الصفحة 239
الحرب التي جنيتها، وعن لحوقك بأهلك. فقال: أما خذلي عثمان فأمر قدم الله فيه الخطية، وأخر فيه التوبة، وأما بيعتي عليا، فلم أجد منها بدا، إذ بايعه المهاجرون والأنصار. وأما نقضي بيعته، فإنما بايعته بيدي دون قلبي. وأما إخراجي أم المؤمنين، فأردنا أمرا وأراد الله أمرا غيره. وأما صلاتي خلف ابني فإن خالته قدمته فتنحى ابن جرموز عنه. وقال: قتلني الله إن لم أقتلك.

وروي أنه جيئ إلى أمير المؤمنين برأس الزبير وسيفه، فتناول سيفه وقال:

طالما والله جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن الحين، ومصارع السوء وروي أنه عليه السلام لما مر على طلحة من بين القتلى قال اقعدوه فأقعد فقال: إنه كانت لك سابقة من رسول الله، لكن الشيطان دخل في منخريك فأوردك النار.

وروي أنه مر عليه فقال: هذا ناكث بيعتي، والمنشئ للفتنة في الأمة والمجلب علي الداعي إلى قتلي وقتل عترتي، أجلسوا طلحة: فأجلس. فقال أمير المؤمنين: يا طلحة بن عبيد الله قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا طلحة! وسار فقال له بعض من كان معه:

يا أمير المؤمنين أتكلم طلحة بعد قتله؟ فقال أما والله سمع كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر. وهكذا فعل عليه السلام بكعب بن شور القاضي، لما مر به قتيلا، وقال: هذا الذي خرج علينا في عنقه مصحف، يزعم أنه ناصر أمه (1) يدعو الناس إلى ما فيه، وهو لا يعلم ما فيه، ثم استفتح وخاب كل جبار عنيد أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتله الله.

وروي أن مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة بسهم رماه به.

وروي أيضا أن مروان بن الحكم يوم الجمل كان يرمي بسهامه في العسكرين معا، ويقول: من أصبت منهما فهو فتح، لقلة دينه، وتهمته للجميع، وقيل: إن اسم الجمل الذي ركبته يوم الجمل عائشة " عسكر " من ولد إبليس اللعين ورؤي منه ذلك اليوم كل عجيب، لأنه كلما أبتر منه قائمة من قوائمه ثبت على أخرى

____________

(1) أي ناصر عائشة.

الصفحة 240
حتى نادى أمير المؤمنين عليه السلام: اقتلوا الجمل فإنه شيطان، وتولى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر رحمة الله عليهما عقره بعد طول دمائه.

وروى الواقدي (1) إن عمار بن ياسر رحمة الله عليه، لما دخل على عائشة فقال كيف رأيت ضرب نبيك على الحق؟ فقالت: استبصرت من أجل أنك غلبت فقال عمار: أنا أشد استبصارا من ذلك. والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعيفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنكم على الباطل. فقالت عائشة: هكذا يخيل إليك يا عمار. أذهبت دينك لابن أبي طالب.

وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل قال أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما أراني إلا مطلقها فأنشد الله رجلا سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي " لما قام فشهد؟

فقال: فقام ثلاثة عشر رجلا فيهم بدريان فشهدوا: أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول علي بن أبي طالب عليه السلام: " يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي " قال: فبكت عائشة عند ذلك حتى سمعوا بكاءها فقال علي عليه السلام: لقد أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله بنبأ فقال: إن الله تعالى يمدك يا علي يوم الجمل بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.

____________

(1) أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد المدني كان إماما عالما له التصانيف، والمغازي وفتوح الأمصار، وله كتاب الردة وغير ذلك. تولى القضاء بشرقي بغداد وولاه المأمون القضاء بعسكر المهدي، وهي المحلة المعروفة بالرصافة بالجانب الشرقي من بغداد عمرها المنصور لولده المهدي فنسب إليه. - قال ابن النديم: إن الواقدي كان يتشيع، حسن المذهب، يلزم التقية وهو الذي روى: أن عليا " ع " كان من معجزات النبي " ص " كالعصا لموسى " ع " وإحياء الموتى لعيسى بن مريم. - ولد سنة " 130 " وتوفي سنة " 207 " وصلى عليه محمد بن سماعة، ودفن بمقابر خيزران عن الكنى والألقاب للقمي ج 3 ص 230 - 233

الصفحة 241
وروي عن ابن عباس (1) قال لأمير المؤمنين عليه السلام حين أبت عائشة الرجوع دعها في البصرة ولا ترحلها فقال علي عليه السلام: أنها لا تألوا شرا، ولكني أردها إلى بيتها.

وروى محمد بن إسحاق (2) أن عائشة لما وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة لم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين، وكتبت إلى معاوية وأهل الشام، مع الأسود بن البختري، تحرضهم عليه عليه السلام.

وروي أن عمرو بن العاص قال لعائشة: لوددت أنك قتلت يوم الجمل فقالت ولم لا أبا لك؟ قال: كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة، ونجعلك أكثر للتشنيع على علي عليه السلام.

* * *

احتجاج أم سلمة (رض) (3) زوجة رسول الله على عائشة في الإنكار عليها بخروجها على علي أمير المؤمنين (ع).

____________

(1) عبد الله بن العباس من أصحاب رسول الله " ص " كان محبا لعلي " ع " وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين " ع " أشهر من أن يخفى، وقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن قدحا فيه، وهو أجل من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عليها رضي الله تعالى عنه. خلاصة العلامة ص 102

(2) محمد بن إسحاق أخو يزيد شعر - بالشين المعجمة والعين المهملة والراء - روى الكشي عن حمدويه عن الحسن بن موسى قال: حدثني يزيد بن إسحاق شعر:

أن محمدا أخاه كان يقول بحياة الكاظم " ع " فدعا له الرضا عليه السلام حتى قال بالحق خلاصة العلامة ص 151

(3) أم المؤمنين أم سلمة: بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، وأمها عاتكة بنت عبد المطلب زوج النبي " ص " واسمها هند، وكان أبوها يعرف بزاد الركب، من المهاجرات إلى الحبشة، وإلى المدينة.

وكانت مستودعة لبعض الوصايا وميراث النبوة وكان عندها البساط الذي سار به

=>


الصفحة 242
روى الشعبي (1) عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي (2) قال كنت بمكة مع عبد الله بن الزبير وطلحة والزبير فأرسلا عبد الله بن الزبير فقالا له: إن عثمان

____________

<=

أمير المؤمنين إلى أصحاب الكهف. ولما سار أمير المؤمنين " ع " إلى الكوفة أستودعها كتبه والوصية، فلما رجع الحسن " ع " دفعتها إليه. ولما توجه الحسين " ع " إلى العراق أستودعها كتبه والوصية وأوصاها أن تدفعها إلى علي بن الحسين ففعلت.

وفي الدر النظيم للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي قال بعد خطبة لفاطمة " ع " وكلام أبي بكر فقالت أم سلمة رضي الله عنها، حيث سمعت ما جرى لفاطمة " ع " المثل فاطمة بنت رسول الله " ص " يقال هذا القول؟!

هي والله الحوراء بين الإنس، والنفس للنفس، ربيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأ، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله " ص " حرم عليها ميراثه ولم يعلمها، وقد قال الله تعالى " وانذر عشيرتك الأقربين " أفأنذرها وخالفت متطلبه وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبان، وعديلة ابنة عمران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، ويوسدها يمينه، ويلحفها بشماله، رويدا ورسول الله " ص " بمرأى منكم! وعلى الله تردون واها لكم فسوف تعلمون! قال: فحرمت أم سلمة عطاها تلك السنة.

نعم وفي بيتها نزلت آية التطهير.

وهي آخر من مات من نساء النبي " ص " ماتت في زمن يزيد سنة " 63 " راجع أسد الغابة ج 5 ص 588 سفينة البحار ج 1 ص 642 - 643.

(1) الشعبي - بفتح الأول وسكون الثاني - أبو عمر عامر بن شراحيل الكوفي، ينسب إلى شعب بطن من همدان. يعد من كبار التابعين وجلتهم، وكان فقيها شاعرا.

روى عن خمسين ومائة من أصحاب رسول الله " ص " كذا عن السمعاني. مات فجأة بالكوفة سنة 104 ويظهر من ابن خلكان أن الشعبي كان قاضيا على الكوفة.

الكنى والألقاب ج 2 ص 327 - 328

(2) صحابي مجهول.

الصفحة 243
قتل مظلوما، وإنا نخاف أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله أن يختل، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا لعل الله أن يرتق بها فتقا ويشعب بها صدعا.

فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبد الله بن الزبير في سترها وجلست على الباب فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت: سبحان الله ما أمرت بالخروج، وما تحضرني من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة فإن خرجت، خرجت معها.

فرجع إليهما فبلغهما ذلك فقالا: ارجع إليها فلتأتها فهي أثقل عليها منا، فرجع إليها فبلغها، فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت: أم سلمة مرحبا بعائشة، والله ما كنت لي بزوارة فما بدا لك؟ قالت: قدم طلحة والزبير فخبرا أن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما. فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار فقالت يا عائشة بالأمس أنت تشهدين عليه بالكفر، وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوما! فما تريدين؟ قالت: تخرجين معنا فعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله قالت: يا عائشة تخرجين وقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ما سمعنا؟!

نشدتك بالله يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت أتذكرين يوما كان نوبتك من رسول الله صلى الله عليه وآله، فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها وهو صلى الله عليه وآله يقول:

والله لا يذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له: " الحوأب " امرأة من نسائي في فئة باغية، فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إلي وقال: ما بالك يا أم سلمة؟ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله ألا يسقط الإناء من يدي وأنت تقول ما تقول ما يؤمنني أن أكون هي أنا؟! فضحكت أنت فالتفت إليك فقال صلى الله عليه وآله مما تضحكين يا حميراء الساقين؟ إني أحسبك هيه.

ونشدتك بالله يا عائشة أتذكرين ليلة أسري بنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله من مكان كذا وكذا وهو بيني وبين علي بن أبي طالب عليه السلام يحدثنا، فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي فرفع مقرعة كانت معه يضرب بها وجه جملك قال: أما والله ما يومه منك بواحدة، أما إنه لا يبغضه إلا منافق كذاب؟ وأنشدك بالله أتذكرين مرض رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قبض فيه فأتاه أبوك يعوده ومعه عمر. وقد كان علي

الصفحة 244
ابن أبي طالب عليه السلام يتعاهد ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ونعله وخفه ويصلح ما وهي منها فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله وهي حضرمية فهو يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا رسول الله كيف أصبحت؟ قال أصبحت أحمد الله، قالا: لا بد من الموت، قال: أجل لا بد من الموت، قالا: يا رسول الله فهل استخلفت أحدا قال: ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل فخرجا فمرا على علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله، كل ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه، ثم قالت أم سلمة يا عائشة أنا أخرج على علي بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله؟! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت يا بن الزبير أبلغهما أني لست بخارجة من بعد الذي سمعت من أم سلمة، فرجع فبلغهما قال: فما انتصف الليل حتى سمعت رغاء إبلهما ترتحل فارتحلت معهما.

وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال دخلت أم سلمة بنت أبي أمية على عائشة لما أزمعت الخروج إلى البصرة فحمدت الله وصلت على النبي صلى الله عليه وآله ثم قالت: يا هذه إنك سدة بين رسول الله وبين أمته، وحجابه عليك مضروب وعلى حرمته، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه (1) وضم ظفرك فلا تنشريه، وشد عقيرتك فلا تصحريها (2) إن الله من وراء هذه الأمة وقد علم رسول الله مكانك لو أراد أن يعهد إليك فعل بل نهى عن الفرطة في البلاد (3) إن عمود الدين لن يثاب بالنساء إن مال (4) ولا يرأب بهن إن انصدع (5)، جمال النساء غض الأطراف، وضم الذيول والأعطاف وما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله عارضك في بعض هذه الفلوات وأنت ناصة قعودا من منهل إلى منهل، ومنزل إلى منزل، ولغير الله مهواك، وعلى رسول الله

____________

(1) أي لا توسعيه وتنشريه.

(2) العقيرة: الصوت. وصحر الحمار: نهق.

(3) الفرطة: بالضم الخروج والتقدم يقال: (فلان ذو فرطة في البلاد) أي أسفار كثيرة.

(4) ثاب: رجع بعد ذهابه.

(5) رأب الصدع: أصلحه.

الصفحة 245
تردين، وقد هتكت عنك سجافه، ونكثت عهده، وبالله أحلف أن لو سرت مسيرك ثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحييت من رسول الله أن ألقاه هاتكة حجابا ضربه علي فاتقي الله، واجعليه حصنا، وقاعة الستر منزلا، حتى تلقيه. إن أطوع ما تكونين لربك ما قصرت عنه، وأنصح ما تكونين لله ما لزمته، وأنصر ما تكونين للدين ما قعدت عنه، وبالله أحلف لو حدثتك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله لنهشتني نهش الرقشاء المطرقة (1). فقالت لها عائشة ما أعرفني بموعظتك، وأقبلني نصحك، ليس مسيري على ما تظنين، ما أنا بالمغترة، ولنعم المطلع تطلعت فيه، فرقت بين فئتين متشاجرتين، فإن أقعد ففي غير حرج، وإن أخرج ففي ما لا غنى بي عنه من الازدياد في الأجرة، قال الصادق عليه السلام فلما كان من ندمها أخذت أم سلمة تقول:

لو كان معتصما من زلة أحد * كانت لعائشة الرتبى على الناس
من زوجة لرسول الله فاضلة * وذكر آي من القرآن مدراس
وحكمة لم تكن إلا لها جسها * في الصدر يذهب عنها كل وسواس
يستنزع الله من قوم عقولهم * حتى يمر الذي يقضي على الرأس
ويرحم الله أم المؤمنين لقد * تبدلت لي إيحاشا بإيناس

فقالت لها عائشة: شتمتني يا أخت. فقالت أم سلمة: ولكن الفتنة إذا أقبلت غضت عيني البصير، وإذا أدبرت أبصرها العاقل والجاهل.

* * *

____________

(1) الرقشاء: من الحياة المنقطة بسواد وبياض. وفي المثل " نهشني نهش الرقشاء المطرق ".

الصفحة 246

احتجاج أمير المؤمنين (ع) بعد دخوله البصرة بأيام على من قال من أصحابه إنه ما قسم الفيئ فينا بالسوية ولا عدل في الرعية وغير ذلك من المسائل التي سئل عنها في خطبة خطبها.

روى يحيى بن (1) عبد الله بن الحسن عن أبيه عبد الله بن الحسن قال كان أمير المؤمنين عليه السلام يخطب بالبصرة بعد دخوله بأيام فقام إليه رجل فقال:

يا أمير المؤمنين أخبرني من أهل الجماعة، ومن أهل الفرقة، ومن أهل البدعة ومن أهل السنة؟

فقال: ويحك أما إذا سألتني فافهم عني ولا عليك أن تسئل عنها أحدا بعدي أما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك الحق عن أمر الله تعالى وعن أمر رسوله، وأهل الفرقة المخالفون لي ولمن اتبعني وإن كثروا، وأما أهل السنة فالمتمسكون بما سنه الله لهم ورسوله وإن قلوا، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ولرسوله، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى منهم الفوج الأول وبقيت أفواج، وعلى الله قبضها واستيصالها عن جدد الأرض.

فقام إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس يذكرون الفيئ ويزعمون أن من قاتلنا فهو وماله وولده فيئ لنا.

فقام إليه رجل من بكر بن وائل، يدعى عباد بن قيس، وكان ذا عارضة ولسان شديد. فقال: يا أمير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية، ولا عدلت بالرعية.

فقال: ولم ويحك؟!

قال لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية.

فقال: أيها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن.

فقال عباد: جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات فقال له أمير المؤمنين عليه السلام إن كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف، قيل: ومن غلام ثقيف؟

____________

(1) راجع هامش ص 154.

الصفحة 247
فقال: رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها فقيل أفيموت أو يقتل؟ فقال: يقصمه قاصم الجبارين بموت فاحش يحترق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه، يا أخا بكر أنت امرء ضعيف الرأي، أو ما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، وأن الأموال كانت لهم قبل الفرقة، وتزوجوا على رشدة، وولدوا على فطرة، وإنما لكم ما حوى عسكركم، وما كان في دورهم فهو ميراث. فإن عدا أحد منهم أخذناه بذنبه، وإن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره، يا أخا بكر لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكة، فقسم ما حوى العسكر، ولم يتعرض لما سوى ذلك وإنما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل، يا أخا بكر أما علمت أن دار الحرب يحل ما فيها، وأن دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بالحق، فمهلا مهلا رحمكم الله فإن لم تصدقوني وأكثرتم علي - وذلك إنه تكلم في هذا غير واحد - فأيكم يأخذ عائشة بسهمه؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين أصبت وأخطأنا، وعلمت وجهلنا، فنحن نستغفر الله تعالى، ونادى الناس من كل جانب: أصبت يا أمير المؤمنين، أصاب الله بك الرشاد، والسداد، فقام عباد فقال:

أيها الناس إنكم والله لو اتبعتموه وأطعتموه لن يضل بكم عن منهل نبيكم حتى قيس شعرة، وكيف لا يكون ذلك وقد استودعه رسول الله صلى الله عليه وآله علم المنايا والقضايا وفصل الخطاب على منهاج هارون وقال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فضلا خصه الله به وإكراما منه لنبيه صلى الله عليه وآله حيث أعطاه ما لم يعط أحدا من خلقه.

ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: انظروا رحمكم الله ما تؤمرون فامضوا له، فإن العالم أعلم بما يأتي به من الجاهل الخسيس الأخس، فإني حاملكم إنشاء الله إن أطعتموني على سبيل النجاة، وإن كان فيه مشقة شديدة، ومرارة عديدة. والدنيا حلوة الحلاوة لمن اغتر بها من الشقاوة والندامة عما قليل. ثم إني أخبركم أن جيلا من بني إسرائيل أمرهم نبيهم أن لا يشربوا من النهر فلجوا في ترك أمره فشربوا منه إلا قليل منهم، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا نبيهم ولم يعصوا ربهم

الصفحة 248
وأما عائشة فأدركها رأي النساء، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى والحساب على الله يعفو عمن يشاء، ويعذب من يشاء.

عن الأصبغ بن نباتة (1) قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال يا أمير المؤمنين كبر القوم وكبرنا، وهلل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلى ما تقاتلهم؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام على ما أنزل الله جل ذكره في كتابه. فقال: يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في كتابه أعلمه فعلمنيه. فقال علي عليه السلام: ما أنزل الله في سورة البقرة. فقال يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلمنيه. فقال علي عليه السلام

____________

(1) الأصبغ بن نباتة - بضم النون - المجاشعي الحنظلي كان من خاصة أمير المؤمنين ومن ذخائره وقد بايعه على الموت.

وكان من ثقاته " ع " روى أنه دعا يوما كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال، أدخل عشرة من ثقاتي! فقال: سمهم يا أمير المؤمنين فسماه في أولهم وكان رحمه الله من فرسان أهل العراق، وكان يوم صفين على شرطة الخميس، وقال لأمير المؤمنين " ع ": قدمني في البقية من الناس فإنك لا تفقد لي اليوم صبرا ولا نصرا، قال عليه السلام: " تقدم باسم الله والبركة " وأخذ رايته وسيفه، فمضى بالراية مرتجزا فرجع وقد خضب سيفه ورمحه دما، وكان إذا لقى القوم لا يغمد سيفه وكان شيخا ناسكا عابدا، قال: كنت أركع عند باب أمير المؤمنين " ع " وأنا أدعو الله عز وجل إذ خرج أمير المؤمنين " ع " فقال: " يا أصبغ! " قلت: " لبيك " قال: " أي شئ كنت تصنع؟ " قلت: " ركعت وأنا أدعو الله " قال: " أفلا أعلمك دعاءا سمعته من رسول الله " ص "؟ " قلت بلى. قال: قل: " الحمد لله على ما كان والحمد لله على كل حال " ثم ضرب بيده اليمنى على منكبي الأيسر وقال: " يا أصبغ لئن ثبتت قدمك، وتمت ولايتك، وانبسطت يدك، فالله أرحم بك من نفسك روى عن أمير المؤمنين عليه السلام عهده للأشتر ووصيته لمحمد بن الحنفية، وعمر بعد أمير المؤمنين عليه السلام ومات مشكورا.

رجال الطوسي ص 34، رجال العلامة ص 24، سفينة البحار ج 2 ص 7، 8، 10

الصفحة 249
هذه الآية: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جائتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (1) " فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا. فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة. ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه الله.

عن المبارك بن فضالة عن رجل ذكره قال أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام بعد الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين رأيت في هذه الواقعة أمرا هالني من روح قد بانت وجثة قد زالت، ونفس قد فأتت، لا أعرف فيهم مشركا بالله تعالى، فالله الله مما يجللني من هذا إن يك شرا فهذا نتلقى بالتوبة، وإن يك خيرا ازددنا منه أخبرني عن أمرك هذا الذي أنت عليه، أفتنة عرضت لك فأنت تنفع الناس بسيفك (2) أم شئ خصك به رسول الله؟.

فقال عليه السلام: إذن أخبرك، إذن أنبئك، إذن أحدثك، إن ناسا من المشركين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وأسلموا، ثم قالوا لأبي بكر: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى نأتي قومنا فنأخذ أموالنا ثم نرجع. فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وآله فاستأذن لهم، فقال، عمر: يا رسول الله أنرجع من الإسلام إلى الكفر؟ فقال: وما علمك يا عمران ينطلقوا فيأتوا بمثلهم معهم من قومهم، ثم إنهم أتوا أبا بكر في العام المقبل فسألوه أن يستأذن لهم على النبي فاستأذن لهم، وعنده عمر فقال: مثل قوله فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: والله ما أراكم تنتهون حتى يبعث الله عليكم رجلا من قريش يدعوكم إلى الله فتختلفون عنه اختلاف الغنم الشرود، فقال له أبو بكر فداك أبي وأمي يا رسول الله أنا هو؟ قال: لا. قال عمر: فمن هو يا رسول الله؟ فأومى إلي وأنا أخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: " هو خاصف النعل عندكما، ابن

____________

(1) البقرة: 253.

(2) أي تأخذهم بطرف سيفك من بعيد.

الصفحة 250
عمي، وأخي، وصاحبي، ومبرئ ذمتي، والمؤدي عني ديني، وعداتي، والمبلغ عني رسالاتي، ومعلم الناس من بعدي، ومبينهم من تأويل القرآن ما لا يعلمون " فقال الرجل: اكتفي منك بهذا يا أمير المؤمنين ما بقيت. فكان ذلك الرجل أشد أصحاب علي عليه السلام فيما بعد على من خالفه.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال لما فرغ علي عليه السلام من قتال أهل البصرة وضع قتبا على قتب (1) ثم صعد عليه فخطب، فحمد الله وأثنى عليه فقال:

يا أهل البصرة، يا أهل المؤتفكة (2) يا أهل الداء العضال (3)، أتباع البهيمة (4)، يا جند المرأة (5) رغا فأجبتم (6) وعقر فهربتم، ماءكم زعاق (7) ودينكم نفاق، وأخلاقكم دقاق. ثم نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه فمر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن أسبغ الوضوء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، يصلون الخمس، ويسبغون الوضوء. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا. فقال: والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت علي سلاحي وأنا لا أشك في أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد: " يا حسن إلى أين أرجع فإن القاتل والمقتول في النار " فرجعت ذعرا

____________

(1) القتب - بالتحريك - رحل البعير.

(2) المؤتفكة: المنقلبة قال تعالى - في قرى قوم لوط التي انقلبت بأهلها -:

والمؤتفكة أهوى، وفي الحديث البصرة إحدى المؤتفكات.

(3) الداء العضال - بعين مضمومة -: المرض الصعب الشديد الذي يعجز عنه الطبيب.

(4) يريد: الجمل الذي ركبته عائشة.

(5) يريد: عائشة.

(6) رغا فأجبتم أي الجمل رغا والرغاء - كغراب -: صوت ذوات الخف وقد رغا البعير يرغو رغاءا إذا ضج ورغت الناقة صوتت فهي راغية.

(7) الزعاق - كغراب -: الماء المر الغليظ الذي لا يطاق شربه.

الصفحة 251
وجلست في بيتي، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنطت، وصببت علي سلاحي وخرجت أريد القتات، حتى أنهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: " يا حسن إلى أين مرة بعد أخرى فإن القاتل والمقتول في النار " قال علي عليه السلام: صدقك أفتدري من ذلك المنادي؟

قال: لا. قال عليه السلام: ذلك أخوك إبليس، وصدقك أن القاتل والمقتول منهم (1) في النار، فقال الحسن البصري الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى.

وعن أبي يحيى الواسطي (2) قال: لما افتتح أمير المؤمنين عليه السلام اجتمع الناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه الألواح، فكان كلما لفظ أمير المؤمنين عليه السلام بكلمة كتبها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام - بأعلى صوته - ما تصنع؟ فقال نكتب آثاركم لنحدث بها بعدكم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما أن لكل قوم سامري وهذا سامري هذه الأمة، أما إنه لا يقول لا مساس ولكن يقول لا قتال.

* * *

احتجاجه (ع) على قومه في الحث على المسير إلى الشام لقتال معاوية وفيما أخذ عليهم من العهد والميثاق بالطاعة له حال بيعتهم إياه.

روي أنه عليه السلام لما عزم على المسير إلى الشام لقتال معاوية قال - بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله -: اتقوا الله عباد الله وأطيعوه، وأطيعوا إمامكم، فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وإن الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر، وقد أصبح معاوية غاصبا لما في يديه من حقي، ناكثا لبيعتي،

____________

(1) أي القاتل والمقتول من أصحاب الجمل في النار

(2) أبو يحيى الواسطي واسمه سهيل بن زياد الواسطي له كتاب.

لقى أبا محمد العسكري أمه بنت محمد بن نعمان أبي جعفر الأحول الملقب بمؤمن الطاق المتكلم المشهور.

رجال الشيخ ص 476 رجال النجاشي ص 137

الصفحة 252
طاغيا في دين الله عز وجل، وقد علمتم أيها المسلمون ما فعل الناس بالأمس، فجئتموني راغبين إلي في أمركم، حتى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني، فالتويت عليكم لأبلو (1) ما عندكم فراددتموني القول مرارا وراددتكم، وتداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها حرصا على بيعتي، حتى خفت أن يقتل بعضكم بعضا، فلما رأيت ذلك منكم رويت في أمركم وأمري، وقلت إن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم لم يصيبوا أحدا منهم يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي، وقلت والله لا ليتهم وهم يعلمون حقي وفضلي أحب إلي من أن يلوني وهم لا يعرفون حقي وفضلي، فبسطت لكم يدي فبايعتموني يا معشر المسلمين، وفيكم المهاجرون والأنصار، والتابعون بإحسان، فأخذت عليكم عهد بيعتي، وواجب صفقتي، عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاق، لتقرن لي، ولتسمعن لأمري، ولتطيعوني، وتناصحوني، وتقاتلون معي كل باغ علي أو مارق إن مرق، فأنعمتم لي بذلك جميعا، وأخذت عليكم عهد الله وميثاقه، وذمة الله وذمة رسوله، فأجبتموني إلى ذلك جميعا، وأشهدت الله عليكم، وأشهدت بعضكم على بعض، فقمت فيكم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، فالعجب من معاوية بن أبي سفيان ينازعني الخلافة، ويجحد لي الإمامة، ويزعم أنه أحق بها مني، جرأة منه على الله وعلى رسول الله صلى لله عليه وآله، بغير حق له فيها ولا حجة، ولم يبايعه المهاجرون ولا سلم له الأنصار والمسلمون.

يا معشر المهاجرين والأنصار وجماعة من سمع كلامي، أما أوجبتم لي على أنفسكم الطاعة، أما بايعتموني على الرغبة، أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي؟

أما بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر وعمر، فما بال من خالفني لم ينقض عليهما حتى مضيا ونقض علي ولم يف لي؟! أما يجب عليكم نصحي ويلزمكم أمري؟ أما تعلمون أن بيعتي يلزم الشاهد منكم والغائب؟ فما بال معاية وأصحابه طاغون في بيعتي؟ ولم لم يفوا لي وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالأمر ممن

____________

(1) أي لأختبر ما عندكم.

الصفحة 253
تقدمني؟ أما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الغدير في ولايتي وموالاتي؟

فاتقوا الله أيها المسلمون وتحاثوا على جهاد معاوية القاسط الناكث، وأصحابه القاسطين الناكثين، اسمعوا ما اتلوا عليكم من كتاب الله المنزل، على نبيه المرسل لتتعظوا، فإنه والله أبلغ عظة لكم، فانتفعوا بموعظة الله، وازدجروا عن معاصي الله، فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه صلى الله عليه وآله: " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم أن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (1) " وقال لهم نبيهم: " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (2) " أيها الناس إن لكم في هذه الآيات عبرة، لتعلموا أن الله جعل الخلافة والأمرة من بعد الأنبياء في أعقابهم، وأنه فضل طالوت وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه، وزيادة بسطه في العلم والجسم، فهل تجدون أن الله اصطفى بني أمية على بني هاشم، وزاد معاوية علي بسطة في العلم والجسم.

واتقوا الله عباد الله وجاهدوا في سبيله قبل أن ينالكم سخطه بعصيانكم له قال الله سبحانه: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يعملون إنما المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (3) " وقال سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذبوبكم

____________

(1) البقرة: 246

(2) البقرة: 247

(3) المائدة: 78

الصفحة 254
ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (1) ".

اتقوا الله عباد الله وتحاثوا على الجهاد مع إمامكم فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر إذا أمرتهم أطاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن كثير منكم، وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه فإنه الجهاد المفروض.

ومن كلامه عليه السلام يجري مجرى الاحتجاج مشتملا على التوبيخ لأصحابه على تثاقلهم عن قتال معاوية والتفنيد متضمنا اللوم والوعيد.

أيها الناس إني استنفرتكم لجهاد هؤلاء فلم تنفروا (2) وأسمعتكم فلم تجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، شهودا بالغيب (3) اتلوا عليكم الحكمة فتعرضون عنها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتنفرون عنها، كأنكم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأحثكم على جهاد أهل الجور فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبا، ترجعون إلى مجالسكم تتربعون حلقا، تضربون الأمثال وتنشدون الأشعار، وتجسسون الأخبار، حتى إذا تفرقتم تسألون عن الأخبار جهلا من غير علم، وغفلة من غير ورع، وتتبعا من غير خوف، ونسيتم الحرب والاستعداد لها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأعاليل والأضاليل، فالعجب كل العجب، وكيف لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم، وتخاذلكم عن حقكم يا أهل الكوفة أنتم كأم مخالد حملت فأملصت (4) فمات قيمها وطال أيمها (5) وورثها أبعدها، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إن من ورائكم الأغبر الأدبر جهنم الدنيا لا تبقي ولا تذر، ومن بعده النهاش الفراس، الجموع المنوع ثم ليتوارثنكم من بني أمية عدة ما الآخر منهم بارق بكم من الأول، ما خلا

____________

(1) الصف: 10

(2) النفر الخروج إلى الغزو وأصله الفزع.

(3) الشهود: الحضور.

(4) أملصت المرأة: أسقطت.

(5) الأيم: التي مات زوجها.

الصفحة 255
واحد (1) بلاء قضاه الله على هذه الأمة لا محالة كائن، يقتلون أخياركم، ويستعبدون أرذالكم، ويستخرجون كنوزكم وذخايركم في جوف حجالكم، نقمة بما صنعتم من أموركم، وصلاح أنفسكم ودينكم.

يا أهل الكوفة أخبركم بما يكون قبل أن يكون، لتكونوا منه على حذر ولتنذروا به اتعظ واعتبر، كأني بكم تقولون: إن عليا يكذب، كما قالت قريش لنبيها صلى الله عليه وآله وسيدها نبي الرحمة، " محمد بن عبد الله " فيا ويلكم فعلى من أكذب أعلى الله فأنا أول من عبده ووحده؟! أم على رسوله فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره؟! كلا ولكنها لهجة خدعة! كنتم عنها أغنياء، والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لتعلمن نبأها بعد حين، وذلك إذا صيركم إليها جهلكم، ولا ينفعكم عندها علمكم، فقبحا لكم يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال (2)، أما والله أيها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهوائهم (3) ما أعز الله نصر من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم (4) ولا قرت عين من آواكم، كلامكم يوهن الصم الصلاب (5) وفعلكم يطمع فيكم عدوكم المرتاب، ويحكم أي دار بعد داركم تمتعون ومع أي إمام بعدي تقاتلون المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، أصبحت لا أطمع في نصرتكم، ولا أصدقكم قولكم، فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خيرا لي منكم، وأعقبكم بي من هو شرا لكم مني، إمامكم يطيع الله وأنتم تعصونه

____________

(1) هو عمر بن عبد العزيز.

(2) الحجال - جمع حجلة - وهي: الغرفة وربات الحجال النساء.

(3) الأهواء - جمع هوى - وهو ما تميل إليه النفس محمودا كان أو مذموما ثم غلب في الاستعمال على غير المحمود.

(4) قاساكم: قهركم.

(5) الصم - جمع أصم - وهو من الحجارة: الصلب المصمت. والصلاب - جمع صليب وهو: الشديد.