حاول غالبية كتاب الحداثة أن يقدموا
فهما للنص القرآني يخضع للاشتراطات التي تضعها النظم المعرفية لفهم
التراث والتعامل مع النص القرآني بصفته إحدى الحفريات التي يعمل عليها
مبضع الأوبوستمولوجيا، وكائنا تاريخيا وذا شخصية تاريخية،[11] مما جعل
هذا النص أولاً أسيراً لمشرط معايير تقييم غريب عنها، وغريبة عنه،
ليخرج هذا النص بعد ذلك عن كونه القادر على تفسير الأزمان التاريخية
الثلاثة (الماضي، والحاضر، والمستقبل) وتحديد اتجاهاتها، إلى النص الذي
يخضع لتبدلات الزمان والمكان، ولهذا فحينما تطالع هذا النص ضمن فهم
كتابات العديد من هؤلاء تجده عجيباً حيث يتم إخضاعه للاشتراطات الذهنية
والمعلوماتية المسبقة للكاتب، ولهذا فقد تجد مفردات هذا النص غير
متجانسة بالمرة، فتارة قد تقرأه بعين مادية مفرطة،[12] وأخرى قد تجد
فيه متافيزيقيا مترهبة وصوفية عازفة عن الحياة.
وعليه فحينما
يراد لهذا النص أن يدخل في سجال الأصالة والتجديد، فإنما يراد منه أن
يكون حاضراً للتقلب مع ظروف ارتهانات التجديد، ومقتضيات خطابه التعبوي،
لا بعنوان أنه الجهة التي تعطي لعملية التجديد الإطار الذي تتحرك فيه،
ليقال بعد ذلك أن هذا المشروع أو ذاك هو الذي حقق التوافق بين الأصالة
والتجديد.
وفي هذا الاتجاه عالج الحداثيون مشكلة النص القرآني
لأولئك الذين لديهم القابلية في إهمال الصفة الإلهية له، أو أولئك الذي
يرون الصفة الإلهية منعتقة عنه، طالما أنه أصبح ذا شخصانية تاريخية
تخضع لمواصفات الحدث التاريخي والعوامل المتحكمة فيه وتقف وراء صنعه،
أولئك الذين يرون بشكل عملي وواقعي ـ وإن لم يصرّحوا بذلك ـ أن الله
(جلّ وعلا) قد قال كلمته وانقطع عن متابعة تفصيلاتها تاركاً العبء على
الكاهل البشري، ولئن كان ثمة نبي، فلقد عاش زمانه وقال كلمته في إطار
ذلك الزمان وظروفه الاجتماعية والثقافية.
وقد ساعدهم في ذلك
كله، ذلك الكم الهائل من التراث المثير في زيفه الذي حشر مع هذا النص
وسمّي باسمه،[13] وتلك الصورة التي وضعت للنبي(ص) صاحب هذا النص في
متون ما يسمى بالصحاح التراثية، ومن ثم ليصنعوا منه بالفعل شخصية
مبتورة التقاطيع قدّمت إلى هؤلاء المتغربين كي تكون الوثيقة بيدهم على
صحة زعمهم حول شخصانية النص التاريخية المنعزلة عن قداسة التنزيل
الإلهي.
وقد أسهمت التفاسير المقدمة بعنوان أنها متون الأصالة
إسهامات جادة في ذلك، لما فيها من التجني على النص القرآني بشكل لا يدع
مجالاً للشك أمام عقول هذا النمط من الناس، بأن هذا الكتاب ليس له تلك
الصفة المطلقة التي يضعها له نبيّه محمد(ص).[14]
ففي أرجاء هذا
التفاسير ما يضحك الثكلى، أما النبي ـ في هذا التراث المفتري عليه
وحاشاه من كل ذلك ـ فتجده ـ بأبي وأمي ـ شخصية متناقضة في التعامل حتى
مع الأوامر والتعاليم التي يصدرها بنفسه، فمرة تجده يتعامل مع السماء
بكل ما يمكن للروحانية أن تعبّر عن نفسها، ومرة تجده يغرق في ملذات
الدنيا واشتراطات إغراءاتها واحباطاتها، قوياً مرة، وواهناً أخرى،
حيياً في حين، وصلفاً في حين آخر، لا يحتفظ بوقاره ولا يلتزم بحكمه
بحرمة الغناء ـ مثلاً ـ هذا إن اشتهت زوجه الطرب والغناء، ولكن من
يلتزم بحكم التشريع هو والد هذه الزوجة، وتراه يستحي من رجل قالت عنه
هذه المتون: بأنه رجل تستحي منه الملائكة ولكنها أظهرت النبي (ص) مع
هذا الذي تستحي منه الملائكة وهو لا يراعي الوقار الاجتماعي،[15] لتقدم
بعد ذلك هذا الذي تستحيي منه الملائكة بصور الرأسمالي المتربع على عرش
المال والسلطة باعتباره الوريث الإلهي لمال عباد الله ليجعله ارث بيته
وعشيرته في مصروفات اللذة الدنيوية بأقذع صورها،[16] صورة نبي ـ وحاشا
لذاته الشريفة من كل ذلك ـ من حق المرء أن يخجل من التصرفات التي
تنسبها له هذه المتون،[17] ولكنه يقدم في سلوكه هذا بعنوانه من نزلت
فيه هذه الآية: (وإنك لعلى خلق عظيم)[18] ونبي يخنع ويداهن في الفعل
والقول ويخاف على نفسه من الغيلة فلا يستطيع النوم من الخوف، ويتناسى
حراسة الأجل لعمره،[19] بالرغم من أنه مطالب بعدم الخوف بل وبأعنف صور
المجابهة والمجاهدة المتمثلة بقوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار
والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير)[20].
وبالرغم
من أنه يقدم بصورة العصمة المطلقة المتأتية من قوله تعالى: (والنجم إذا
هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى.
علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو في الأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى.
فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما
رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى.
عندها جنة المأوى)[21] غير أن الباحث لا يعدم العثور في هذه الكتب على
الكثير من التصرفات المتنافية مع العصمة، وغير ذلك المئات من الصور
المتناقضة بين الحادث الدنيوي في شخصية النبي (ص) والتشريع الإلهي حيث
تتربع هذه الصور مساحات كبيرة من هذه الكتب.
فلا غرابة بعدئذ من
أن يسلب النص القرآني من القداسة التي تجعله مهيمنا على كل شيء على
الأقل، لترغمه بعد كل ذلك للخضوع لمبضع النظم المعرفية الغربية، ليكون
مفسر النص أياً كان!!ومن ثم ليعبث بالنص كيفما
شاء.[22].
------------------------- [11] - انظر على سبيل
المثال كتاب: اشكاليات القراءة وآليات التأويل، وكذا كتاب: مفهوم النص؛
دراسة في علوم القرآن لنصر حامد أبو زيد، وكذا كتاب:النص القرآن أمام
اشكالية البنية والقراءة لطيب تيزيني، وتاريخية الفكر العربي والاسامي
لمحمد أركون، ونقد النص لعلي حرب، وغيرها كثير.
[12] - كما فعل
حسين مروة في كتابه النزعات المادية في الإسلام.
[13] - يرفض
بعض الباحثين العلمانيين كطيب تيزيني النظر إلى هذا التراث بإعتبار أن
معظمه مزيف أو موضوع من قبل الأنظمة السياسية والطائفية التي تعاقبت
على حكم الأمة كي تبرر مشروعية استيلائها على السلطة الزمنية والروحية،
بزعم أن هذا التراث بكل ما فيه هو عنوان ما مضى، وقد كان إحتمال هذا
الأمر ممكناً لو أنهم اكتفوا بالنظر إليه كمادة تاريخية معزولة عن
الجوانب الفكرية بحيث تخضع لمعايير الجرح والتعديل، ولكنهم أصروا على
محاكمة الإسلام وفقاً لما وجدوه فيما يسمى بالصحاح ومستنداتها وتوابعها
فوقعوا وأوقعوا غيرهم في متاهات الجهل المركب.
[14] - أنصح
لمتابعة هذا الموضوع بقراءة ما كتبه من هؤلاء خليل عبد الكريم لا سيما
مجموعته: (شدو الربابة في أحوال مجتمع الصحابة) وكذا كتابه الجذور
التاريخية للشريعة، وما كتبه سيد محمود القمني لا سيما في كتابه:
الأسطورة والتراث.
[15] - نقل مسلم في صحيحه عن عائشة أنها
قالت: كان رسول الله (ص) مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه
فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن
له وهو كذلك فتحدث، ثم استاذن عثمان فجلس رسول الله(ص) وسوى ثيابه فدخل
فتحدث فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل
عمر فلم تهتشّ له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسوّيت ثيابك فقال: ألا
أستحي من رجل تستحي منه الملائكة. [صحيح مسلم بشرح النووي 15: 168:
169].
ولا ينقضي عجب المرء حين يرى عائشة نفسها تهتف الموث لهذا
الذي تستحي منه الملائكة حيث كانت تحمل قميص رسول الله (ص) وتنادي وسط
المسلمين محرّضة إياهم على قتله لتنتهي إلى القول: اقتلوا نعثلاً فقد
كفر. [تأريخ الطبري 5: 172، والطبقات الكبرى لابن سعد 3:
66].
فإذا ما كان فعل رسول الله (ص) سنة، فما بالها لم تراع
السنة ؟! وقد ملأ القوم الدنيا صراخاً على هذه السنة التي صاغتها في
الكثير من صفحاتها يد عائشة وأعمالها. ولا يحتاج القارئ إلى كثير جهد
كي يكشف موطن الكذب في هذا المجال.
وما أحسن عبد بن أبي سلمة
حين قال لعائشة وهو يعلّق على أمرها بقتل عثمان ومن ثم مناداتها بدمه
حين اخبرها بأن الأمر قد آل إلى الإمام أمير المؤمنين (ع):
فمنك البــداء ومنك الغير ومنك الرياح ومنك المطر
وانت
أمرت بقتــل الإمام وقلت لنــا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في
قتلــــه وقاتله عندنــا من أمر
ولم يسقط السيف من فوقنـا ولم
تنكسف شمسنا والقمر
وقد بايع النــاس ذا تدرإٍ يزيل الشبا ويقيم
الصعـر
ويلبس للحرب أثوابها وما من وفي مثل من قد
غــدر
انظر الفتنة ووقعة الجمل: 115لسيف بن عمر الضبي وتاريخ
الطبري 3: 12.
[16] - ينقل ابن ابي الحديد المعتزلي أن بيت مال
المدينة كان: فيه حلي وجواهر، فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله فاظهر
الناس الطعن عليه في ذلك، وكلّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه، حينها
قال مقولته المشهورة: لنأخذنّ حاججتنا من هذا الفيء، وإن أرغمت به أنوف
أقوام.[شرح نهج البلاغة لابن الحديد 3: 49].
لينقل السمعودي بعد
ذلك أن عثمان كان: له يوم قتل عند خازنه مائة وخمسون ألف دينار ومليون
درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة الف دينار وخلف خيلا
كثيرا وابلا. [مروج الذهب 2: 341ـ342].
[17] - تحدّث عائشة في
احدى أعاجيبها وما أكثرها وأطمها فيما يعرف بمسألة رضاع الكبير قالت:
إن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيته فأتت يعني ـ
سهلة بنت سهيل زوج أبي حذيفة النبي (ص) ـ فقالت: إن سالما بلغ ما يبلغ
الرجال، وعقل ما عقلوا وانه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة
من ذلك شيئا فقال لها النبي (ص): أرضعيه تحرمي عليه ويذهب ما في نفس
أبي حذيفة !! فرجعت اليه فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي
حذيفة قال: فأخذت بذلك عائشة وأبى سائر أزواج النبي (ص).[أسد الغابة في
معرفة الصحابة 2: 156 رقم 1892].
[18] - القلم: 4.
[19]
- ذكر الواحدي في أسباب النزول عن عائشة في تفسير قوله تعالى: (والله
يعصمك من الناس) أن الرسول لم يستطع النوم بسبب عدم وجود حراسة
عليه،ولم ينم إلا بعد أن جاء سعد وحذيفة لحراسته حتى سمعت غطيطه فنزلت
الآية!.(أسباب النزول: 150).
[20] - التوبة: 73.
[21] -
النجم: 1ـ 15.
وما دام المقام مقام هدم وتهشيم مقام رسول الله
(ص) فليس من الغرابة أن تجد هنا فضل الله وأمثاله قد أدخل قلمه في زمرة
من اتهم رسول الله(ص) بأنه هو من عبس في سورة عبس.(انظر من وحي القرآن
24: 60 فما بعد، وكذا عدة اشرطة مسجلة بصوته. ومجلة الموسم: العدد:
21ـ22 س1077 ص294 ـ 295). فضلاً عن إتهامات كثيرة تجد الحديث عنها
مفصلا في كتابنا لهذا كانت المواجهة.
[22] - انظر نماذج ذلك في
بعض تفسيرات محمد أركون لا سيما في كتابه نزعة الالسنية في الفكر
العربي، ونصر حامد أبو زيد في مجمل كتاباته، ومحمد شحرور في كتابه:
الكتاب والقرآن قراءة معاصرة |