ثم قال: أو ترقى في السماء أي تصعد في السماء ولن نؤمن لرقيك أي لصعودك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فإنه رسولي وصدقوه في مقالة أنه من عندي، ثم لا أدري يا محمد إذا فعلت هذا كله أؤمن بك أو لا أؤمن بك، بل لو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا إنما سكرت أبصارنا (2) وسحرتنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله أبقي شئ من كلامك؟ قال: يا محمد أوليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ، ما بقي شئ فقل ما بدا لك وافصح عن نفسك إن كان لك حجة وأتنا بما سألناك به.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم أنت السامع لكل صوت والعالم بكل شئ تعلم ما قاله عبادك، فأنزل الله عليه: يا محمد " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام " إلى قوله " رجلا مسحورا " (3) ثم قال الله تعالى: " أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (4) ثم قال: يا محمد " تبارك الذي أنشأ جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا " (5) وانزل عليه: يا محمد " فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك " (6) الآية وأنزل الله عليه: يا محمد " وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر " إلى قوله " وللبسنا عليهم ما يلبسون " (7).
____________
(1) العلق: 6 - 7
(2) سكرت أبصارنا: غطيت وغشيت عن النظر.
(3) الفرقان: 7 - 8.
(4) الإسراء: 48.
(5) الفرقان: 10.
(6) هود: 12.
(7) الأنعام: 8 - 9.
ثم أنزل الله عليه: يا محمد " قل إنما أنا بشر مثلكم " يعني آكل الطعام " ويوحى إلي إنما إلهكم إله واحد " (2) يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكم ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال دون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصني أيضا بالنبوة [ دونكم ].
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك " هذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده " فإن الله له التدبير والحكم لا يفعل على ظنك وحسبانك ولا باقتراحك بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو محمود، يا عبد الله إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم ويكد (3)
____________
(1) الزمنى: الذين ألم بهم المرض، المرضى.
(2) الكهف: 110.
(3) الكد: الالحاح والشدة في الطلب.
يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصر لرسوله ولا تقدرون على قتله ولا منعه في رسالاته، فهذا بين في قدرته وفي عجزكم وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلا وأسرا، ثم يظفرني الله ببلادكم ويستولي عليها المؤمنون من دونكم ودون من يوافقكم على دينكم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك لي: " لو كنت نبيا لكان معك ملك صدقك ونشاهده، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا " فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لاعيان منه، ولو شاهدتموه - بأن يزاد في قوى أبصاركم - لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر، لأنه إنما كان يظهر لكم صورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقالته وتعرفوا خطابه ومراده، فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأن ما يقوله حق، بل إنما بعث الله بشرا وأظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة وأن ذلك شهادة من الله بالصدق له، ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما [ تعجزون عنه و ] يعجز عنه [ جميع ] البشر لم يكن في ذلك ما يدلكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير ذلك معجزا، ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز لأن لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها، ولو أن آدميا طار كطيرانها كان ذلك معجزا، فإن الله عز وجل سهل عليكم الأمر وجعله بحيث تقوم عليكم حجته وأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك " ما أنت إلا رجل مسحور " فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التميز والعقل فوقكم، فهل جربتم علي
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة [ بن مسعود الثقفي ] بالطائف " فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء وليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه وليس هو عز وجل ممن يخاف أحد كما تخافه أنت لما له وحاله فعرفته بالنبوة لذلك ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت فتخصه بالنبوة لذلك، ولا ممن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديم وإنما معاملته بالعدل، فلا يؤثر إلا بالعدل لأفضل مراتب الدين وجلاله إلا الأفضل في طاعته والأجد في خدمته، وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله إلا أشدهم تباطأ عن طاعته، وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال بل هذا المال والحال من تفضله، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب (2)، فلا يقال له إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا إلزامه تفضلا لأنه تفضل قبله بنعمه.
ألا تري يا عبد الله كيف أغني واحدا وقبح صورته، وكيف حسن صورة واحد وأفقره، وكيف شرف واحدا وأفقره، وكيف أغنى واحدا ووضعه. ثم ليس لهذا الغني أن يقول " هلا أضيف إلى يساري جمال فلان " ولا للجميل أن
____________
(1) وفي بعض النسخ " خربة " وهي العيب والعورة والذلة
(2) الضريبة: التي تؤخذ في الجزية ونحوها. واللازب: اللازم الشديد اللزوم.
ثم ليس للملك أن يقول هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير، ولا للفقير أن يقول هلا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذا الملك الغني. ثم قال الله: " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " ثم قال: يا محمد قل لهم " ورحمة ربك خير مما يجمعون " (2) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " إلى آخر قلته، فإنك قد اقترحت على محمد رسول الله أشياء: منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا لنبوته ورسول الله صلى الله عليه وآله يرتفع عن أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتج عليهم بما لا حجة فيه، ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك، وإنما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان بها لا ليهلكوا بها، فإنما اقترحت هلاكك ورب العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما تقترحون، ومنها المحال الذي لا يصح ولا يجوز كونه ورسول رب العالمين يعرفك ذلك ويقطع
____________
(1) الزخرف: 32.
(2) الزخرف: 32.
فأما قولك يا عبد الله " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه فإنها ذات أحجار وصخور وجبال تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيون فإننا إلى ذلك محتاجون " فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله. يا عبد الله أرأيت لو فعلت هذا أكنت من أجل هذا نبيا؟ قال: لا. قال رسول الله: أرأيت الطائف التي لك فيها بساتين أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذللتها وكسحتها وأجريت فيها عيونا استنبطتها؟ قال: بلى. قال: وهل لك في هذا نظراء؟ قال: بلى. قال: فصرت أنت وهم بذلك أنبياء؟ قال: لا. قال:
فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمد لو فعله على نبوته، فما هو إلا كقولك: لن نؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الأرض كما يمشي الناس أو حتى تأكل الطعام كما يأكل الناس.
وأما قولك يا عبد الله " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمنا وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " أو ليس لك ولأصحابك جنات من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها وتفجرون الأنهار خلالها تفجيرا، أفصرتم أنبياء بهذا؟ قال: لا. قال: فما بال اقتراحكم على رسول الله صلى الله عليه وآله أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلت على صدقه، بل لو تعاطاها لدل تعاطيها على كذبه لأنه يحتج بما لا حجة فيه ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم، ورسول رب العالمين يجل ويرتفع عن هذا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله وأما قولك " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا " فإنك قلت وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم، فإن في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم، فإنما تريد بهذا من
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم، وإنما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه أحبه العليل أو كرهه، فأنتم المرضى والله طبيبكم، فإن انقدتم لدوائه شفاكم وإن تمردتم عليه أسقمكم.
وبعد فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكامهم فيما مضى بينة على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه، إذا ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى ولاحق، ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بين صادق وكاذب فرق.
ثم قال رسول الله: يا عبد الله وأما قولك " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا يقابلوننا ونعاينهم " فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به، وأن ربنا عز وجل ليس كالمخلوقين يجيء ويذهب ويتحرك ويقابل شيئا حتى يؤتى به، فقد سألتم بهذا المحال، وإنما هذا الذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم ولا تغني عنكم شيئا ولا عن أحد.
يا عبد الله أو ليس لك ضياع وجنان بالطائف وعقار بمكة وقوام عليها؟
قال: بلى. قال أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك؟
قال: بسفراء. قال: أرأيت لو قال معاملوك وأكرتك (1) وخدمك لسفرائك لا نصدقكم في هذه السفارة إلا أن تأتونا بعبد الله بن أبي أمية لنشاهده فنسمع ما تقولون عنه شفاها، كنت تسوغهم هذا أو كان يجوز لهم عندك ذلك؟ قال: لا.
قال: فما الذي يجب على سفرائك أليس أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلهم
____________
(1) الأكرة: الأجراء والعمال.
قال: بلى. قال: فكيف صرت تقترح على رسول رب العالمين ما لا تسوغ لأكرتك ومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم، وكيف أردت من رسول رب العالمين أن يستذم إلى ربه بأن يأمر عليه وينهى وأنت لا تسوغ مثل هذا على رسولك إلى أكرتك وقوامك، هذه حجة قاطعة لإبطال جميع ما ذكرته في كل ما اقترحته يا عبد الله.
وأما قولك يا عبد الله " أو يكون لك بيت من زخرف - وهو الذهب - " أما بلغك أن لعظيم مصر بيوتا من زخرف؟ قال: بلى. قال: أفصار بذلك نبيا؟
قال: لا. قال: فكذلك لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وآله نبوة لو كان له بيوت، ومحمد لا يغتنم جهلك بحجج الله.
وأما قولك يا عبد الله " أو ترقى في السماء " ثم قلت " ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " يا عبد الله الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها، وإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول، ثم قلت " حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه من بعد ذلك ثم لا أدري أؤمن بك أو لا أؤمن بك " فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك، فلا دواء لك إلا تأديبه لك على يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية، وقد أنزل الله علي حكمة بالغة جامعة لبطلان كل ما اقترحته فقال عز وجل: " قل " يا محمد " سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " (1) ما أبعد ربي عن أن يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهال مما يجوز ومما لا يجوز، وهل كنت إلا بشرا رسولا لا يلزمني إلا إقامة حجة الله التي أعطاني، وليس لي أن آمر على ربي ولا أنهى ولا أشير فأكون كالرسول الذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما اقترحوه عليه.
____________
(1) الإسراء: 93
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل أما علمت قصة إبراهيم الخليل لما رفع في الملكوت، وذلك قول ربي. " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " (1) قوي الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين، فرأى رجلا وامرأة على فاحشة فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما فأوحى الله إليه: يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فإني أنا الغفور الرحيم الجبار الحليم لا يضرني ذنوب عبادي كما لا تنفعني طاعتهم، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فإنما أنت عبد نذير لا شريك في الملك ولا مهيمن علي ولا عبادي، وعبادي معي بين خلال ثلاث: إما تابوا إلي فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم وسترت عيوبهم، وإما كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريات مؤمنون فارفق بالآباء الكافرين وأتأني بالأمهات الكافرات وارفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من أصلابهم فإذا تزايلوا حل بهم عذابي وحاق بهم بلائي، وإن لم يكن هذا ولا هذا فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم مما تريده بهم، فإن عذابي لعبادي على حسب جلالي وكبريائي، يا إبراهيم خل بيني وبين عبادي فأنا أرحم بهم منك، وخل بيني وبين عبادي فإني أنا الجبار الحليم العلام الحكيم أدبرهم بعلمي وأنفذ فيهم قضائي وقدري.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل إنما دفع عنك العذاب لعلمه بأنه سيخرج من صلبك ذرية طيبة عكرمة ابنك، وسيلي من أمور المسلمين ما إن أطاع
____________
(1) الأنعام: 75.
وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: قيل لأمير المؤمنين يا أمير المؤمنين هل كان لمحمد صلى الله عليه وآله آية مثل آية موسى في رفعه الجبل فوق رؤوس الممتنعين عن قبول ما أمروا به؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أي والذي بعثه الله بالحق نبيا ما من آية كانت لأحد من الأنبياء من لدن آدم إلى أن انتهى إلى محمد صلى الله عليه وآله إلا وقد كان لمحمد مثلها أو أفضل منها، ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله نظير هذه الآية إلى آيات آخر ظهرت له، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أظهر بمكة دعوته وأبان عن الله تعالى مراده رمته العرب عن قسي عداوتها بضروب مكائدهم، ولقد قصدته يوما لأني كنت أول الناس إسلاما، بعث يوم الاثنين وصليت معه يوم الثلاثاء، وبقيت معه أصلي سبع سنين حتى دخل نفر في الإسلام وأيد الله تعالى دينه من بعد، فجاء قوم من المشركين فقالوا له: يا محمد تزعم
____________
(1) مسامتة لرؤوس القوم: محاذية لرؤوسهم.
(2) الفرائص جمع الفريصة، وهي لحمة بين الثدي والكتف ترعد عند الفزع
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما أنا نذير [ وبشير ] مبين أتيتكم بآية مبينة هذا القرآن الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته وهو بلغتكم، فهو حجة بينة عليكم، وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربي وما على الرسول إلا البلاغ المبين إلى المقرين بحجة صدقه وآية حقه، وليس عليه أن يقترح بعد قيام الحجة على ربه ما يقترحه عليه المقترحون الذين لا يعلمون هل الصلاح أو الفساد فيما يقترحون.
فجاء جبرئيل فقال: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني سأظهر لهم هذه الآيات وإنهم يكفرون بها إلا من أعصمه منهم، ولكني أريهم ذلك زيادة في الإعذار والإيضاح لحججك، فقل لهؤلاء المقترحين لآية نوح عليه السلام: امضوا إلى جبل أبي قبيس، فإذا بلغتم سفحه فسترون آية نوح، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه. وقل للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم عليه السلام امضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة، فسترون آية إبراهيم في النار، فإذا غشيكم النار فسترون في الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار. وقل للفريق الثالث [ المقترحين لآية موسى: امضوا إلى ظل الكعبة ] فسترون آية موسى، وسينجيكم هناك عمي حمزة. وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل:
فقال أبو جهل للفرق الثلاث: قوموا فتفرقوا ليتبين لكم باطل قول محمد صلى الله عليه وآله، فذهب الفريق الأول إلى جبل أبي قبيس والثاني إلى صحراء ملساء والثالث إلى ظل الكعبة ورأوا ما وعدهم الله ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله مؤمنين، وكلما رجع فريق منهم إليه وأخبروه بما شاهدوا ألزمه رسول الله صلى الله عليه وآله الإيمان بالله فاستمهل أبو جهل إلى أن يجيء الفريق الآخر حسب ما أوردناه في الكتاب الموسوم بمفاخر الفاطمية تركنا ذكره هاهنا طلبا للايجاز والاختصار.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فلما جاءت الفرقة الثالثة وأخبروا بما شاهدوا عيانا وهم مؤمنين بالله وبرسوله قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي جهل:
هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتك بما شاهدت. فقال أبو جهل: لا أدري أصدق هؤلاء أم كذبوا أم حقق لهم ذلك أم خيل إليهم، فإن رأيت أنا ما اقترحته عليك من نحو آيات عيسى بن مريم فقد لزمني الإيمان بك وإلا فليس يلزمني تصديق هؤلاء على كثرتهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئ أسلاف أعدائك، وكيف تصدق على الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها، وهل المخبرون عن ذلك إلا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائر من شاهدها معهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرصونه إلا إذا كان بأزائهم من يكذبهم ويخبر بضد أخبارهم، ألا وكل فرقة محجوجون بما شاهدوا، وأنت يا أبا جهل محجوج بما سمعت ممن شاهده.
ثم أخبره النبي صلى الله عليه وآله بما اقترح عليه من آيات عيسى من أكله لما أكل وادخاره في بيته لما ادخر من دجاجة مشوية وإحياء الله تعالى إياها وإنطاقها بما فعل بها أبو جهل وغير ذلك على ما جاء به في هذا الخبر، فلم يصدقه أبو جهل
قال أبو جهل: إني لأظن أن هذا تخييل وإيهام. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهل تفرق بين مشاهدتك لها وسماعك لكلامها - يعني الدجاجة المشوية التي أنطقها الله له - وبين مشاهدتك لنفسك ولسائر قريش والعرب وسماعك كلامهم؟ قال أبو جهل: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فما يدريك إذا أن جميع ما تشاهد وتحس بحواسك تخييل. قال أبو جهل: ما هو تخييل. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ولا هذا تخييل، وإلا فكيف تصحح أنك ترى في العالم شيئا أوثق منه - تمام الخبر.
رسالة لأبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله لما هاجر إلى المدينة والجواب عنها بالرواية عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام
وهي أن قال: يا محمد إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة ورمت بك إلى يثرب، وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك إلى أن تفسدها على أهلها وتصليهم حر نار جهنم وتعديك طورك، وما أرى ذلك إلا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد آثارك ودفع ضرك وبلائك، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك، فيلجئه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك، إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك، واصطلموهم (1) باصطلامهم لك وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب كما يأتون على أموالك وعيالك، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح.
____________
(1) اصطلموهم: استأصلوهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للرسول: قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك؟ قال: بلى. قال: فاسمع الجواب، إن أبا جهل بالمكاره والعطب يتهددني ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني، وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق، لن يضر محمدا من خذله أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه، قل له: يا أبا جهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن، إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع وعشرين يوما، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي، وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان - وذكر عددا من قريش - في قليب بدر مقتولين أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين وأحملهم على الفداء الثقيل.
ثم نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الاخلاط: ألا تحبون أن أريكم [ مصارع هؤلاء المذكورين و ] مصرح كل واحد منهم [ قالوا:
بلى. قال: ] هلموا إلى بدر فإن هناك الملتقى والمحشر وهناك البلاء الأكبر لأضع قدمي على مواضع مصارعهم، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة ولا قليلا ولا كثيرا فلم يخف ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وحده قال: نعم بسم الله. فقال الباقون: نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ولا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لسائر اليهود: فأنتم ماذا تقولون؟
فقالوا: نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا نصب لكم في المسير إلى هناك اخطوا خطوة واحدة فإن الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى
____________
(1) المحال من الكلام: ما عدل عن وجهه.
قال: فخطا القوم خطوة ثم الثانية فإذا هم عند بئر بدر، فتعجبوا فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: اجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا ذراع، فذرعوا فلما انتهوا إلى آخرها قال: هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان الأنصاري ويجهز عليه عبد الله بن مسعود أضعف أصحابي.
ثم قال: اذرعوا من البئر من جانب آخر ثم من جانب آخر ثم من جانب آخر كذا وكذا ذراعا وذراعا وذكر أعداد الأذرع مختلفة، فلما انتهى كل عدد إلى آخره قال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع شيبة، وذاك مصرع الوليد، وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم بأسمائهم [ وأسماء آبائهم ]، وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم ونسب الموالي منهم إلى مواليهم.
ثم قال صلى الله عليه وآله: أوقفتم على ما أخبرتكم به؟ قالوا: بلى. قال:
إن ذلك [ من الله ] لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوما في اليوم التاسع والعشرين وعدا من الله مفعولا وقضاءا حتما لازما - تمام الخبر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا بما سمعتم. فقالوا: يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الكتابة أذكر لكم. فقالوا: يا رسول الله فأين الدواة والكتف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ذلك للملائكة. ثم قال: يا ملائكة ربي اكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب واجعلوا في كم كل واحد منهم كتفا من ذلك.
ثم قال: يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها واخرجوها واقرأوها،
أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم وشرفا للمؤمنين منكم وحجة على أعدائكم فكانت معهم، فلما كان يوم بدر جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لا يزيد ولا ينقص، قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبها الملائكة لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر، فقبل المسلمون ظاهرهم ووكلوا باطنهم إلى خالقهم.
إحتجاجه صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود في جواز نسخ الشرائع وفي غير ذلك
قال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة أمره الله تعالى أن يتوجه نحو بيت المقدس في صلاته ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن وإذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة، فلما كان بالمدينة وكان متعبدا باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا، وجعل قوم من مردة اليهود يقولون: والله ما درى محمد كيف يصلي حتى صار يتوجه إلى قبلتنا ويأخذ في صلاته بهدينا ونسكنا، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله لما اتصل به عنهم وكره قبلتهم وأحب الكعبة فجاءه جبرئيل عليه السلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبلتهم. فقال جبرئيل عليه السلام: فاسأل ربك أن يحولك إليها فإنه لا يردك عن طلبتك ولا يخيبك من بغيتك، فلما استتم؟؟
دعاءه صعد جبرئيل ثم عاد من ساعته فقال: اقرأ يا محمد " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " (1) الآيات.
____________
(1) البقرة
قال أبو محمد عليه السلام: وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا:
يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربعة عشر سنة ثم تركتها الآن، أفحقا كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل فإن ما يخالف الحق باطل، أو باطلا كان ذلك فقد كنت عليه طول هذه المدة فما يؤمننا أن تكون الآن على باطل؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بل ذلك كان حقا وهذا حق، يقول الله " قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " إذا عرف صلاحكم أيها العباد في استقبالكم المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلا تنكروا تدبير الله في عباده وقصده إلى مصالحكم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد تركتم العمل يوم السبت ثم عملتم بعده سائر الأيام، ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده، أفتركتم الحق إلى الباطل أو الباطل إلى الحق أو الباطل إلى الباطل أو الحق إلى الحق؟ قولوا كيف شئتم فهو قول محمد وجوابه لكم. قالوا: بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق ثم قبلة الكعبة في وقته حق.
فقالوا له: يا محمد أفبدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس حتى نقلك إلى الكعبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما بدا له عن ذلك فإنه العالم بالعواقب والقادر على المصالح لا يستدرك على نفسه غلطا ولا يستحدث رأيا بخلاف المتقدم جل عن ذلك، ولا يقع عليه أيضا مانع يمنعه من مرادة، وليس يبدو
____________