه شيئا).

ومعنى ظن قيل فيه وجهان : أحدهما : أنه أراد الظن المعروف الذي هو بخلاف اليقين. والوجه الآخر : أنه أراد العلم واليقين، لأن الظن قد يرد  بمعنى العلم.

والفتنة في قوله : ( وظن داود إنما فتناه ) هي الإختبار والإمتحان، لا وجه لها إلا ذلك في هذا الموضع .

فأما الإستغفار والسجود فلم يكونا لذنب كان في الحال، ولا فيما سلف على ما ظنه بعض من تكلم في هذا الباب، بل على سبيل الإنقطاع إلى الله تعالى والخضوع له والتذلل والعبادة والسجود. وقد يفعله الناس كثيرا لمواليهم، فكذلك قد يسبحون ويستغفرون الله تعالى تعظيما وشكرا وعبادة.

وأما قوله ( وخر راكعا وأناب) فالإنابة هي الرجوع ولما كان داود عليه السلام بما فعله راجعا إلى الله تعالى، ومنقطعا إليه، قيل فيه أنه أناب.

فأما قوله تعالى : (فغفرنا له ذلك) فمعناه، فقبلنا منه، وكتبنا له الثواب عليه، فأخرج الجزاء على وجه المجازات. ولما كان المقصود في الإستغفار والتوبة، إنما هو القبول قيل في جوابه، فغفرنا لك أي فعلنا المقصود به، كذلك لما كان الإستغفار على طريق الخضوع والعبادة المقصود به القربة والثواب قيل في جوابه : غفرنا مكان قبلنا .

على أن من ذهب إلى أن دواد عليه السلام فعل صغيرة، فلا بدّ من أن يحمل قوله تعالى (غفرنا) على غير اسقاط العقاب، لأن العقاب قد سقط بما هناك من الثواب الكثير من غير استغفار ولا توبة، ومن جوز على داود عليه السلام الصغيرة، يقول إن استغفاره كان لأحد أمور:

أحدهما : أن أوريا بن حنان لما أخرجه في بعض ثغوره قتل، وكان داود عليه السلام عالما بجمال زوجته، فمالت نفسه إلى نكاحها بعده، فقل غمه بقتله لميل طبعه إلى نكاح زوجته، فعوتب على ذلك بنـزول الملكين من حيث حمله ميل الطبع على أن قلّ غمه بمؤمن قتل من أصحابه .

وثانيها : أنه روي أن امرأة خطبها أوريا بن حنان ليتزوجها وبلغ داود (ع) جمالها فخطبها أيضا فزوجها أهلها بداود (ع) وقدموه على أوريا وغيره، فعوتب (ع) على الحرص على الدنيا، بأنه خطب امرأة قد خطبها غيره حتى قدم عليه.

وثالثها : أنه روي أن امرأة تقدمت مع زوجها إليه في مخاصمة بينهما من غير محاكمة، لكن على سبيل الوساطة، وطال الكلام بينهما وتردد، فعرض داود (ع) للرجل بالنـزول عن المرأة، لا على سبيل الحكم لكن على سبيل التوسط والإستصلاح. فقدر الرجل أن ذلك حكم منه لا تعريض، فنـزل عنها وتزوجها داود (ع)، فأتاه الملكان ينبهانه على التقصير في ترك تبيين مراده للرجل، وأنه كان على سبيل العرض لا الحكم.

ورابعها : أن سبب ذلك أن داود (ع) كان متشاغلا بعبادته في محرابه، فأتاه رجل وامرأته يتحاكمان، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها، فيحكم لها أو عليها، وذلك نظر مباح على هذا الوجه، فمالت نفسه إليها ميل الخلقة والطباع، ففصل بينهما، وعاد إلى عبادته، فشغله الفكر في أمرها، وتعلق القلب بها عن بعض نوافله التي كان وظفها على نفسه فعوقب.

وخامسها : أن المعصية منه إنما كانت بالعجلة في الحكم قبل التثبت، وقد كان يجب عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده، ولا يقتضي عليه قبل المسألة، ومن أجاب بهذا الجواب قال : إن الفزع من دخولهما عليه في غير وقت العادة نسّاه التثبت والتحفظ.

وكل هذه الوجوه [وهذا هو جوهر القضية فليلاحظ جوابه بدقة] لا تجوز على الأنبياء (ع) لأن فيها ما هو معصية، وقد بينّا أن المعاصي لا تجوز عليهم، وفيها ما هو منفر، وإن لم يكن معصية مثل أن يخطب امرأة قد خطبها رجل من أصحابه، فتقدم عليه وتزوجها، ومثل التعريض بالنـزول عن المعرض وهو لا يريد الحكم.

فأما الإشتغال عن النوافل، فلا يجوز أن يقع عليه عتاب، لأنه ليس بمعصية، ولا هو منفّر، فأما من زعم أنه عرض أوريا للقتل وقدمه أمام التابون عمدا حتى يقتل، فقوله أوضح فسادا من أن يتشاغل بردّه"(631).

إذن ، قول صاحب "من وحي القرآن " وفق رأي السيد المرتضى، هو قول من جوّز الصغيرة على الأنبياء من غير الإمامية !

فهذا أول علم من الأعلام خرج من مصاديق "جميعا" التي ادعاها "الكاتب".

الشيخ الطبرسي قدس سره :

أما رأي الشيخ الطبرسي (قده) فهو لا يخرج قوله عن قول المرتضى (قده) وملخص قوله : "واختلف في استغفار داود (ع) من أي شيء كان : فقيل : أنه حصل على سبيل الإنقطاع إلى الله تعالى، والخضوع له والتذلل بالعبادة، والسجود وكما حكى سبحانه وتعالى عن ابراهيم (ع) بقوله : )والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين.

 وأما قوله : ( فغفرنا له ذلك ) فالمعنى إنا قبلناه منه، وأثبناه عليه، فاخرجه عن لفظ الجزاء، مثل قوله تعالى : (يخادعون الله وهو خادعهم ). وقوله( الله يستهزئ بهم )، فلما كان المقصود من الإستغفار والتوبة القبول قيل في جوابه غفرنا هذا قول من ينـزه الأنبياء من جميع الذنوب من الإمامية وغيرهم. ومن يجوز على الأنبياء الصغائر قال : ان استغفاره كان لذنب صغير وقع منه، ثم انهم اختلفوا في ذلك على وجوه .... وخامسها : أنه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبت وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يحكم عليه قبل ذلك، وإنما أنساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة"(632).

وعليه، فإن القول بخطأ داود (ع) في الحكم قبل الإستماع إلى الطرف الآخر، هو قول من جوّز على الأنبياء الصغائر، لا قول من ينـزه الأنبياء عن جميع الذنوب من الإمامية وغيرهم !!

ابن أبي جامع العاملي قدس سره :

الذي ما فتئ "الكاتب" يمتدح تفسيره وينقل الثناء عليه .. قال  (قده) : "قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك( قاله على تقدير صدقه أو بعد اعتراف صاحبه )وظن داود انما فتناه( اختبرناه لأنه علم بغرضهم، فهمّ بأن ينتقم منهم ويترك الأولى وهو العفو، فتداركه لطف ربه فعفا عنهم )فاستغفر ربه( من همّه بترك الأولى أو انقطاعا إليه

(فغفرنا له ذلك( الهم، أو قبلنا انقطاعه من باب المشاكلة هذا قول من ينـزّه الأنبياء عن الذنوب .

(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) قيل: هو يعضد القول بأنه أذنب، وهو ممنوع لجواز كونه تهييجا له كما وقع لنبينا (ص) مثل ذلك لقوله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك]"(633).

وحسبنا هؤلاء الأعلام، لابطال زعم "الكاتب" بأن "جميع" أعلام الطائفة وأركانها من المفسرين، من القدماء والمعاصرين، يذهبون إلى ما يذهب إليه صاحبه !!!

حقيقة رأي فضل الله

زعم "الكاتب" أن صاحبه طرح" الإتجاهين السائدين في عالم التفسير الشيعي حيث ذكر تحت عنوان : " كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة العصمة"

الإتجاه الأول : القصة في عالم التمثّل لا التكليف : إن الخصمين كانا من الملائكة، فلا يكون التكليف حقيقيا . والإتجاه الثاني : القضاء التقديري لا الفعلي"(634) . ثم زعم "الكاتب" بأن (السيد) رجح "على ما يظهر من تفسيره الإتجاه الأول الذي يرى أن الحادثة وقعت في عالم التمثّل وليس في عالم التكليف الشرعي، ويفسر الآيات على ضوء ذلك الإتجاه"(635).

وأمام هذا التدليس نلقي الضوء على حقيقة رأي "البعض" فنقول :

1ـ لا صحة على الإطلاق لما زعمه "الكاتب" من أن صاحبه فسّر الآيات على ضوء الإتجاه الأول ، فهو لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى جنس الخصمين، ولا إلى كون ذلك الحكم تقديريا، وإنما قال بالنص الحرفي :

"وهكذا أطلق داود (ع) الحكم، وتدخل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهرا من مظاهر الإنحراف الإجتماعي في العلاقات العامة في الحقوق المتنازع عليها بين الناس ولم يكن قد استمع إلى الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون، فعليه أن يدرس الدعوى من خلال الإستماع إلى حجة المدعى عليه، لأن مسألة الغنى والفقر، والكثرة والقلة، لا يصلحان أساسا للحكم على الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل، أو لا يملك شيئا في دائرة الحق المختلف فيه"(636).

2ـ كذلك لاصحة إطلاقاً لزعم "الكاتب "إن صاحبه لم يرجح الإتجاه الأول، وذلك للأسباب التالية :

أ ـ بعد الإنتهاء من تفسير الآيات من دون أن يشير في تفسيره إلى أن الخصمين من الملائكة، وبعد تصريحه بأن داود (ع) أخطأ في الحكم من دون أن يشير إلى أن حكمه كان تقديريا يطرح بحث علاقة القضية بالعصمة متسائلا : "كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة العصمة أمام تصريح الآية بالإستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع النجاح فيها، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه"(637).

ب ـ ثم يستعرض الإتجاه الأول بالقول : "ربما تطرح القضية على أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة، فإنها لا تكون تكليفا حقيقيا بل هي قضية تمثيلية على سبيل التدريب العملي ليتفادى التجارب المستقبلية فيما يمارسه من الحكم بين الناس، تماما كما هي قضية آدم التي كانت قضية امتحانية، لا تكليفا شرعيا، فلم تكن هناك معصية، بالمعنى المصطلح، وبذلك يكون الإستغفار مجرّد تعبير عن الإنفتاح على الله والمحبة له والخضوع له فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة، لا من واقعها "(638).

ج ـ وبعدها يستعرض الإتجاه الثاني قائلا : "وأما إذا كان الخصمان من البشر فقد يقال : بأن القضاء الصادر من داود (ع) لم يكن قضاءً فعليا حاسما، بل كان قضاءً تقديريا بحيث يكون قوله : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، بتقدير قوله : لو لم يأت خصمك بحجة بينة"(639).

د ـ ثم بعد أن استعرض كلا الإتجاهين ناقشهما وردّهما بقوله بأن "ذلك كله لا يمنع صدور الخطأ منه"(640). وذلك عنده للأسباب التالية :

1 ـ أما الإتجاه الأول فلأن داود (ع) "لم ينتبه إلى أن الخصمين من الملائكة بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر"(641).

وبذلك يكون "البعض "قد ردّ الإتجاه الأول ورفضه لأن كون الخصمين من الملائكة ليس له أي دور في القضية بسبب عدم التفات داود (ع) إلى ذلك، وأنه (ع) إنما حكم على أساس أنهما من البشر، وبالتالي فإن الإتجاه الأول لا ينفي كون داود (ع) قد أخطأ في الحكم؟!!.

2ـ أما الإتجاه الثاني فردّه بالقول : بأن المشكلة لم تكن : "هي إنفاذ الحكم ليتحدث متحدث بأن المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه"(642).

ومقتضى قوله هذا : إن الحديث عن القضاء التقديري لا فائدة منه، لأن المشكلة لا تتعلق بإنفاذ الحكم، وبالتالي : فإن القول بالقضاء التقديري لا يحل المشكلة. ثم قال : "بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم"(643).

هـ بعد أن ردّ " البعض "كلا الإتجاهين أدلى برأيه في المسألة معتبرا أنه لا مفرّ من "الإعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوة، لا سيما إذا كانت الأمور جارية في بداياتها مما قد يراد به الوقوع في الخطأ من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصدمة القوية التي تمنع عن الخطأ في المستقبل"(644).

إذن وفق رأي (البعض) لا فائدة من الحديث عن كون ذلك قد حصل في عالم التمثّل لا التكليف، وكذلك لا فائدة من الحديث عن القضاء التقديري، لأن كلاهما لا يحل المشكلة، وإنما تحلّ بالإعتراف بخطأ داود (ع) مع القول بأن هذا النوع من الأخطاء لا ينافي العصمة أو مقام النبوة.

3 ـ فأين زعم "الكاتب " بأن (السيد) قد رجّح الإتجاه الأول ؟!!

ألاترى أنه رفضه كما رفض الإتجاه الثاني ، وصرّح بما لا يقبل الجدل بأن داود (ع) قد أطلق حكما نهائيا .

4 ـ تقدم أن نفي كون هذه الأخطاء لا تنافي العصمة أو مقام النبوة ، لا يغيّر من الواقع شيئا فإن ذلك مجرد دعوى، يريد مطلقها إثبات الخطأ على الأنبياء مع أن النبي يجب أن يكون معصوما حتى عن فعل المنفّـرات .

فإذا كانت العصمة تتناول هذه الحالة، فإن المسألة ترتبط في تعيير الناس له والحمل عليه والطعن به، وبالتالي عدم الركون إلى أحكامه أو الوثوق به.

ولا يرفع الإشكال كون هذا الخطأ أو ذاك لن يتكرر في المستقبل، فلو جاز عليهم لجازت عليهم المعاصي والذنوب، كالكذب وغيره قبل البعثة ، لادعاء بأن ذلك لن يصدر منه بعدها.

فالدليل الذي قام على منع صدور الذنوب عنهم (ع) قبل البعثة يشمل عصمتهم عن الخطأ في مثل هذه الموارد أيضا والتي صرح أعلام الطائفة بلزوم العصمة عنها.

 5 ـ وعلى ضوئه يتضح حجم التضليل الذي مارسه "الكاتب" عندما اعتبر أن ما قاله "البعض "هو ما ذهب إليه جميع " أعلام الطائفة وأركانها من المفسرين، من القدماء والمعاصرين"(645).

هذا، فضلا عن ادعائه بأن صاحبه : " لم يزد شيئا عما قاله الطوسي (قده) والطباطبائي (قده) وغيرهما"(646).

الفرق الشاسع

قال العلامة الطباطبائي قدس سره : " لعله قضاء تقديري قبل استماع كلام المتخاصم الآخر لكن صاحب النعجة الواحدة ألقى كلامه بوجه هيّج الرحمة والعطوفة منه (ع) فبادر إلى هذا التصديق التقديري"(647).

وقال "البعض": " وانتبه بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة، إلى استسلامه للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير " (648).

وقد حاول "الكاتب" أن يثبت عدم وجود فرق بين ما ذهب إليه صاحب "الميزان" وبين ما ذهب إليه " البعض "فتساءل : ما الفرق بين قولنا:"تهييج الرحمة أو العطوفة" على حدّ تعبير الطباطبائي، وبين قولنا: "الإستسلام للمشاعر العاطفية" على حد تعبير (السيد)(649).

ونجيب : إن الفرق شاسع بين هذين القولين، ولكن لا يدركه إلا من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، خلاصته :

1ـ إن قول الطباطبائي : " تهييج الرحمة والعطوفة" هي إشارة إلى فعل أحد الخصمين، ولم يشر الطباطبائي إلى إستسلام دواود (ع) إلى ذلك.

بينما حديث "البعض" هو وصف لحال داود (ع) الذي استسلم بحسب قول (السيد) لهذا الفعل من "التهييج" للرحمة والعطوفة.

2ـ إن صاحب "الميزان" لم يعتبر أن داود (ع) حكم وفق مشاعره التي هيّجها أحد الخصمين حكما نهائيا بل حكما تقديريا، والحكم التقديري مفاده أنه لو صحّ قول الخصم الأول فإنه يكون قد ظلمه بسؤال نعجته إلى نعاجه ، وبمعنى آخر إن مفاد الحكم التقديري هو القضية الشرطية والذي يتوقف فيها صحة الحكم على صحة الشرط . وعليه فلا يضرّه عدم الإستماع إلى الطرف الآخر وإنما المشكلة تكمن في الحكم النهائي مع عدم الإستماع.

أما "البعض" فقد اعتبره حكما نهائيا لا تقديريا نابعا عن "الإستسلام" " للمشاعر العاطفية".

الدعاوى الفارغة

 من دعاوى "الكاتب" الفارغة قوله بأن مقولة إن " داود (ع) استعجل في الحكم لتأثره العاطفي، ليس جديدا في عالم التفسير بل إن القصّة كلها قائمة على ذلك حيث أن الله عز وجل أراد للحادثة أن تكون مفاجئة"(650).

ولكنه لم يؤيد هذه الدعوى بشاهد واحد ! وقد تقدّمت أقوال العلماء  :

1ـ قول الشريف المرتضى (قده) : إن قولهم : أن داود عليه السلام استعجل في الحكم : " قبل التبثت وقد كان يجب عليه أن يسأل الآخر عما عنده فيها" إن ذلك مما لا يجوز على الأنبياء (ع) وأن هذا هو قول من جوّز على الأنبياء الصغائر(651).

2ـ وقول الطبرسي (قده) بأن من قال بعجلته (ع) " في الحكم قبل التثبت وكان يجب عليه حين سمع الدعوى أن يسأل الآخر عما عنده فيها، ولا يحكم عليه قبل ذلك، وإنما أنساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة" إنما هو قول من جوّز على الأنبياء الصغائر وهم من غير الإمامية ، فراجع (652).

فقول "الكاتب" : " بل إن القصة كلها قائمة على ذلك" إصرار منه قول غير الإمامية واتهام داود (ع) بأنه استعجل في الحكم لتأثره العاطفي ، وبذلك يظهر من هو صاحب القول الشاذّ الغريب عن هذا المذهب الحق !!

الأولون والآخرون

قال العلامة المحقق : " أنه يلاحظ أن أحد الخصمين قد طرح سؤالا لا يتضمن ادعاء ملكية، ولا يتضمن شيئاً خلاف الشرع، حيث ادعى أن أخاه صاحب التسعة والتسعين نعجة قد طلب منه أن يجعلها تحت تكّفله وألح عليه في ذلك، ولم يدّع أنه اغتصبها منه أو أنه ادعى ملكيتها، أو أي شيء آخر"(653).

وحمل عليه "الكاتب" كعادته بأن هذا القول مما :"لم يقل به أحد من المفسرين، لامن الأولين ولا من الآخرين، لأنه مناف لصريح القرآن الكريم"!!! (654).

فماذا تقول كتب التفسير التي يدّعي "الكاتب "أنها بين يديه :

1 ـ الشيخ الطوسي قدس سره : إجعلني كفيلا لها :

يقول الشيخ الطوسي (قده) في تبيانه : " وقوله : " فقال أكفلنيها" معناه إجعلني كفيلا لها، أي ضامنا لأمرها ومنه قوله تعالى (وكفلها زكريا)" (655)

2 ـ الطبرسي قدس سره : إجعلني كافلها :

أما الطبرسي (قده) : فقد قال : " أي ضمها إلي واجعلني كافلها الذي يلزم نفسه القيام بها وحياطتها والمعنى : أعطنيها ".وقد ضعّف الطبرسي (قده) أن يكون المعنى تنازل عنها لي / فقال :  " وقيل معناه أنزل لي عنها حتى تصير في نصيبي"(656).

3 ـ العلامة المشهدي : كما أكفل ما تحت يدي :

أما العلامة المشهدي فيقول : "وحقيقته : اجعلني أكفلها، كما أكفل ما تحت يدي". وضعف أيضاً رأي من يقول : بأن المعنى "نصيبي" بكلمة " قيل"

(657).

4 ـ العلامة الطباطبائي قدس سره : اجعلها في كفالتي :

ولم يخرج ما ذكره العلامة الطباطبائي عما سبقه اليه هؤلاء الأعلام حيث يقول: "وأكفلنيها، أي اجعلها في كفالتي، وتحت سلطتي"(658).

5 ـ الشيخ السبحاني : إجعلها في كفالتي :

وما ذكره آية الله السبحاني هو عين ما ذكره العلامة الطباطبائي، حيث يقول : "والمراد من قوله : "اكفلنيها" اجعلها في كفالتي وتحت سلطتي"(659).

بعدكل ما تقدم .. نسأل "الكاتب" : لماذا كل هذا التحريف والتضليل والتحريض ، بأن قول العلامة المحقق : " أن معنى أكفلنيها " أي " أن يجعلها تحت كفالته " ، مما لم يقل به أحد من الأولين ولا من الآخرين !!! ألسيت هذه اللغة التحريضية هي التي يشهد ببطلانها الأولون والآخرون ؟!!

تحريض جديد

وثمة قول للعلامة المحقق استغله "الكاتب" زاعما أنه غريب وعجيب ! وهو قوله : " إن قول داود (ع) : (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) لا يدل على أنه كان في مقام إصدار حكم، إذ يمكن أن يكون ذلك مجرد إخبار له بالواقع الذي عرفه داود (ع) عن طريق الوحي، أو عن أي طريق آخر" (660).

وليس في هذا القول ما يثير العجب إلا علامات التعجب التحريضية "للكاتب". إذ فضلا عن الروايات المتضافرة بأن داود (ع) إنما حكم بما يكشف الله له من الواقع، فها هو الشيخ السبحاني يقول : " من الممكن أن يكون قضاؤه قبل سماع كلام المدعى عليه، لأجل انكشاف الواقع له بطريق من الطرق، وأن الحق مع المدعي"(661).

هل نبي الله داود عليه السلام بلا دين ؟!

لا شك أن الكثيرين قد سمعوا من صاحب من وحي القرآن إتهامه لمن إتخذ موقفا منه، لا سيما المراجع أعزهم المولى الذين قالوا بحقه ما هو معروف ومشهور، بأن هؤلاء بلا تقوى وبلا دين ! وعلل هجومه بأنهم لم يسألونه قبل إتخاذ موقف منه (662).

 وقال فضل الله في الرسالة التي بعثها مكتبه في دمشق الى سماحة المرجع السيد محمد سعيد الحكيم ما نصّه: " أليس من أول شروط العدالة التثبت في الإستماع الى المحكوم عليه قبل إصدار الحكم "(663)

فإذا جمعنا هذين القولين ، مع إتهامه لنبي الله داود (ع) بأنه أصدر حكما نهائياً لصاحب النعجة قبل أن يستمع الى الطرف الآخر في القضية، فما هي النتيجة التي سنخرج بها ؟ إنها نتيجة واحدة فحسب : أن نبي الله داود (ع) وفق منطق فضل الله هو : بلا تقوى وبلا دين ، فضلا عن أن عدالته غبر تامة ومطعون بها ، لأن " من أوّل شروط العدالة التثبت في الإستماع الى المحكوم عليه قبل إصدار الحكم" !! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وفي الختام، نستعير من "الكاتب" بعض عباراته وكلماته التي وجهها للعلامة المحقق فنقول له :

إن الذي يقرأ النقاط التي ذكرتموها في دفاعكم عن صاحبكم  في قصّة داود (ع) والخصمين تأخذه الدهشة مما يجده من تحريف بعد تحريف فيما تسجلونه من أمور، أقل ما يقال عنها أنها ما كان ينبغي أن تصدر من أمثالكم، ممن ينتمون بحسب الظاهر الى مذهب الإمامية الذين يتميزون عن سائر الفرق، بقولهم بعصمة الأنبياء ، عن كل خطأ أو زلل عمدا أو سهوا ، أو نسياناً. وما كان ينبغي أن تخالف التفسير السائد الذي عليه فحول المفسرين الشيعة طوال قرون .. فلم يكن الشريف المرتضى أولهم ولا الشيخ السبحاني حفظه الله آخرهم.

الخاتمة

إلى هنا تم الجزء الأول من هذا الكتاب، ويتبعه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى. ومنه اتضحت لنا أمور أساسية:

أولاًً: مدى التحريف والتدليس الذي مارسه الكاتب في مختلف موارد كتابه وقد كان من الأصح أن يسمي كتابه: "فنون التحريف والتزييف في دين الله الحنيف" أو " فن التحريف والتزوير في علم التفسير ) . أو ( فن الكذب والافتراء على عصمة الأنبياء ) !!

ثانياًً : ظهرت المفارقة الكبيرة بين المنهج العام والشعار الرئيسي للكتاب ، وبين ما يدعيه (السيد) فضل الله. فالشعار الذى رفعه  "الكاتب" والمنهج العام الذي اتبعه وصبغ به كتابه من أوله إلى آخره أنه " رأى حيفا وظلما في النقد الموجه إلى صاحبه".

وقد صرح في جميع الفصول التي عالجناها على الأقل، بأن ما ذكره (السيد) هو مما يكاد يجمع عليه المفسرون منذ عصر الشيخ الطوسي إلى عصرنا الحاضر" !! وأن كل لاآراء التي وجه اليها العلامة المحقق  إشكالاته قد ذهب إليها العلماء الأعلام فلم يكن الطوسي أولهم ولا الطباطبائي آخرهم ! على حد تعبيره !  وأن إشكالات المحقق العاملى كان ينبغي أن تتوجه "إلى هذا الكل بدلا من ذلك البعض" وأن ما تبناه (السيد) "من رأي واختاره من اتجاه هو الرأي  السائد" وأن (السيد) "لم يأت بشيء جديد"

وهنا تبرز المفارقة العجيبة في هذه الإدعاءات !!

لقد سبق إصدار كتاب "مراجعات في عصمة الأنبياء" ثلاثة إصدارات زعم أصحابها أن ما نسب إلى (السيد) هو كذب وافتراء وتحريف للكلم عن مواضعه، وتقطيع للنصوص ... وقد سوّق "البعض" لهذه الإصدارات، وأحال الناس إليها وإلى مراجعتها ، وعضَد دعواهم هذه برسائل خطية منه شخصيا، كما في رسالته الى سماحة آية الله الشيخ جعفر السبحاني حفظه المولى التي صرّح فيها بلغة واضحة وبالفم الملآن: "أن ما نسب إليه 90% كذب و 10% منه تحريف للكلام عن مواضعه".

بل صرح في مكان آخر أنه يمكنه القول بأن: "99،99% مما يقال وينشر ضدي هو كذب وافتراء وبهتان"(664) 

 ولكن المفارقة الأعجب أن فضل الله أيد الكتب السابقة التي دافعت عن مقولاته ، ثم أيد هذا الكتاب .. رغم تناقض الإدعاءات بينها .

فهل أن التهافت في الدفاع عنه يصح ويجوز الجمع بين المتناقضات  ؟!

وهل الدفاع عنه يصح حتى لو استلزم اتهام أنبياء الله عليهم السلام ؟!!

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

 

هوامش الفصل التاسع

(600)  سورة ص ، آية 17 - 25

(601)  خلفيات ج 1 ص 132.

(604) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 285.

(605) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

(606) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

(607) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

(608) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

(609) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 287.

(610) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 287.

(611) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 288,

(612) خلفيات ج 1 ص 137.

(613) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 288.

(615) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 289.

(616) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 288.

(617) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 288 و 289.

(618) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 289.

(619) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 289.

(620) تفسير الميزان ج 17 ص 194، وراجع خلفيات ج 1 ص 137.

(622) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 9.

(623) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 11.

(624) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 12.

(625) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 14.

(626) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

(627) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 290.

(628) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 293.

(629) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 293.

(630) قمنا بحذف بعض العبارات من النص المنقول، وهي خصوص تلك المتعلقة باللغة والنحو.

(631) تنزيه الأنبياء ص 127-132.

(632) مجمع البيان ج 7 و 8 ص 607.

(633) الوجيز ج 3 ص 98 ـ 100.

(634) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 290.

(635) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 291.

(636) من وحي القرآن ج 19 ص 274.

(637) من وحي القرآن ج 19 ص 276.

(638) من وحي القرآن ج 19 ص 277.

(639) من وحي القرآن ج 19 ص 277.

(640) من وحي القرآن ج 19 ص 277.

(641) من وحي القرآن ج 19 ص 277.

(642) من وحي القرآن ج 19 ص 277.

(643) من وحي القرآن ج 19 ص 277.

(644) من وحي القرآن ج 19 ص 278.

(645) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 293.

(646) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

(647) الميزان في تفسير القرآن ج 17 ص 193.

(648) من وحي القرآن ج 19 ص 275.

(649) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 300.

(650) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 299.

(651) تنزيه الأنبياء ص 131 و 132.

(652) مجمع البيان ج 7 و 8 ص 607.

(653) خلفيات ج 1 ص 138.

(654) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 302.

(655) التبيان ج 8 ص 505.

(656) مجمع البيان ج 7 و 8 ص 606.

(657) كنز الدقائق ج 11 ص 215 و 216.

(658) الميزان ج 17 ص 192.

(659) عصمة الأنبياء في القرآن ص 168.

(660) مراجعات في عصمة الأنبياء ص 302 و 303.

(661) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم ص 170.

(662) هذا قول مشهور له.

(663) نص الرسالة التي أرسلها مكتب (السيد) فضل الله في دمشق الى المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم .

(664) نفس المصدر : 69/199.

العودة