المقدمة

     

 

الصراع[1] بين القديم والجديد.. تحديد أطر العلاقة بين القديم والجديد..
 ما هو القديم الذي يجب أن نبقيه.. وأي جديد ينبغي أن لا نسمح بقبوله؟
 ما هي المعايير التي إن سقطت أسقطت القديم؟ وما هي القيم التي إن وجدت أوجبت أخذ الجديد؟.
 هذه المحاور وغيرها، لا أخالني مبالغا إن قلت إنها تمثل مرتكزات فكرية جوهرية في أي مشروع حضاري يريد لنفسه أن يتجذّر في وسط الواقع، وبالنتيجة فهذه المحاور من الناحية الموضوعية ليست من بنات الفكر المعاصر، وإنما هي هواجس مركزية تلح على الفكر الجاد ـ أينما انبثق له نبع ـ حينما يريد أن يعمل منهجه التغييري في وسط الساحة الاجتماعية، أو يتواصل معه.
 ولهذا ليس من قبيل الصدفة أن نجد هذا الهم والهاجس يطرح نفسه وبصور مختلفة ومتعددة في القرآن الكريم، فتجده مرة يتعامل مع صورته السلبية فيقذع في وصف اتباع القديم كما في قوله تعالى: (قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. قال أ فرأيتم ما كنتم تعبدون. أنتم وآباؤكم الأقدمون)[2].
 وكذا قوله تعالى: (قال أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون).[3]
 وأخرى يطرحها بصورتها الإيجابية، فيقف بصفة المادح أو المقر لشرعة القديم (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً وحدا ونحن له مسلمون)[4].
 وعليه ـ ودونما مكابرة ـ فإن مشكلة الصراع بين التراث والحداثة؛ أو الأصالة والتجديد؛ أو الرجعية والتقدمية ضمن الأبعاد الفكرية، لا تشكل صورة الحضارة المعاصرة، بل هي مشكلة المشروع تغييري يريد أن ينهض، وآخر يراد له أن يسقط، دون فرق بين أن يكون هذا المشروع قديما أو حديثا، ولهذا نجد القرآن الكريم ـ ما قبل إتمام المشروع الإلهي ـ يتخذ مرة من المفاهيم الجديدة ونعي المفاهيم القديمة مصدر تشويق للقبول بالمشروع الإلهي، كما نجد في قول عز وجل: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب. قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير)[5].
 وأخرى تجد الجماعة الكفارة هي الأخرى تتخذ من الجديد حجة لرفض القديم الإلهي: (ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم. أن كان ذا مال وبنين. إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين)[6].
 وفي هذا الطرح القرآني لا تجد سلوكا ذرائعيا براجماتيا في القرآن، فقد كان هذا ممكنا لو أننا فهمنا أن مسالة الجديد والقديم تمثل مشكلة معيارية في الفهم القرآني، ولكن القرآن في حديثه المتفاوت هنا عن القديم والجديد حيث يمدح مرة ويذم في أخرى، إنما يريد أن يشير ـ وبحق ـ أن الجديد ليس مطلوبا لجدته، كما أن القديم ليس مرفوضا لقدمه، والعكس صحيح أيضا، لأن قيمة الفكر ومعياره التفاضلي لا علاقة لها بطبيعة الوقت الذي نشأت فيه، أو الزمان الذي عاشت فيه، فالمعيار الذي له المرجعية الحقيقية هو الحق، ولهذا فإنها تستمد قيمتها من تفاعلها مع الحقيقة.
 وهذه الفكرة ـ لو تنزلنا عن بعض المكابرة ـ نجدها معتنقة من قبل أكثر الحداثتيين تزمتا في رفض القديم، وإلاّ ما معنى التوافق الإنساني العالمي على الإبقاء على جملة من الظواهر الاجتماعية ـ بمعزل عن تفاصيلها ـ فها هي حالات الإثراء الروحي بالرغم كونها متطلبا قديما، غير أنها لا زالت مطلوبة عالميا سواء تجسدت بصورة الرحلة إلى الدين وعوالمه، أم عبرت عن نفسها بكل الصور التي قد تجدها متمثلة بما أدت الأفهام السقيمة إلى أن تكون محطات الإثراء الروحي متمثلة بالخمر أو المخدرات أو أساليب اللذة السادية أو النزعات التسلطية الديكتاتورية، أو الصور الماجنة المنبعثة من أجواء الصرعات الغربية المختلفة، والتي لا زال الغرب يقيئ علينا من ألوانها الشيء الكثير، حينما تقدم في صورة الرغبة في ملء الفراغ الروحي.
 وها هي ظاهرة التلاقي الاجتماعي ظلت ومنذ الأزل تحكم السلوك الاجتماعي البشري العام، وعلى أعتابها شرعت الكثير من الفلسفات والمناهج، دون أن يكون لقدمها أو حداثتها أثر في تقييم أهميتها، فهي مهمة يشعر بها المتحضر وغيره، ويريدها المتحضر ومن دونه.
 إذن فإن المشكلة لا تكمن في الحديث والقديم، وإنما تكمن في عملية البحث عن الحق والحقيقة، وهي الحقيقة التي لا يمكن في فهم القرآن أن تلتمس في بعض الأذهان إلا من خلال العودة إلى الأصول المشتركة في عالم المفكرين، كما يترآى ذلك لنا في أحد مراحل العودة إلى الأصول المطروحة في قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله)[7] حيث تطرح الآية هنا المشتركات الثلاثة بين البشر ـ كل البشر ـ فالنشأة من الله، وهو الوحيد المؤهل للتناغم مع الفطرة البشرية في بحثها عن المعبود، والتساوي المطلق بين البشر من حيث معايير السلطة والخضوع.
 
-----------------
[1] - محاضرة ألقيت من قبل الكاتب في المؤتمر الذي عقدته حوزة القائم (عج) في جوار السيدة زينب (عليها السلام) تحت عنوان: العودة الى القرآن في الثامن والعشرين من رجب عام 1419 هـ ولتماسها مع بعض جوانب الكتاب فقد كانت ملحقة بكتاب الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدس، وتيسيرا لقراءتها قمنا بعزلها عن الكتاب ووضعها بشكل مستقل.
[2] - الشعراء: 71ـ76.
[3] ـ الأنبياء: 66ـ67.
 [4] - البقرة: 133.
 [5] - هود: 62 ـ 63.
 [6] - القلم: 10ـ15.
 [7] - آل عمران: 64.
     

فهــرس الكتــاب