وباعتبار أن الحداثة ليست
مذهباً فكرياً، فإننا لا نتوقع منها فكرا، وإنما نتوقع منها تأثيراً
مباشراً على مناهج التفكير، أو قد تتحول بذاتها إلى منهج للتفكير،
وبالتالي فهي قد تكون لغماً أمام أصالتنا
الفكرية، وعليه فإن أي مجال للتوأمة ما بين الثبات على الأصالة مع
الحصول على مكتسبات التجديد، لابد من أن ينبهنا إلى جدية الرجوع إلى
التعامل الجاد مع ما هو تراث ثابت في التفكير، وكيفية التفريق بينه
وبين ما هو متحوّل منه.
ولا يفوتني هنا الالتفات وبسرعة إلى زيف
مقولة بعض جهلة التحديثيين أو خبثهم حينما يربطون مفهوم ا لثبات
والتحول بالكم العددي الذي يقف من هذا المفهوم أو ذاك، حيث يشير إلى أن
الثوابت هي ما تسالم عليها المسلمون، والمتحولات ما اختلفوا بشأنه، حيث
إننا سنعثر ـ إن قبلنا بذلك ـ على أن الغالبية العظمى من مفرداتنا
الفكرية ستصبح متحوّلة، لتسمح لنا بالنتيجة بأن نتنازل عنها لصالح
مشروع تفكيك الأصوليات الدينية، وإلغاء الفوارق الفكرية التي تحول دون
اللقاء الجماعي في خيمة العالم الواحد المقاد بشروط قيم القوة والسلطة!
لسيد السلطة والمال في النظام العالمي الجديد.[28]
إننا لا
يمكننا أن نغفل كل التحديات المعاصرة التي تمر بها الأمة، ولهذا فمن
فارغ القول بأننا لسنا ضد التحديث الحضاري، لمجرد كونه تحديثاً، ولكننا
لا ينبغي بنا أن ندخل أي إطار للتحديث إلا بناء على شروطنا ومقتضاياتنا
الفكرية والعقائدية، أو على الأقل ضمن شروط لا تسمح بسحقنا، وتضمن لنا
استمرار مسيرتنا الحضارية التي تنشد معانقة ولادة فجر المجتمع الإلهي
الوارث، وهذه الشروط لا يمكن إبقاء ثباتها إلا من خلال الحفاظ على
سلامة بنيتنا العقائدية، فالذي يريد مواجهة عاصفة القيم والمعايير
الغربية المدججة بأسلحة الإغراء والإغواء والموضوعة على أرضية قوامها
سوط جلاد لا يرحم، عليه أن يحكم ارتباطه بأوتاد يمكن لها مقاومة كل هذه
الأنواع من الأعاصير، وهذا الأمر لا يمكن إتمامه إلا من خلال تحكيم
الارتباط مع منظومة القيم والمعايير التي تجعلنا على ارتباط وثيق مع
تراثنا العقائدي.
وهنا لا أقصد بكلمة التراث هذه أيّ تراث،
وإنما أقصد التراث في جانبه المقدّس والثابت، الذي لا يمكن التهاون
بشأنه مهما كانت الظروف وأيا كانت التحديات، ـ وبمعنى أدقّ ـ الالتزام
بالكتاب العزيز وسنة المعصوم (عليه السلام)، لتكون هي المرجعية الوحيدة
التي نتحاكم إليها في مواقع الجذب والدفع، وفي مواقع الإحباط والتحفّز
تجاه أي عالم من عوامل المعترك الحضاري (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى
الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)
[النساء: 59].
وهنا لابد من العودة للفت الانتباه إلى محاولة
جديدة تنساق بدهاء وسط العقل الثقافي الساذج، ألا وهي إلقاء ظلال
التشكيك على سنة المعصوم (عليه السلام) وإحاطتها بجو داكن من الغموض
المبني على الشكّ بإمكانية الحصول على صدور صحيح من المعصوم (عليه
السلام) والدعوة بدلاً عن ذلك لتفعيل الرجوع إلى القرآن على طريقة:
(حسبنا كتاب الله)، وتصوير هذا الكتاب الإلهي العظيم بالصورة التي يمكن
معها أن تكون الثقافة العامة السطحية قابلة لفهمه وتفسيره، والذي يفقه
ما جرى في رزية يوم الخميس في بيت رسول الله (ص) يوم أراد الرسول (ص)
تخصيص المرجعية الوحيدة لفهم النص وتفسيره وتأويله، فأراد غيره الضحك
على أذقان الناس فهتف هاتفهم بصلف: (إن النبي ليهجر، حسبنا كتاب الله)
يعلم أن هذه الأمة التي وعدها الرسول (ص) بعدم الضلال بقوله المتواتر
لدى الفريقين: (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي
أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي). إنما ضلت حينما رضخت لمنطق: إعادة
التفكير ببديهيات العقيدة وسط أفكار مرادفة للقول في الهجر بمدرسة أهل
البيت (عليهم السلام)، ومن ثم ليعلنوا نفس إعلان الأمس: حسبنا كتاب
الله، وبذا يعود الرسول (ص) ليطلّ علينا من خلال نبوءته الخالدة وهو
يخاطب أمير المتقين ومولاهم (صلوات الله عليه) في الأمس بحديث اليوم:
أنا أقاتل على التنزيل، وأنت تقاتلهم على التأويل.
وإذا بات من
الواضح أن المطلوب هو تحديث ولكن بشروط الأصالة، فكيف سيتم ذلك والكل
وفق ما هو معلن، لا مشكلة له مع العودة إلى أصل الأصول وهو القرآن،
فكيف سيمكن ذلك والقرآن بتعبير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وكل
من يفقه النظر فيه: حمّال ذو وجوه؟.
فكرتنا ـ نحن الإمامية ـ
وببساطة تتلخص بالقول بأن هذا الكتاب الكريم أرسله الله جلّ وعلا رحمة
للعالمين، وليس نقمة عليهم، ولهذا ووفق منطق الرحمة الإلهية حينما
أرسله أنزله على نبينا محمد (ص) ليقوم بمهمة الهداية وإنقاذ الناس من
الضلال وفق منطوق الآية الكريمة: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث
فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب
والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[29] ولهذا فالنبي (ص) حينما
يكون هذا هو دوره، فإنه ومن يمثله هو المرجعية الوحيدة القادرة على فكّ
أسرار هذا الكتاب، وقد حدّثنا هذا الكتاب بلهجة واضحة وصريحة بأنه يحوي
كل شيء وفق قوله تعالى: (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً
ورحمةً وبشرى للمسلمين)[30].
ولكن كيف يمكن لنا أن نصل إلى
المرتبة الكفيلة بتحويل القرآن إلى المعين الذي يعطينا كل شيء ويفيض
علينا بالهدى والرحمة والبشرى، بعد ما حوّله الفهم البشري إلى مصدر
تضليل واختلاف بيننا ففرّقنا مذاهب شتى، وبضّعنا طرائق
قدداً!.
كان القرآن أول من أشار إلى هذه المشكلة حينما قال
تعالى فيه: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب
وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)[31] فنظراً
للطبيعة الإلهية التي تتحكم فيه، فمن الطبيعي أن لا يتمكن من تأويله
إلا من نال العلم الإلهي، وبغيره فعملية التأويل لن تكون إلا واحدة من
اثنتين: إما ابتغاء الفتنة وإضلال الناس فتكون النتيجة: (ومن الناس من
يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد)[32] وإما الضلال عن إدراك
حقيقة المراد القرآني لتكون النتيجة: (ومن الناس من يجادل في الله بغير
علم ولا هدىً ولا كتاب منير)[33].
ولهذا شخّص الله بعيداً عن
هذا الفهم الأصم والأبكم للقرآن طريق الرسوخ في العلم كطريق وحيد بعد
الله للبعد عن زيغ القلوب وإدراك هدى القرآن ورحمته وبشراه، وهذا
الرسوخ ليس هو الانتهال النسبي للعلم وإنما هو المستدعي للثبات في
العلم بصورة يكون الراسخ مع ما رسخ فيه متلاحمين ببعضهما لا ينفكان كما
نستظهر ذلك من كتب اللغة، ومع هذه الحالة لا يمكن أن يحتل مقام الآية
إلا من اصطفاهم الله لعلمه وأئتمنهم عليه تراجمة لوحيه وأمناء على
كتابه وأدلاء عليه، وفق ما عبّر عنه الإمام الباقر (عليه السلام) كما
في صحيحة بريد بن معاوية العجلي( رضوان الله تعالى عليه) قال: في قول
الله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) قال: رسول
الله (ص) أفضل الراسخين قد علّمه الله جميع ما أنزل الله إليه من
التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله،
وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم
فيه العلم فأجابهم الله: (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) والقرآن خاص
وعام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ [ والراسخون في العلم
يعلمونه].[34]
وهذا ما يجعل سنة المعصوم (عليه السلام) بصورها
الثلاث ( القول والفعل والإمضاء) هي الوحيدة القادرة على تفسير الكتاب
العزيز والكشف عن مضامينه، وذلك لبداهة القول بان هذا الكتاب يحتاج إلى
من له علمه أو أكثر منه، ولا يمكن أن نتعلمه ممن هو دون ذلك، لان فاقد
الشيء لا يعطيه، ولهذا تجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير إلى هذا
الإشكال بوضوح ودقة حينما يقول: لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال
ذو وجوه، تقول ويقولوا، ولكن حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها
محيصا.[35]
إذن المنطلق في مشروع الحداثة الإسلامي ـ إن صح
التعبير ـ هو طرح التحديات المعاصرة على كتاب الله وسنة المعصوم (عليه
السلام) وأخذ الأجوبة منهما، فهذا هو منطوق التوصية الخالدة لمولى
المتقين (روحي فداه) حينما يقول: ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن
أخبركم عنه، ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم،
ونظم ما بينكم.[36]
فدعونا نتأمل الخط الجامع بين جملة: (ولن
ينطق ولكن أخبركم عنه) وما بين جملة: (فيه علم ما يأتـي) لنجد أن
استنطاق القرآن من خلال سنة المعصوم (عليه السلام) هو الطريق الأكمل
للعثور على ضالتنا في هذا المجال، وذلك من خلال عرض مشكلات الواقع
وأسئلته على القرآن ومن ائتمنه الله على تأويله، فسنجد فيه كل ما نحتاج
في هذا المجال، عندئذ وحده يمكننا الدخول في المعترك الحضاري بفاعلية،
لأن ذلك هو السلاح الوحيد الذي يبقينا كأمة تريد لنفسها العزة والخلود،
وما دون ذلك خرط القتاد، أو الدخول إلى معركة دونما
سلاح.
والحمد لله رب العالمين.[37]
جلال الدين
الصغير
----------------------------------------- [28] للتفصيل يراجع كتابنا: الإمامة ذلك
الثابت الإسلامي المقدس: 27 فما بعدها. [29] - آل عمران:
164. [30] - النحل: 89. [31] - آل عمران: 7. [32] - الحج:
3. [33] - الحج: 8. [34] - بصائر الدرجات: 223 ج4 ب10
ح4. [35] - شرح نهج البلاغة 18: 71. [36] - نهج البلاغة: 223
خ158. [37] قام المؤلف بإضافة بعض المقاطع على نص المحاضرة وهوامشها
خصوصا تلك التي تتعلق بالإشارة إلى فضل الله.
|