الصفحة 99
ليست ماهرة بقدر ما هي غادرة، أنظر ما صار إليه الأمر في الشورى بعد وفاة عمر، فقد بقي فقط مرشّحان اثنان بعد أن تنحّى منها عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وزكّى الزبير عليّا، وعليه بقي عثمان وعليّ.

فاشترط عبد الرحمن في المسجد والمسلمون حضور شرطا طرحه على المرشَّحَيْن، وهو أن يعملا بكتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.

وإنّي لأعجب من هذا الشرط الأخير! فإن كانت سيرة الشيخين مطابقة لكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما معنى اشتراطها كشرط زائد؟! وإن كانت مخالفة لكتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو شرط مردود مرفوض.

ثم إنّ عبدالرحمن اشترط أن لا يولّي عثمان ولا عليّ أحدا من قومهما إذا وصلا إلى الحكم، فرفض عليّ وقبل عثمان الشرط. ولكن هل وفى عثمان بذلك الشرط فعلا؟!

وبعد تعيين عثمان وتنصيبه التفت عبدالرحمن إلى عليّ وقال له: "فلا تجعل يا علي سبيلا إلى نفسك فإنه السيف لا غير "(1) دائما القمع والإجبار والتخويف، ثم يأتي من يقول بعد هذا: إنّ شورى عمر كانت أبرز مظاهر الديمقراطية!!

وهكذا ترى يا صديقي أنّ المسألة كلّها تدور حول إبعاد عليّ عن السلطة مهما كلّف الأمر ولو بالتعمية بمسألة الشورى، وإلاّ فمن له سابقة كسابقة عليّ؟ ومن له جهاد كجهاده؟ ومن له علم كعلمه؟ فكيف يُقدَّم من

____________

1 ـ الإمامة والسياسة 1/45.


الصفحة 100
هو دونه عليه؟!

ولهذا يقول أميرالمؤمنين عليّ (عليه السلام) في "نهج البلاغة" حول هذه المسألة:

"أما والله لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير، فسدلْتُ دونها ثوباً وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهْباً، حتّى مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده... فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ـ فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كَلْمُهَا ويخشن مسّها ويكثر العثار فيها والإعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم، فمُني النّاس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس وتلوّن واعتراض فصبرت على طول المدة وشدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أُقرنُ إلى هذه النظائر لكنّي أسففت إذا أسفّوا وطرت إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهن إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه [ يقصد بني أمية ] يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله وكَبتْ به

الصفحة 101
بطنته"(1).

ولتعرف أنّ الإسلام ونظرية الحكم فيه ليست شورى، أنظر إلى حكّام بني أميّة وبني العباس وبني عثمان وإلى يومنا هذا، تجد المسألة كلّها بالتعيين والتنصيص ولا شورى ولا أثر للشورى، بل وصل الأمر بعلماء السنّة إلى أن يقولوا: نحن مع من غلب(2)! قالها ابن عمر عندما أقرّ ببيعة يزيد الفاجر الفاسق وبيعة عبد الملك بن مروان، وحتّى أجمع أغلب علماء أهل السنّة أنّ الخروج على السلطان حرام لأنه فتنة ولا بدّ من السمع والطاعة، ولو وُلّي على المسلمين عبدٌ حبشي رأسه كالزبيبة ولو ألهب الحكّام ظهور الناس بالسياط...(3) هذا مع أنّ القرآن يقول: (وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار)(4).

وهكذا ترى أنّ مسألة الشورى كنظام حكم لا أصل نظريّ لها ولا عمليّ، والعجيب أنّه عندما تقول الشيعة: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى لعليّ (عليه السلام)، تجد القوم يعترضون ويكثر لغطهم ويرفعون في وجه القائل مسألة الشورى، مع أنّ الواقع يؤكّد أنّ الحكم الإسلامي قام ولا يزال على التنصيص والتعيين.

قلت وقد وجدت نفسي محاصرا من جميع الجهات: إذن وبناء على ما قلت فالإسلام قائم على التنصيب والتعيين؟!

أردف صديقي قائلا: من دون أي شك: بل لقد ثبت عند جميع

____________

1 ـ نهج البلاغة: الخطبة 3 المعروفة بالشقشقيّة.

2 ـ هو عبدالله بن عمر حيث كان يقول: لا أقاتل في الفتنة وأصلي وراء من غلب [ طبقات ابن سعد في ترجمة ابن عمر ].

3 ـ أنظر: صحيح البخاري 9/113، مسند احمد 2/111.

4 ـ سورة هود: 113.


الصفحة 102
المسلمين ورؤساء الدين أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إنّ الخلفاء من بعدي اثنا عشر"(1)، ولقد تحيّر علماء السنّة في دلالة هذا الحديث تحيّرا عجيبا فلم يتوصّلوا إلى شيء من كنهه.

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خمّ بعد حجّة الوداع وقبل وفاته بقليل: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه"(2)، وهو حديث غاية في الصراحة استخلاف عليّ، وليس كما يتأول القوم من أنه يعني النّاصر والمحبّ، لأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حوّل الولاية التي كانت له على المسلمين إلى عليّ، ولو كانت الولاية هنا بمعنى النّصرة والمحبّة لكانت ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على المسلمين منحصرة بذلك فقط، والمعلوم أنّها كانت أوسع من ذلك بكثير.

وقال تعالى في حقّ عليّ: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون)(3)، وقصة الآية مشهورة كما ترويها التفاسير، حيث أنّ سائلا دخل المسجد فلم يعطه أحد شيئا وكان عليّ (عليه السلام) راكعا فمدّ له إصبعه وأعطاه خاتمه(4).

وقد ردّ بعض المعاندين بأنّ الآية شاملة، تشمل بعد الله ورسوله

____________

1 ـ أنظر: صحيح البخاري 4/165 كتاب الأحكام، صحيح مسلم 3/1453 كتاب الإمارة، مسند أحمد 5/100،سنن أبي داود 4/86.

2 ـ أنظر: مسند أحمد 1/118 و119، سنن الترمذي 5/633.

3 ـ سورة المائدة: 55.

4 ـ أنظر: تفسير الطبري 6/186، تفسير الدر المنثور للسيوطي 3/105، تفسير الزمخشري 1/623، تفسير القرطبي 6/221.


الصفحة 103
كلّ من آمن وصلّى وآتى الزكاة وركع. وهذا استدلال سخيف! إذ أنّ الصلاة مشتملة على الركوع بالبداهة، لكن المعنى الصحيح أنّ الآية تريد أن تقول للمسلمين: لا يوجد أيّ وليّ لكم سوى ـ لوجود أداة الحصر إنَّمَا ـ الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم في حالة الركوع، فتصبح " وهم راكعون " حالا.

وانظر إلى الآية الأخرى حيث تقول: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُم)(1)، تجد أنّ كلام الله مترابط يفسّر بعضه بعضا، فنجد أنّ الأولياء محصورين في الآية السابقة بالله وبالرسول وبالمؤمنين (عليّ)، وفي هذه الآية يحثّنا الله على طاعته وطاعة الرسول وطاعة المؤمنين، وليس طاعة كلّ حاكم وكلّ من هبّ ودبّ كما يقول البعض، فإنّ الله تعالى لا يأمر بإطاعة الظالمين، وإلاّ فلماذا ينهى عن الظلم ولماذا حرّمه على نفسه؟!

قاطعت صديقي قائلا: لكن يا أخي هذه الآيات واردة بلفظ الجمع وعليّ (رضي الله عنه) فرد؟!

قال: هذا أسلوب قرآني موجود في أكثر من موضع، انظر مثلا إلى قوله تعالى في قضيّة ثعلبة بن حاطب الأنصاري الذي منع الزكاة، حيث قال تعالى فيه: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحين * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُون)(2) إلى آخر الآية، وثعلبة لم يكن جماعة، بل كان

____________

1 ـ سورة النساء: 59.

2 ـ سورة التوبة: 75 و76، وانظر: قوله تعالى في سورة المنافقون: 8 (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ...) القائل هو رأس النفاق عبدالله بن أبي، أنظر: تفسير الفخر الرازي، وكذلك تفسير روح المعاني للآلوسي، في تفسيرهما لهذه الآية.


الصفحة 104
شخصا واحدا.

على كلّ، هذا أسلوب بلاغي معروف، وزيادة على ذلك فإنّ عندنا السنّة الشريفة التي بيّنت كثيراً من مجمل القرآن ولا يسعنا الآن أن نأتي على كلّ ذلك.

قلت مستدركاً: لكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى للشيخين أبي بكر وعمر، حيث قال: "اقتدوا بالَّذَيْن من بعدي أبا بكر وعمر"(1).

ابتسم صديقي وقال: إنّي لن أناقش في سند ورجال هذا الحديث فهو أوهن من بيت العنكبوت كما حقّقه علماء أهل السنّة أنفسهم، ولكن سأناقشه دلالة.

لو كان الحديث صحيحا وقاله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلا، فلماذا لم يحتجّ به أبو بكر يوم السقيفة؟! بل لماذا صار لغط وصياح فيها؟! ولماذا رفض بيعة أبي بكر كثير من الصحابة؟!

ثم عندما استخلف أبو بكر عمر كما أشرنا لذلك سابقا لم يقل أبو بكر عندما عارضه المسلمون والصحابة: ألم تسمعوا قول الرسول في عمر مثلا، وقد علمت اعتراض الناس على أبي بكر لغلظة عمر ولو كانوا يعلمون بالحديث لما اعترضوا.

وعلى هذا فالصحيح أنّ الله تعالى عيّن في كتابه المرشَّح للخلافة وهو علي (عليه السلام) كما قد علمت، وكذلك فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير، وكان

____________

1 ـ أنظر: سنن ابن ماجة 1/37 فضائل أبي بكر.


الصفحة 105
يريد أن يكتب إسمه يوم الخميس أو رزيّة الخميس(1) لكن الصحابة منعوه وقالوا: "حسبنا كتاب الله".

وكذلك أشار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أنّ خلفاء الله ورسوله على هذه الأمة هم اثنا عشر، كما نصّ على ذلك البخاري ومسلم، وهؤلاء هم أهل البيت (عليهم السلام) على عدد نقباء بني اسرائيل، ولذلك عندما ترجع إلى حديث العترة أو الثقلين تفهم هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق، وتجد فعلاً أنّ الإسلام والقرآن متناسق يكمّل بعضه بعضا ويفسّر بعضه بعضا، وليس ركاما متناثرا لعبت به أيادي الحكّام، فصرفوا الآيات عن معانيها وألصقوا بالأحاديث الصحيحة تأويلات واهية، وزادوا أحاديث موازية باطلة في فضل فلان وفلان ليطفئوا نور الله لكنّ الله متمّ نوره ولو كره الكافرون.

وحديث الثقلين أشهر الأحاديث الإسلامية وأكثرها تواترا، حيث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) "إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ)الحوض"(2).

نعم، حاشا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يترك أمر الأمة سُدىً والمنافقون والكفّار والروم والفرس بالمرصاد، وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي بمن يغسّله ويكفّنه ويعلّمنا مسائل أخرى بسيطة كأذكار النّوم وأذكار التخلّي وأدعية السّفر وآداب الأكل والشرب، فكيف يغفل ـ حاشاه ـ عن أمر عظيم

____________

1 ـ أنظر رزيّة الخميس كما جاءت في الصحاح: البخاري 4/85، ومسلم 3/1257 كتاب الوصية.

2 ـ أنظر: صحيح الترمذي ج5 حديث رقم 3788، المستدرك للحاكم 3/148 كتاب معرفة الصحابة، وورد في صحيح مسلم بألفاظ قريبة 5/122.


الصفحة 106
كالخلافة؟! ولماذا غفل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يغفل أبو بكر ولم يغفل عمر عن خطورة المسألة فعيّنا ـ وكذلك كلّ الحكّام إلى اليوم ـ خليفة لهما قبل موتهما!!

لم أجد في ختام كلامنا هذا ما أردّ به على صديقي سوى إدامة النظر إلى حقول الرمّان الخضراء، وقد واعدتُ نفسي بأن أحلّل جميع ما قاله صديقي هذا من حجج وأدلّة في أوّل فرصة أخلو بها إلى نفسي...


الصفحة 107

قضاء محتوم:

كان لنا جار في عقده الخامس من العمر، مشهور بقوّته البدنيّة حيث زاده الله بسطة في الجسم، ولا زلت أذكر كيف كان يمازحني وأنا طفل صغير فيرفعني بيديه في الهواء حتّى يكاد قلبي ينخلع. كان رجلا فاضلا يحبّ الناس ويُحبّه الناس. إلى أن دهى حيّنا خبر غير متوقّع حيث هزّت حادثة قتله كلّ أبناء الحي، وكان سبب موته أنّ أخا له طعنه في حقل نخيل لهما بآلة حادة تستعمل لقطع جريد النخل الزائد.

طفق الناس يترحّمون على هذا الشخص وعباراتهم مُفعمة بالأسى والأسف وينكرون غدر أخيه، حيث ما كان ليقدر على أذاه لو لم يأخذه على حين غرّة، وكثيراً ما ردّد أهل الحي هذه الجمل: "رحمه الله، مكتوب عليه القتل"، وكانوا يردّدون مثلا شائعا عندنا وهو: "رزقك يأتيك وأجلك تذهب إليه".

كان كلامهم يفهمني ويشعرني أنّ المسألة كلّها لا تعدو أن تكون قضاءاً محتوما وقدرا لا مفرّ منه، فكنت أقول في نفسي: إذا كان الأمر جبرا وفعلاً من الله تعالى فما ذنب ذلك الأخ القاتل؟!

لم يمض وقت طويل حتّى حدثت حادثة أخرى، حيث أقدمت امرأة شابة في مقتبل العمر على الانتحار، فخلّفت لوعة في نفوس الناس خاصّة وأنها تركت طفلين صغيرين في عمر الزهور. وكان سبب إقدامها

الصفحة 108
على هذه الفعلة الشنيعة خلافات حادة بينها وبين زوجها، فكان كأس ماء ممزوج بكمية من مبيد الحشرات المسحوق كافيا ليوصلها إلى هذه النهاية المأساوية.

وتكرّرت نفس الكلمات والتعابير حيث كنت أسمع نساء جيراننا يردّدن كلمات مثل "مكتوب عليها" "هذا قدرها" وأمثال ذلك. وترجع إلى نفسي تلك التساؤلات وتدخلني نفس الحيرة: إذا كان هذا الفعل فعل الله ومشيئته فما ذنب هذه المسكينة وما حيلتها أمام طوفان القضاء المحتوم هذا؟! إنّها لم تزد على أن أدّت دورها المناط بعهدتها!

كلّ ما خزنته في ذاكرتي من تساؤلات أفرغتها دفعة واحدة فيما بعد أمام صديقي الشيعي، وكأنني كنت أُحمّل نفسي حملا لا طاقة لي به، فكانت فرصة جديدة لنقاش مفتوح جديد.

ما إن طرحت أسئلتي على صديقي ضحك حتّى بدت نواذجه، ففهمت أنّ الشيعة لها رأي آخر مغاير بـ 180 درجة.

قال لي صديقي: ما تقول أنت؟!

أجبت معلّلا: أنا شخصيّا لا أجدني مرتاحا لهذه التأويلات، ولكني كنت خائفا من أنّ رأيي الشخصي هو في الواقع ردّ لمشيئة الله وكفر بها، فكنت رهين محذورين.

قال صديقي: إذن إعلم أنّ الإسلام مستحيل أن يخالف الفطرة الإنسانية ولا يمكن أن يخالف العقل أيضاً، وللأسف أنّ الأشعري(1)

____________

1 ـ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المتوفى سنة 324هـ، صاحب كتاب مقالات الإسلاميين.


الصفحة 109
وجماعته خالفوا العقل والنقل بادّعائهم أنّ أفعال العباد كلّها مخلوقة من الله تعالى! مستدلّين على هذا الرّأي بقوله تعالى على لسان إبراهيم (عليه السلام): (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون)(1)، مع أنّ مقصود إبراهيم (عليه السلام) واضح، فهو يقصد ما تعملون من تماثيل وأصنام.

والقول بالجبر هو بالضبط ما تقوله التوراة أنظر مثلا إلى هذا النص فيها: "أنا الربّ وليس آخر مصدر النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشرّ أنا الربّ صانع كلّ هذا"(2) أو مثلا: "مِنَ الربِّ خُطوات الرّجل"(3).

وإنّ هناك أحاديث عن أكابر الصحابة يسألون فيها النبيّ 6 فيقول لهم ـ بزعم الواضعين ـ إنّ الأقلام جفّت وكلٌّ صائر إلى ما هو مكتوب ومقدّر له(4).

وعليه نقول: رحم الله أبا جهل وأبا لهب وفرعون وهامان وكلّ مجرم في الدنيا، حيث كانوا جميعا منفّذين لمشيئة الله تعالى على أحسن وجه!

ونقول أيضا: يا نوح ويا إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (سلام الله عليهم أجمعين) ويا أيّها الصدّيقون والشهداء والصالحون لا فضل لكم

____________

1 ـ سورة الصافّات: 95، 96.

2 ـ سفر أشعياء 45/7.

3 ـ الأمثال 21/24.

4 ـ أنظر: صحيح البخاري 6/211، 6/121، موّطأ مالك: كتاب القدر ص 601، سنن أبي داود 4/232، العقيدة الطحاوية: 44، وجاء فيها: " وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه وكلٌّ ميسّر لما خُلق له... ".


الصفحة 110
ولا فخر، إنّما أنتم أدوات جرت على أيديكم مشيئة الله وقضاؤه المحتوم، وكنتم ممثّلين في مسرحية كبرى إسمها الدنيا من إخراج الله تعالى الذي قسّم الأدوار. نعوذ بالله من فلتات اللّسان وزيغان الأذهان.

ويا إسرائيل، أغزي أرضنا واقتلي شبّاننا ودنّسي مقدساتنا، فلا إثم عليك ولا حرج، فإن استسلمنا فبقضاء الله، وإن ثرنا ورميناك في البحر فلا فضل لنا ولا عار عليك.

وعليه، ما فعله معاوية بالمسلمين وابنه يزيد وجرائم بني أمية وبني العبّاس وجرائم الصليبيّين والاستعمار الغربي لبلادنا كل هذا هو فعل الله.

فيا الله، يا من وصفت نفسك بالعدل وحرّمت الظلم على نفسك، ويا من هديت الإنسان النجدين، لماذا خلقت الجنّة والنار؟! لماذا ترصّدت أعمالنا بالكرام الكاتبين؟! لماذا بعثت الرسل والأنبياء، أليس قد جفّ القلم وعُلم السعيد والشقي في بطن أمهما؟! ولماذا الحساب والميزان، أليست الأعمال أعمالك فهل بعد هذا الظلم من ظلم؟!

قاطعت صديقي قائلا: لماذا تلصقون يا معشر الشيعة كلّ مصائب الأمة ببني أميّة؟!

أجابني صديقي بحدّة: ومن غيرهم؟!!، ثمّ أردف: إنّ معاوية ومن بعده ملوك وأباطرة بني أمية لمّا وجدوا أنفسهم مرفوضين من قبل الأمّة لعدم شرعيتهم وكانوا في نفس الوقت ماسكين بزمام الأمور، أرادوا أن يجعلوا لأنفسهم شرعية زائفة فوضعوا ـ وعلى رأسهم معاوية ـ أحاديث مكذوبة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أنّ الحاكم لا يجوز الخروج عليه وإن

الصفحة 111
ظلم وفسق وطغى لأنّ في ذلك فتنة وفساد(1)!، وقالوا بعدالة كلّ من رأى الرسول حتّى مرّة واحدة ـ فيدخل معاوية في هذه الدائرة العريضة ـ.

وقالوا من جملة ما قالوا: إنّ كلّ أفعال العباد هي من الله، لماذا؟! الجواب معروف: حتّى لا يعترض عليهم أحد سواء قتلوا أو سرقوا أو زنوا، وأنّ الإنسان لا دخل له ولا فعل في هذا كلّه. وهكذا يصبح قتل الحسين (عليه السلام) أمرا محتوما، وتولّي الحجّاج على رقاب المسلمين قدرا ماضيا، فلماذا الاعتراض والثورة والخروج وو... وبعد هذا تصوّر ما لحق بأحرار أمة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من تنكيل وترهيب حيث سُلّط عليهم سيف ديني إسلامي يقطع رؤوسهم. أليسوا كانوا معترضين على أمر الله، مبارزين للحقّ تعالى في مشيئته، ويا لها من تهمة سهلة رخيصة.

لكن نقول للأشعري ومن والاه: لماذا تلعنون إبليس والشياطين وقد قال إبليس مثل قولك حيث نسب الغواية لله تعالى فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَني)(2)؟!

____________

1 ـ أنظر: العقيدة الطحاوية: 72، جاء فيها: " ولا نري الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولاندعوا عليهم، ولاننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّوجّل فريضة مالم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصّلاح والمعافاة".

2 ـ سورة الحجر: 39.


الصفحة 112

الصفحة 113

المتعة... نكاح أم سفاح:

من المواضيع الساخنة الّتي أثارت ولا زالت تثير جدالا حادّا بين السنة والشيعة هو موضوع المتعة، حيث يعتبرها أغلب أهل السنّة أخت الزنا كما يعتبرون التقيّة أخت النفاق.

وفي نقاش صريح دار بيني وبين صديقي الشيعي، أذكر أنني ولشدة ما كنت أسمع من أهل السنّة من تشنيع على هذه المسألة، أنني سألته قائلا: كلّ شيء عندكم معقول معشر الشيعة إلاّ شيئا واحدا، وهو ما يجعل في نظري سمعة مذهبكم هذا تذهب أدراج الرياح لو تمسكتم به، بل إنّ العقل ـ وأردت أن أضربه في الواقع بنفس سلاحه ـ يأبى هذا الشيء، فكيف بالدين الإسلامي دين الحياء والعفّة؟!

أجاب صديقي: أحسبني فهمت مرادك وما ترمي إليه.

قلت مجيباً: إذا كنت قد فهمت قصدي فأنا أسألك: لماذا تعملون وتؤمنون بالمتعة؟!

قال صديقي: سؤالك خطأ، إسألني عن مشروعية المتعة في الإسلام؟ وأجيبك فأقول: إنّ الشيعة لا يحلّلون حراماً ولا يحرّمون حلالا، بعكس غيرنا ممّن ضلّ وأضلّ وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً. إنّ المتعة حلال بكتاب الله(1) وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الصّحابة، ولم

____________

1 ـ قوله تعالى في سورة النساء الآية 24: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهُنَّ فَريضَة).


الصفحة 114
ينه عنها إلاّ عمر حيث قال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرّمهما وأنهى عنهما"(1).

قلت مقاطعاً: رويدك، إنّ آية المتعة آية منسوخة بالآيات الأولى من سورة المؤمنون كما يقول أهل السنّة، وعليه لا يبقى لكم احتجاج بكتاب الله تعالى.

أجاب صديقي متعجّباً: وهل يسبق الناسخ المنسوخ عندك؟!

قلت معلّقاً: أرجوك لا تدخلني في أشياء فرعيّة تضيّع علينا البحث.

قال صديقي: أنا لم أخرج من الموضوع، بل أردت إجابتك وأقصد أنّ القول بأنّ آية المتعة منسوخة بالآيات الأولى من سورة المؤمنون هو قول متهافت جدّا، لأنّ آية المتعة مدنية وسورة المؤمنون مكّية والمكّي لا ينسخ المدني، هذا أوّلا.

ثمّ إنّ قول من قال: إنّ آية المتعة منسوخة يؤكّد القول بأنّ المتعة نكاح شرعي وليست سفاحاً، أي أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة كانوا يعتبرونها زواجا شرعيّا قبل نسخها حسب الافتراض(2)، ولو نظرت إلى قول عمر لرأيت أنه يعترف بأنّ المتعة كان معمولا بها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أي إلى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قاطعت صديقي قائلا: إنّ عمر لم يحرّم حلالا ولم يحلّل حراما

____________

1 ـ أنظر: تفسير الفخر الرازي ـ سورة النساء ـ 4/42، صحيح البخاري 2/176، سنن ابن ماجة 2/188.

2 ـ أنظر: تفسير ابن كثير 1/486.


الصفحة 115
حاشاه! لكن كلّ ما فعله هو أنه طبّق تحريم المتعة أو نَسْخِهَا وأعلم المسلمين بذلك، وإلاّ فالمتعة نسخت في آخر حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

أجابني صديقي: ربّ عذر أقبح من ذنب، وأردف قائلا: لو كان الأمر كما يزعمون فهل خفي الأمر على أبي بكر وقد كانت المتعة معمولا بها طيلة خلافته؟! ولو كان الأمر كذلك فلماذا حرّمها عمر في زمان متأخّر في خلافته ولم يحرمها في يوم خلافته الأول؟!

ثم إنّ هناك أحاديث(1) عن أكابر الصحابة تؤكد أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهد أبي بكر وفترة من خلافة عمر حتّى نهى عمر عنها. وبهذا يتبيّن أنّ المتعة نكاح شرعي ثابت بالقرآن والسنّة ولم تنسخ لا من الله ولا من رسوله، وبذلك تعلم ضعف الأحاديث الكاذبة التي تقول إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حرّمها، وليس أدلّ على ضعفها بعد ضعف رجال سندها اضطراب تلك الأحاديث، فمرّة تقول حرّمت يوم الفتح، ومرّة يوم تبوك وغيرها، على أنّه قد تيقّنتَ من قول عمر نفسه بأنها كانت محلّلة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

شعرت في نفسي بانكسار شديد لأنّ حلّية المتعة كانت تعني لي فيما تعنيه أشياء أخرى من لوازمها تخطئة عمر بن الخطّاب، ولهذا طرقت المسألة من باب آخر، فهيهات هيهات التسليم بهذه السهولة.

قلت لصديقي معانداً: يا أخي، هل ترضى أنت أن تُزَوّج أختك أو ابنتك زواج متعة؟!

____________

1 ـ مثل الحديث عن جابر وعن عمران بن حصين وغيرها، أنظر: مسند أحمد، مسند عمر، ج1 حديث رقم 371، وأيضا مسند أحمد 3/325 ; صحيح مسلم 2/896 ـ 900 كتاب الحج.


الصفحة 116
قاطعني صديقي بنبرة غاضبة: عجيب أمرك!! أقول لك رضي الله ورسوله والمؤمنون، وتقول لي أنت: هل ترضى ثم واصل: والطريف أنّه ما حاورتُ أحدا من السنّة حول المتعة إلاّ وسألني هذا السؤال. إنّ هكذا آراء وتحسينات وو.. كلّها نابعة من المزاج ولا تمتّ للشرع بأيّ صلة، ومع الأسف فإنّنا كمسلمين وخاصّة كعرب نُعتبر شعبا مزاجيّا، مزاجيّا في كلّ شيء حتّى الدين أخضعناه لمزاجنا، فما وافق مزاجنا قبلنا به وما لم يوافقه رفضناه. ولو نظرت بعين عقلك لرأيت أنّ هناك أشياء عديدة لو تركنا لأمزجتنا الحكم فيها لضربنا بالشرع كلّه عرض الحائط.

ولك أن تسأل أي امرأة متزوجة الآن أو حتّى عزباء، بل ربّما عانس أصلا، هل تقبلين أن يتزوج عليك زوجك ثانية أو ثالثة أو رابعة؟ لأجابتك بالنفي، هذا بالرغم من أنّ المسألة شرعية لا غبار عليها.

ثم اسأل من الرجال من شئت وقل له: هل تقبل نفسك أن يخطب أمّك الأرملة أو المطلقة رجلا بعد أبيك ويتزوّج بها؟ فسترى أنّ حاله سينقلب وسوف يدّعى أنّ أمه ليست بحاجة إلى الزواج وأنّها وفيّة لوالده، وهكذا من التأويلات الكاذبة العديدة، ولكن الحقيقة أنّ هواه ومزاجه هو المانع ليس إلاّ.

وحسب رأيي فإنّ عمر بن الخطاب حرّم المتعة لأنّه كان شخصية مزاجيّة وكان يمثل التيّار المزاجي في الصحابة، ولو رأيت كيف وئد ابنته في الجاهلية، وكيف كان موقفه مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم صلح حديبية، وموقفه من الأعاجم وتحريم مكة والمدينة عليهم، وكذلك تفضيلة العرب على الأعاجم في العطاء لتيقنت ممّا أقول لك(1).

____________

1 ـ أنظر ما فعله مع رسول الله يوم الحديبية: صحيح البخاري 6/170 ـ 171، صحيح مسلم 3/1411 كتاب الجهاد والسير، سير أعلام النبلاء ـ السيرة النبوية ـ 1/35.


الصفحة 117
وبالرغم من حلّية المتعة فإنّ الإسلام راعى حق الولي للبنت، فجعل زواجها متوقّفا على إذن والدها أو جدّها أو وليّها عموما، وأنت ترى ما في هذا الزواج من فوائد عظيمة خاصّة لكثير من الشباب الذين لا يقدرون على مصاريف الزواج الدائم، أو للرجال الذين تعاني زوجاتهم من عاهات مستديمة أو مؤقتة تمنع الممارسة معهنّ، وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المطلّقات والأرامل اللاّتي ما زال المجتمع العربي والإسلامي ينظر إليهن نظرة دونيّة ونظرة مريبة.

وأغرب من هذا إنّ هناك من علماء المسلمين من أباح للشبان أن يتزوجوا في الغرب بعقد منقطع كحالة اضطرارية وفي نفس الوقت يحارب المتعة حربا شعواء لقول الشيعة بها ليس إلاّ!

سألت صديقي قائلا: إذا كان الله تعالى يعلم أنّ العرب لا يقبلون بالمتعة فلماذا أحلّها لهم؟!

ابتسم صديقي وقال: " أوّلا: لا يوجد لماذا وكيف وعلى مَ مع الله جلّ جلاله، لأنّه هو المشرّع العالم بمصالح العباد.

وثانيا: الإسلام وإن جاء في العرب لكنه دين عالمي لا يتقيد بقيود عرقية أو جغرافية أو لغوية وغيرها، فما يستهجنه العرب قد يستحسنه غيرهم والعكس صحيح.

وثالثا: لم يكن كلّ العرب رافضين للمتعة بدليل عمل كثير من الصحابة بالمتعة زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده.

قلت وقد بدأ الظنّ بحلّية المتعة يغلب شكّي حولها: إذن المسألة

الصفحة 118
حسب رأيك نابعة من الهوى؟!

أجاب صديقي: نعم، فتحريم المتعة ليس له أيّ أصل، وأزيدك حتّى تعلم إلى أيّ مدى نحن مزاجيّون: كم دم سفك بغير حقّ من جرّاء مسألة غشاء البكارة، هذه العادة الجاهلية التي لم يستطع الإسلام أن يزيلها بالرغم من مضيّ القرون والقرون، هذه المسألة ما زالت شامخة برأسها والويل لمن يكتشف زوجها أنّ بكارتها مفتضّة ـ خاصّة في بعض البيئات المتشددة ـ هذا مع أنّ العلم يقول: إنّ الممارسة الجنسية ليست السبب الوحيد لفضّ البكارة، بل قد تولد الفتاة بدون بكارة أصلا، وقد تفقدها جرّاء حركة شديدة عفوية، وقد يكون عندها غشاء بكارة إلاّ أنّه مطّاط بحيث يتمدّد عند الإيلاج(1). وعلى افتراض أنّ الفتاة اقترفت فاحشة فبأيّ فتوى تُقتل ولا شهود على ذلك؟! بل حتّى لو كان هناك أربعة شهود فحدّ غير المحصنة ليس القتل بالتأكيد بل الجلد. إنّ أناسا هذه عقيدتهم كيف تريد أن يقبلوا بالمتعة؟!

على أيّ حال فحكم المتعة شرعاً هو الحلّية، وعندما نقول حلال لم نأت للناس ونقول لهم تعالوا مارسوها، بل مثل أي حلال مشروع من أراد فليفعل ومن أراد فليترك.

انتهى بنا النقاش وقد تأكّد لديّ بما لا مجال فيه للشـك بأنّ المتعة حلال ولم تُنسخ، وزادت نقمتي بعد هذا النقاش على أولئك المهرّجين الّذين يبغونها عوجا فإذا كلّمهم الواحد طولاً أجابوه عرضاً، وهم بعد مكذبون لله وللرسول في الدين من حيث لا يشعرون.

____________

1 ـ يراجع في هذه المسألة أهل النظر والاختصاص من أطباء وممرضين وغيرهم.


الصفحة 119

التَوسّل... إيمان أم شرك:

لازلت أذكر تلك الولائم والإحتفالات التي كانت تُقام في ضريح أحد الأولياء الصالحين بقريتنا، وكان هذا الوليّ على ما تتناقله ذاكرة الأجيال أحد الشرفاء(1) المغاربة من بني إدريس، كان بناءاً تقليديّا تعلوه قبّة شامخة زاد من شموخها الربوة التي كان بناء الضريح قائما عليها.

كانت زوجة عمّي تأخذني كلّما سنحت الفرصة للزيارة والتبرّك ـ وكان هذا الضريح يعتبر ضريح القرية "الرسمي"، حيث كان لكلّ بلدة وليّها الخاص بها والذي كانت أغلب المناسبات الدينية تقام فيه كحفلات الختان، والعودة من الحجّ، والمَولد النبوي الشريف وغيرها ـ وكانت زوجة عمّي توصيني في كلّ زيارة بأن آخذ من تراب ذلك الضريح وأمسح به وجهي ورقبتي وصدري، لأنه كما قالت لي فيه شفاء وفيه ما فيه من دفع للآفات والأمراض. وكان أكثر ما يشدني في تلك الفترة من عمري اللّهو والنزهة أكثر من البحث عن أحراز وعوذات، وكان هذا رسم في موطني يشب عليه الصغير ويهرم عليه الكبير.

ثمّ تمرّ أعوام وأعوام حتّى بدأت بعض الأصوات من بعض الحركات الإسلامية الجديدة على الساحة تستكره هذه الأعمال وتعدّها

____________

1 ـ جمع شريف وينسب إلى من ينحدر من سلالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).


الصفحة 120
نوعا من الشرك أو البدعة، وترد عليها أصوات أخرى بأنّنا كلّنا مسلمون نعلم حدود الشرك والإيمان وأنتم لستم أوصياء على إيماننا، بل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيما قاله آخر عمره الشريف. " إنّي لاأخاف عليكم أن تشركوا بعدي"(1)، وعليه هذه أعمال مباحة إن لم تكن مشروعة وقد مارسها المسلمون وغير المسلمين منذ كان الدين على الأرض.

نقلت مخزون أفكاري هذه في أوّل نقاش لاحق مع صديقي الشيعي لأرى ماذا تقول الشيعة حولها فسألته: ماذا تقول الشيعة في التوسّل والتبرّك بآثار الأنبياء والصالحين، وهل هذه بدع كما يقول بعض الناس، أم لها أصل في الإسلام؟!

اعتدل صديقي في جلسته ووضع قلمه الجاف الذي كان بيده على طرف طاولته في ركن غرفته الصغيرة الخاصة، ثم فرك أصابعه وقال: أنا أشكرك على أسئلتك وشغفك لأن تعرف كل شيء، لكن أنا شخص عادي فتح الله بصيرتي على الحقائق و قد لا تجد عندي كل شيء بالتفصيل، أنا أعطيك رؤوس أقلام وواصل أنت مطالعاتك في كلّ موضوع نناقشه، فعند علمائنا الشيعة من الكتب والأشرطة والردود ما يشفي الغليل وزيادة، بحيث لا يبقى هناك مجال للشك ولا للظن، بل تخرج باليقين الكامل إن شاء الله.

فيما يخصّ هذا الموضوع هو في الواقع موضوعان كثر حولهما اللّغط في هذه الأزمنه الأخيرة فقط، وإلاّ لا توجد اختلافات بين طوائف الأمة من قبل حولها، ولست أبالغ إذا ما قلت إنّ ابن تيميّة هو أوّل من فتح

____________

1 ـ أنظر: صحيح البخاري 8/151 باب الحوض.


الصفحة 121
باب الفتنة فيها، ولم يسبقه في ذلك أحد فخالف بآراءه الشاذة وأفكاره المريضة إجماع جميع علماء المسلمين وطوائفهم، بل خالف حتّى زعيم مذهبه أحمد بن حنبل في ذلك.

قلت: دعنا من ابن تيميّة، أنا أريد الدليل من كتاب الله وسنة رسوله.

قال صديقي: لأختصر عليك الطريق ولا ندخل في متاهات كلاميّة، أعطيك آيتين من القرآن تبرز مشروعية التوسّل، الأولى في سورة يوسف (عليه السلام) حيث جاء إخوته إلى أبيهم بعد ندمهم على فعالهم وقالوا: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئين * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي...)(1)، فلماذا جاؤوا إلى أبيهم؟! ولو كانوا يعلمون ـ وهم أبناء أنبياء ـ أنّ طلبهم ذاك كان شركا ما كانوا ليطلبوه!، ولو كانوا جاهلين بأنه شرك لماذا لم ينههم أبوهم يعقوب، بل وعدهم بالاستغفار لهم، وقد ورد في معنى (سوف) أنّه أخّر الاستغفار لهم إلى ليلة الجمعة.

وقد تقول لي إنّ ذلك كان جائزا في عهد يعقوب (عليه السلام) لكن الإسلام لا يجيز ذلك.

فأقول لك: إنّ الدين عند الله الإسلام وكلّ الأنبياء نور واحد وصدروا من معين واحد، ولا يمكن أن يكون هناك عمل أو قول قال به نبيّ ويعتبره نبيّ آخر من بعده شركا.

هذا من جانب ومن جانب آخر أقول: إنّ التوسّل ورد أيضا في الإسلام بصريح قوله تعالى في سورة النساء: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا

____________

1 ـ سورة يوسف: 97 ـ 98.


الصفحة 122
أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ...)(1)، فلماذا يستغفر لهم الرسول؟ هل كان الله بعيدا عنهم؟! وإذا قارنت هذه الآية مع الآية التي في سورة يوسف لوجدتهما ترميان إلى نفس المعنى تقريبا.

قلت لصديقي وقد بقي في نفسي شيء يسير من الشبهة: ربّما جاز التوسّل بالنبيّ أو الوليّ في حياته لكن هل يجوز التوسّل به بعد مماته؟

أجاب صديقي بسرعة: المهم إنّنا أثبتنا أصل التوسّل عموما، وأردف قائلا: فهل يجوز العمل بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته ونرمي بها عرض الجدار بعد وفاته؟!

فهل تستطيع الآن مثلا وأنت أمام روضة النبيّ وقبره الشريف أن ترفع صوتك والله تعالى يقول: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ)(2)، وهل تستطيع القول إنّ ذلك كان خاصّا في حياته (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! لا أتصوّر عاقلا يقول بذلك.

ثم لو كان التوسّل به (صلى الله عليه وآله وسلم) حراما بعد حياته لما أجمعت الأمة بكلّ فرقها وعلمائها على هذا الفعل ولم يستشكلوا يوما أو يشكوا في هذا العمل، وأحمد بن حنبل الذي يدعي الوهّابيون أنّهم يرجعون له في المذهب كان يتوسّل ويدعو عند قبر رسول الله. وعلى القول بالحرمة، يكون كلّ سلف هذه الأمة وعلمائها مشركون خرجوا من ربقة الإسلام

____________

1 ـ سورة النساء: 64، وانظر: سنن ابن ماجة: في حادثة الضرير الذي توسّل بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)ليعود له بصره فعاد 1/436 باب صلاة الحاجة.

2 ـ سورة الحجرات: 2.