أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على أولياء الأمر: أن لا يقروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز.
قال: فقام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا فقطع كلامه، فأقبل ينظر إليه فرغ من قرائته، قال ابن عباس: قلت له: يا أمير المؤمنين لو أطردت مقالتك من حيث أفضيتها.
قال: يا بن عباس هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت.
قال ابن عباس: فما أسفت على شئ ولا تفجعت كتفجعي على ما فاتني من كلام أمير المؤمنين عليه السلام.
وأمثال هذه الأخبار من كلام أمير المؤمنين عليه السلام كثيرة، أوردنا طرفا منها للإيجاز والاختصار.
ومما يوضح ما أثبتناه ما روي عن أم سلمة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله أنها قالت:
كنا عند رسول الله تسع نسوة، وكانت ليلتي ويومي من رسول الله صلى الله عليه وآله فأتيت الباب فقلت أدخل يا رسول الله صلى عليه وآله؟ فقال: لا.
____________
(1) مروق السهم: خروجه من الرمية.
المراد بالناكثين للبيعة هم: طلحة والزبير بايعوا ثم نكثوا البيعة. والمارقين هم:
الخوارج والقاسطين أصحاب معاوية.
(2) القصص: 83
(3) الزبرج - بكسر الزاء والراء -: الزينة.
ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثالثة فقلت: أدخل يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال ادخلي يا أم سلمة، فدخلت وعلي جاث بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان كذا وكذا فما تأمرني فقال: آمرك بالصبر، ثم أعاد عليه القول ثانية، فأمره بالصبر، ثم أعاد عليه القول ثالثة فأمره بالصبر، ثم أعاد عليه القول رابعة فقال له: يا علي يا أخي إذا كان ذلك منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك، واضرب به قدما حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم.
ثم التفت إلي وقال: ما هذه الكآبة يا أم سلمة، قلت: للذي كان من ردك إياي يا رسول الله، فقال لي والله ما رددتك إلا لشئ خبرت من الله ورسوله، لكن أتيتيني وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي، وأمرني أن أوصي بذلك عليا، يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب عليه السلام وزيري في الدنيا، ووزيري في الآخرة، يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، وصيي، وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي، والذائد عن حوضي، اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، قلت: يا رسول الله من الناكثون قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة قلت: من القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه من أهل الشام قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب نهروان.
وروي أن أمير المؤمنين (ع) قال في أثناء خطبة خطبها بعد فتح البصرة بأيام:
حاكيا عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله. يا علي إنك باق بعدي، ومبتلى بأمتي ومخاصم بين يدي الله، فأعدد للخصومة جوابا، فقلت: بأبي وأمي أنت بين لي ما هذه الفتنة التي ابتلى بها؟ وعلى ما أجاهد بعدك؟ فقال: لي إنك ستقاتل بعدي
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين الخ (1) " قال النبي صلى الله عليه وآله: لأجاهدن العمالقة، يعني الكفار والمنافقين فأتاه جبرئيل فقال: أنت أو علي عليه السلام.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري: (2) قال: إني كنت لأدناهم من رسول
____________
(1) التوبة - 73.
(2) جابر بن عبد الله من أصحاب رسول الله " ص " شهد بدرا وأدرك الإمام محمد الباقر عليه السلام، وبلغه سلام رسول الله " ص "، وكان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وممن انقطع لأهل البيت.
روي عن أبي عبد الله " ع " أنه قال: إن جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله " ص "، وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد رسول الله " ص " وهو معتم بعمامة سوداء، وكان ينادي يا باقر العلم، يا باقر العلم وكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر فكان يقول لا والله لا أهجر ولكني سمعت رسول الله " ص " يقول: " إنك ستدرك رجلا من أهل بيتي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقرا " فذاك الذي دعاني إلى ما أقول.
رجال العلامة ص 34 رجال الكشي ص 42 - 45
وعن ابن عباس: أن عليا عليه السلام كان يقول - في حياة رسول الله - إن الله يقول: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (2) " والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله، لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، لأني أخوه وابن عمه، ووارثه، فمن أحق به مني.
وعن أحمد بن همام (3) قال: أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر، فقلت: يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف، فقال: يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا، ولا تبحثونا، فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي بكر، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله أحق بالنبوة من أبي جهل، قال: وأزيدكم إنا كنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وآله فجاء علي عليه السلام، وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله صلى الله عليه وآله، فدخل أبو بكر، ثم دخل عمر، ثم دخل علي عليه السلام على أثرهما، فكأنما سفي على وجه رسول الله الرماد، ثم قال: يا علي أيتقدمانك هذان، وقد أمرك الله عليهما، فقال أبو بكر: نسيت يا رسول الله، وقال عمر:
سهوت يا رسول الله، فقال رسول: ما نسيتما ولا سهوتما، وكأني بكما قد سلبتماه ملكه، وتحاربتما عليه، وأعانكما على ذلك أعداء الله، وأعداء رسوله، وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها، وذلك لأمر قد قضي،
____________
(1) الزخرف - 41.
(2) آل عمران - 144
(3) لم أعثر على ترجمته في كتب الرجال.
وعن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله في المسجد بعد أن صلى الفجر، ثم نهض ونهضت معه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد أن يتجه إلى موضع أعلمني بذلك، وكان إذا أبطأ في ذلك الموضع صرت إليه لأعرف خبره، لأنه لا يتصابر قلبي على فراقه ساعة واحدة فقال لي: أنا متجه إلى بيت عائشة، فمضى صلى الله عليه وآله ومضيت إلى بيت فاطمة الزهراء عليها السلام فلم أزل مع الحسن والحسين فأنا وهي مسروران بهما، ثم إني نهضت وسرت إلى باب عائشة، فطرقت الباب فقالت: من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبي راقد، فانصرفت، ثم قلت: النبي راقد وعائشة في الدار، فرجعت وطرقت الباب فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجة فانثنيت مستحييا من دق الباب، ووجدت في صدري ما لا أستطيع عليه صبرا، فرجعت مسرعا فدققت الباب دقا عنيفا، فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت: أنا علي فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يا عائشة افتحي له الباب، ففتحت ودخلت، فقال لي:
أقعد يا أبا الحسن أحدثك بما أنا فيه، أو تحدثني بإبطائك عني، فقلت يا رسول الله حدثني فإن حديثك أحسن، فقال: يا أبا الحسن كنت في أمر كتمته من ألم الجوع، فلما دخلت بيت عائشة، وأطلت القعود ليس عندها شئ تأتي به، فمددت يدي وسألت الله القريب المجيب، فهبط علي حبيبي جبرئيل عليه السلام ومعه هذا الطير ووضع إصبعه على طائر بين يديه، فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي: أن آخذ هذا الطير وهو أطيب طعام في الجنة فآتيك به يا محمد، فحمدت الله عز وجل كثيرا، وعرج جبرئيل فرفعت يدي إلى السماء فقلت: " اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني
إن النبي راقد، فانصرفت، فلما أن صرت إلى بعض الطريق الذي سلكته رجعت.
فقلت: النبي صلى الله عليه وآله راقد وعائشة في الدار لا يكون هذا، فجئت فطرقت الباب فقالت:
لي من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجة فانصرفت مستحييا، فلما انتهيت إلى الموضع الذي رجعت منه أول مرة، وجدت في قلبي ما لا أستطيع عليه صبرا وقلت: النبي صلى الله عليه وآله على حاجة وعائشة في الدار، فرجعت فدققت الباب الدق الذي سمعته، فسمعتك يا رسول الله وأنت تقول لها: ادخلي عليا فقال النبي: صلى الله عليه وآله أبى الله إلا أن يكون الأمر هكذا، يا حميراء ما حملك على هذا؟ قالت: يا رسول الله اشتهيت أن يكون أبي يأكل من هذا الطير فقال لها:
ما هو بأول ضغن بينك وبين علي، وقد وقفت لعلي - إن شاء الله - لتقاتلنه.
فقالت: يا رسول الله وتكون النساء يقاتلن الرجال؟
فقال لها: يا عائشة إنك لتقاتلين عليا، ويصحبك ويدعوك إلى هذا نفر من أهل بيتي وأصحابي، (1) فيحملونك عليه، وليكونن في قتالك له أمر يتحدث به الأولون والآخرون، وعلامة ذلك أنك تركبين الشيطان، ثم تبتلين قبل أن تبلغي إلى الموضع الذي يقصد بك إليه، فتنبح عليك كلاب الحوأب، فتسألين
____________
(1) يريد بأهل بيته المعنى العام لأهل بيت الرجل أي: أقاربه والمقصود هنا هو: الزبير بن العوام، وليس المقصود من أهل البيت المعنى الخاص المقصور على الخمسة من أصحاب الكساء، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
فقالت يا رسول الله ليتني مت قبل أن يكون ما تعدني.
فقال لها: هيهات هيهات! والذي نفسي بيده ليكونن ما قلت، حق كأني أراه ثم قال لي: قم يا علي فقد وجبت صلاة الظهر، حتى آمر بلالا بالأذان فأذن بلال وأقام وصلى وصليت معه ولم يزل في المسجد.
إحتجاجه عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من صفات المصنوعين من الجبر والتشبيه والرؤية والمجيئ والذهاب والتغيير والزوال والانتقال من حال إلى حال في أثناء خطبه ومجاري كلامه ومخاطباته ومحاوراته.
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعمه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون (2)
____________
(1) وفي نسخة " فتصيرين " بدل تنصرفين.
(2) الحمد هو: الثناء على الجميل من نعمة وغيرها. والبلوغ هو الوصول أو المشارفة. والمدحة: فعلة من المدح وهي: " الهيئة " كالجلسة للجالس، والركبة للراكب والاحصاء: إنها العدد والإحاطة بالمعدود والمجتهد: من اجتهد في الأمر إذا بذل وسعه وطاقته في طلبه.
في الجملة الأولى إشارة: إلى العجز عن القيام بالثناء عليه سبحانه كما يستحقه وكما هو أهله، وهي في معنى قول النبي " ص ": " لا أحصي ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وفي الجملة الثانية: اعتراف بالقصور عن القدرة على حصر أنعم الله على تعددها
=>
____________
<=
وكثرتها بحيث لا يحيط بها حصر الإنسان، وهذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى: " وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها ".
وفي الثالثة: اعتراف بالعجز عن أداء شكر المنعم، وأداء حقه اللازم على العباد
مهما بذلوا من جهد، فكل حركة وسكون يصدران من الإنسان مستندان إلى وجوده تعالى
وهي نعمة منه تعالى على عباده ولذا جاء في الأثر: أن موسى " ع " سأل ربه قائلا: " يا رب
كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكر إلا بنعمة ثانية من نعمك " فأوحى الله تعالى
إليه: " إذا عرفت هذا فقد شكرتني ".
(1) الهمم - جمع الهمة - وهي: العزم والجزم الثابت الذي لا يعتريه فتور.
والنيل: الإصابة. والفطن - جمع فطنة بالكسر - وهي: الحذق وجودة استعداد
الذهن لتصور ما يرد عليه.
بعد الهمم علوها وتعلقها بالأمور. العالية أي: إن الهمم وإن علت وبعدت لا يمكن
أن تدركه مهما حلقت في سماء المدارك العالية، كما أن الفطن الغائصة في بحار الأفكار هي
الأخرى لا تصل إلى كنه حقيقته.
(2) حد الشئ: منتهاه والنعت: الصفة والأجل: المدة المضروبة للشئ. أي ليس
لصفاته الذاتية من القدرة: والاختيار، والعلم، والحياة، حد معين ينتهي إليه ويقف
عنده كما هو الحال في الموجودات الممكنة فإنها جميعا لها حد تنقطع إليه وتقف عنده، كما
أنها لا تنعت بنعوت موجودة أي: زائدة متغيرة، فعلمه مثلا لا ينعت: بالزيادة والنقصان
- كما هو الحال بالنسبة لنا - وقدرته لا توصف بالقوة والضعف بل هو منزه عن كل
هذه النعوت وصفاته عين ذاته، كما أنها أزلية فليس لها وقت معدود، وأبدية فليس
لها أجل ممدود.
(3) فطر: خلق. والنشر: البسط. ووتد - بالتخفيف والتشديد - ثبت.
والميدان - بفتح الميم والياء - الحركة.
=>
____________
<=
أي: سكن الأرض بعد اضطرابها وهي من قوله تعالى: " وجعلنا الجبال أوتادا "
وقوله: " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ".
(1) أول الدين معرفته أي: إن معرفته سبحانه أساس الطاعة والعبادة، فما لم
- يعرف لا يمكن أن يطاع، ولا تتم معرفته، ما لم يذعن العبد ويحكم: بوجوب وجوده
ولا يذعن ويحكم بوجوب وجوده، ما لم يؤمن ويحكم له بالوحدانية، وأنه لا شريك له
في ذاته، لأن الواجب لا يتعدد، ثم إن كمال هذا التوحيد يكون بالاخلاص له، وهو: إما جعله خاليا عن النقائص وسلب الجسمية والعرضية وأمثالها عنه، أو الإخلاص له
بالعمل وكمال هذا الإخلاص هو: نفي الصفات الزائدة عنه تعالى فصفاته تعالى عين ذاته
- علمه، وقدرته، وإرادته، وحياته، وسمعه، وبصره، كلها موجودة بوجود ذاته
الأحدية، وذاته جامعة ومستوعبة لها وهي عينها، وليست هي على كثرتها وتعدد معانيها
وتغاير مفهوماتها زائدة على الذات خارجة عنها.
(2) أي: من وصف الله سبحانه بصفة زائدة على ذاته خارجة عنها، " فقد
قرنه " بغيره في الوجود ومن " قرنه " بغيره فقد صيره ثانيا لقد يمين يصدق عليهما:
" واجب الوجود " وحينئذ يكون قد " جزأه " لأن كل واحد من القديمين جزء لذلك
الواجب، و " من جزأه " فقد " جهله " إذ جعله في عداد الممكنات، ولم يعرف الوجود
الواجب فهو لا يتعدد ولا يتجزأ كما هو ثابت في علم الكلام.
(3) ضمنه: جعله محتويا عليه وأخلي منه: جعله خاليا منه.
" ومن أشار إليه " سواء بالإشارة العقلية كأن يجعل له حدا منطقيا مركبا من
=>
____________
<=
جنس وفصل، أو بالإشارة الحسية " فقد حده " وذلك أن كل مشار إليه لا بد أن يكون
في جهة ما، وكل ما هو في جهة فلا بد من أطراف وأقطار هي حدوده وينتهي عندها
و " من " فعل ذلك و " حده " " فقد عده " في عداد الممكنات. ومن قال " فيم " هو
فقد جعله ضمن شئ ومن قال " على م " هو فقد جعله مستعل على شئ وغير مستعل
على غير وحينئذ يكون قد " أخلي منه " ذلك الغير
(1) حدث الشئ: تجدد وجوده. والمزايلة: المفارقة. والسكن بفتحتين -:
ما يسكن إليه من أهل ومال.
هذه الفقرات كل منها مركبة من قضيتين، إحداهما موجبة، والأخرى سالبة،
والفرق بين الفقرتين الأوليتين " كائن لا عن حدث " و " موجود لا عن عدم " إذ
يبدو أن معناهما واحد في نفيهما تجدد الوجود، هو: أن الفقرة الأولى تنفي تجدد الحدوث
الزماني يعني أنه كائن منذ الأزل، والثانية تنفي التجدد الذاتي وتثبت وجوب وجوده
" مع كل شئ لا بمقارنة " كما أنه " غير كل شئ " ولكن " لا بمزايلة " ومفارقة،
فالمقارنة والمفارقة من الصفات الجسمانية وذاته المقدسة منزهة عن الجسمانيات فهو مع
كل شئ بمعنى أنه عالم بكل شئ محيط به، شاهد عليه، غير غائب عنه، ولكن هذه المعية
وتلك الغيرية ليست كما هي بالنسبة لنا من المقارنة والمفارقة التي هي من خصائص
الجسمية ولوازمها، وذاته المجردة لا تشبه شيئا من ذوات الموجودات الممكنة فهو " فاعل "
ولكن " لا بمعنى الحركات والآلة " ومن صيق الألفاظ نعبر عن صفاته القدسية بهذه
الألفاظ المتعارفة بيننا، والتي نطلقها عليه كما نطلقها على سائر الممكنات، تعالى الله عن
ذلك علوا كبيرا، " بصير " منذ الأزل (إذ لا منظور إليه من خلقه) (متوحد) في
سلطانه وملكوته (إذ لا سكن يستأنس به) و (لا) أنيس (يستوحش لفقده) فالوحشة
والأنس من لوازم الطبيعة الحيوانية، وهو منزه عنها.
____________
(1) نشأ الشئ: حدث وتجدد. والابتداء: بمعنى الإنشاء والروية: الفكر والتدبر، وأجال به: إذا أداره والتجربة: الاختبار. والهمامة: التردد. وأحال الأشياء: صرفها وحولها ولائم: أصلح والغريزة: الطبيعة. والأشباح: الإشخاص والإحاطة: الاستدارة والشمول والأحناء - جمع الحنوة -: الجانب والناحية.
(أنشأ الخلق إنشاءا) من غير مادة (وابتدأهم ابتداءا) من دون مثال سبق (بلا روية أجالها) ولا فكر أداره (ولا تجربة استفادها) ولا خبرة اكتسبها من قبل (ولا أحدثها) كالحركة الحادثة لنا إذا أردنا فعل شئ ما (ولا همامة نفس اضطرب فيها) كما تتردد نفوسنا وتضطرب فكل هذه الأمور من لوازم الجسمية تقدست ذاته عنها (أحال الأشياء) ونقلها وصرفها حسب مقتضيات الحكمة والمصلحة (لأوقاتها) للقضاء والقدر وأصلح و (لائم بين) ما كان من عالم الغيب، كالأرواح المجردة، وما كان من عالم الشهود كالأجسام المركبة، وغير ذلك من (مختلفاتها) كتوفيقه بين سائر العناصر (وغرز) للأشياء (غرائزها) ثم خص كل جنس أو نوع بغرائزه الخاصة به (وألزمها أشباحها) وأشخاصها (عالما بها قبل ابتدائها) كما هو عالم بها بعد إيجادها من غير فرق بين الحالين (محيطا بحدودها وانتهائها) شاملا بقدرته وعلمه جميع أطرافها.
(2) إرشاد الشيخ المفيد " قده " أبو الحسن الهذلي عن الزهري وعيسى بن زيد عن صالح بن كيسان عن أمير المؤمنين " ع " قال - في الحث على معرفة الله -: أول عبادة الله معرفته.. الخ.
وقال عليه السلام في خطبة أخرى:
دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة، إنه رب خالق غير مربوب مخلوق، كل ما تصور فهو بخلافه.
ثم قال - بعد ذلك -:
ليس بآله من عرف بنفسه هو الدال بالدليل عليه، والمؤدي بالمعرفة إليه.
وقال عليه السلام في خطبة أخرى: (1).
لا يشمل بحد، ولا يحسب بعد، وإنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلات إلى نظائرها، منعتها منذ القدمة، وحمتها قد الأزلية، وجنبتها لولا التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون (2) لا تجري عليه الحركة
____________
(1) تجد هذه الخطبة الجليلة - التي هي حقا من معجزات أمير المؤمنين " ع " ولو لم تكن له معجزة سواها لكفى، كما لو لم يكن لرسول الله " ص " معجزة سوا أمير المؤمنين " ع " لكفى - في ج 2 ص 142 من نهج البلاغة قال السيد الرضي " قدس سره " " وتجمع هذه الخطبة من أصول العلوم ما لا تجمعه خطبة " وأولها كما هي مثبتة في النهج:
ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول فاعل لا باضطراب آلة، مقدور لا بجول فكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات ولا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل والحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرب بين متباعداتها مفرق بين متدانياتها، لا يشمل بحد.. الخ.
(2) " لا يشمل بحد " من الحدود المنطقية، المركبة من الجنس والفصل، وذاته خالية من التركيب أو من الحدود والأبعاد الهندسية التي هي من لوازم الأجسام.
=>
____________
<=
وذاته تعالى ليست بجسم.
" ولا يحسب بعد " لعدم المماثل له وواجب الوجود لا يتعدد كما هو ثابت في محله
كما أن صفاته عين ذاته غير زائدة عليها فلا تدخل تحت العدد، ولا بداية لوجوده حتى
يقال: كان منذ كذا وكذا " وإنما تحد الأدوات أنفسها " لتركبها من جنس وفصل،
ولكونها من الأجسام فتشملها الحدود والأبعاد الهندسية.
" وتشير الآلات إلى نظائرها " فتدخل تحت العدد وقد " منعتها - إطلاق لفظة:
منذ عليها - القدمة " في قولنا وجدت هذه الآلات والأدوات منذ كذا، ومتى كان للشئ
ابتداء فهو غير قديم.
" وحمتها - إطلاق لفظه قد عليها - الأزلية " في قولنا قد وجدت هذه الآلات
والأدوات منذ كذا لأن قد تفيد تقريب الزمان الماضي من الحال، ومتى تعين زمن
وجود الشئ انتفت أزليته.
(وجنبتها - إطلاق كلمة: لولا عليها - التكملة) في قولنا: ما أحسن هذه الآلات
والأدوات لولا أن فيها كذا لدلالتها على امتناع كمال الشئ لوجود نقص فيه.
ويمكن أن يكون المعنى: أن قدمه وأزليته وكماله منعت من إطلاق لفظة: (منذ
وقد، ولولا) على ذاته المقدسة، لدلالتها على الحدوث والابتداء والنقص.
(بها) بتلك الآلات والأدوات ببديع صنعها، بإتقانها، بحكمة تدبيرها (تجلى
صانعها للعقول) التي هي طبعا بعض تلك الآلات لدلالة الأثر على المؤثر (وامتنع) بدليل
تجرده وتنزهه عن المادة والجسمية واللون والجهة التي هي من لوازم المرئيات (عن
نظر العيون).
(1) الحركة سواء كانت بمعناها الفلسفي الذي هو: (الخروج من القوة إلى
الفعل) أو بمعناها الفيزيائي الذي هو: (الانتقال من مكان إلى آخر) فهي تتقوم
بالتدرج والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى آخر وتخلع صورة وتلبس أخرى
=>
____________
<=
وتصل إلى جزء وتنفصل عن سابقه وهكذا، ويقابلها السكون الذي هو: (التوقف
والخمود فيما يقبل الحركة) والحركة والسكون كلاهما من الحوادث المستندة في وجودها
إلى علة، وحيث ثبت أن لا موجد إلا الله ولا خالق سواه فيكون هو الذي خلقهما وأجراهما
على نفسه، وأحدثهما في ذاته، ولاستحالة أن يكون مخلوقه جزء ذاته، نفى أمير المؤمنين
عليه السلام ذلك في صورة استفهام إنكاري في قوله، (وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟؟
ويعود إليه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟!) ثم إنه عليه السلام شرع في
إقامة الأدلة على استحالة هذه النسبة فقال:
1 - (إذا لتفاوتت ذاته) أي: تغيرت، لأنها تكون متحركة تارة وساكنة
أخرى فالحركة والسكون من الحوادث المتغيرة، فيكون محلا للحوادث، وذلك من لوازم
الإمكان، فيكون واجب الوجود ممكن الوجود، وهو مستحيل.
2 - (ولتجزأ كنهه) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام والأجسام مركبة
فيلزم حقيقته التركيب وهو باطل.
3 - (ولامتنع من الأزل معناه) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام الحادثة
والحادث لا يكون أزليا.
4 - (ولكان له وراء إذ وجد له إمام) إذ لو جرت عليه الحركة لكان له إمام
يتحرك نحوه وحينئذ يلزم أن يكون له وراء لأنهما أمران إضافيان لا ينفك أحدهما عن
الآخر وحينئذ يكون له وجهان وكل ذي وجهين منقسم وكل منقسم ممكن.
5 - (ولالتمس النمام إذ لزمه النقصان) إذ هو في حركته يتوجه نحو غاية إما
لجلب نفع أو لدفع ضرر، وذلك كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته وذلك يستلزم
الإمكان فهو باطل.
وإذا لقامت آية المصنوع فيه وثبت إمكانه وحدوثه وتحول دليلا يستدل بوجوده
على خالقه.
(1) أي خرج بسلطان امتناعه التجردي، وعدم شموله بحد، ودخوله تحت العدد
وامتناعه عن نظر العيون، وعدم جريان الحركة والسكون عليه خرج بهذا السلطان من
أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الممكنات.
____________
(1) لا يحول: لا يتغير. والأفول: الغيبة.
(2) الولادة تحصل بانفصال شئ عن آخر من جنسه ونوعه، فالوالد والولد يشتركان في النوع والصنف والعوارض، ولا يكون هذا الانفصال والتجزي إلا بواسطة المادة القابلة للتجزأة، وإذا كان كذلك فهو متولد من مادة وصورة. ويحتمل أن يكون المراد بالمولود المخلوق، فيكون المعنى لم يلد فيثبت كونه جسما مخلوقا. وعلى كلا التقديرين سواء كان مولودا من مادة وصورة، أو كان جسما مخلوقا، فإنه يكون محدودا بالحدود المنطقية، والأبعاد الهندسية.
(3) لا تناله الأوهام فنقدره بمقدار وكم، وشكل وكيف، والفطنة سرعة للفهم ولا تتوهمه الفطن فتصوره بصور خيالية أو عقلية، ولا تدركه الحواس بنحو المباشرة ولا تلمسه وتحسه الأيدي بنحو المماسة، ولا يتغير أبدا، ولا يوصف بالغيرية والأبعاض فصفاته لا يغاير بعضها بعضا، وليس هو بذي مكان يحويه، فيرتفع بارتفاعه وينخفض بانخفاضه، كما أنه غير محمول على شئ، فيميله إلى جانب، أو يعدله على ظهر من غير ميل
(4) يحفظ عباده ويحرسهم، ولا يتحرز ولا يخاف ويبغض ويغضب ولا
=>
____________
<=
يستلزم بغضه وغضبه مشقة وانزعاجا، كما هو الحال بالنسبة لنا مما يستلزمانه فينا من
فوران دم القلب واضطرابه، يقول - لما أراد كونه - كن فيكون وليس المراد بالقول
هو التكلم الحقيقي حتى يكون له صوت يقرع الآذان فيسمع وإنما كلامه سبحانه هو
نفس فعله، وخلقه للأشياء وتصويرها ينشؤه ويمثله لجبرئيل في اللوح وليس هو بقديم
ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
(1) في بعض النسخ. (الصفات المحدثات).
(2) خلا: أي مضى.
(3) أرساها: أثبتها على غير قرار.
(4) الأود - بالتحريك - الاعوجاج. والتهافت. التساقط قطعة قطعة.
(5) الأسداد - جمع السد - بمعنى الجبل أو الحاجز. وبالضم بمعنى السحاب
الأسود. وخد: بمعنى شق
(6) الاستكانة: الخضوع.