ج - إبعاد النص عن أهله

     

وهذا الاتجاه قد يكون هو الأكثر تداولا، لأن عددا كبيرا من الكتاب الإسلاميين قد تورطوا فيه الفعل، فهنا نجد النص أسير فهم الكاتب وظروفه وآرائه، من دون أن يستند إلى آلية حقيقة وجديرة بفهم هذا النص، وفي تصوري إن هذه الآلية ليست هي التعرف على بضعة علوم من شأنها أن تعين المفسر على فهم النص فهذا وحده لا يكفي، فمن الصحيح أن القرآن الكريم تميز بقدراته البيانية والبلاغية الفذة، ولكن هذا لا يعطي للبلاغة أو سائر فنون العربية الحق في فهم كل النص، نعم يمكن لها أن تعين ولكنها ليست وحدها الحكم في حلّ عقد النص، خاصة وإن اكثر مفردات هذا النص قد حوت على ما يمكن أن يصطلح عليه بمفارق طرق متعددة في المفردة الواحدة، مما يعني إن هذا العلوم لا يمكنها أن تكون كافية في البت في فهم النص، مع إجلالنا الكبير لدورها في إبانة الكثير من صفحاته.

ونتيجة لهذا الفهم المبتور قد تجد بعض المحاولات التفسيرية التي تغلف دخول الرأي الشخصي والفهم الشخصي للمفسر بعناوين متعددة تتمتع بفضفاضية محتواها الذي يسمح بحمل الكلام على صور متعددة كي ينأى الكاتب من مشرط المحاسبة العامة والخاصة كما نجد ذلك في الاستيحاء وما إلى ذلك، بل يلحظ التجني في هذا المجال حينما يتم تصوير تفسير المعصوم (عليهم السلام) لا بعنوانه نصا إلهيا انساب على لسان المعصوم (عليه السلام) وإنما هو عملية استيحاء مماثلة لما يقومون به، كل ذلك من أجل منح فهم صاحب المحاولة البشرية؛ الحَكَمية في تفسير النصوص، بل وحتى إدخال هذا الفهم في مناطات التشريع الفقهي، بدعوى أن ذلك تم بناء على فهم مصالح الشريعة، وقد تمادى البعض من هؤلاء فرام إخضاع السنة المعصومة لأمثال هذا الفهم حيث يجعل هذا الفهم حاكماً على الحديث الشريف.

وضمن هذا الاتجاه تدخل الدعوة التي يدعو لها فضل الله حيث يطالب بمنهج مماثل يغطيه أولا بغطاء: ملاءمة المفهوم الحديثي في مضمونه الفكري مع المفهوم القرآني في دلالاته، من خلال الأصول الدقيقة للبحث العلمي …

ولكن هدف هذا الغطاء هو تمرير الدعوة للتخلص من السنة من خلال: عدم الاقتصار على الأساليب الأصولية التقليدية في طريقة البحث والمقارنة.[25] خصوصاً حين تكون الوسيلة هي التوثيق النوعي للأخبار وفق ما يدعو إليه هذا الرجل.[26]

فمع ملاحظة أن المفهوم القرآن من دون نص يفسره سواء من آية أو سنة يغدو ألعوبة بيد من يشاء الإدعاء بفهم القرآن، وبالتالي يمكن القول دائما حتى للسنة الموثقة الصدور من المعصوم (عليه السلام) بأنها مخالفة للمفهوم القرآني، ومن المعلوم إننا ما أكلنا حين أكلنا إلا من أمثال هذه الدعوات.[27]

وقد استغلت هذه الاتجاهات في معركة الأصالة والتجديد ليقدم التجديد المتنكّر لمفاهيمنا في ثوب الأصالة، وبالتالي لتقوم بأقذر لعبة للضحك على الذقون فها هم أرباب هذه المعركة الذين أغوتهم الاغراءات التي تقدمها مجتمعات العولمة وما تعد به من إمكانات، يحاولون تفكيك العقد التي تحكمها أصولية هذا المجتمع وارتباطاته المحكمة مع تراثه، ولهذا استغلت هذه الأساليب وبطرق متفاوتة لتسلب منه الاطمئنان بسلامة موروثه العقائدي والفكري، ومن ثم لتطلق ضبابا مقيتا من التشكيك والعبثية الفكرية، بغية الوصول إلى نفسية مرهقة من حمل أعباء الأصالة، والتي لا تبيح لمجتمعها الدخول كيفما اتفق في تيارات التحديث والعولمة، وبالتالي تطويع قابلية هذا المجتمع للانحناء أمام رياح التحديث القادمة بشروط الغرب المتعجرف وإمكاناته، ضمن آليات تجعل الارتهان للغرب أمرا واقعا لا مفر منه.


-----------------------
[26]- انظر من وحي القرآن 1: 223 (ط.ج).

[26] أنظر كتاب النكاح 1: 48 لفضل الله. وفي هذا يقول: مبنانا في حجية خبر الواحد هو حجية الخبر الموثوق لا خبر الثقة، فإذا لم تكن هناك أي مصلحة في الكذب عند الراوي فلا بأس بالأخذ بالخبر وإن كان ضعيفا، أو كما يقول في موضع آخر: عدم وجود أساس لرغبة الناقل في تعمده الكذب هو القرينة الطبيعية على وثاقة الحديث. (من وحي القرآن 4: 311) وفي مجموع هذه الأقوال وغيرها يفتح فضل الله الباب للدخول في الحكم على طبائع الرواة من دون أي دليل علمي فهو هنا يريد أن يدخل إلى نواياهم وإلى نفوسهم بما لا يملك أي دليل عليه، ولقد كنت قد أشرت في موضع آخر إلى مغزى هذه الكلمات فقلت: من الواضح إن هذا النهج يهدف إلى تأسيس قاعدة تلغي علم الدراية والرجال بمجموعه، وترك الأحاديث تحت رحمة الاحتمالات الظنية في أحسن الأحوال، إذ إن اكتشاف الكذب أو عدمه هو مسائل ظنية ما لم يصدقها الواقع أو يخبر بها المعصوم (صلوات الله عليه)، وبما أن هذا الأمر لا يمكن تحققه بحال من الأحوال فعليه يصبح الحديث تحت رحمة ظن لا يغني عن العلم شيئاً، ويصبح قبول الحديث أو رده من شؤون الاستحسانات العقلية.
هذا إذا احتملنا حسن القصد أما بغيره فالبلية أعظم!.
ووفق هذا المقياس فإن علم الحديث سوف يعاني من مشكلة تحديد الآلية التي من شأنها أن تحدد دوافع الناقل.
ووفق هذا الحديث يمكن رفض جميع الأحاديث التي رواها أهل البيت في فضائلهم أو في مختلف شؤون المذهب، وذلك لأن هذا المقياس سيجعل التشكيك بصدق أقوالهم المتحدثة عن مصالحهم أمراً لا مندوحة عنه.

[27] - ولربما مثل هذه الدعوة هي التي تفسر الاسباب التي جعلت تفسير تيار التحريفية المعاصرة يحفل بالكثير من المضادة للحديث الشريف، فيما يدخل فيه الحديث العامي الضعيف!.

 

     

فهــرس الكتــاب