أي حداثة يطلبون ؟

     

 

من خلال الاستقصاء لتيارات الحداثة المعاصرة الغربية منها أو ربيبتها العربية[8] بكل صورها المتناقضة،[9] يمكننا أن نفهم حقيقة أن الخطاب الحداثوي ـ مع الحفاظ على حال حسن الظن ـ يتوجه إلى تحقيق المتطلّب الحضاري،[10] وليس الفكري بالمعنى الدقيق للكلمة، ولئن التحقت المباحث الفكرية بأبحاث ما يسمى بالحداثة فليس إلا على حقيقة الوهم أن المأزق الحضاري الذي تعيشه هذه الأمة ينشأ من طبيعة الفكر التراثي الذي يهيمن عليها، ولكن من يطلع على الغالبية العظمى ـ إن لم يكن الجميع ـ من أبحاث الحداثة يجدها في واقع الأمر، واحدة من اثنتين، كلاهما يدور في محور العلاقة بين المتسلّط والمرتَهَن؛ فإما أنها تبحث بلغة المتسلط الجبار والقاهرة، وتنظّر لهيمنته، وعندئذ تجد بحثنا يتركز في كيفية إبقاء السلطة الحضارية ضمن مدارها مع إضفاء التلميع المطلوب لمعالجة المشكلات الناشئة من عملية إخضاع الآخرين وارتهانهم، ولعل إطلالة جادة على أفكار العولمة وأفكار ما بعد الحداثة، وما يتكلم به منطق (نهاية التاريخ) لدى (فرانسيس فوكوياما) و(صدام الحضارات) لدى (صاموئيل همنغتون) ومن يتبعهم من منظري الغرب والعرب المتغربين يجد أن المطلوب هو تنظير الارتهان، وبث الفكر التطبيعي الرامي للتعايش الإيجابي مع واقع الارتهان الغربي والرأسمالي، ذلك الارتهان الذي نجده يطرح نفسه في التفوق التقني والاقتصادي، ومن ثم ليجر وراءه صورة العبودية أو الضغط السياسي وما يتبعه من حلقات غير منتهية في مسيرة الاستغلال.

أو أن تعيش هذه الأبحاث مأزق كيفية التخلص من الأزمة السياسية والتنموية والأمنية وغيرها التي تخضع لاستحقاقاتها الشعوب المرتهنة.

وقد تداخلت هنا بعض المصالح الأيديولوجية والسياسية لتدخل المعترك مع التراث الفكري ضمن هذا السجال من أجل التغطية على المعركة الأصلية، وأعني بها المعركة على موازين النفوذ والسيطرة والقوة، وتسويق الأفكار القادرة على تطويع الوعي الجماهيري لمتطلبات الارتهان السلطوي المحلي أو الإقليمي، أو تسطيح العقلية الاجتماعية في فهم هذا الصراع، خصوصا إذا كان هذا التراث يمكن له أن يتسبب بإعاقة جوهرية لمسارات آلية تلك المصالح، وحينما يكون هذا التراث له خصوصية كخصوصية الإسلام، فلا عجب عندئذ أن تتخذ المعركة ضد الإسلام طابع المشروع الحداثوي، ومن ثم لتظهر لنا الصورة الواقعية والحقيقة للمعركة الدائرة باسم الأصالة والتجديد.

ولكن كل هذا لا يعني أن لا مشكلة بين القديم والجديد، وبين الأصالة التجديد ومن الطبيعي أن تختلف وجهات النظر الإسلامية مع ما عداها في هذا الموضوع، وسأحاول هنا أن أشير إلى الخطوط العامة لذلك، تاركا التفصيل لظروف أخرى علّ الله سبحانه وتعالى يوفقنا للتوفر عليها إن شاء الله وبعونه في بحث مستقل.

---------------

[8] - نعتقد ان ما يطرح في العالم العربي من مشاريع للحداثة ما هي إلا صدى للمشاريع المطروحة في الغرب وذلك لأسباب عديدة ليست بالضرورة تعبر عن إرتهان متعمد، ولكنها لا تغفل أن تكون مرتهنة فكرية.
[9] - تتعدد هذه المشاريع وتتناقض، وتثير فيما بينها إقتتالاً فكرياً عميقاً، وإطلالة بسيطة على بعض الكتابات النقدية في هذا الشأن، تظهر مدى البون بين كل واحد من هذه المشاريع التي ترى بعضها قد يصل الأمر به إلا الإنكار الصريح للتراث كما نلحظ ذلك في الكتابات الأولى لهادي العلوي ككتاب الدين والتراث، وكذا كتابات صادق جلال العظم، وعزيز العظمة، أو اِلإنكار المبطن والمستتر كما في كتابات حسن حنفي وطيب تيزيني ومحمود إسماعيل، أو من خلال الدعوات التوفيقية المزعومة كما في كتابات محمد أركون وتلميذه هاشم صالح ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي، وغير ذلك كثير من هذه المشاريع.. ولمن أراد الإطلاع على جانب من جوانب الجدل الصاخب بين أصحاب هذه التيارات فليراجع كتاب نظرية العقل وكذا كتاب مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة لجورج طرابيشي، وكتاب التراث بين السلطان والتاريخ لعزيز العظمة، وكتاب قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة لكمال عبد اللطيف، ولعل كتاب المرايا المحدبة للدكتور عبد العزيز حمودة من خيرة الكتب التي فضحت العديد من مزاعم تيار الحداثة.
[10] ـ أي انها تحاول أن تشق نفسها وسط الأجواء الخانقة لتنال من المكاسب الحضارية.

 

     

فهــرس الكتــاب