وجوه من النظر :
الأوّل : أن ما ذكره قاضي القضاة ، من أنه شهد بصدق الرواية في أيام أبي بكر : عثمان وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمان ، باطل غير مذكور في سيرة ورواية من طرقهم وطرق أصحابنا ؛ وإنما المذكور في رواية مالك بن أوس التي رووها في صحاحهم : أنّ عمر بن الخطاب لمّا تنازع عنده أمير المؤمنين عليه السلام والعبّاس استشهد نفراً فشهدوا بصدق الرواية :
ولنذكر ألفاظ صحاحهم في رواية مالك بن أوس على اختلافها ، حتّى يتضح حقيقة الحال : روي البخاري ومسلم وأخرجه الحميدي ، وحكاه في جامع « الأصول » في الفرع الرابع من كتاب الجهاد من حرف الجيم ، عن مالك أنّه قال : أرسل إليّ عمر فجئته حين تعالى النهار ، قال : فوجدته في بيته جالساً على سرير مفضياً (1) ، إلى رماله ، متكئاً على وسادة (2) من أدم ، فقال لي : يا مالك ، أنّه قد دفّ أهل أبيات من قومك (3) وقد أمرت فيهم برضخ (4) فخذه فأقسم بينهم قال : قلت : لو أمرت بهذا غيري ، قال : خذه يا مالك ، قال : فجاء يرفأ (5) فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد ؛ فقال عمر : نعم فأذن لهم فدخوا ؛ ثمّ جاء فقال : هل لك في عباس وعلي عليه السلام قال : نعم فأذن لهما : فقال العباس : اقض بيني وبين هذا ، فقال القوم أجل ! فاقض بينهم وارحهم ، قال مالك بن أوس : فخيل إلى أنهم قد كانوا قدموهم لذلك ، فقال عمر اتّئدوا (6) : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نوّرث ما تركنا صدقة ؟ قالوا : نعم ؛ ثم أقبل على العبّاس وعليّ عليه السلام فقال : أنشدكما بالله الذي بأذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أنّ رسول
____________
(1) أي ملقياً نفسه على الرمال لا حاجز بينهما ، ورمال السرير ـ بالكسر : ما رمل أي نسج ، جمع رمل بمعنى مرمول كالخلق بمعنى المخلوق ، والمراد به أنّه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن على السرير وطا سوى الحصير .
(2) الوسادة : المخدّة .
(3) ودفّ أهل أبيات : أي دخلوا المصر ، يقال : دفّ دافّة من العرب .
(4) الرضخ ـ بالضاد والخاء المعجمتين ـ : العطاء القليل .
(5) يرفاً ـ بالراء والفاء والهمز علي صيغة المضارع ـ : كينع ، علم مولى عمر بن الخطاب .
(6) اتئدوا : امر من التؤدة أي التاني والتثبت .

( 456 )

الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالا : نعم ، إلى آخبر الخبر ؛ ثمّ حكى في جامع الأصول ، عن البخاري ومسلم ، أنّه قال عمر لعلي عليه السلام : قال أبوبكر : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا نورث ، ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً ، خائناً ، وتزعمان أنّه فيها كذا كما نقلنا سابقاً ؛ وحكي في جامع الاصول ، عن أبي دواد ، أنّه قال أبو البختري : سمعت حديثاً من رجل فأعجبني ، فقلت : اكتبه لي ، فاتي به مكتوباً مدبراً (1) ، دخل العباس وعلي عليه السلام على عمر ، وعنده طلحة والزبير وعبدالرحمان وسعد وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد : ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل مال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة ، إلاّ مااطعمه أهله ، أو كساهم ، إنا لانورث ؟ قالوا : بلى (2) .
توضيح : ولا يذهب على ذي فطنة أن شهادة الاربعة التي تضمنتها الرواية الاولى والثانية على اختلافهما ، لم يكن من حيث الرواية والسماع عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، بل لثبوت الرواية عندهم بقول أبي بكر ، بقرينة أن عمر ناشد علياً عليه السلام والعباس : أتعلمان أن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة ؟ فقالا : نعم ؛ وذلك لانه لا يقدر أحد في ذلك الزمان على تكذيب تلك الرواية ، وقد قال عمر في آخر الرواية : رأيتماه ، يعني أبا بكر كاذباً آثماً غادراً خائناً ، وكذا في حق نفسه ؛ والعجب أن القاضي لم يجعل علياً عليه السلام والعباس شاهدين على الرواية مع تصديقهما كما صدّق الباقون ، بل جميع الصحابة لأنهم يشهدون بصدقهما .
وقال ابن أبي الحديد بعد حكاية كلام السيد رضى الله عنه في أن الاستشهاد كان في خلافة عمر دون أبي بكر ، وأن معول المخالفين على إمساك الأمة عن النكير على أبي بكر دون الاستشهاد ما هذا لفظه : قلت : صدق المرتضى فيما قال ، أما عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومطالبة فاطمة عليها السلام بالإرث فلم يرو الخبر إلاّ أبا بكر وحده ، وقيل : إنّه رواه معه مالك بن أوس ابن الحدثان ؛ وأما المهاجرين الذين ذكرهم قاضي القضاة فقد شهدوا بالخبر في خلافة عمر ، وتقدم ذكر ذلك ، وقال في الموضع المتقدم الذي أشار إليه ،
____________
(1) أي مسنداً .
(2) جامع الاصول : 3 | 311 .

( 487 )

وهو الفضل الذي ذكر فيه روايات أبي البختري على مارواه أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، بإسناده عنه : قال جاء عليّ والعباس إلى عمر ، وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبدالرحمان وسعد : أنشدكم الله ، أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كل مال نبي فهو صدقة إلاّ ما أطعمه أهله ، إنّا لا نورّث ! فقالوا : نعم ؛ قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتصدّق به ، ويقسم فضله ، ثمّ توفّي ، فولّيه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنتما تقولان ، إنه كان بذلك خاطئاً ، وكان بذلك ظالماً وما كان بذلك إلاّ راشداً ، ثم ولّيته بعد أبي بكر فقلت لكما : إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده الذي عهد فيه ، فقلتما : نعم ، وجئتماني الآن تختصمان ؛ يقول هذا : اريد نصبي من ابن أخي ، ويقول هذا : اريد نصبي من امرأتي ! والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك .
قال ابن ابي الحديد : قلت : وهذا أيضاً مشكل ، لأن أكثر الروايات أنّه لم يرو هذا الخبر إلاّ أبا بكر وحده ، ذكر ذلك معظم المحدثين ، حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في إحتجاجهم في الخبر برواية الصحابي والواحد . وقال شيخنا أبو علي : لا يقبل في الرواية إلاّ رواية إثنين كالشهادة ، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلّهم ، واحتجّوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده ، قال : « نحن معاشر الأنبياء لانورث » حتّى أن أصحاب أبي علي تكلف لذلك جواباً ، فقال : قد روي أن أبا بكر يوم حاجّ فاطمة عليها السلام قال : انشد الله امرءً سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا شيئاً ! فروى مالك بن أوس بن الحدثان : أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا الحديث ينطق بأنه استشهد عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعداً ، فقالوا : سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأين كانت هذه الرواية أيّام أبي بكر ! ما نقل أنّ أحداً من هؤلاء يوم خصومة فاطمة عليها السلام وأبي بكر روى من هذا شيئاً . انتهى . فظهر أنّ قول القاضي ليس إلا شهادة زور ، ولو كان لما ذكره من إستشهاد أبي بكر مستند لاشار إليه كما هو الدأب في مقام الإحتجاج ، وأما هذه الرواية التي رواها ابن أبي الحديد فمع أنّها لا تدل على الإستشهاد في خلافة أبي بكر ، فلا تخلو من تحريف ، لما عرفت من أن لفظ رواية


( 458 )

أبي البختري على ما رواه أبو داود ، وحكاه في جامع الاصول (1) : ألم تعلموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كلّ مال النبي صدقة أسمعتم (2) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما رواه الجوهري ، على أنّه لا يقوم فيما تفر دّوابه من الأخبار حجّة علينا ، وأنّما الإحتجاج بالمتفق عليه ، أو ما اعترف به الخصم والإستشهاد على الرواية لم يثبت عندنا لا في أيّام أبي بكر ولافي زمن عمر ثمّ أورد السيد رحمه الله على كلام صاحب المغني بأنا لو سلّمنا إستشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة ، لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم ، وهو في حكم أخبار الآحاد ، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرى ، لأن المعلوم لا يخص إلاّ بمعلوم ؛ قال : على أنّه لو سلم لهم أنّ الخبر الواحد يعمل به في الشرع لا حتاجوا إلى دليل مستأنف على نّه يقبل في تخصيص القرآن لأن مادل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به ، وتحقيق هاتين المسئلتين من وظيفة اصول الفقه .
والثاني : أنّ رواه الخبر كانوا متّهمين في الرواية بجلب النفع من حيث حلّ الصدقة وما أجاب به شارح كشف الحق من الفرق بين الرواية والشهادة ، وأنّ التهمة إنّما تضر في الشهادة دون الرواية ، فسخيف جداً ولم يقل أحد بهذا الفرق غيره .
الثالث و الرابع : ما تقدم في الإيراد الثالث والرابع من القسم الأوّل .
الخامس : ما تقدم من وجوب البيان للورثة .
أما القسم الثالث : وهو أن يكون مناط الحكم على علم أبي بكر مع شهادة النفر ؛ وكذلك الرابع : وهو أن يكون الإعتماد على روايته معهم ، فقد ظهر بطلانها مما سبق ، فإن المجموعة وإن كان أقوى من كل واحد من الجزئين ، إلاّ أنه لا يدفع التهمة ولامناقضة الآيات الخاصة ولا باقي الوجوه السابقة ؛ وقد ظهر بما تقدم أن الجواب عن قول أبي علي : « أتعلمون كذب أبي بكر أم تجوزون صدقة ، وقد علم أنّه لا شيء يعلم به كذبه قطعاً فلابد من تجويز كونه صادقاً كما حكاه في المغني » هو أنا نعلم كذبه قطعاً والدليل عليه :
____________
(1) 3 | 311 .
(2) كذا في البحار .

( 459 )

ما تقدم من الوجوه الستّة المفصلة ، وأن تخصيص الآيات من هذا الخبر ليس من قبيل تخصيها في القاتل والعبد كما ذكره قاضي القضاة . إذ مناط الثاني روايات معلومة الصدق ، والأول خبر معلوم الكذب . وقد سبق في خطبة فاطمة عليها السلام إستدلالها بقوله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وبثلاث من الآيات السابقة ، وهو يدل مجملاً ، على بطلان ما فصّلوه من الأجوبة ؛ ثمّ إن بعض الاصحاب حمل الرواية على وجه لا يدل على ما فهم منها الجمهور وهو أن يكون ما تركناه صدقة مفعولاً ثانياً للفعل أعني « نورث » سواء كان بفتح الراء على صيغة المجهول من قولهم : ورثت أبي شيئاً ، أو بكسرها من قولهم : أورثه الشيء أبوه . وأما بتشديد الراء فالظاهر أنه لحن ، فإن التوريث إدخال أحد في المال على الورثة كما ذكره الجوهري وهو لا يناسب شيئاً من المحامل ويكون صدقة منصوباً على أن يكون مفعولا لتركنا ، والإعراب لا تضبط في أكثر الروايات ؛ ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف على الصدقة فتوهّم أبو بكر أنه بالرفع وحينئذ يدل على أن ماجعلوه صدقة في حال حياتهم لا ينتقل بموتهم إلى الورثة أي مانووا فيه الصدقة من غير أن يخرجوه من أيديهم لايناله الورثة حتى يكون للحكم إختصاص بالإنبياء عليهم السلام ولا يدل على حرمان الورثة مما تركوه مطلقاً ؛ والحق أنه لا يخلو عن بعد ، ولا حاجة لنا إليه لما سبق ، وأما الناصرون لأبي بكر فلم يرضوا به وحكموا ببطلانه ، وإن كان لهم فيه التخلص عن القول بكذب أبي بكر ، فهو إصلاح لم يرض به أحد المتخاصمين ، ولا يجري في بعض رواياتهم .
واعلم أن بعض المخالفين استدلوا ـ على صحّة الرواية وما حكم به أبو بكر ـ بترك الامة النكير عليه ، وقد ذكر السيد الأجل رضى الله عنه في الشافي كلمهم ذلك على وجه السؤال ، وأجاب عنه بقوله فإن قيل : إذا كان أبو بكر قد حكم بخطأ في دفع فاطمة عليها السلام من الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه ، فما بال الامة اقرتّه على هذا الحكم ولم تنكر عليه وفي رضاها وإمساكها دليل على صوابه ؛ قلنا قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا ، إلاّ في الموضع الّذي لا يكون له وجه سوى الرضا وبينا في الكلام على إمامة أبي بكر هذه الموضع بياناً شافياً .


( 460 )

وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جواباً جيّد المعنى واللفظ ، نحن نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها . قال : وقد زعم ناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبابكر وعمر في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النكير عليهما ؛ ثمّ قال : فيقال لهم : لئن كان ترك النكير دليلاً على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجين عليهما والمطالبين لهما بدليل دليلاً على صدق دعواهم وإستحسان مقالتهم لا سيما وقد طالت المشاحات ، وكثرت المراجعة والملاحات ، وظهرت الشكيمة ، واشتدت الموجدة ، وقد بلغ ذلك من فاطمة عليها السلام حتى أنّها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر وقد كانت ؛ قالت له حين أتته طالبة بحقها ومحتجة برهطها : من يرثك يا أبا بكر ، إذا مت ؟ قال : أهلي وولدي ، قالت : فما بالنا لا نرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما منعها ميراثها وبخسها حقها ، واعتل عليها ، ولج في أمرها ، وعاينت التهضم ، وآيست من النزوع ، ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ؛ قالت :
والله لأدعونّ الله عليك ، قال : والله لا دعون الله لك . قالت : ـ والله ـ لا اكلمك أبداً ، قال : والله أهجرك أبداً ؛ فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعه إنّ في ترك النكير على فاطمة عليها السلام دليلاً على صواب طلبها ؛ وأت ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت عادلاً ، أو تقطع واصلاً ، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخضمين جميعاً فقد تكافأت الامور واستوت الاسباب والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم ، وأوجب علينا وعليكم ، وإن قالوا كيف يظن ظلمها والتعدي عليها ؟ وكلما ، ازدادت فاطمة عليها السلام غلظة ازداد عليها ليناً ورقّة حيث تقول : ـ والله ـ لا اكلّمك أبداً فيقول : والله لا أهجرك أبداً ، ثم تقول : والله لأدعونّ الله عليك فيقول : والله لأدعون الله لك ؛ ثم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة وما يجب لها من التنويه والهيبة ، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذراً أو متقرباً كلام المعظم لحقها ، المكبر لقيامها والصائن لوجهها ، والمتحنن عليها : ما أحد أعزّ عليّ منك فقراً ولا حبّ إليّ منك غنىّ


( 461 )

ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه فهو صدقة ؛
قيل لهم : ليس ذلك بدليل على البرائة من الظلم والسلامة من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم وذلّة المنتصف ، وجدة الوامق ، ومقة المحق ؛ وكيف جعلتم ترك النكير حجّة قاطعة ودلالة واضحة ؟ وقد زعمتم أنّ عمر قال على منبره : متعتان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعة النساء ومتعة الحجّ ، أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، فما وجدتم أحداً أنكر قوله ، ولا استشنع مخرج نهيه ، ولا خطأه في معناه ، ولا تعجب منه ولا استفهمه ، وكيف تقضون بترك النكير ، وقد شهد عمر يوم السقيفة ، وبعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
الأئمة من قريش ثم قال في مكانه : لو كان سالم حيّاً ما يخالجني فيه شك حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى وسالم عبد لأمراة من الأنصار وهي اعتقته وحازت ميراثه ، ثم لم ينكر ذلك من قريش قوله منكر ولا قابل إنسان بين قوليه ولا تعجب منه ؛ وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عند دليلاً على صدق قوله وثواب عمله ، فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والإستحياء والحبس والإطلاق فليس بحجة تشفي ولا دليل يغني ؛
قال : وقال آخرون : بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل وردّ النصوص ، ولو كانوا يقولون ويصفون ما كان سبيل الامة فيهما إلاّ كسبيلهم فيه وعثمان كان أعزّ نفراً وأشرف رهطاً وأكثر عدداً وثروة وأقوى عدة . قلنا : إنهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا المنصوص ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادّعيا رواية وتحدثا بحديث لم يكن محالاً كونه ولا يمتنع في حجج العقول مجيئه وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه ؛ ولعل بعضهم كان يرى التصديق للرجل إذا كان عدلاً في وهطه مأموناً في ظاهره ، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ، ولا جرّب عليه غدرة ، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد ؛ ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذي يقطع بشهادته على


( 462 )

الغيب ، وكان ذلك شبهة على أكثرهم ، فلذلك قلّ النكير وتواكل الناس واشتبه الأمر ، فصار لا يتخلص إل معرفة حق ذلك من باطله إلاّ العالم المتقدم والمؤيد المرشد ؛ ولأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام ، وفي قلوب السفلة والطغات ما كان لهما من الهيبة والمحبة ، ولأنهما كانا أقل استيثاراً بالفيء واقل تفكهاً بمال الله منه ، ومن شأن الناس إهمال السلطان ماوفر عليهم أموالهم ولا يستأثر بخراجهم ولم يعطل ثغورهم ؛ ولأن الذي صنع أبو بكر من منع العترة حظها والعمومة ميراثها قد كان موافقاً لجلة قريش ولكبراء العرب ، ولأن عثمان أيضاً كان مضعوفاً في نفسه مستخفاً بقدرة لا يمنع ضيماً ولا يقمع عدواً ؛ ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير لامور لو أتى عمر أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترؤا على اغتيابه فضلاً عن مباداته والإغراء به ومواجهته كما أغلظ عيينة بن حصين له :
فقال : أما إنّه لو كان عمر لقمعك ومنعك ؛ فقال عيينة : إنّ عمر كان خيراً إلي منك أرهبني فابقاني ، ثم قال : والعجب أنّا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ، ما هو أقرب استناداً وأوضح رجالاً وأحسن اتّصالاً حتّى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما رووه وأكذبوا ناقليه وذلك أنّ كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق وضاه ، هذا آخر كلام الجاحظ ؛ ثم قال السيد رضى الله عنه : فإن قيل : ليس ما عارض به الجاحظ من الإستدلال بترك النكير ، وقوله كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضاً على فاطمة عليها السلام ولا غيرها من المطالبين بالميراث كالازواج وغيرهن معارضته صحيحة ؛ وذلك أن نكير أبي بكر لذلك ودفعه والإحتجاج عليه يكفيهم ويغنيهم عن تكلف نكير ولم ينكر على أبي بكر مارواه منكر فيستغنوا بإنكاره ؛ قلنا : أوّل ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد إحتجاجها بالخبر من التظلم والتألم والتعنيف والتبكيت وقولها على ما روي : والله لأدعون الله عليك ، ولا كلّمتك أبداً ، وما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره فمن المنكر الغضب على المنصف وبعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعاً أو مغنياً عن إمكار غيره من المسلمين ،


( 463 )

فإنكار فاطمة عليها السلام حكمه مقامها على التظلم منه يغني عن نكير غيرها ، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه ، انتهى كلامه « رفع الله مقامه »
الخامس : قال ابن أبي الحديد : اعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة عليها السلام أبا بكر كان في أمرين في الميراث والنحلة ، وقد وجدت في الحديث أنّها نازعت في أمر ثالث ومنعها أبو بكر إيّاها أيضاً وهو سهم ذي القربى ؛ روى أحمد بن عبدالعزيز الجوهري عن أنس ، أن فاطمة عليها السلام أتت أبا بكر فقالت : قد علمت الذي حرم علينا أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى ، ثم قرأت عليه قوله تعالى : ( واعلموا أنّما غنمتم من شيء فان الله خمسه وللرسول ولذي القربى ) الآية : فقال لها أبو بكر : بأبي أنت وأميّ وولدي وولدك ، السمع والطاعة لكتاب الله ولحقّ رسوله وحقّ قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله الّذي تقرأين ، ولم يبلغ علمي منه أنّ هذا السهم من الخمس مسلّم إليكم كاملاً ، قالت : أملك هو لك ولا قربائك ؟ قال : لا ، بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين .
قالت : ليس هذا بحكم الله تعالى ، فقال : هذا حكم الله فإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إليك في هذا عهداً صدقّتك وسلّمته كلّه إليك وإلى أهلك .
قالت : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعهد إليّ في ذلك بشيء إلاّ أنّي سمعته يقول لمّا أنزلت هذه الآية : ابشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى ، قال أبوبكر : لم يبلغ من هذه الآية أن أسلم اليكم هذا السهم كلّه كاملاً ولكن لكم الغنى الّذي يغنيكم ويفضل عنكم ، هذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهما فاسأليهم عن ذلك وأنظري هل يوافقك على ماطلبت أحد منهم ؟ فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر ، فقال لها مثل ما قال لها أبو بكر فتعجبت فاطمة عليها السلام من ذلك وتظنّت قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه . ثم قال : قال أحمد بن عبد العزيز :
حدثّنا أبو زيد بإسناده إلى عروة قال : أرادت فاطمة عليها السلام أبا بكر على فدك وسهم ذي القربى تأبى عليها وجعلهما في مال الله تعالى .
ثمّ روي عن الحسن بن عليّ عليه السلام : أنّ أبا بكر منع فاطمة عليها السلام وبني هاشم سهم ذي القربى وجعلها في سبيل الله في السلاح والكراع . ثمّ روي بإسناده عن محمّد بن


( 464 )

إسحاق قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام قلت : أرأيت علياً عليه السلام حين ولّى العراق وما ولى من أمر الناس ، كيف صنع في سهم ذي القربى ؟ قال : سلك بهم طريق أبي بكر وعمر ، قلت : كيف ولم وأنتم تقولون ، ما تقولون : أما والله ما كان أهله يصدرون إلاّ عن رأيه ، فقلت : فما منعه ، قال : يكره أن يدعى عليه من مخالفة أبي بكر وعمر . انتهى ما أخرجه ابن أبي الحديد بن كتاب أحمد بن عبدالعزيز .
وروي في جامع الأصول : من سنن أبي داود ، عن جبير بن مطعم : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً كما قسم لبني هاشم قال : وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير أنه لم يكن يعطي منه قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه . وروى مثله بسند آخر ، عن حبير بن طعم ؛
ثمّ قال : وفي اخرى له والنسائي : لمّا كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى في بني هاشم وبني عبد المطلب .
ثمّ قال : وأخرج النسائي أيضاً بنحو من هذه الروايات من طرق متعددة بتغيير بعض ألفاظها وإتفاق المعنى .
وروي أيضاً، عن أبي داود بإسناده ، عن يزيد بن هرمز : أنّ ابن الزبير أرسل إلى ابن العباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن يراه ؟
فقال له : لقربى رسول الله صلى الله عليه و آله سلم ، قسّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقّنا ورددناه عليه وأبينا أن نقبله . وروي مثله عن النسائي أيضاً وقال : وفي اخرى له مثل أبي داود ، وفيه : وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم ويقضي عن غارمهم ويعطي فقيرهم وأبي أن يزيدهم على ذلك . وروى العياشي في تفسيره : رواية ابن عبّاس ورويناه في موضع آخر .
وروى أيضاً : عن أبي جميلة ، عن بعض أصحابه ، عن أحدهما عليهم السلام ، قال : قد فرض الله الخمس نصيباً لآل محمد عليهم السلام فأبي أبو بكر أن يعطيهم نصيبهم ، حسداً وعداوة ، وقد قال الله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون ) ؛ والأخبار من طريق أهل البيت عليهم السلام في ذلك أكثر من أن تحصى ؛ وسيأتي


( 465 )

بعضها في أبواب الخمس والانفال إن شاء الله تعالى ؛
فإذا اطّلعت على ما نقلناه من الأخبار من صحاحهم ، نقول : لا ريب في دلالة الآية ، على اختصاص ذي القربي القربى بسهم خاص ؛ سواء كان هو سدس الخمس كما ذهب إليه أبو العالية ، وأصحابنا ، ورووه عن أئمتنا عليهم السلام وهو الظاهر من الآية كما اعترف به البيضاوي وغيره ؛ أو خمس الخمس لإتّحاد سهم الله وسهم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر الله للتعظيم كما زعم ابن عباس ، وقتادة وعطا ؛
أو ربع الخمس ، والأرباع الثلاثة الباقية للثلاثة الاخيرة ، كما زعمه الشافعي ؛
وسواء كان المراد بذي القربى أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، وبعده الإمام من أهل البيت كما ذهب إليه أكثر أصحابنا ، أو جميع بني هاشم كما ذهب إليه بعضهم وعلى ما ذهب إليه الاكثر يكون دعوى فاطمة عليها السلام نيابة عن أمير المؤمنين عليه السلام تقيّة أو كان المراد بني هاشم وبني المطلب كما زعمه الشافعي ، أو آل عليّ ، وعقيل وآل عبّاس ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، كما قال أبو حنيفة . وعلى أي حال فلا ريب أيضاً في أن الظاهر من الآية تساوي الستّة في السهم ، ولم يختلف الفقهاء في أنّ إطلاق الوصيّة والإقرار لجماعة معدودين يقتضي التسوية لتساوي السنة ، ولم يشترط الله عزّ وجلّ في ذي القربى فقراً أو مسكنة بل قرنه بنفسه وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم للدلالة على عدم الإشتراط ؛ وأما التقييد إجتهاداً فمع بطلان الإجتهاد الغير المستند إلى حجة فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدفع التقييد لدلالة خبر جبير وغيره على أنّه لم يعطيها ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهم ، وقد قال أبوبكر في رواية أنس : لكم الغنى الّذي يغنيكم ويفضل عنكم ؛ فما زعمه أبو بكر من عدم دلالة الآية على أن السهم مسلم الذي القربى ووجوب صرف الفاضل من السهم عن حاجتهم في مصالح المسلمين مخالف للآية والأخبار المتفق على صحّتها ؛ وقد قال سبحانه في آخر الآية : ( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا ) ؛ واعترف الفخر الرازي في تفسيره بأن من لم يحكم بهذه القسمة فقد خرج عن الإيمان ، وقال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فالئك هم الكافرون ) ؛ وقال : هم الفاسقون ، وقال هم الظالمون ، فاستحق بما صنع ما يستحقه الراد على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .


( 466 )

السادسة : مادلت عليه الروايات السالفة وما سيأتي في باب شهادة فاطمة عليها السلام ، من أنّها أوصت أن تدفن سراً ، وأن لا يصلي عليها أبو بكر وعمر لغضبها عليهما في منع فدك وغيره من أعظم الطعون عليهما ؛ وأجاب عنه قاضي القضاة في « المغني » بأنه قد روي أنّ أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة عليها السلام وكبر أربعاً ، وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير على الميّت ولا يصح أنّها دفنت ليلاً ؛ وإن صحّ ذلك فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً وعمر دفن ليلاً ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل ؛ فما في هذا ما يطعن به بل الاقرب في النساء أنّ دفنهنّ ليلاً أستر وأولى بالسنة .
وردّ عليه السيّد الأجلّ في الثاني : بأن ما ادّعيت من أنّ أبا بكر هو الذي صلّى على فاطمة عليها السلام وكبر أربعاً ، وإنّ كثيراً من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت فهو شيء ما سمع إلاّ منك وإن كنت تلقّيته عن غيرك فممن يجري مجراك في العصبّية وإلاً فالروايات المشهورة وكتب الآثار والسير خالية من ذلك ، ولم يختلف أهل النقل في أنّ أمير المؤمنين عليه السلام صلّى على فاطمة عليها السلام إلاّ رواية شاذّة نادرة وردت بأن العباس صلّى عليها .
روى الواقدي : بإسناده ، عن عكرمة ، قال : سألت ابن عباس متى دفنتم فاطمة عليها السلام ؟ قال : دفناها بليلٍ بعد هدأة . قال : قلت : فمن صلّى عليها ؟ قال : عليّ عليه السلام .
وروى الطبرسي ، عن الحرث بن أبي أسامة ، عن المدايني ، عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة عليها السلام عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت وقالت : سترتموني ستركم الله . قال أبو جعفرمحمد بن جرير : والثبت في ذلك أنّها زينب ؛ لأن فاطمة عليها السلام دفنت ليلاً ولم يحضرها إلاّ العباس وعليّ عليه السلام ، والمقداد والزبير .
وروى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه : عن الزهري ، قال : حدّثني عروة بن الزبير ، أنّ عائشة أخبرته : أنّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستّة أشهر فلما توفيت دفنها علي عليه السلام ليلاً وصلّى عليها عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وذكر في كتابه هذا أنّ أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهما السلام دفنوها ليلاً وغيّبوا قبرها .


( 467 )

وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو عن الحسن بن محمد : أنّ فاطمة عليها السلام دفنت ليلاً وروى عبدالله بن أبي شيبة ، عن يحيى بن سعيد العطار ، عن معمر ،عن الزهري : مثل ذلك ؛ وقال البلاذري في تاريخه : إن فاطمة عليها السلام لم تر مبتسمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها ؛ والأمر في هذا أوضح وأظهر من أن يطنب في الإستشهاد عليه ، وبذكر الروايات فيه ، فأما قوله ولا يصح ، أنّها دفنت ليلاً ، وإن صحّ فقد دفن فلان وفلان ليلاً فقد أنّ دفنها ليلاً في الصحّة كالشمس الطالعة ، وأن منكر ذلك كدافع المشاهدات ولم نجعل دفنها ليلاً بمجرد ، وهو الحجّة .
فيقال : فقد دفن فلان وفلان ليلاً بل مع الإحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة الّتي هي كالمتواتر أنها عليها السلام أوصت بأن تدفن ليلاً حتى لا يصلي عليها الرجلان ، وصرّحت بذلك وعهدت فيه عهداً بعد أن كانا استاذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلّما طال عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه فكلّما أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك وألحّ عليها فأذنت لهما في الدخول ثمّ أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما ؛ فلمّا خرجا قالت لأمير المؤمنين عليه السلام : قد صنعت ما أردت ، قال : نعم ؛ قالت : فهل أت صانع ما آمرك ؟ قال : نعم ؛ قالت : فإنّي أنشدك الله لا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري ، وروي أنه عليه السلام عمى على قبرها ، ورشّ أربعين قبراً في البقيع ولم يرش على قبرها حتى لا يهتديا إليه ، وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما للصلاة عليها ، فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلاً ، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وتأخر عنه ، لم يكن فيه حجّة ، انتهى كلامه رفع الله مقامه .
ومما يدل من صحاح أخبارهم على دفنها ليلاً ، وأن أبا بكر لم يصلّ عليها ، وعلى غضبها عليه وهجرتها إيّاه :
مارواه مسلم في « صحيحة » وأورده في « جامع الاصول » في الباب الثاني من كتاب الخلافة والإمارة من حرف الخاء عن عائشة ـ في حديث طويل ـ بعد ذكر مطالبة فاطمة عليها السلام أبا بكر في ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفدك وسهمه من خيبر ؛ قالت : فهجرته فاطمة عليها السلام ، فلم تكلّمة في ذلك حتى ماتت ، فدفنها علي عليه السلام ولم يؤذن بها


( 468 )

أبابكر ؛ قالت : فكان لعلّي وجه من الناس حياة فاطمة عليها السلام فلّما توفيت فاطمة عليها السلام انصرفت وجوه الناس عن عليّ ، ومكثت فاطمة عليها السلام بعد رسول الله ستة أشهر ثم توفيت ، وروى ابن أبي الحديد : عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، عن هشام بن محمد ، عن أبيه ، قال : قالت فاطمة عليها السلام لأبي بكر : إنّ أمّ أيمن تشهد لي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاني فدك ، فقال : يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والله ما خلق الله خلقاً احب إلي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبيك ولوددّت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك ، والله لئن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري ، أتراني اعطي الأسود والأحمر حقّه وأظلمك حقّك وأنت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ هذا المال لم يكن للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولّيته كما كان يليه ، قالت : والله لا كلمتك أبداً قال : والله لا هجرتك أبداً قالت : والله لادعون الله عليك قال : والله لأدعون الله لك : فلّما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها ، فدفنت ليلاً وصلى عليها العباس بن عبد المطلب ، وكان بين وفاتها ووفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم إثنتان وسبعون ليلة ، ومما يؤيّد إخفاء دفنها ، جهالة قبرها والإختلاف فيه بين الناس إلى يومنا هذا ، ولو كان بمحضر من الناس لما اشتبه على الخلق ولا اختلف فيه .
السابعة : ممّا يرد على الطعون على أبي بكر في تلك الواقعة .
أنّه مكّن ازواج النبيّ التصرفّ في حجراتهّن بغير خلاف ولم يحكم فيها بأنّها صدقة ، وذلك يناقض ما منعه في أمر فدك وميراث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإن انتقالها إليهنّ إمّا على جهة الإرث أو النحلة والأوّل مناقض لروايته في الميراث ؛ والثاني يحتاج إلى الثبوت ببينّة ونحوها ولم يطالبهنّ بشيء منها كما طلب فاطمة عليها السلام في دعواها وهذا من أعظم الشواهد لمن له أدنى بصيرة على أنّه لم يفعل إلاّ عداوة لأهل بيت الرسالة ولم يقل ما قال إلاّ إفتراء على الله وعلى رسوله !!
ولنكتف بما ذكرنا ، فإن بسط الكلام في تلك المباحث ممّا يوجب كثرة حجم الكتاب وتعسّر تحصيله على الطلاّب ؛ فانظر أيّها العاقل المنصف بعين البصيرة فيما اشتمل عليه الأخبار الكثيرة التي أوردوها في كتبهم المعتبرة عندهم ، من حكم سيدة النساء صلوات الله عليها مع عصمتها وطهارتها باغتصابهم للخلافة ، وأنّهم اتباع الشيطان وأنّه ظهر فيه حسيكة النفاق ، وأنّهم أرادوا إطفاء نور الدين وإهماد سننّ سيد


( 469 )

المرسلين صلوات الله عليه وآله و أنّهم آذوا أهل بيته واضمروا لهم العداوة وغير ذلك ممّا اشتملت عليه الخطبة الجليلّة فهل يبقى بعد ذلك شك في بطلان خلافة أبي بكر ونفاقه ونفاق أهل بيته ؟!
ثمّ أنّها عليها السلام حكمت بظلم أبي بكر في منعها الميراث صريحاً بقولها عليها السلام لقد جئت شيئاً فريّاً ، ودعت الأنصار إلى قتاله فثبت جواز قتله ، ولو كان إماماً لم يجز قتله ، ثمّ انظر إلى هذا المنافق كيف شبّه أمير المؤمنين وسيّد الوصيين وأخا سيد المرسلين وزوجته الطاهرة بثعالة شهيده ذنبه وجعله مريّاً لكل فتنة !
ثمّ إلى موت فاطمة صلوات الله عليها ساخطة على أبي بكر ، مغضبة عليه منكرة لإمامته وإلى انكار أبي بكر كون فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه آله وسلم مع كونه مخالفاً للآية والإجماع وأخبارهم وإلى أنّه انتزع فدك من يد وكلاء فاطمة عليها السلام وطلب منها الشهود مع أنّها لم تكن مدعية ، فحكم بغير حكم الله وحكم الرسول وصار بذلك من الكافرين بنص القرآن وإلى طلب الشاهد من المعصومة وردّ شهادة المعصومين الذين أنزل الله تعالى فيهم ما أنزل وقال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال ، ومنعها الميراث خلافاً لحكم الكتاب وافترائه على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما شهد الكتاب والسنة بكذبه فتبوء مقعده من النار وظلمه عليها صلوات الله عليها في منع سهم ذي القربى خلافاً لله تعالى ومناقضة لما رواه حيث مكن الازواج من التصرف في الحجر وغيرهما ممّا يستنبط من فحاوي ما ذكر من الأخبار ولا يخفى طريق استنباطها على أولي الابصار .